بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
صفحة 1 من اصل 1
متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قواعد التصوف
تأليف
الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد البرنسي الفاسي،
وكنيته أبو العباس، ولقبه زروق
تأليف
الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد البرنسي الفاسي،
وكنيته أبو العباس، ولقبه زروق
الحمد لله كما يجب لعظيم مجده وجلاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
وبعد، فالقصد بهذا المختصر وفصوله، تمهيد قواعد التصوف وأصوله، على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة، ويصل الأصول والفقه بالطريقة. وعلى الله أعتمد في تيسير ما أردت، وإليه أستند في تحقيق ما قصدت، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ثمّ أقول:
قاعدة 1
الكلام في الشيء فرع تصور ماهيته، وفائدته ومادته بشعور ذهني مكتسب أو بديهي، ليرجع إليه في أفراد ما وقع عليه ردّاً وقبولاً وتأصيلاً وتفصيلاً.
فلزم تقديم ذلك على الخوض فيه، إعلاماً به وتحضيضاً عليه، وإيماء لمادته، فافهم.
قاعدة 2
ماهية الشيء حقيقته، وحقيقته ما دلت عليه جملته. وتعريف ذلك بحد وهو أجمع، أو رسم وهو أوضح، أو تفسير وهو أتمّ لبيانه وسرعة فهمه.
وقد حُدّ التصوف ورُسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين. مرجعها كله لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنّما هي وجوه فيه، والله أعلم.
قاعدة 3
الاختلاف في الحقيقة الواحدة، إن كثر، دلّ على بعد إدراك جملتها، ثمّ هو إن رجع لأصل واحد، يتضمن جملة ما قيل فيها كانت العبارة عنه بحسب ما فهم منه، وجملة الأقوال واقعة على تفاصيله. واعتبار كلّ واحد له على حسب مثاله منه علماً، أو عملاً، أو حالاً، أو ذوقاً، أو غير ذلك.
والاختلاف في التصوف من ذلك، فمن ثمّ ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله بغالب أهل حليته عند تحليته كلّ شخص، قولاً من أقوالهم يناسب حاله قائلاً: وقيل إنّ التصوف كذا.
فأشعر أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن تصوف كلّ أحد صدق توجهه، فافهم.
قاعدة 4
صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ}، فلزم تحقيق الإيمان. {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فلزم العمل بالإسلام.
فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تُعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع لتلازمهما في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلاّ فيها، كما لا كمال له إلا بها، فافهم.
ومنه قول مالك رحمه الله: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق).
قلت: تزندق الأول: لأنّه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام. وتفسق الثاني: لخلو عمله عن صدق التوجه الحاجز عن معصية الله تعالى وعن الإخلاص المشترط في العمل لله، وتحقق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك.
قاعدة 5
إسناد الشيء لأصله، والقيام فيه بدليله الخاص به يدفع قول المنكر بحقيقته، لأن ظهور الحق في الحقيقة يمنع من ثبوت معارضتها. فأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بأن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك). لأنّ معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة وعليه دائرة، إذ لفظه دال على طلب المراقبة الملزومة به. فكان الحض عليها حضاً على عينه، كما دار الفقه على مقام الإسلام والأصول عل مقام الإيمان.
فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه عليه السلام جبريل ليعلمه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فافهم.
قاعدة 6
الاصطلاح للشيء بما يدل على معناه ويشعر بحقيقته ويناسب موضوعه، ويعيّن مدلوله من غير لبس ولا إخلال بقاعدة شرعية ولاعُرفية، ولا رفع موضوع أصلي ولا عُرفي، ولا معارضة فرع حكمي ولا مناقضة وجه حكمي، مع إعراب لفظه وتحقيق ضبطه لا وجه لإنكاره.
واسم التصوف من ذلك، لأنه عربي مفهوم تامّ التركيب، غير موهم ولا ملتبس ولا مبهم، باشتقاقه مشعر بمعناه كالفقه لأحكام الإسلام والأعمال الظاهرة والأصول لأحكام الإيمان وتحقيق المعتقد، فاللازم فيهما، لازم فيه لاستوائهما في الأصل والنقل فافهم.
قاعدة 7
الاشتقاق قاض بملاحظة معنى المشتق والمشتق منه، فمدلول المشتق مستشعر من لفظه، فإن تعدد الشعور، ثمّ أمكن الجمع فمن الجميع وإلا فكل يلاحظ معنى فافهم إن سلم عن معارض في الأصل.
وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، وأمسى ذلك بالحقيقة خمس:
أولها: قول من قال: (الصوفة) لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له.
الثاني: أنه من (صوفة القفا) للينها، فالصوفي هيّن ليّن كهي.
الثالث: أنه من (الصِّفة) إذ جملته اتصاف بالمحامد وترك الأوصاف المذمومة.
الرابع: أنه من الصفاء وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا *** جهلاً وظوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتىً *** صافى فصوفي حتى سمي الصوفـي
الخامس: أنه منقول من الصُّفة لأنّ صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}. وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كلّ قول فيه، والله أعلم.
قاعدة 8
حكم التابع كحكم المتبوع فيما يتبعه فيه، وإن كان المتبوع أفضل. وقد كان أهل الصفة فقراء في أول أمرهم، حتى كانوا يعرفون بأضياف الله. ثمّ كان منهم الغني والأمير، والمتسبب والفقير، لكنهم شكروا عليها حين وجدت، كما صبروا عليها حين فقدت.
فلم يخرجهم الوجدان عما وصفهم مولاهم به من أنهم: {الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}، كما أنهم لم يمدحوا بالفقدان، بل بإرادة وجه الملك الديان، وذلك غير مقيد بفقر ولا غنى، وبحسبه، فلا يختص التصوف بفقر ولا غنى، إذا كان صاحبه يريد وجه الله، فافهم.
قاعدة 9
اختلاف النسب قد يكون لاختلاف الحقائق، وقد يكون لاختلاف المراتب في الحقيقة الواحدة.
فقيل إنّ التصوف والفقر والملامة والتقريب من الأول، وقيل من الثاني وهو الصحيح. على أن الصوفي هو العامل في تصفية وقته عما سوى الحق، فإذا سقط ما سوى الحق من يده فهو الفقير. والملامتي منهما هو الذي لا يُظهر خيراً ولا يضمر شراً، كأصحاب الحرف والأسباب ونحوهم من أهل الطريق.
والمقرب من كمُلت أحواله، فكان بربه لربه، ليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غير الله قرار، فافهم.
قاعدة 10
لايلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة والزهادة. والمعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة، وكلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة، وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه. ولا بد له من زهادة، وإلا فلا حقيقة عنده، إذ لم يُعرض عمن سواه. ولا بد للعابد منهما، إذ لا عبادة إلا بمعرفة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد، والزاهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة، ولا زهد إلا بعبادة، وإلا عاد بطالة.
نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد. أو النظر لتصريف الحق فعارف. والكلّ صوفية، والله أعلم.
قاعدة 11
لكلّ شيء أهل ووجه ومحل وحقيقة.
وأهلية التصوف لذي توجه صادق، أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو طالب منصف، أو عالم تقيده الحقائق أوفقيه تقيده الاتساعات، لا متحامل بالجهل، أو مستظهر بالدعوى، أو مخازف في النظر، أو عامي غبي، أو طالب معرض، أو مصمم على تقليد أكابر من عرف في الجملة، والله أعلم.
قاعدة 12
شرف الشيء إما أن يكون بذاته، فيتجرد طلبه لذاته، وإمّا أن يكون لمنفعته، فيطلب من حيث يتوصل منه إليها به، وإما أن يكون لمتعلقه، فيكون الفائدة في الوصلة بمتعلقه. فمن ثمّ قيل: (علم بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعمل بلا علم جناية)، والعقل أفضل من علم به، والعلم به تعالى أفضل العلوم لأنّه أجلّ العلوم. وعلم يراد لذاته أفضل، لكون خاصيته في ذاته، كعلم الهيبة والأنس ونحو ذلك. فمن لم يظهر له نتيجة علمه في عمله فعلمه عليه لا له. وربما شهد بخروجه منه إن كان علمه مشروطاً بعمله، ولو في باب كماله، فافهم وتأمّل ذلك.
قاعدة 13
فائدة الشيء: ما قصد له وجوده. وإفادته: حقيقته في ابتدائه أو انتهائه أو فيهما.
· كالتصوف: علم قصِد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله عما سواه.
· وكالفقه: لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام.
· وكالأصول: لتحقيق المعتقدات بالبرهان، وتحلية الإيمان بالإيقان.
· وكالطب: لحفظ الأبدان.
· وكالنحو: لإصلاح اللسان.، إلى غير ذلك فافهم.
قاعدة 14
العلم بفائدة الشيء ونتيجته باعث على التهمم به، والأخذ في طلبه لتعلق النفس بما يفيدها وإن وافقها، وإلا فعلى العكس، وقد صح أن شرف الشيء بشرف متعلقه. ولا أشرف من متعلق علم التصوف، لأن مبدأه خشية الله التي هي نتيجة معرفته ومقدمة اتباع أمره.
وغايته إفراد القلب له تعالى، فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه: (لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه).انتهى، وهو واضح.
قاعدة 15
أهلية الشيء تقضي بلزوم بذله لمن تأهل له، إذ يقدره حق قدره ويضعه في محله، ومن ليس بأهل فقد يضيعه، وهو الغالب أو يكون حاملا له على طلب نوعه وهو النادر.
ومن ثم اختلف الصوفية في بذل علمهم لغير أهله،
فمن قائل: لا يبذل إلا لأهله، وهو مذهب الثوري وغيره.
ومن قائل: يبذل لأهله ولغير أهله، والعلم أحمى جانبا من أن يصل إلى غير أهله، وهو مذهب الجنيد رحمه الله. إذ قيل له: كم تنادي على الله بين يدي العامة؟ فقال: (لكني أنادي على العامة بين يدي الله) انتهى. يعني أنه يذكر لهم ما يردّهم إليه، فتتضح الحجة لقوم وتقوم على آخرين. والحق اختلاف الحكم باختلاف النسب والأنواع، والله أعلم.
قاعدة 16
وجوه الاستحقاق مستفادة من شاهد الحال، وقد يشتبه الأمر، فيكون التمسك بالحذر أولى لعارض الحال، وقد يتجاذب الأمر من يستحقه ومن لا، فيكون المنع لأحد الطرفين دون الآخر.
وقد أشار سهل لهذا الأصل بقوله: (إذا كان بعد المائتين فمن كان عنده شيء من كلامنا فليدفنه فإنه يصير زهد الناس في كلامهم، ومعبودهم بطونهم). وعدّد أشياء تقضي بفساد الأمر حتى يحرم بثه لحمله على غير ما قصد له، ويكون معلمه كبائع السيف من قاطع الطريق.
وهذا حال الكثير من الناس في هذا الوقت، اتخذوا علوم الرقائق والحقائق سلماً لأمور كاستهواء قلوب العامة، وأخذ أموال الظلمة، واحتقار المساكين، والتمكن من محرمات بينة وبدع ظاهرة، حتى إن بعضهم خرج عن الملة وقبل منة الجهال ذلك، بادعاء الإرث والاختصاص في الفن، نسأل الله السلامة بمنه.
قاعدة 17
في كل علم ما يُخص ويُعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كل، عموماً وما وراء ذلك على حسب قابله لا على قدر قائله، لحديث: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟). وقيل للجنيد رحمه الله: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة، فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: (الجواب على قدر السائل)، قال عليه السلام: (أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).
قاعدة 18
اعتبار المهم وتقديمه أبداً، شأن الصادقين في كل شيء، فكل من طلب من علوم القوم رقيقها قبل علمه بجملة أحكام العبودية منها وعدل عن جليّ الأحكام إلى غامضها، فهو مخدوع بهواه، لا سيما إن لم يُحكم الظواهر الفقهية للعبادات، ويحقق الفارق بين البدعة والسنة في الأحوال، ويطالب نفسه بالتحلي قبل التخلي، أو يدعي لها ذلك، ولله درّ سرّي رضي الله عنه حيث قال:
من عـرف الله عـاش ومن مال إلى الدنيا طاش
والأحمق يغدو ويروح في لاش والعاقل عن محبوبه فتاش
وفي الحكم: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب).انتهى وهو عجيب.
قاعدة 19
اعتبار النسب في الواقع يقضي بتخصيص الحكم عن عمومه، ومن ذلك وجود الغيرة على علوم القوم من الإنكار، وحماية عقول العوام من التعلق بما يخص منها حامل على وجود القصد لتخصيصها. هذا مع كثرة ما يخص منها، ومداخل الغلط فيه علما و عملا، أو دعوى أو غير ذلك، فافهم. وأعط كلّ ذي حكم حقه.
فالأعمال للعامة والأحوال للمريدين والفوائد للعابدين والحقائق للعارفين والعبارات قوت لعائلة المستمعين وليس لك إلا ما أنت له آكل، فافهم.
قاعدة 20
الاشتراك في الأصل يقضي بالاشتراك في الحكم.
والفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه، فلهما حكم الأصل الواحد في الكمال والنقص، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر في مدلوله. وقد صح أن العمل شرط كمال العلم، فيهما وفي غيرهما، لا شرط صحة فيه، إذاً لا ينتفي بانتفائه، بل قد يكون دونه، لأن العلم إمام العمل فهو سابق وجوده حكما وحكمة، بل لو شُرط الاتصال لبطل أخذه، كما أنه لو شُرط في الأمر والنهي والعمل للزم ارتفاعهما بفساد الزمان، وذلك غير سائغ شرعاً ولا محمود في الجملة، بل قد أثبت الله العلم لمن يخشاه وما نفاه عمن لم يخشاه، واستعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)، فسماه عالما مع عدم انتفاعه بعلمه. فلزم استفادة العلم من كل محق فيه، محقق له ليس ضرر علمه في وجه إلقائه كعدم اتصافه، فافهم.
قاعدة 21
الأغلب في الظهور لازم في الاستظهار بما يلازمه، وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس، وإن كان العمل شرط كماله، وقد قيل(العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل). أعاذنا الله من علم بلا عمل آمين.
قاعدة 22
لا يصلح العمل بالشيء إلا بعد معرفة حكمه ووجهه، فقول القائل لا أتعلم حنى أعمل كقوله لا أتداوى حتى تذهب علته، فهو لا يتداوى ولا تذهب علته، ولكن العلم ثم الهمل ثم النشر ثم الإجادة، وبالله التوفيق.
قاعدة 23
طلب الشيء من وجهه وقصده من مظانه أقرب لتحصيله، وقد تبث أنّ دقائق علوم الصوفية من ح الهية، ومواهب اختصاصية، لا تنال بمعتاد الطلب فلزم مراعاة وجه ذلك وهو ثلاثة:
أولها : العمل بما علم قدر الاستطاعة.
الثاني : اللجأ إلى الله في الفتح على قدر الهمة.
الثالث : إطلاق النظر في المعاني حال الرجوع لأصل السنة ليجري الفهم وينتفي الخطأ ويتيسر الفتح.
وقد أشار الجنيد رحمه الله لذلك بقوله ( ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال). أو كما قال: وعنه عليه الصلاة والسلام ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم). وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه(إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما). انتهى.
قاعدة 24
ما ظهرت حقيقة في الوجود إلا قوبلت بدعوى مثلها، وإدخال ما ليس فيها منها عليها ووجود تكذيبها، كل ذلك ليظهر فضل الاستئثار بها وتتبين حقيقتها بانتفاء معارضها، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}
وللوارث نسبة من الموروث، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. إنما يبتلي الرجل على قدر دينه فمن ثم كان أهل هذا الطريق مبتلين بتسليط الخلق أولا وبإكرامهم وسطا وبهما آخرا. قيل لئلا يفوتهم الشكر على المدح ولا الصبر على الذم فمن أراده فليوطن نفسه على الشدة، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا}، { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهْوَ حَسْـبُهُ}. فافهم.
قاعدة 25
لا علم إلا بتعلم عن الشارع، أو من ناب منابه فيما أتى به، إذ قال عليه السلام (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن طلب الخير يؤته، ومن يتق الشر يوقه). وما تفيده التقوى إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول، ثم هو منقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام، ومنه لا يدخل تحت العبارة، وإن كان مماتنا له الإشارة، ومنه ما لا تفهمه الضمائر، وإن أشارت إليه الحقائق، مع وضوحه عند مشاهده وتحقيقه عند متلقيه، وقولنا فيه فهم تجوز ما لإثبات أصله لا غير، فاعرف ما أشرنا إليه، وبالله التوفيق
عدل سابقا من قبل أبو أويس في الإثنين 2 فبراير 2009 - 15:58 عدل 2 مرات
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قاعدة 26
حكم الفقه عام في العموم، لأن مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره، وإظهار كلمته.
وحكم التصوف خاص في الخصوص، لأنه معاملة بين العبد وربّه، من غير زائد على ذلك. فمن ثمّ صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف للفقه في الأحكام والحقائق، لا بالنبذ والترك وصح الاكتفاء به دونه. ولم يكف التصوف عن الفقه، بل لا يصح دونه، ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به، وإن كان أعلى منه رتبة فهو أسلم وأعم مصلحة.
وفي ذلك قيل: (كن فقيها صوفيا، ولا تكن صوفيا فقيها). وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالاً وعملاً وذوقاً. بخلاف فقيه الصوفية فإنّه المتمكن من علمه وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح وذوق صريح، ولا يصلح له أحدهما بدون الآخر، كالطبيب الذي لا يكتفي علمه عن التجربة ولا العكس. فافهم.
قاعدة 27
الاختلاف في الحكم الواحد نفياً وإثباتاً، إن ظهر ابتناء أحدهما على أصل لا يتم الاحتجاج به فهو فاسد، وإن أدّى إلى محال فهو باطل، بخلاف ما ظهر ابتناؤه على أصل يتم الاحتجاج به، ولا ينـزع الحجة من يد مخالفه، لأن الكل صحيح، ومن ثمّ يفرق بين خلاف واختلاف، فنكفر من آل قوله لمحال في معقول العقائد، ونبدع من آل به ذلك في منقولها إن التزم القول باللازم. وإلا نظر في شبهته فيجري له حكمها على خلاف بين العلماء في لازم القول، ولا نكفر ولا نبدع من خرج لازم قوله عن محال، إذ لا نجزم بفساد أصله مع احتماله، وبهذا الوجه يظهر قبول خلاف أهل السنة بينهم مع ردهم للغير عموما. وهو جار في باب الأحكام الشرعية في باب الرد والقبول فتأمل ذلك تجده. وبالله التوفيق.
قاعدة 28
لكلّ شيء وجه، فطالب العلم في بدايته شرطه الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر، ومتى قدم رتبة عن محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة، ومحصّل دون تقوى لا عبرة به، وصورة لا يصحبها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم، والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع وهو قبول الحق بحسن الخلق، ومتى كثر العدد انتفيا، فاقتصر ولا تنتصر، واطلب ولا تقصر، وبالله التوفيق.
قاعدة 29
إحكام وجه الطلب معين على تحصيل المطلوب، ومن ثم كان حسن السؤال نصف العلم، إذ جواب السائل على قدر تهذيب المسائل. وقد قال ابن العريف رحمه الله: (لا بد لكلّ طالب علم حقيقي من ثلاثة أشياء:
أحدهما: معرفة الإنصاف، ولزومه بالأوصاف.
الثاني: تحرير وجه السؤال، وتجريده من عموم جهة الإشكال.
الثالث: تحقيق الفرق بين ا لخلاف والاختلاف).
قلت: فما رجع لأصل واحد، فاختلاف، يكون حكم الله في كل ما أدّاه الله إليه اجتهاده، وما رجع لأصلين يتبين بطلان أحدهما عند تحقيق النظر فخلاف، والله أعلم.
قاعدة 30
التعاون على الشيء ميسّر لطلبه، ومسهل لمشاقه على النفس وتعبه، فلذلك ألفته النفوس، حتى أمر به على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. فلزم مراعاة الأول في كلّ شيء لا كالثاني.
ومنه قول سيدي أبي عبد الله بن عباد رحمه الله تعالى: (أوصيكم بوصية لا يعقلها إلا من عقل وجرب، ولا يهملها إلا من غفل فحجب، وهي : أن لا تأخذوا في هذا العلم مع متكبر، ولا صاحب بدعة ولا مقلد.
فأما الكبر: فطابع يمنع من فهم الآيات والعبر.
والبدعة: توقع في البلايا الكبر.
والتقليد: يمنع من بلوغ الوطر ونيل الظفر.
قال: (ولا تجعلوا لأحد من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن).
قلت: (بل يبحثوا على أن يجعلوا أهل الظاهر حجة لهم لا عليهم)، إذ كل باطن مجرد عن الظواهر باطل، والحقيقة ما عقد بالشريعة، فافهم.
قاعدة 31
الفقه مقصود لإثبات الحكم في العموم، فمداره على إثبات ما يسقط به الحرج، والتصوف مرصده طلب الكمال. ومرجعه لتحقيق الأكمل حكماً وحكمة. والأصول شرط في النفي والإثبات، فمدارها على التحقيق المجرد {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، فافهم.
القاعدة 32
مادة الشيء مستفادة من أصوله، ثم قد يشارك الغير في مادته، ويخالفه في وجه استمداده. كالفقه والتصوف والأصول، أصولها: الكتاب والسنة، وقضايا العقل المسلمة بالكتاب والسنة. لكن الفقيه ينظر من حيث ثبوت الحكم الظاهر، للعمل الظاهر، بقاعدته المقتضية له. والصوفي ينظر من حيث الحقيقة في عين التحقيق، ولا نظر فيه للفقيه حتى يصل ظاهره بباطنه. والأصولي يعتبر حكم النفي والإثبات من غير زائد.
فمن ثم قال ابن الجلاء رحمه الله: (من عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالحقيقة، فهو زنديق، ومن عامل الحق بالشريعة، والخلق بالشريعة فهو سنيّ، ومن عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالشريعة فهو صوفيّ)، انتهى. وهو عجيب مناسب لما قبله، تظهر أمثلته مما بعده.
القاعدة 33
إنما يظهر الشيء بمثاله، ويقوى بدليله. فمثال الزنديق: الجبري الذي يريد إبطال الحكمة والأحكام. ومثال السني: ما وقع في حديث الثلاثة الذين اشتد عليهم الغار، فسأل الله كل واحد بأفضل أعماله كما صح، وعضدته ظواهر الأدلة ترغيباً وترهيباً والله أعلم.
ومثال الصوفي: حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار فقال: أبغني شاهداً. فقال: (كفى بالله شهيداً)، فقال: أبغني كفيلاً، فقال: (كفى بالله كفيلاً). فرضي. ثم لما حضر الأجل، خرج يلتمس مركباً فلم يجده، فنقر خشبة، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت. ثم جاءه بألف أخرى وفاءً بحق الشريعة. أخرجهما البخاري في جامعه. ومنه: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}، الإنسان. فجعل متعلق الخوف مجرداً عن حامل العمل والله أعلم.
وقد قال رجل للشبلي رحمه الله: (كم في خمس من الإبل؟ قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله. قال له: فما أصلك في ذلك؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله. ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها، فإمامه علي رضي الله عنهم، وكل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا فليس بعلم). انتهى وهو عظيم في بابه.
قاعدة 34
المتكلم في فن من فنون العلم، إن لم يُلحق فرعه بأصله ويحقق أصله من فرعه، ويصل معقوله بمنقوله، وينسب منقوله لمعانيه، ويعرض ما فهم منه على ما علم من استنباط أهله، فسكوته عنه أولى من كلامه فيه، إذ خطأه أقرب من إصابته، وضلاله أسرع من هدايته، إلا أن يقتصر على مجرد النقل المحرر من الإيهام والإبهام. فرب حامل فقه غير فقيه فيسلم له نقله لا قوله. وبالله سبحانه التوفيق.
القاعدة 35
يعتبر الفرع بأصله وقاعدته، فإن وافق قبل، وإلا رد على مدعيه إن تأهل، أو تأول عليه إن قبل، أو سلم له إن كملت مرتبته علماً وديانةً، ثم هو غير قادح في الأصل، لأن فساد الفاسد إليه يعود، ولا يقدح في صالح الصالح شيئاً، فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين، وكالمطعون عليهم من المتفقهين، يرد قولهم، ويتجنب فعلهم، ولا يترك المذهب الحق الثابت بنسبتهم له وظهورهم فيه والله أعلم.
القاعدة 36
ضبط العلم بقواعده مهم، لأنها تضبط مسائله، وتُفهم معانيه، وتدرك مبانيه، وينتفى الغلط من دعواه، وتهدي المتبصر فيه، وتعين المتذكر عليه، وتقيم حجة المناظر، وتوضح المحجة للناظر، وتبين الحق لأهله، والباطل في محله.
واستخراجها من فروعه عند تحققها، أمكن لمريدها لكن بُعدَ الأفهام مانع من ذلك، فلذلك اهتم بها المتأخر والمتقدم. والله سبحانه أعلم.
القاعدة 37
لما كانت دلالة التصوف بجملته على التوجه إلى الله من حيث يرضى، كفت أوائله مع التزام واتباع الفقه، فكان الاعتناء بعمله، أكثر من علمه، ومن ثم لم تدون قواعده، ولم تمهد أصوله، وإن أشار إليها أئمته كالسلمي في فصوله، والقشيري في رسالته، والله أعلم.
القاعدة 38
إذا حُقق أصل العلم، وعرفت مواده وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله.
فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كانت له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخر أتم، لأنه زائد على المتقدم والفتح من الله مأمول لكل أحد.
ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: (إذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين). نعوذ بالله من حسد يسدّ باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف. انتهى وهو عجيب.
القاعدة 39
العلماء مصدقون فيما ينقلون، لأنه موكول لأمانتهم. مبحوث معهم فيما يقولون، لأنه نتيجة عقولهم والعصمة غير ثابتة لهم، فلزم التبصر والنظر وطلباً للحق والتحقيق، لا اعتراضاً على القائل والناقل. ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه، فهو على رتبته، ولا يلزمه القدح في المتقدم، ولا إساءة الأدب معه، لأن ما ثبت من عدالة المتقدم، قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه فهو ملزوم به، إن أدى لنقض قوله مع حقيقته لا أرجحيته، إذ الاحتمال ثبت له، ومن ثم خالف أئمة متأخري الأمة أولها، ولم يكن قدحاً في واحد منهما، فافهم.
القاعدة 40
مبنى العلم على البحث والتحقيق، ومبنى الحال على التسليم والتصديق، فإذا تكلم العارف من حيث العلم نظر في قوله بأصله من الكتاب والسنة وآثار السلف، لأن العلم معتبر بأصله. وإذا تكلم من حيث الحال، سُلم له ذوقه، إذ لا يوصل إليه إلا بمثله، فهو معتبر بوجدانه.
فالعلم به مستند لأمانة صاحبه، ثم لا يقتدى به، لعدم عموم حكمه، إلا في حق مثله .
قال أستاذ لمريده: (يا بني برّد الماء، فإنك إن شربت ماءاً بارداً حمدت الله بكلية قلبك، وإن شربته ساخناً حمدت الله على كزازة نفس)، قال: يا سيدي والرجل الذي وجد قلته قد انبسطت عليها الشمس، فقال: أستحي من الله أن أنقلها لحظة. قال: يا بني، ذلك صاحب الحال لا يقتدي به. انتهى
القاعدة 41
ما كان معقولاً، فبرهانه في نفسه، فلذلك لا يحتاج لمعرفة قائله إلا من حيث كون ذلك كمالاً فيه. والمنقول موكول لأمانة ناقله، فلزم البحث والتعريف لوجهه، وما تركب منهما، احتيط له بالتعرف والتعريف. وقد قال ابن سيرين رضي الله عنه: (إن هذا الحديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
وهذا التفضيل في حق المشرف على العلم، الذي قد استشعر مقاصده. فأما العامي ومن كان في مبادئ الطلب، فلا بد له من معرفة الوجه الذي يأخذ منه معقوله كمنقوله، ليكون على اقتداء، لا على تقليد. والله سبحانه أعلم.
القاعدة 42
التقليد: أخذ القول من غير استناد لعلامة في القائل، ولا وجه في المنقول، فهو مذموم مطلقاً، لاستهزاء صاحبه بدينه.
والإقتداء: الاستناد في أخذ القول لديانة صاحبه وعلمه، وهذه رتبة أصحاب المذاهب مع أئمتها. فإطلاق التقليد عليها مجاز.
والتبصر: أخذ القول بدليله الخاص به من غير استبداد بالنظر، ولا إهمال للقول. وهي رتبة مشايخ المذاهب وأجاويد طلبة العلم.
والاجتهاد: اقتراح الأحكام من أدلتها، دون مبالاة بقائل. ثم إن لم يعتبر أصل متقدم فمطلق، وإلا فمقيد.
والمذهب: ما قوي في النفس، حتى اعتمده صاحبه.
وقد ذكر هذه الجملة بمعانيها في مفتاح السعادة، والله أعلم.
قاعدة 43
لا متبع إلا المعصوم, لانتفاء الخطأ عنه, أو من شهد له بالفضل, لأن مزكي العدل عدل.
وقد شهد عليه السلام: (بأن خير القرون قرنه, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم)، فصح فضلهم على الترتيب والاقتداء بهم كذلك. لكن الصحابة تفرقوا في البلاد، ومع كل واحد منهم علم, كما قال مالك رحمه الله: (فلعل مع أحدهم ما هو ناسخ, ومع الآخر ما هو منسوخ، ومع واحد مطلق, ومع الآخر مقيد, ومع بعضهم عام, وعند الآخر مخصص كما وجد كثيراً. فلزم الانتقال لمن بعدهم, إذ جمع المتفرق من ذلك، وضبط الرواية فيما هنالك, لكنهم لم يستوعبوه فقهاً, وإن وقع لهم بعض ذلك, فلزم الانتقال للثالث, إذ جمع ذلك وضبطه وتفقه فيه, فتم حفظاً وضبطاً وتفقهاً، فلم يبق لأحد غير العمل بما استنبطوه، وقبول ما أصلوه واعتمدوه.
ولكن فن في هذا القرن أئمة مشهور فضلهم، علماً وورعاً كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة النعمان، للفقه. وكالجنيد، ومعروف، وبشر، للتصوف. وكالمحاسبي لذلك وللاعتقادات، إذ هو أول من تكلم في إثبات الصفات، كما ذكره ابن الأثير، والله أعلم.
قاعدة 44
إعطاء الحكم للخصوص، لا يجري وجهه في العموم كالعكس. فتزكية القرن قضاء على الكل بخلاف حديث: (طائفة من الأمة). ولذلك اعتبرت بأوصافها دون جملة أفرادها، فكانت التزكية فيها جاز كذلك، فلزم التوقف في الثاني على أكمل وصفه، بخلاف الأول، وإن كان أولى والله أعلم.
قاعدة 45
ما دوّن من كلام الأئمة في كل فن، فهو حجة لثبوته بتداوله، ومعرفة أصله، وصحة معناه، واتضاح مبناه، وتداوله بين أهله، واشتهار مسائله عند أئمته، مع اتصال كلٍ عمن قبله، فلذلك صح اتباعها ولزم، وإن انقرضت الرواية في أفرادها، وغير المدونة ليست كذلك، فلا يصح الأخذ بها لانقراض حملتها، واحتمال جملتها، وقد يخص ذلك ويعم، كانقراض مذهب الليثي، والسفيانين – سفيان بن عيينة وسفيان الثوري - عموماً وسائر المذاهب، سوى المالكي من المغرب، والشافعي بالعجم، والحنفي بالروم، ، فأما الحنبلي، فلم يوجد إلا مع غيره، فلزم كل ما تمكن معرفة صحة نقله، لا ما احتمل. ولهذا أفتى سحنون بأنه لا يفتى بالمغرب بغير مذهب مالك، ونحوه لابن الكاتب وعند أهل مصر أن العامي، لا مذهب له لتوفر المذاهب في حقه عندهم، حتى رأيت لهم على ذلك فروعاً جمة وفتاوي. والله أعلم.
قاعدة 46
تشعب الأصل قاض بالتشعب في الفرع، فلزم ضبط الفرع بأصل يرجع إليه فقهاً، وأصولاً، وتصوفاً.
فلا يصح قول من قال: (الصوفي لا مذهب له)، إلا من جهة اختياره في المذهب الواحد، أحسنه دليلاً، أو قصداً، أو احتياطاً، أو غير ذلك مما يوصله لحاله. وإلا فقد كان الجنيد ثورياً، وكان الشبلي مالكياً، والجريري حنفياً، والمحاسبي شافعياً، وهم أئمة الطريقة وعمدتها.
وقول القائل: (مذهب الصوفي في الفروع تابع لأصحاب الحديث) باعتبار أنه لا يعمل من مذهبه إلا بما وافق نصه، ما لم يخالف احتياطاً أو يفارق ورعاً. ويلزم ذلك من غير اتهام للعلماء، ولا ميل للرخص، كما ذكر السهروردي رحمه الله في اجتماعهم وبما هنا يفهم كلامه، مع نقل غيره والله أعلم.
قاعدة 47
فتح كل أحد ونوره، على حسب فتح متبوعه ونوره، فمن أخذ علم حاله عن أقوال العلماء، مجردة، كان فتحه ونوره منهم.
فإن أخذ عن نصوص الكتاب والسنة، ففتحه ونوره تام، إن تأهل لأخذها منهما، ولكن فاته نور الاقتداء وفتحه، ولذلك تحفظ الأئمة عليه كما قال ابن المديني رحمه الله: (كان ابن مهدي يذهب لقول مالك، ومالك يذهب لقول سليمان بن يسار، وسليمان يذهب لقول عمر بن الخطاب، فمذهب مالك إذاً مذهب عمر رضي الله عنهم أجمعين).
وقال الجنيد رحمه الله: (من لم يسمع الحديث، ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين: أفسد من اتبعه).
قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}، الآية، وقال عز من قائل: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}، الآية، فافهم.
قاعدة 48
ما أنكره مذهب فلا يجوز الأخذ به من غيره، وإن أبيح أو ندب لمن كان عليه إلا من ضرورة تبيحه بنص من أئمته. وما لم ينكره المذهب، يجوز الأخذ به من غيره سيما إن اقتضى احتياطاً أو تحصيل عبادة على مذهب ذلك الغير، كاتقاء القمرين في الأحداث، ومسح الرقبة في الوضوء، وإطالة الغرة، وترك مسح الأعضاء بالمنديل، وكصلاة التسبيح والحاجة، والتوبة ونحوها، وكاتقاء النصف الأخير من شعبان لمن لم يصم أوله، واعتكاف جزء من النهار، إذ غايته نفي كونه معتكفاً وإلا فهو عبادة.
وكذلك إحداث نية نفل بعد الفجر، إذاً غايته أنه لا يعد صوماً عند المالكية، وقد عده الشافعية صوماً. قال بعض الصوفية: (وعلى ذلك ينبغي أن يكون مذهب المتجرد، فإنه ضيف الله لئلا يضيع جوعه).
وللقرافي في قواعده، وابن العربي في سراجه، ما يشير لما هو أعظم من هذا في باب الورع، وإليه كان يميل شيخنا القوري رحمه الله في عمله، ونحوه عن ابن عباد في وصيته للمريدين، من رسائله الصغرى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 49
ما يعرض للكلام من الأشكال ونحوه, إن كان مما يخطر معناه المقصود منه بأول وهلة دون تأمل ولا يخطر إشكاله إلا بالأخطار، فهذا قلّ أن يخلو عنه كلام، وتتبعه حرج وأضرار ليس من مقاصد الأحكام، وإن كان الإشكال يخطر بأول وهلة، ولا يخطر خلافه إلا بالأخطار، جرى على حكم القاعدة المتقدمة، وإن تجاذبه الفهم من الجهتين، كان متنازعاً فيه بحسب التجاذب. والخروج لحد الكثرة في الإشكال، إما لضيق العبارة عن المقصود، وهو غالب حال الصوفية المتأخرين في كتبهم حتى كفروا وبدعوا، إلى غير ذلك. وإما لفساد الأصل، وعليه حكمها المنكر عليهم، وكلٌ معذور فيما يبدو، إلا أن المنكر أعذر، والمسلّم أسلم، والمعتقد على خطر، ما لم يكن على حذر، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 50
تحقق الأصل لازم لكل من لزمه فرعه إن كان لا ينفك عنه، فلا بد من تحقيق أصول الدين وجريانه على قواعدها عند الأئمة المهتدين، ومذهب الصوفي من ذلك تابع لمذاهب السلف في الإثبات والنفي.
وفصول الاعتقاد ثلاثة:
أولها: ما يعتقد في جانب الربوبية، وليس عندهم فيه إلا اعتقاد التنزيه، ونفي التشبيه مع تفويض ما أشكل بعد نفي الوجه المحال، إذ ليس ثم ألحن من صاحب الحجة بحجته.
الثاني: ما يعتقد في جانب النبوة، وليس إلا إثباتها وتنزيهها عن كل علم وعمل وحال، لا يليق بكمالها، مع تفويض ما أشكل بعد نفي الوجه المنقص، إذ ليس للسيد أن يقول لعبده ما شاء، وللعبد أن ينسب لنفسه ما يريد، تواضعاً مع ربه، وعلينا أن نتأدب مع العبد، ونعرف مقدار نسبته.
الثالث: ما يعتقد في جانب الدار الآخرة، وما يجري مجراها من الخيرات، وليس إلا اعتقاد صدق ما جاء من ذلك على الوجه الذي جاء عليه من غير خوض في تفاصيله، إلا بما صح واتضح. والقول الفصل في كل مشكل من ذلك ما قاله الشافعي رحمه الله، إذ قال: (آمنا بما جاء عن الله، على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). انتهى.
وهو جواب عن كل مشكل من نوعه في جانب الربوبية كما أشار إليه السهروردي، وقال: (إنه مذهب الصوفية كافة، في كل صفة سمعية) والله سبحانه أعلم.
حكم الفقه عام في العموم، لأن مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره، وإظهار كلمته.
وحكم التصوف خاص في الخصوص، لأنه معاملة بين العبد وربّه، من غير زائد على ذلك. فمن ثمّ صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف للفقه في الأحكام والحقائق، لا بالنبذ والترك وصح الاكتفاء به دونه. ولم يكف التصوف عن الفقه، بل لا يصح دونه، ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به، وإن كان أعلى منه رتبة فهو أسلم وأعم مصلحة.
وفي ذلك قيل: (كن فقيها صوفيا، ولا تكن صوفيا فقيها). وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالاً وعملاً وذوقاً. بخلاف فقيه الصوفية فإنّه المتمكن من علمه وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح وذوق صريح، ولا يصلح له أحدهما بدون الآخر، كالطبيب الذي لا يكتفي علمه عن التجربة ولا العكس. فافهم.
قاعدة 27
الاختلاف في الحكم الواحد نفياً وإثباتاً، إن ظهر ابتناء أحدهما على أصل لا يتم الاحتجاج به فهو فاسد، وإن أدّى إلى محال فهو باطل، بخلاف ما ظهر ابتناؤه على أصل يتم الاحتجاج به، ولا ينـزع الحجة من يد مخالفه، لأن الكل صحيح، ومن ثمّ يفرق بين خلاف واختلاف، فنكفر من آل قوله لمحال في معقول العقائد، ونبدع من آل به ذلك في منقولها إن التزم القول باللازم. وإلا نظر في شبهته فيجري له حكمها على خلاف بين العلماء في لازم القول، ولا نكفر ولا نبدع من خرج لازم قوله عن محال، إذ لا نجزم بفساد أصله مع احتماله، وبهذا الوجه يظهر قبول خلاف أهل السنة بينهم مع ردهم للغير عموما. وهو جار في باب الأحكام الشرعية في باب الرد والقبول فتأمل ذلك تجده. وبالله التوفيق.
قاعدة 28
لكلّ شيء وجه، فطالب العلم في بدايته شرطه الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر، ومتى قدم رتبة عن محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة، ومحصّل دون تقوى لا عبرة به، وصورة لا يصحبها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم، والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع وهو قبول الحق بحسن الخلق، ومتى كثر العدد انتفيا، فاقتصر ولا تنتصر، واطلب ولا تقصر، وبالله التوفيق.
قاعدة 29
إحكام وجه الطلب معين على تحصيل المطلوب، ومن ثم كان حسن السؤال نصف العلم، إذ جواب السائل على قدر تهذيب المسائل. وقد قال ابن العريف رحمه الله: (لا بد لكلّ طالب علم حقيقي من ثلاثة أشياء:
أحدهما: معرفة الإنصاف، ولزومه بالأوصاف.
الثاني: تحرير وجه السؤال، وتجريده من عموم جهة الإشكال.
الثالث: تحقيق الفرق بين ا لخلاف والاختلاف).
قلت: فما رجع لأصل واحد، فاختلاف، يكون حكم الله في كل ما أدّاه الله إليه اجتهاده، وما رجع لأصلين يتبين بطلان أحدهما عند تحقيق النظر فخلاف، والله أعلم.
قاعدة 30
التعاون على الشيء ميسّر لطلبه، ومسهل لمشاقه على النفس وتعبه، فلذلك ألفته النفوس، حتى أمر به على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. فلزم مراعاة الأول في كلّ شيء لا كالثاني.
ومنه قول سيدي أبي عبد الله بن عباد رحمه الله تعالى: (أوصيكم بوصية لا يعقلها إلا من عقل وجرب، ولا يهملها إلا من غفل فحجب، وهي : أن لا تأخذوا في هذا العلم مع متكبر، ولا صاحب بدعة ولا مقلد.
فأما الكبر: فطابع يمنع من فهم الآيات والعبر.
والبدعة: توقع في البلايا الكبر.
والتقليد: يمنع من بلوغ الوطر ونيل الظفر.
قال: (ولا تجعلوا لأحد من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن).
قلت: (بل يبحثوا على أن يجعلوا أهل الظاهر حجة لهم لا عليهم)، إذ كل باطن مجرد عن الظواهر باطل، والحقيقة ما عقد بالشريعة، فافهم.
قاعدة 31
الفقه مقصود لإثبات الحكم في العموم، فمداره على إثبات ما يسقط به الحرج، والتصوف مرصده طلب الكمال. ومرجعه لتحقيق الأكمل حكماً وحكمة. والأصول شرط في النفي والإثبات، فمدارها على التحقيق المجرد {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، فافهم.
القاعدة 32
مادة الشيء مستفادة من أصوله، ثم قد يشارك الغير في مادته، ويخالفه في وجه استمداده. كالفقه والتصوف والأصول، أصولها: الكتاب والسنة، وقضايا العقل المسلمة بالكتاب والسنة. لكن الفقيه ينظر من حيث ثبوت الحكم الظاهر، للعمل الظاهر، بقاعدته المقتضية له. والصوفي ينظر من حيث الحقيقة في عين التحقيق، ولا نظر فيه للفقيه حتى يصل ظاهره بباطنه. والأصولي يعتبر حكم النفي والإثبات من غير زائد.
فمن ثم قال ابن الجلاء رحمه الله: (من عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالحقيقة، فهو زنديق، ومن عامل الحق بالشريعة، والخلق بالشريعة فهو سنيّ، ومن عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالشريعة فهو صوفيّ)، انتهى. وهو عجيب مناسب لما قبله، تظهر أمثلته مما بعده.
القاعدة 33
إنما يظهر الشيء بمثاله، ويقوى بدليله. فمثال الزنديق: الجبري الذي يريد إبطال الحكمة والأحكام. ومثال السني: ما وقع في حديث الثلاثة الذين اشتد عليهم الغار، فسأل الله كل واحد بأفضل أعماله كما صح، وعضدته ظواهر الأدلة ترغيباً وترهيباً والله أعلم.
ومثال الصوفي: حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار فقال: أبغني شاهداً. فقال: (كفى بالله شهيداً)، فقال: أبغني كفيلاً، فقال: (كفى بالله كفيلاً). فرضي. ثم لما حضر الأجل، خرج يلتمس مركباً فلم يجده، فنقر خشبة، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت. ثم جاءه بألف أخرى وفاءً بحق الشريعة. أخرجهما البخاري في جامعه. ومنه: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}، الإنسان. فجعل متعلق الخوف مجرداً عن حامل العمل والله أعلم.
وقد قال رجل للشبلي رحمه الله: (كم في خمس من الإبل؟ قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله. قال له: فما أصلك في ذلك؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله. ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها، فإمامه علي رضي الله عنهم، وكل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا فليس بعلم). انتهى وهو عظيم في بابه.
قاعدة 34
المتكلم في فن من فنون العلم، إن لم يُلحق فرعه بأصله ويحقق أصله من فرعه، ويصل معقوله بمنقوله، وينسب منقوله لمعانيه، ويعرض ما فهم منه على ما علم من استنباط أهله، فسكوته عنه أولى من كلامه فيه، إذ خطأه أقرب من إصابته، وضلاله أسرع من هدايته، إلا أن يقتصر على مجرد النقل المحرر من الإيهام والإبهام. فرب حامل فقه غير فقيه فيسلم له نقله لا قوله. وبالله سبحانه التوفيق.
القاعدة 35
يعتبر الفرع بأصله وقاعدته، فإن وافق قبل، وإلا رد على مدعيه إن تأهل، أو تأول عليه إن قبل، أو سلم له إن كملت مرتبته علماً وديانةً، ثم هو غير قادح في الأصل، لأن فساد الفاسد إليه يعود، ولا يقدح في صالح الصالح شيئاً، فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين، وكالمطعون عليهم من المتفقهين، يرد قولهم، ويتجنب فعلهم، ولا يترك المذهب الحق الثابت بنسبتهم له وظهورهم فيه والله أعلم.
القاعدة 36
ضبط العلم بقواعده مهم، لأنها تضبط مسائله، وتُفهم معانيه، وتدرك مبانيه، وينتفى الغلط من دعواه، وتهدي المتبصر فيه، وتعين المتذكر عليه، وتقيم حجة المناظر، وتوضح المحجة للناظر، وتبين الحق لأهله، والباطل في محله.
واستخراجها من فروعه عند تحققها، أمكن لمريدها لكن بُعدَ الأفهام مانع من ذلك، فلذلك اهتم بها المتأخر والمتقدم. والله سبحانه أعلم.
القاعدة 37
لما كانت دلالة التصوف بجملته على التوجه إلى الله من حيث يرضى، كفت أوائله مع التزام واتباع الفقه، فكان الاعتناء بعمله، أكثر من علمه، ومن ثم لم تدون قواعده، ولم تمهد أصوله، وإن أشار إليها أئمته كالسلمي في فصوله، والقشيري في رسالته، والله أعلم.
القاعدة 38
إذا حُقق أصل العلم، وعرفت مواده وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله.
فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كانت له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخر أتم، لأنه زائد على المتقدم والفتح من الله مأمول لكل أحد.
ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: (إذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين). نعوذ بالله من حسد يسدّ باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف. انتهى وهو عجيب.
القاعدة 39
العلماء مصدقون فيما ينقلون، لأنه موكول لأمانتهم. مبحوث معهم فيما يقولون، لأنه نتيجة عقولهم والعصمة غير ثابتة لهم، فلزم التبصر والنظر وطلباً للحق والتحقيق، لا اعتراضاً على القائل والناقل. ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه، فهو على رتبته، ولا يلزمه القدح في المتقدم، ولا إساءة الأدب معه، لأن ما ثبت من عدالة المتقدم، قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه فهو ملزوم به، إن أدى لنقض قوله مع حقيقته لا أرجحيته، إذ الاحتمال ثبت له، ومن ثم خالف أئمة متأخري الأمة أولها، ولم يكن قدحاً في واحد منهما، فافهم.
القاعدة 40
مبنى العلم على البحث والتحقيق، ومبنى الحال على التسليم والتصديق، فإذا تكلم العارف من حيث العلم نظر في قوله بأصله من الكتاب والسنة وآثار السلف، لأن العلم معتبر بأصله. وإذا تكلم من حيث الحال، سُلم له ذوقه، إذ لا يوصل إليه إلا بمثله، فهو معتبر بوجدانه.
فالعلم به مستند لأمانة صاحبه، ثم لا يقتدى به، لعدم عموم حكمه، إلا في حق مثله .
قال أستاذ لمريده: (يا بني برّد الماء، فإنك إن شربت ماءاً بارداً حمدت الله بكلية قلبك، وإن شربته ساخناً حمدت الله على كزازة نفس)، قال: يا سيدي والرجل الذي وجد قلته قد انبسطت عليها الشمس، فقال: أستحي من الله أن أنقلها لحظة. قال: يا بني، ذلك صاحب الحال لا يقتدي به. انتهى
القاعدة 41
ما كان معقولاً، فبرهانه في نفسه، فلذلك لا يحتاج لمعرفة قائله إلا من حيث كون ذلك كمالاً فيه. والمنقول موكول لأمانة ناقله، فلزم البحث والتعريف لوجهه، وما تركب منهما، احتيط له بالتعرف والتعريف. وقد قال ابن سيرين رضي الله عنه: (إن هذا الحديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
وهذا التفضيل في حق المشرف على العلم، الذي قد استشعر مقاصده. فأما العامي ومن كان في مبادئ الطلب، فلا بد له من معرفة الوجه الذي يأخذ منه معقوله كمنقوله، ليكون على اقتداء، لا على تقليد. والله سبحانه أعلم.
القاعدة 42
التقليد: أخذ القول من غير استناد لعلامة في القائل، ولا وجه في المنقول، فهو مذموم مطلقاً، لاستهزاء صاحبه بدينه.
والإقتداء: الاستناد في أخذ القول لديانة صاحبه وعلمه، وهذه رتبة أصحاب المذاهب مع أئمتها. فإطلاق التقليد عليها مجاز.
والتبصر: أخذ القول بدليله الخاص به من غير استبداد بالنظر، ولا إهمال للقول. وهي رتبة مشايخ المذاهب وأجاويد طلبة العلم.
والاجتهاد: اقتراح الأحكام من أدلتها، دون مبالاة بقائل. ثم إن لم يعتبر أصل متقدم فمطلق، وإلا فمقيد.
والمذهب: ما قوي في النفس، حتى اعتمده صاحبه.
وقد ذكر هذه الجملة بمعانيها في مفتاح السعادة، والله أعلم.
قاعدة 43
لا متبع إلا المعصوم, لانتفاء الخطأ عنه, أو من شهد له بالفضل, لأن مزكي العدل عدل.
وقد شهد عليه السلام: (بأن خير القرون قرنه, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم)، فصح فضلهم على الترتيب والاقتداء بهم كذلك. لكن الصحابة تفرقوا في البلاد، ومع كل واحد منهم علم, كما قال مالك رحمه الله: (فلعل مع أحدهم ما هو ناسخ, ومع الآخر ما هو منسوخ، ومع واحد مطلق, ومع الآخر مقيد, ومع بعضهم عام, وعند الآخر مخصص كما وجد كثيراً. فلزم الانتقال لمن بعدهم, إذ جمع المتفرق من ذلك، وضبط الرواية فيما هنالك, لكنهم لم يستوعبوه فقهاً, وإن وقع لهم بعض ذلك, فلزم الانتقال للثالث, إذ جمع ذلك وضبطه وتفقه فيه, فتم حفظاً وضبطاً وتفقهاً، فلم يبق لأحد غير العمل بما استنبطوه، وقبول ما أصلوه واعتمدوه.
ولكن فن في هذا القرن أئمة مشهور فضلهم، علماً وورعاً كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة النعمان، للفقه. وكالجنيد، ومعروف، وبشر، للتصوف. وكالمحاسبي لذلك وللاعتقادات، إذ هو أول من تكلم في إثبات الصفات، كما ذكره ابن الأثير، والله أعلم.
قاعدة 44
إعطاء الحكم للخصوص، لا يجري وجهه في العموم كالعكس. فتزكية القرن قضاء على الكل بخلاف حديث: (طائفة من الأمة). ولذلك اعتبرت بأوصافها دون جملة أفرادها، فكانت التزكية فيها جاز كذلك، فلزم التوقف في الثاني على أكمل وصفه، بخلاف الأول، وإن كان أولى والله أعلم.
قاعدة 45
ما دوّن من كلام الأئمة في كل فن، فهو حجة لثبوته بتداوله، ومعرفة أصله، وصحة معناه، واتضاح مبناه، وتداوله بين أهله، واشتهار مسائله عند أئمته، مع اتصال كلٍ عمن قبله، فلذلك صح اتباعها ولزم، وإن انقرضت الرواية في أفرادها، وغير المدونة ليست كذلك، فلا يصح الأخذ بها لانقراض حملتها، واحتمال جملتها، وقد يخص ذلك ويعم، كانقراض مذهب الليثي، والسفيانين – سفيان بن عيينة وسفيان الثوري - عموماً وسائر المذاهب، سوى المالكي من المغرب، والشافعي بالعجم، والحنفي بالروم، ، فأما الحنبلي، فلم يوجد إلا مع غيره، فلزم كل ما تمكن معرفة صحة نقله، لا ما احتمل. ولهذا أفتى سحنون بأنه لا يفتى بالمغرب بغير مذهب مالك، ونحوه لابن الكاتب وعند أهل مصر أن العامي، لا مذهب له لتوفر المذاهب في حقه عندهم، حتى رأيت لهم على ذلك فروعاً جمة وفتاوي. والله أعلم.
قاعدة 46
تشعب الأصل قاض بالتشعب في الفرع، فلزم ضبط الفرع بأصل يرجع إليه فقهاً، وأصولاً، وتصوفاً.
فلا يصح قول من قال: (الصوفي لا مذهب له)، إلا من جهة اختياره في المذهب الواحد، أحسنه دليلاً، أو قصداً، أو احتياطاً، أو غير ذلك مما يوصله لحاله. وإلا فقد كان الجنيد ثورياً، وكان الشبلي مالكياً، والجريري حنفياً، والمحاسبي شافعياً، وهم أئمة الطريقة وعمدتها.
وقول القائل: (مذهب الصوفي في الفروع تابع لأصحاب الحديث) باعتبار أنه لا يعمل من مذهبه إلا بما وافق نصه، ما لم يخالف احتياطاً أو يفارق ورعاً. ويلزم ذلك من غير اتهام للعلماء، ولا ميل للرخص، كما ذكر السهروردي رحمه الله في اجتماعهم وبما هنا يفهم كلامه، مع نقل غيره والله أعلم.
قاعدة 47
فتح كل أحد ونوره، على حسب فتح متبوعه ونوره، فمن أخذ علم حاله عن أقوال العلماء، مجردة، كان فتحه ونوره منهم.
فإن أخذ عن نصوص الكتاب والسنة، ففتحه ونوره تام، إن تأهل لأخذها منهما، ولكن فاته نور الاقتداء وفتحه، ولذلك تحفظ الأئمة عليه كما قال ابن المديني رحمه الله: (كان ابن مهدي يذهب لقول مالك، ومالك يذهب لقول سليمان بن يسار، وسليمان يذهب لقول عمر بن الخطاب، فمذهب مالك إذاً مذهب عمر رضي الله عنهم أجمعين).
وقال الجنيد رحمه الله: (من لم يسمع الحديث، ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين: أفسد من اتبعه).
قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}، الآية، وقال عز من قائل: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}، الآية، فافهم.
قاعدة 48
ما أنكره مذهب فلا يجوز الأخذ به من غيره، وإن أبيح أو ندب لمن كان عليه إلا من ضرورة تبيحه بنص من أئمته. وما لم ينكره المذهب، يجوز الأخذ به من غيره سيما إن اقتضى احتياطاً أو تحصيل عبادة على مذهب ذلك الغير، كاتقاء القمرين في الأحداث، ومسح الرقبة في الوضوء، وإطالة الغرة، وترك مسح الأعضاء بالمنديل، وكصلاة التسبيح والحاجة، والتوبة ونحوها، وكاتقاء النصف الأخير من شعبان لمن لم يصم أوله، واعتكاف جزء من النهار، إذ غايته نفي كونه معتكفاً وإلا فهو عبادة.
وكذلك إحداث نية نفل بعد الفجر، إذاً غايته أنه لا يعد صوماً عند المالكية، وقد عده الشافعية صوماً. قال بعض الصوفية: (وعلى ذلك ينبغي أن يكون مذهب المتجرد، فإنه ضيف الله لئلا يضيع جوعه).
وللقرافي في قواعده، وابن العربي في سراجه، ما يشير لما هو أعظم من هذا في باب الورع، وإليه كان يميل شيخنا القوري رحمه الله في عمله، ونحوه عن ابن عباد في وصيته للمريدين، من رسائله الصغرى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 49
ما يعرض للكلام من الأشكال ونحوه, إن كان مما يخطر معناه المقصود منه بأول وهلة دون تأمل ولا يخطر إشكاله إلا بالأخطار، فهذا قلّ أن يخلو عنه كلام، وتتبعه حرج وأضرار ليس من مقاصد الأحكام، وإن كان الإشكال يخطر بأول وهلة، ولا يخطر خلافه إلا بالأخطار، جرى على حكم القاعدة المتقدمة، وإن تجاذبه الفهم من الجهتين، كان متنازعاً فيه بحسب التجاذب. والخروج لحد الكثرة في الإشكال، إما لضيق العبارة عن المقصود، وهو غالب حال الصوفية المتأخرين في كتبهم حتى كفروا وبدعوا، إلى غير ذلك. وإما لفساد الأصل، وعليه حكمها المنكر عليهم، وكلٌ معذور فيما يبدو، إلا أن المنكر أعذر، والمسلّم أسلم، والمعتقد على خطر، ما لم يكن على حذر، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 50
تحقق الأصل لازم لكل من لزمه فرعه إن كان لا ينفك عنه، فلا بد من تحقيق أصول الدين وجريانه على قواعدها عند الأئمة المهتدين، ومذهب الصوفي من ذلك تابع لمذاهب السلف في الإثبات والنفي.
وفصول الاعتقاد ثلاثة:
أولها: ما يعتقد في جانب الربوبية، وليس عندهم فيه إلا اعتقاد التنزيه، ونفي التشبيه مع تفويض ما أشكل بعد نفي الوجه المحال، إذ ليس ثم ألحن من صاحب الحجة بحجته.
الثاني: ما يعتقد في جانب النبوة، وليس إلا إثباتها وتنزيهها عن كل علم وعمل وحال، لا يليق بكمالها، مع تفويض ما أشكل بعد نفي الوجه المنقص، إذ ليس للسيد أن يقول لعبده ما شاء، وللعبد أن ينسب لنفسه ما يريد، تواضعاً مع ربه، وعلينا أن نتأدب مع العبد، ونعرف مقدار نسبته.
الثالث: ما يعتقد في جانب الدار الآخرة، وما يجري مجراها من الخيرات، وليس إلا اعتقاد صدق ما جاء من ذلك على الوجه الذي جاء عليه من غير خوض في تفاصيله، إلا بما صح واتضح. والقول الفصل في كل مشكل من ذلك ما قاله الشافعي رحمه الله، إذ قال: (آمنا بما جاء عن الله، على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). انتهى.
وهو جواب عن كل مشكل من نوعه في جانب الربوبية كما أشار إليه السهروردي، وقال: (إنه مذهب الصوفية كافة، في كل صفة سمعية) والله سبحانه أعلم.
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قاعدة 51
وقوع الموهم والمبهم، والمشكل في النصوص الشرعية ميزان العقول والأذهان والعقود: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}، الأنفال. وتظهر مراتب الإيمان لأهلها: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}، آل عمران.
ولا يقبل وضعه من غير الشارع البتة، إلا أن يكون بيّن المعنى واضح المبنى، في عرف التخاطب له لشبهة في أصول النصوص كمسألة الاستواء الذي هو في رسالة ابن أبي زيد فاختلف فيه الأصوليون، ثم هو بعد وقوعه بهذا الوجه هم مختلفون في قبوله وتأويله، أو حمل مذهب صاحبه على ظاهره.
وهذا كله إن كان إماماً معتبراً في فنه صوفياً كان أو فقيهاً لا غيره فيرد عليه مطلقاً، كما لا أصل له ولا شبهة، فيرد على الجميع بلا خلاف، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 52
الكلام في المحتمل بما يقتضيه من الوجوه السائغة فيه لا يقر على أصل التفويض بالنقض، إذا لم يعتقد أنه عين المراد به، فأما مع إيهام احتماله فلا يضر، لأنه الأصل الذي يبنى عليه، بعد نفي المحال فليس بناقض له، وإن كان مناقضاً فمن ثم تكلم القوم في التأويل بعد عقد التفويض، وإلا فلا يصح بعد اجتماعهم عليه. نعم التحقيق أن لا تفويض في الأصل، وإنما هو في تعيين المحمل للزوم طرح المحال والله أعلم.
قاعدة 53
أحكام الصفات الربانية لا تتبدل، وآثارها لا تنتقل، فمن ثم قال الحاتمي رحمه الله: (يعتقد في أهل البيت أن الله تعالى تجاوز عن جميع سيئاتهم، لا بعمل عملوه، ولا بصالح قدموه، بل بسابق عناية من الله لهم. إذ قال تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً}، الأحزاب. فعلق الحكم بالإرادة التي لا تتبدل أحكامها، فلا يحل لمسلم أن ينتقص، ولا أن يشنأ عرض من شهد الله تعالى بتطهيره وذهاب الرجز عنه.
والعقوق لا يخرج عن النسب، ما لم يذهب أصل النسبة وهو الإيمان، ومال تعين عليهم من الحقوق فأيدينا فيهم نائبة عن الشريعة وما نحن في ذلك إلا كالعبد، يؤدب ابن سيده بإذنه، فيقوم بأمر السيد، ولا يهمل فضل الولد. وقد قال تعالى: {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور رحيم}، الشورى. قال ابن عباس: أي إلا أن تودّوا قرابتي.
وما نزل بنا من قبلهم من الظلم ننزله منزلة القضاء الذي لا سبب له، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها).
وللجزء من الحرمة ما للكل، وقد قال تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً}، الكهف. فأثنى بصلاح الأب، فما ظنك بنبوته.
إذا كان هذا في أولاد الصالحين، فما ظنك بأولاد الأولياء، وإذا كان هذا في أولاد الأولياء، فما ظنك بأولاد الأنبياء، وإذا كان هذا في أولاد الأنبياء، فما ظنك بأولاد المرسلين، بل قل لي: بماذا تعبر عن أولاد سيد المرسلين، فبان أن لهم من الفضل ما لا يقدر قدره غير من خصصهم به فافهم.
ولما ذكرت أول هذه الجملة لشيخنا أبي عبد الله القوري رحمه الله، قال: (هذا في حقنا، وأما في حقهم، فليس الذنب في القرب كالذنب في البعد، وتلا: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً}، الأحزاب. فمظهر التغليط، بتعجيل النوائب المكفرة في هذه الدار، كما ذكره ابن أبي جمرة في شأن أهل بدر، عند كلامه على مسطح في حديث الإفك. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يا عباس، عم النبي صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة ابنة محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً، اشتروا أنفسكم من الله).
قلت: وهذا كنهي البار عن العقوق، والبريء عن التهم، ليكون أثبت في الحجة على الغير، والله أعلم.
قاعدة 54
إثبات الحكم بالذات، ليس كإثباته بعوارض الصفات. فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت)، لاتصافه بجوامع النسب الدينية حتى لو كان الإيمان بالثريا لأدركه.
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: (الأقربون أولى بالمعروف) إنه يعني إلى الله، إذ لا يتوارث أهل ملتين. فالمعتبر أصل النسب الديني وفروعه مجرداً، ثم إن اتصاف للطيني كان له مؤكداً، فلا تلحق رتبة صاحبه بحال.
وقد أجيب عن قول الشيخ أبي محمد عبد القادر رحمه الله تعالى: (قدمي هذا على رقبة كل ولي) في زمانه. لأنه جمع من علو النسب، شرف العبادة والعلم، ما لم يكن لغيره من أهل وقته. ألا ترى ما روي من احتلامه في ليلة واحدة سبعين مرة، واغتساله لكلها، وفتياه لملك حلف: ليعبدن الله بعبادة لا يشركه فيها غيره، بإخلاء المطاف بعد وقوف الكل دونه في ذلك، والله أعلم.
قاعدة 55
إنما وضعت التراجم لتعريف المناصب، فمن عرفت رتبته كانت الترجمة له تكلفاً، غير مفيدة في ذاته. ومن جهلت رتبته لزم عند ذكره الإتيان بما يشعر برتبته، ومن هذه القاعدة جاز أن يقال: (روى أبو بكر، وقال عمر، وعمل عثمان، وسمع علي، وكان ابن المسيب، وأخبر ابن سيرين، وقال الحسن، وذهب مالك، وحُكِيَ عن الجنيد) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 56
نظرُ الصوفي للمعاملات، أخص من نظر الفقيه، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج، والصوفي ينظر فيما يحصل به الكمال. وأخص أيضاً من نظر الأصولي، لأن الأصولي يعتبر ما يصح به المعتقد، والصوفي ينظر فيما يتقوى به اليقين. وأخص أيضاً من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث، لأن كلاً منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتناه، وإلا فهو باطني خارج الشريعة، فضلاً عن المتصوفة، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 57
تنوع الفرع بتنوع أصله، وقد تقدم أن أصل التصوف في مقام الإحسان، وهو متنوع إلى نوعين:
أحدهما: بدل من الآخر، هما أن تعبد الله كأنك تراه، وإلا فإنه يراك. فالأول رتبة العارف، والثاني: رتبة من دونه. وعلى الأول يحوم الشاذلية ومن نحا نحوهم، وعن الثاني يحوم الغزالي، ومن نحا نحوه.
والأول أقرب، لأن غرس شجرتها مشير لقصد ثمرتها ومبناها على الأصول التي قد تحصل لكل مؤمن وجودها. فالطباع مساعدة عليها، والشريعة قائمة فيها، إذ مطلوبها تقوية اليقين وتحقيقه بأعمال المتقين، فافهم.
قاعدة 58
في اختلاف المسالك راحة للسالك، وإعانة على ما أراد من بلوغ الأرب والتوصل بالمراد. فلذلك اختلف طرق القوم ووجوه سلوكهم، فمن ناسك يوثر الفضائل بكل حال، ومن عابد يتمسك بصحيح الأعمال، ومن زاهد يفر من الخلائق، ومن عارف يتعلق بالحقائق، ومن ورع يحقق المقام بالاحتياط ، ومن متمسك يتعلق بالقوم في كل مناط، ومن مريد يقوم بمعاملة البساط، والكل في دائرة الحق بإقامة حق الشريعة والفرار من كل ذميمة وشنيعة.
قاعدة 59
اتباع الأحسن أبداً، محبوب طبعاً، مطلوب شرعاً {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.
إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها. (إن الله جميل يحب الجمال). ولذا بُني التصوف على اتباع الأحسن، حتى قال ابن العريف رحمه الله تعالى: (السرّ الأعظم في طريق الإرادة. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
والاستحسان يختلف باختلاف نظر المستحسن، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 60
تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان [وحصول الحسن لكل مستحسن]، فمن ثم كان لكل فريق طريق: فللعامي تصوف حوته كتب المحاسبي، ومن نحا نحوه، وللفقيه تصوف رحاه ابن الحاج في مدخله، وللمحدث تصوف حام حوله ابن العربي في سراجه، وللعابد تصوف دار عليه الغزالي في منهاجه، وللمتريض تصوف نبه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوف حواه القوت والإحياء، وللحكيم تصوف أدخله الحاتمي في كتبه، وللمنطقي تصوف نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوف جاء به البوني في أسراره. وللأصولي تصوف قام الشاذلي بتحقيقه، فليعتبر كل بأصله من محله، وبالله التوفيق.
قاعدة 61
لا حظ للعامي فيما سوى الحذر والإشفاق، والأخذ بأيسر المسالك وأبينها لديه، وذلك بالتزام التقوى في البداية قبل وقوع الذنب والاستدراك بالتوبة لما وقع منه بعد تدقيق النظر في ذلك دون ما سواه. وقد اعتنى بذلك المحاسبي وحرره أتم تحرير، إلا أنه شدد غاية التشديد، وذلك في البداية وتعين المقصد به عند النهاية، سيما رعايته ونصائحه. فقد قال أوحد زمانه علماً وعبادة وأفضلهم ورعاً وزهادة، سيدي أحمد بن عاشر رضي الله عنه: (لا يعمل بما فيه [إلا ولي]، أو كلاماً هذا معناه، كذا نقله سيدي أبو عبد الله بن عباد [في تنبيهه] رضي الله عن جميعهم بمنه.
قاعدة 62
إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه، فلا يعتمد صوفي في الفقه، إلا أن يعرف قيامه عليه، ولا فقيه في التصوف، إلا أن يعرف تحقيقه له، ولا محدث فيهما، إلا أن يعلم قيامه بهما. فلزم طلب الفقه من قبل الفقهاء لمريد التصوف. وإنما يرجع لأهل الطريقة، فيما يختص بصلاح باطنه من ذلك، ومن غيره. ولذلك كان الشيخ أبو محمد المرجاني رضي الله عنه، يأمر أصحابه بالرجوع للفقهاء في مسائل الفقه، وإن كان عارفاً بها، فافهم.
قاعدة 63
يعتبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ. فكل طالب اعتنى باللفظ أكثر من المعنى، فإنه تحصيل المعاني، وكل طالب أهمل اللفظ كان المعنى بعيداً عنه. ومن اقتصر على فهم ما يؤديه اللفظ من غير تعمق ولا تتبع كان أقرب لإفادته واستفادته، فإن أضاف لفهم المعنى أجزاء النظر في حقيقته بأصوله اهتدى للتحقيق إذ العلوم إن لم تكن منك ومنها، كنت بعيداً عنها. فمنك بلا منها فساد وضلال، ومنها بلا منك مجازفة وتقليد، ومنها ومنك توقف وتحقيق، ولذا قيل: (قف حيث وقفوا ثم سر)، والله أعلم.
قاعدة 64
غاية اتباع التقوى التمسك بالورع، وهو ترك ما لا بأس به، مما يحيك في الصدر، حذراً مما به بأس، كما صح: (لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما حاك في الصدر). وشك بلا علامة وسوسة، وورع بلا سنة بدعة. ومنه التورع عن اليمين في الحق بالحق من غير إكثار. فلا يصح قول من قال: (من الديانة ألا تحلف بالله صادقاً ولا كاذباً). لما استفاض من آثار السلف وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل [قد] قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يحلف به، فاحلفوا بالله وبروا وأصدقوا).
ونهى الله تعالى عن أن يجعل عرضة للأيمان، فليتق وقوعه غاية، ولا يجتنب بالكلية، والله أعلم.
قاعدة 65
من كمال التقوى وجود الاستقامة، وهي حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة، كقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}، وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن اعلم بما يصفون}، إلى غير ذلك. ولا يتم أمرها إلا بشيخ ناصح، أو أخ صالح يدل العبد على اللائق به لصالح حاله، إذ رُبّ شيخ ضره ما انتفع به غيره، ويدل على ذلك اختلاف أحوال الصحابة في أعمالهم ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ومعاملته معهم. فنهى عبد الله بن عمر عن سرد الصوم، وأقر عليه حمزة بن عمر الأسلمي. وقال في ابن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وأوصى أبا هريرة بأن لا ينام إلا على وتر، وأمر أبا بكر برفع صوته في صلاته، وعمر بالإخفاء، وتفقد علياً وفاطمة لصلاتهما من الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة فلم يوقظها، وأعلم معاذ بن جبل بأن من قال: (لا إله إلا الله وجبت له الجنة)، وأمر بإخفاء ذلك عن كل الناس. وخص حذيفة بالسرّ، وأسرّ لبعض الصحابة أذكاراً مع ترغيبه في الخير عموماً.
وهذه كلها تربية منه صلى الله عليه وسلم في مقام الاستقامة، والله أعلم.
قاعدة 66
أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذ دونهم، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، واتبع سبيل من أناب إليّ.
فلزمت المشيخة، سيما والصحابة أخذوا عنه صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عن جبريل، واتبع إشارته في أن يكون: نبياً عبداً، [لا نبياً ملكاً]. وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكل أتباع يختصون به كابن سيرين، وابن المسيب، والأعرج في أبي هريرة، وطاووس، ووهب، ومجاهد لابن عباس إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل، فأخذه جلي فيما ذكروا، وكما ذكروا. وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: (ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا)، فأبان أن رؤية شخصه الكريم، كان نافعاً لهم في قلوبهم، والعلماء ورثة الأنبياء حالاً ومالاً وإن لم يدانوا المنزلة وهو الأصل في طلب القرب من أهل الله في الجملة. إذ من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبة الصالحين، ونهى عن صحبة الفاسقين، فافهم.
قاعدة 67
ضبط النفس بأصل، يرجع إليه في العلم والعمل [لأنه] لازم لمنع التشعب والتشعث، فلزم الاقتداء بشيخ، قد تحقق أتباعه للسنة، تمكنه من المعرفة ليرجع إليه فيما يريد أو يراد، مع التقاط الفوائد الراجعة لأصله من خارج، إذ الحكمة ضالة المؤمن، وهو كالنحلة ترعى من كل طيب ثم لا تبيت في غير جبحها، وإلا لم ينتفع بعسلها.
وقد تشاجر فقراء الأندلس من المتأخرين، في الاكتفاء بالكتب عن المشايخ ثم كتبوا للبلاد، فكل أجاب على حسب فتحه. وجملة الأجوبة دائرة على ثلاث:
أولها:
النظر للمشايخ، فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب للبيت حاذق الذي يعرف موارد العلم.
وشيخ التربية تكفي عنه الصحبة لذي دين عاقل ناصح.
وشيخ الترقية يكفي عنه اللقاء والتبرك. كل ذلك من وجه واحد أتم.
الثاني:
النظر لحال الطالب، فالبليد لا بد له من شيخ يربيه، واللبيب تكفي الكتب في ترقيه، لكنه لا يسلم من رعونة نفسه، وإن وصل لابتلاء العبد برؤية نفسه.
الثالث:
النظر للمجاهدات.
فالتقوى لا تحتاج إلى شيخ لبيانها وعمومها.
والاستقامة تحتاج إلى شيخ في تمييز الأصلح منها، وقد يكتفي دونه اللبيب بالكتب ومجاهدة الكشف، والترقية لا بد فيها من شيخ يرجع إليه في فتوحها، كرجوعه عليه السلام للعرض على ورقة [بن نوفل] لعلمه بأخبار النبوة ومبادئ ظهورها، حين فاجأه الحق. وهذه الطريقة قريبة من الأولى والسنة معهما، والله أعلم.
قاعدة 68
الفقيه يعتبر الحكم بأصله ومعناه، وقاعدة بابه، إلا لنص في عينه، بنفي أو ثبوت. فهو يأخذ بما قبلته القواعد وإن لم يصح متنه، ما لم يكن له معارض، فمن ثم قبل ابن حبيب وغيره من الأئمة ما له أصل من الدين في الجملة، ولا معارض له ولا ناقض، كسائر الفضائل من المندوبة والرغائب التي ليس فيها زيادة كيفية، ولا معارضة أصل، ولا إشعار بالابتداع كصوم الأيام السبعة، والقراءة عند رأس الميت، سورة (يس) وتفاضل الجماعات بالكثرة ونحو ذلك مما رغب في أصله في الجملة وضعف الترغيب في عينه ونحوه لابن عربي في الأذكار، والله أعلم.
قاعدة 69
المحدث يعتبر الحكم بنصه ومفهومه إن صح نقله. فهو يقف عند ما انتهى إليه صحيحاً أو حسناً، أو ضعيفاً إن تساهل لا موضوعاً، وإن اقتضته القواعد. بل قال الشيخ البلالي رحمه الله: (تحرم رواية الموضوع مع العلم به إلا مبيناًَ، والعمل به مطلقاً). ومنه صلاة الرغائب، والأسبوع، وما يروى عن ابي بن كعب في فضائل السور، سورة سورة. وأخطاء من ذكره من المفسرين، وبالمنع في صلاة الرغائب أفتى النووي، وابن عبد السلام وغيرهما من الشافعية، والطرطوشي من أهل مذهب مالك، وصرح به ابن العربي، وهو مقتضى المذهب على ما قاله ابن الحاج وغيره، والله أعلم.
وقوع الموهم والمبهم، والمشكل في النصوص الشرعية ميزان العقول والأذهان والعقود: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}، الأنفال. وتظهر مراتب الإيمان لأهلها: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}، آل عمران.
ولا يقبل وضعه من غير الشارع البتة، إلا أن يكون بيّن المعنى واضح المبنى، في عرف التخاطب له لشبهة في أصول النصوص كمسألة الاستواء الذي هو في رسالة ابن أبي زيد فاختلف فيه الأصوليون، ثم هو بعد وقوعه بهذا الوجه هم مختلفون في قبوله وتأويله، أو حمل مذهب صاحبه على ظاهره.
وهذا كله إن كان إماماً معتبراً في فنه صوفياً كان أو فقيهاً لا غيره فيرد عليه مطلقاً، كما لا أصل له ولا شبهة، فيرد على الجميع بلا خلاف، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 52
الكلام في المحتمل بما يقتضيه من الوجوه السائغة فيه لا يقر على أصل التفويض بالنقض، إذا لم يعتقد أنه عين المراد به، فأما مع إيهام احتماله فلا يضر، لأنه الأصل الذي يبنى عليه، بعد نفي المحال فليس بناقض له، وإن كان مناقضاً فمن ثم تكلم القوم في التأويل بعد عقد التفويض، وإلا فلا يصح بعد اجتماعهم عليه. نعم التحقيق أن لا تفويض في الأصل، وإنما هو في تعيين المحمل للزوم طرح المحال والله أعلم.
قاعدة 53
أحكام الصفات الربانية لا تتبدل، وآثارها لا تنتقل، فمن ثم قال الحاتمي رحمه الله: (يعتقد في أهل البيت أن الله تعالى تجاوز عن جميع سيئاتهم، لا بعمل عملوه، ولا بصالح قدموه، بل بسابق عناية من الله لهم. إذ قال تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً}، الأحزاب. فعلق الحكم بالإرادة التي لا تتبدل أحكامها، فلا يحل لمسلم أن ينتقص، ولا أن يشنأ عرض من شهد الله تعالى بتطهيره وذهاب الرجز عنه.
والعقوق لا يخرج عن النسب، ما لم يذهب أصل النسبة وهو الإيمان، ومال تعين عليهم من الحقوق فأيدينا فيهم نائبة عن الشريعة وما نحن في ذلك إلا كالعبد، يؤدب ابن سيده بإذنه، فيقوم بأمر السيد، ولا يهمل فضل الولد. وقد قال تعالى: {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور رحيم}، الشورى. قال ابن عباس: أي إلا أن تودّوا قرابتي.
وما نزل بنا من قبلهم من الظلم ننزله منزلة القضاء الذي لا سبب له، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها).
وللجزء من الحرمة ما للكل، وقد قال تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً}، الكهف. فأثنى بصلاح الأب، فما ظنك بنبوته.
إذا كان هذا في أولاد الصالحين، فما ظنك بأولاد الأولياء، وإذا كان هذا في أولاد الأولياء، فما ظنك بأولاد الأنبياء، وإذا كان هذا في أولاد الأنبياء، فما ظنك بأولاد المرسلين، بل قل لي: بماذا تعبر عن أولاد سيد المرسلين، فبان أن لهم من الفضل ما لا يقدر قدره غير من خصصهم به فافهم.
ولما ذكرت أول هذه الجملة لشيخنا أبي عبد الله القوري رحمه الله، قال: (هذا في حقنا، وأما في حقهم، فليس الذنب في القرب كالذنب في البعد، وتلا: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً}، الأحزاب. فمظهر التغليط، بتعجيل النوائب المكفرة في هذه الدار، كما ذكره ابن أبي جمرة في شأن أهل بدر، عند كلامه على مسطح في حديث الإفك. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يا عباس، عم النبي صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة ابنة محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً، اشتروا أنفسكم من الله).
قلت: وهذا كنهي البار عن العقوق، والبريء عن التهم، ليكون أثبت في الحجة على الغير، والله أعلم.
قاعدة 54
إثبات الحكم بالذات، ليس كإثباته بعوارض الصفات. فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت)، لاتصافه بجوامع النسب الدينية حتى لو كان الإيمان بالثريا لأدركه.
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: (الأقربون أولى بالمعروف) إنه يعني إلى الله، إذ لا يتوارث أهل ملتين. فالمعتبر أصل النسب الديني وفروعه مجرداً، ثم إن اتصاف للطيني كان له مؤكداً، فلا تلحق رتبة صاحبه بحال.
وقد أجيب عن قول الشيخ أبي محمد عبد القادر رحمه الله تعالى: (قدمي هذا على رقبة كل ولي) في زمانه. لأنه جمع من علو النسب، شرف العبادة والعلم، ما لم يكن لغيره من أهل وقته. ألا ترى ما روي من احتلامه في ليلة واحدة سبعين مرة، واغتساله لكلها، وفتياه لملك حلف: ليعبدن الله بعبادة لا يشركه فيها غيره، بإخلاء المطاف بعد وقوف الكل دونه في ذلك، والله أعلم.
قاعدة 55
إنما وضعت التراجم لتعريف المناصب، فمن عرفت رتبته كانت الترجمة له تكلفاً، غير مفيدة في ذاته. ومن جهلت رتبته لزم عند ذكره الإتيان بما يشعر برتبته، ومن هذه القاعدة جاز أن يقال: (روى أبو بكر، وقال عمر، وعمل عثمان، وسمع علي، وكان ابن المسيب، وأخبر ابن سيرين، وقال الحسن، وذهب مالك، وحُكِيَ عن الجنيد) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 56
نظرُ الصوفي للمعاملات، أخص من نظر الفقيه، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج، والصوفي ينظر فيما يحصل به الكمال. وأخص أيضاً من نظر الأصولي، لأن الأصولي يعتبر ما يصح به المعتقد، والصوفي ينظر فيما يتقوى به اليقين. وأخص أيضاً من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث، لأن كلاً منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتناه، وإلا فهو باطني خارج الشريعة، فضلاً عن المتصوفة، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 57
تنوع الفرع بتنوع أصله، وقد تقدم أن أصل التصوف في مقام الإحسان، وهو متنوع إلى نوعين:
أحدهما: بدل من الآخر، هما أن تعبد الله كأنك تراه، وإلا فإنه يراك. فالأول رتبة العارف، والثاني: رتبة من دونه. وعلى الأول يحوم الشاذلية ومن نحا نحوهم، وعن الثاني يحوم الغزالي، ومن نحا نحوه.
والأول أقرب، لأن غرس شجرتها مشير لقصد ثمرتها ومبناها على الأصول التي قد تحصل لكل مؤمن وجودها. فالطباع مساعدة عليها، والشريعة قائمة فيها، إذ مطلوبها تقوية اليقين وتحقيقه بأعمال المتقين، فافهم.
قاعدة 58
في اختلاف المسالك راحة للسالك، وإعانة على ما أراد من بلوغ الأرب والتوصل بالمراد. فلذلك اختلف طرق القوم ووجوه سلوكهم، فمن ناسك يوثر الفضائل بكل حال، ومن عابد يتمسك بصحيح الأعمال، ومن زاهد يفر من الخلائق، ومن عارف يتعلق بالحقائق، ومن ورع يحقق المقام بالاحتياط ، ومن متمسك يتعلق بالقوم في كل مناط، ومن مريد يقوم بمعاملة البساط، والكل في دائرة الحق بإقامة حق الشريعة والفرار من كل ذميمة وشنيعة.
قاعدة 59
اتباع الأحسن أبداً، محبوب طبعاً، مطلوب شرعاً {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.
إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها. (إن الله جميل يحب الجمال). ولذا بُني التصوف على اتباع الأحسن، حتى قال ابن العريف رحمه الله تعالى: (السرّ الأعظم في طريق الإرادة. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
والاستحسان يختلف باختلاف نظر المستحسن، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 60
تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان [وحصول الحسن لكل مستحسن]، فمن ثم كان لكل فريق طريق: فللعامي تصوف حوته كتب المحاسبي، ومن نحا نحوه، وللفقيه تصوف رحاه ابن الحاج في مدخله، وللمحدث تصوف حام حوله ابن العربي في سراجه، وللعابد تصوف دار عليه الغزالي في منهاجه، وللمتريض تصوف نبه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوف حواه القوت والإحياء، وللحكيم تصوف أدخله الحاتمي في كتبه، وللمنطقي تصوف نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوف جاء به البوني في أسراره. وللأصولي تصوف قام الشاذلي بتحقيقه، فليعتبر كل بأصله من محله، وبالله التوفيق.
قاعدة 61
لا حظ للعامي فيما سوى الحذر والإشفاق، والأخذ بأيسر المسالك وأبينها لديه، وذلك بالتزام التقوى في البداية قبل وقوع الذنب والاستدراك بالتوبة لما وقع منه بعد تدقيق النظر في ذلك دون ما سواه. وقد اعتنى بذلك المحاسبي وحرره أتم تحرير، إلا أنه شدد غاية التشديد، وذلك في البداية وتعين المقصد به عند النهاية، سيما رعايته ونصائحه. فقد قال أوحد زمانه علماً وعبادة وأفضلهم ورعاً وزهادة، سيدي أحمد بن عاشر رضي الله عنه: (لا يعمل بما فيه [إلا ولي]، أو كلاماً هذا معناه، كذا نقله سيدي أبو عبد الله بن عباد [في تنبيهه] رضي الله عن جميعهم بمنه.
قاعدة 62
إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه، فلا يعتمد صوفي في الفقه، إلا أن يعرف قيامه عليه، ولا فقيه في التصوف، إلا أن يعرف تحقيقه له، ولا محدث فيهما، إلا أن يعلم قيامه بهما. فلزم طلب الفقه من قبل الفقهاء لمريد التصوف. وإنما يرجع لأهل الطريقة، فيما يختص بصلاح باطنه من ذلك، ومن غيره. ولذلك كان الشيخ أبو محمد المرجاني رضي الله عنه، يأمر أصحابه بالرجوع للفقهاء في مسائل الفقه، وإن كان عارفاً بها، فافهم.
قاعدة 63
يعتبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ. فكل طالب اعتنى باللفظ أكثر من المعنى، فإنه تحصيل المعاني، وكل طالب أهمل اللفظ كان المعنى بعيداً عنه. ومن اقتصر على فهم ما يؤديه اللفظ من غير تعمق ولا تتبع كان أقرب لإفادته واستفادته، فإن أضاف لفهم المعنى أجزاء النظر في حقيقته بأصوله اهتدى للتحقيق إذ العلوم إن لم تكن منك ومنها، كنت بعيداً عنها. فمنك بلا منها فساد وضلال، ومنها بلا منك مجازفة وتقليد، ومنها ومنك توقف وتحقيق، ولذا قيل: (قف حيث وقفوا ثم سر)، والله أعلم.
قاعدة 64
غاية اتباع التقوى التمسك بالورع، وهو ترك ما لا بأس به، مما يحيك في الصدر، حذراً مما به بأس، كما صح: (لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما حاك في الصدر). وشك بلا علامة وسوسة، وورع بلا سنة بدعة. ومنه التورع عن اليمين في الحق بالحق من غير إكثار. فلا يصح قول من قال: (من الديانة ألا تحلف بالله صادقاً ولا كاذباً). لما استفاض من آثار السلف وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل [قد] قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يحلف به، فاحلفوا بالله وبروا وأصدقوا).
ونهى الله تعالى عن أن يجعل عرضة للأيمان، فليتق وقوعه غاية، ولا يجتنب بالكلية، والله أعلم.
قاعدة 65
من كمال التقوى وجود الاستقامة، وهي حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة، كقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}، وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن اعلم بما يصفون}، إلى غير ذلك. ولا يتم أمرها إلا بشيخ ناصح، أو أخ صالح يدل العبد على اللائق به لصالح حاله، إذ رُبّ شيخ ضره ما انتفع به غيره، ويدل على ذلك اختلاف أحوال الصحابة في أعمالهم ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ومعاملته معهم. فنهى عبد الله بن عمر عن سرد الصوم، وأقر عليه حمزة بن عمر الأسلمي. وقال في ابن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وأوصى أبا هريرة بأن لا ينام إلا على وتر، وأمر أبا بكر برفع صوته في صلاته، وعمر بالإخفاء، وتفقد علياً وفاطمة لصلاتهما من الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة فلم يوقظها، وأعلم معاذ بن جبل بأن من قال: (لا إله إلا الله وجبت له الجنة)، وأمر بإخفاء ذلك عن كل الناس. وخص حذيفة بالسرّ، وأسرّ لبعض الصحابة أذكاراً مع ترغيبه في الخير عموماً.
وهذه كلها تربية منه صلى الله عليه وسلم في مقام الاستقامة، والله أعلم.
قاعدة 66
أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذ دونهم، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، واتبع سبيل من أناب إليّ.
فلزمت المشيخة، سيما والصحابة أخذوا عنه صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عن جبريل، واتبع إشارته في أن يكون: نبياً عبداً، [لا نبياً ملكاً]. وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكل أتباع يختصون به كابن سيرين، وابن المسيب، والأعرج في أبي هريرة، وطاووس، ووهب، ومجاهد لابن عباس إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل، فأخذه جلي فيما ذكروا، وكما ذكروا. وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: (ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا)، فأبان أن رؤية شخصه الكريم، كان نافعاً لهم في قلوبهم، والعلماء ورثة الأنبياء حالاً ومالاً وإن لم يدانوا المنزلة وهو الأصل في طلب القرب من أهل الله في الجملة. إذ من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبة الصالحين، ونهى عن صحبة الفاسقين، فافهم.
قاعدة 67
ضبط النفس بأصل، يرجع إليه في العلم والعمل [لأنه] لازم لمنع التشعب والتشعث، فلزم الاقتداء بشيخ، قد تحقق أتباعه للسنة، تمكنه من المعرفة ليرجع إليه فيما يريد أو يراد، مع التقاط الفوائد الراجعة لأصله من خارج، إذ الحكمة ضالة المؤمن، وهو كالنحلة ترعى من كل طيب ثم لا تبيت في غير جبحها، وإلا لم ينتفع بعسلها.
وقد تشاجر فقراء الأندلس من المتأخرين، في الاكتفاء بالكتب عن المشايخ ثم كتبوا للبلاد، فكل أجاب على حسب فتحه. وجملة الأجوبة دائرة على ثلاث:
أولها:
النظر للمشايخ، فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب للبيت حاذق الذي يعرف موارد العلم.
وشيخ التربية تكفي عنه الصحبة لذي دين عاقل ناصح.
وشيخ الترقية يكفي عنه اللقاء والتبرك. كل ذلك من وجه واحد أتم.
الثاني:
النظر لحال الطالب، فالبليد لا بد له من شيخ يربيه، واللبيب تكفي الكتب في ترقيه، لكنه لا يسلم من رعونة نفسه، وإن وصل لابتلاء العبد برؤية نفسه.
الثالث:
النظر للمجاهدات.
فالتقوى لا تحتاج إلى شيخ لبيانها وعمومها.
والاستقامة تحتاج إلى شيخ في تمييز الأصلح منها، وقد يكتفي دونه اللبيب بالكتب ومجاهدة الكشف، والترقية لا بد فيها من شيخ يرجع إليه في فتوحها، كرجوعه عليه السلام للعرض على ورقة [بن نوفل] لعلمه بأخبار النبوة ومبادئ ظهورها، حين فاجأه الحق. وهذه الطريقة قريبة من الأولى والسنة معهما، والله أعلم.
قاعدة 68
الفقيه يعتبر الحكم بأصله ومعناه، وقاعدة بابه، إلا لنص في عينه، بنفي أو ثبوت. فهو يأخذ بما قبلته القواعد وإن لم يصح متنه، ما لم يكن له معارض، فمن ثم قبل ابن حبيب وغيره من الأئمة ما له أصل من الدين في الجملة، ولا معارض له ولا ناقض، كسائر الفضائل من المندوبة والرغائب التي ليس فيها زيادة كيفية، ولا معارضة أصل، ولا إشعار بالابتداع كصوم الأيام السبعة، والقراءة عند رأس الميت، سورة (يس) وتفاضل الجماعات بالكثرة ونحو ذلك مما رغب في أصله في الجملة وضعف الترغيب في عينه ونحوه لابن عربي في الأذكار، والله أعلم.
قاعدة 69
المحدث يعتبر الحكم بنصه ومفهومه إن صح نقله. فهو يقف عند ما انتهى إليه صحيحاً أو حسناً، أو ضعيفاً إن تساهل لا موضوعاً، وإن اقتضته القواعد. بل قال الشيخ البلالي رحمه الله: (تحرم رواية الموضوع مع العلم به إلا مبيناًَ، والعمل به مطلقاً). ومنه صلاة الرغائب، والأسبوع، وما يروى عن ابي بن كعب في فضائل السور، سورة سورة. وأخطاء من ذكره من المفسرين، وبالمنع في صلاة الرغائب أفتى النووي، وابن عبد السلام وغيرهما من الشافعية، والطرطوشي من أهل مذهب مالك، وصرح به ابن العربي، وهو مقتضى المذهب على ما قاله ابن الحاج وغيره، والله أعلم.
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قاعدة 70
الرياضة تمرين النفس لإثبات حسن الأخلاق، ودفع سيئها وبهذا الوجه اختصاص عمل التصوف. وأخذه من كتب السّلمي أقرب لتحريره وتحقيقه وتحصيله لدومة تقدير تأصيله، والإيماء لتفصيله. بخلاف رسالة القشيري، فإن ذلك منها متعذر، لأن مدارها على الحكايات، وما خف من الأحكام من غير تأصيل. وكل منهما متعذر السلوك، تحقيقاً لثلاثة أوجه:
أحدها: عدم الانضباط لها، لتلفت النفس وعدم انضباطها لفقد تحقيق الأصل.
الثاني: أنه يحتاج في سلوك المميز، من أخ بصير صالح، أو شيخ محقق ناصح، يبصر بالعيوب، وينبه على موارد الغلط واللبس.
الثالث: إن وقعت السلامة فيها، فالسلامة من الدعوة معها متعذر لنظر صاحبها لنفسه فيما دفع أو جلب، وهو أمر لا يمكن دفعه إلا بشيخ، فلذلك اشترط أهلها وجوده فيها، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 71
النسك: الأخذ بكل ممكن من الفضائل، من غير مراعاة لغير ذلك. فإن رام التحقيق في ذلك فهو العابد. وإن مال الأخذ بالأحوط فهو الورع. وإن آثر جانب الترك طلباً للسلامة فهو الزاهد. وإن أرسل نفسه مع مراد الحق فهو العارف، وإن أخذ بالتخلق والتعلق فهو المريد.
وكل هذه قد توجه الكلام عليها في القوت، والأحياء. فباعتبار الأول اعتمد نقل الفضائل جملة وتفصيلاً بأي وجه أمكن، وكيف أمكن ما لم تعارض سنة، أو تنقض قاعدة، أو تقم بدعة، أو تدفع أصلاً، أو ترفع حكماً، حتى قالا بكثير من الموضوعات والأحاديث الباطل إسنادها، كصلاة الرغائب والأسبوع وأدعية وأذكار لا أصل لها، كأذكار الأعضاء في الوضوء ونحوه. وباعتبار الكل رغبوا ورهبوا بنحو ذلك، ولهم فيه أدلة معلومة، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 72
الحكيم ينظرفي الوجود من حيث حقائقه، ويتطلب حقائقه من حيث انتهى إليه فهو قائم بالتتبع. وذلك مخل بالاتباع إلا في حق ذي فطرة سليمة، وأحوال مستقيمة، وفكرة قويمة، فيتعذر السلوك عليه لعوام الخلق.
المنطقي يشير لأصله، إذ يروم تحقيق المعقولات، فيحجب بالمقولات تفريطاً أو إفراطاً، فليجتنب كلاً منهما لبعد أصله في العموم، ولا ينظر كلامه إلا لتحقيق ما عند غيره بإرجاع ما يؤخذ منه لغيره، لا الغير إليه، وإلا فلا سلامة، نسأل العافية.
قاعدة 73
اعتبار الطبيعي ما في النفوس أصلاً، وإدخال ما يقتضي تقويتها من الخواص فرعاً يحتاج لغوص عظيم وبصيرة نافذة وعلم جم، إذ منها ما يخص ويعم، ومنها ما هو أخص من الأخص، فلا بد من شيخ كامل في هذه. ومن ثم قيل: باين البوني وأشكاله، ووافق خير النساخ وأمثاله، وما ذاك إلا لما فيها من الخطر، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 74
مدار الأصولي على تحلية الإيمان بالإيقان وتحقيق اليقين، حتى يكون في معد العيان، بأن ينشأ عن تحققه، تمكن الحقيقة من نفسه، حتى يقدم ويحجم لما قام به من الحقيقة من غير توقف ولا تكلف، ويكون سلوكه فيما يحقق لما تحقق وبذلك ينشرح صدره أولاً وآخراً فيصل في أقرب مدة، إذ من سار إلى الله من حيث طبعه، كان الوصول أقرب إليه من طبعه، ومن سار إلى الله بالبعد من طبعه كان وصوله على قدر بعده عن طبعه.
ومن هذا الوجه قال في التاج: (لا تأخذ من الأذكار إلا ما تعينك القوى النفسانية عليه بحبه). وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (الشيخ من دلك على راحتك لا على تعبك).
وقال الشيخ أبو محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه لما سأله الشيخ أبو الحسن عن قوله صلى الله عليه وسلم: (يسّروا ولا تعسّروا ) يعني: (دلوهم على الله،ولا تدلوهم على غيره، فإن من دلك على الدنيا فقد غشك، ومن دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك). انتهى
قاعدة 75
أقرب الطرق للجادة وأبعدها من الدعوى، وأيسرها للسلوك، وأمسها بالسنة طريق الشاذلية، إذ لا ترتيب فيها ولا تركيب، وإنما هي التحقيق باتباع السنة وشهود المنة، والتحقق في صحبة المشايخ بصدق الهمّة، فعليكم بها فإنها طريق الحق بلا غلط ومسلك، التحقيق بلا مغالطة، وتعين عليها الطباع لوجود أصلها عندها وهي العبودية التي لا تعب فيها، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 76
تشعب الأصل قاض بالتشعب في الفرع، وكل طريق القوم لم يرجعوا بها لأصل واحد، بل لأصول غير شاذلية فإنهم بنوها على أصل واحد، هو إسقاط التدبير مع الحق فيما دبره من القهريات والأمريات ففروعهم راجعة لاتباع الكتاب والسنة، وشهود المنة، والتسليم للحكم بملاحظة الحكمة. وهذه نكتة مذاهب القوم وحولها يحومون، لكنهم لم يصرحوا بوجهها كهذه الطائفة. ومن ثم قال ابن عطاء رضي الله عنه في التنوير: ما في كتب الصوفية المطولة والمختصرة مع زيادة البيان واختصار الألفاظ. قال: "والمسلك الذي يسلك فيه، مسلك توحيدي لا يسع أحدا إنكاره، ولا الطعن فيه، ولا يدع للمتصف له صفة حميدة إلا أكسبه إياها، ولا صفة ذميمة إلا أزالها عنه وطهره منها". انتهى. وإنه لكما قال رحمه الله.
قاعدة 77
اتساع الكلام وتشعبه في الأصل والفرع، مفيد لمن له أصل يرجع إليه به وإن كان مشوشا لغيره، فنظر المتسعات كالقوت(كتاب قوت القلوب لأبي طالب مكي)، والإحياء (كتاب إحياء علوم الدين) ونحوهما، نافع لمن له طريق يقتفيها بعلم أو عمل أو حال، فيما هو به سيما وهما مليان بتعريف النفوس ومشاكل إشكالها، وما هي عليه من تدقيق النظر في نوازل المعاملات والإشارة لوجوه المواصلات، وتحقيق ما وقع، وبيان النافع والأنفع، فهما وإن لم يكن فيهما للمريد ولا للعالم طريق التحقق والتحقيق.
والأول في القوت أكثر منه في الإحياء، والثاني في الإحياء أكثر منه في القوت.
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: كتاب قوت القلوب، يورثك النور، وكتاب إحياء علوم الدين يورثك العلم. انتهى
وما جرا مجراهما فهو على حكمهما، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 78
العلم إما أن يفيد بحثاً على الطلب وحثاً عليه، وإما أن يفيد كيفية العمل ووجهه، وإما أن يفيد أمرا وراء ذلك خبرياً يهدي إليه.
فالأول: من علوم القوم، علوم الوعظ والتذكير.
والثاني: علم المعاملات والعبودية.
والثالث: علم المكاشفة.
فالأول: دائر على قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}. هذه لقوم، وهذه لقوم، كل على حسب قبوله.
والثاني: دائر على قوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
والثالث: راجع لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأوقم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا، إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم، ولا يضار كابت ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقو الله، ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم}. ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
وإن كان: "إنما العلم بالتعلم" ففي الأصل لا في الفرع.
ومن ثم قال أبو سليمان:"إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما، والله سبحانه أعلم. انتهى.
قاعدة 79
أصل كل أصل من علوم الدنيا والآخرة، مأخوذ من الكتاب والسنة، مدحاً للممدوح، وذماً للمذموم، ووصفاً للمأمور به. ثم للناس في أخذها ثلاث مسالك.
أولها: قوم تعلقوا بالظاهر، مع قطع النظر عن المعنى جملة. وهؤلاء أهل الجحود من الظاهرية، لا عبرة بهم.
الثاني: قوم نظروا لنفس المعنى جمعا بين الحقائق، فتأولوا ما يؤول، وعدلوا ما يعدل، وهؤلاء أهل التحقق من أصحاب المعاني والفقهاء.
الثالث: قوم أثبتوا المعاني، وحققوا المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون، لا الباطنية الذين حملوا الكل عن الإشارة. فهم لم يثبتوا معنى ولا عبارة، فخرجوا عن الملة، ورفضوا الدين كله، نسأل الله العافية بمنه في الدنيا والآخرة.
قاعدة 80
الضروري: ما لا يؤمن الهلاك بفقده.
والحاجي: ما أدى فقده لخلل غير مستهلك.
والتكميلي: ما كان وجوده أولى من فقده، وذلك يجري في كل شيء يكتسب، فوجبت مراعاة المراتب بتقديم كل على بعده.
فضروري العلم ما لا يؤمن الهلاك مع جهله، وهذا هو المتعين بالوجوب على صاحبه. وحاجيه ما كان فقد نقصا لصاحبه وهو فرض الكفاية منه. وتكميليه ما كان وجوده زيادة في فضيلته كمنطق وفصاحة، وشعر ونحوها.
وواجب العبادات ضروري ومسنونها حاجي، ومندوبها تكميلي، ولكل رتب في أنفسها، فافهم.
قاعدة 81
لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. قال الشافعي إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم:"العلم إمام العمل، والعمل تابعه". فلزم كل أحد تعلم علم حاله، حسب وسعه بوجه إجمالي يبرءه من الجهل بأصل حكمه إذ لا يلزمه تتبع مسائله، بل عند النازلة والحالة ما يتعلق بها. وما وراء ذلك من فروض الكفاية الذي يحمله من قام به، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة فلا عذر في طلبه، فافهم.
قاعدة 82
إتيان الشيء من بابه أمكن من تحصيله، فمن ثم قيل:"العامي يسأل ليعمل، فحقه أن يذكر النازلة".
والطالب يسأل ليعلم، فحقه أن يسأل عن مسألة بمسألة أخرى، وعلى العالم أن يبين بيانا يمنع السائل من التأويل.
قلت: وسؤال الطالب كما في الحديث أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حوسب عذب".
فقالت عائشة رضي الله عنها: أوليس يقول الله عز وجل {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}.
وإجابة العالم مثل قوله عليه الصلاة والسلام في جوابها:"إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك".
وحقق النووي أنه عليه الصلاة والسلام إنما عاب على الخطيب الذي قال: ومن يعصمها، اختصاره في محل التعليم، لا الجمع بالكناية الذي قد ورد كثيرا والله سبحانه أعلم.
قاعدة 83
لا يقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم، ولا يسلم لأحد فيه ما وقع منه دون كلام فيه، بل يرد في نفسه بما يصح رد ظاهره به، ثم إن حضر قائله تكلم معه في معناه وحكمه في نفسه وذكره. وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق، إن وافق أصلا شرعيا في إطلاقه وثبتت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله، في مسألة الاستواء وغيره. وليس صوفي بأولى من فقيه، ولا فقيه بأولى من صوفي في ذلك ونحوه، بل الصوفي ربما كان أعذر لضيق العبارة عن مقاصده، وقصر ما تكلم فيه على نوعه ورومه التحقيق بإشارته، فإن سوغ التأويل في أحدهما لزم في الآخر. وإن قيل لا يتأول إلا كلام المعصوم، فتأويل الأئمة كلام مثلهم، ناقض له أو هي مردودة عليهم، أو لكل اجتهاده إذ الخلاف في المسألة بوجود كل ذك يعدد ما لا يحتمل الحق بوحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قاعدة 84
لا يجوز لأحد أن يتعدى ما انتهى إليه من العلم الصحيح، بالوجه الوضاح لما لا علم له به {ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا}. فالمنكر بعلم كالأخذ به والمتعصب بالباطل كالمنكر لما هو به جاهل، فقد أنكر موسى عليه السلام على الخضر عليه السلام ولم يكن منكرا في حق واحد منهما، إذ كل على حكمه.
فلذلك قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه، بعد كلام ذكره: والجاحد لمن يوحى إليه شيء من هذا الكلام وما يفهمه، هو معذور مسلم، له حاله من باب الضعف والتقصير والسلامة، وهو مؤمن إيمان الخائفين، ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان معه، واتساع دائره ومشهده واسع، سواء كان معه نور أو ظلمة بحسب ما في القوالب من الودائع الموضوعة على أي صفة كانت وهذا شيء معروف مفهوم. انتهى.
قاعدة 85
ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزوم الأحكام الشرعية لا يرفع خصوص المزية، فمن ثبت عليه حق، أو لزمه حد، وقع عليه مع حفظ حرمته الإيمانية أصلا، فلا يمتهن عرضه إلا بحقه، على قدر الحق المسوغ له، وإن ثبتت مزية دينية، لم ترفع إلا بموجب رفعها.
فالولي ولي وإن أتى حدا أو أقيم عليه، ما لم يخرج لحد الفسق بإصرار وإدمان ينفي ظاهر الحكم عنه بالولاية. لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله. "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وقد أعاذها الله من ذلك، {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائف من المؤمنين}. فمن ثم أفتى الشبلي بقتل الحلاج، والحريري بضربه وإطالة سجنه. وقال هو في نفسه ما على المسلمين أهم من قتله نصحا للدين من دعاوي الزنادقة، لا إقرارا على نفسه وإعانة على قتله بما علم براءته من حقيقته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 86
تحقق العلم بالمزية لا يبيح السكوت عند تعين الحق إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل من غير شك.
ثم إن وقع إنكار فليس بقادح في واحد منهما، إذ كل على علم علمه الله إياه، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما. وسكوت الثالث، لأن الحكم لغيره مع عدم تعيين الموجب لدخوله من إقامة حد أو غيره، مع احتمال التأويل لما وقع منه أن يكون قد أبيح لعلته التي أبداها في آخر أمره. فلو أتى بأمر لا يباح بوجه فلا تأويل إلا عصيانه أو فسقه، وما لا يباح بوجه هو اللواط، أو الزنا بمعينه، أو إدمان شرب خمر ونحوه لاقتلب ، وأخذ مال ونحوه مما له وجه في الإباحة، عند حصول شرطه، وإنما التوقف عند الاحتمال باطنا، ولا توقف في الحكم الظاهر عند تعيينه بوجه صحيح والله أعلم.
قاعدة 87
التوقف في محل الاشتباه مطلوب كعدمه فيما تبين وجهه من خير أو شر، ومبنى الطريق على ترجيح الظن الحسن عند موجبه وإن ظهر معارض. حتى قال ابن فورك رحمه الله:"الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلامه، ولا الغلط في إخراج مؤمن واحد بشبهة ظهرت منه". وسئل مالك عن أهل الأهواء: أكفار هم؟ قال: من الكفر هربوا. وأشار عليه السلام للتوقف في الخوارج بقوله: وتتمارى في الفرق. وقال قوم: ما أدى إليه الاجتهاد جزم به، ثم أمر الباطن إلى الله. فمن ثم اختلف في جماعة من الصوفية كابن الفارض، وابن أحلا، والعفيف التلمساني، وابن ذي سكين، وأبي إسحاق التجيبي، والششتري، وابن سبعين، والحاتمي، وغيرهم.
وقد سئل شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله وأنا اسمع، فقيل له: "ما تقول في ابن العربي الحاتمي؟".
فقال:"أعرف بكل فن، من أهل كل فن".
فقيل له: ما سألناك عن هذا؟
فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية.
قيل له: فما ترجح؟ قال: التسليم.
قلت: لأن التكفير خطرا، وتعظيمه ربما عاد على صاحبه بالضرر من جهة اتباع السامع لمبهماته وموهماته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 88
كمال العبادة بحفظها والمحافظة عليها، وذلك بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة ومن غير غلو ولا تفريط فالمفرط مطيع، والغالي مبتدع، سيما إن اعتقد القربة في زيادته، فمن ثم قيل: الوسوسة بدعة، واصلها جهل بالسنة، أو خيال في العقل يدفعها دوام ذكر "سبحان الملك الخلاق". {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز}. مع كل ورد والتزام التلهي والأخذ بالرخص، من أقوال العلماء النافية لها لا تتبع الرخص فإنها ضلال بإجماع فافهم.
قاعدة 89
أصل كل خير وشر اللقمة والخلطة، فكل ما شئت، فمثله تفعل واصحب من شئت فأنت على دينه. قيل: وما أكل بالغفلة استعمل فيها، فاستحبوا لذلك أن يسمى على كل لقمة ويحمد على بلعها.
قال ابن الحاج: وهذا حسن، ولكن التسمية سنة وتكون أولا، والحمدلة آخرا من غير زائد، والسنة أحسن.
فذكرت ذلك لبعض أهل الخير، فقبله، وبقي في نفسي شيء منه، فرددت الكلام معه فيه وقلت وهو معارض لسنة الحديث على الطعام فقال: هذا إن كان معه أحد، فقبلت بحثه، ثم بدا لي فرجعت عن قوله توقفا من السنة الحكم على الاعتياد في حق كل أحد على كل حال. والله سبحانه أعلم.
الرياضة تمرين النفس لإثبات حسن الأخلاق، ودفع سيئها وبهذا الوجه اختصاص عمل التصوف. وأخذه من كتب السّلمي أقرب لتحريره وتحقيقه وتحصيله لدومة تقدير تأصيله، والإيماء لتفصيله. بخلاف رسالة القشيري، فإن ذلك منها متعذر، لأن مدارها على الحكايات، وما خف من الأحكام من غير تأصيل. وكل منهما متعذر السلوك، تحقيقاً لثلاثة أوجه:
أحدها: عدم الانضباط لها، لتلفت النفس وعدم انضباطها لفقد تحقيق الأصل.
الثاني: أنه يحتاج في سلوك المميز، من أخ بصير صالح، أو شيخ محقق ناصح، يبصر بالعيوب، وينبه على موارد الغلط واللبس.
الثالث: إن وقعت السلامة فيها، فالسلامة من الدعوة معها متعذر لنظر صاحبها لنفسه فيما دفع أو جلب، وهو أمر لا يمكن دفعه إلا بشيخ، فلذلك اشترط أهلها وجوده فيها، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 71
النسك: الأخذ بكل ممكن من الفضائل، من غير مراعاة لغير ذلك. فإن رام التحقيق في ذلك فهو العابد. وإن مال الأخذ بالأحوط فهو الورع. وإن آثر جانب الترك طلباً للسلامة فهو الزاهد. وإن أرسل نفسه مع مراد الحق فهو العارف، وإن أخذ بالتخلق والتعلق فهو المريد.
وكل هذه قد توجه الكلام عليها في القوت، والأحياء. فباعتبار الأول اعتمد نقل الفضائل جملة وتفصيلاً بأي وجه أمكن، وكيف أمكن ما لم تعارض سنة، أو تنقض قاعدة، أو تقم بدعة، أو تدفع أصلاً، أو ترفع حكماً، حتى قالا بكثير من الموضوعات والأحاديث الباطل إسنادها، كصلاة الرغائب والأسبوع وأدعية وأذكار لا أصل لها، كأذكار الأعضاء في الوضوء ونحوه. وباعتبار الكل رغبوا ورهبوا بنحو ذلك، ولهم فيه أدلة معلومة، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 72
الحكيم ينظرفي الوجود من حيث حقائقه، ويتطلب حقائقه من حيث انتهى إليه فهو قائم بالتتبع. وذلك مخل بالاتباع إلا في حق ذي فطرة سليمة، وأحوال مستقيمة، وفكرة قويمة، فيتعذر السلوك عليه لعوام الخلق.
المنطقي يشير لأصله، إذ يروم تحقيق المعقولات، فيحجب بالمقولات تفريطاً أو إفراطاً، فليجتنب كلاً منهما لبعد أصله في العموم، ولا ينظر كلامه إلا لتحقيق ما عند غيره بإرجاع ما يؤخذ منه لغيره، لا الغير إليه، وإلا فلا سلامة، نسأل العافية.
قاعدة 73
اعتبار الطبيعي ما في النفوس أصلاً، وإدخال ما يقتضي تقويتها من الخواص فرعاً يحتاج لغوص عظيم وبصيرة نافذة وعلم جم، إذ منها ما يخص ويعم، ومنها ما هو أخص من الأخص، فلا بد من شيخ كامل في هذه. ومن ثم قيل: باين البوني وأشكاله، ووافق خير النساخ وأمثاله، وما ذاك إلا لما فيها من الخطر، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 74
مدار الأصولي على تحلية الإيمان بالإيقان وتحقيق اليقين، حتى يكون في معد العيان، بأن ينشأ عن تحققه، تمكن الحقيقة من نفسه، حتى يقدم ويحجم لما قام به من الحقيقة من غير توقف ولا تكلف، ويكون سلوكه فيما يحقق لما تحقق وبذلك ينشرح صدره أولاً وآخراً فيصل في أقرب مدة، إذ من سار إلى الله من حيث طبعه، كان الوصول أقرب إليه من طبعه، ومن سار إلى الله بالبعد من طبعه كان وصوله على قدر بعده عن طبعه.
ومن هذا الوجه قال في التاج: (لا تأخذ من الأذكار إلا ما تعينك القوى النفسانية عليه بحبه). وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (الشيخ من دلك على راحتك لا على تعبك).
وقال الشيخ أبو محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه لما سأله الشيخ أبو الحسن عن قوله صلى الله عليه وسلم: (يسّروا ولا تعسّروا ) يعني: (دلوهم على الله،ولا تدلوهم على غيره، فإن من دلك على الدنيا فقد غشك، ومن دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك). انتهى
قاعدة 75
أقرب الطرق للجادة وأبعدها من الدعوى، وأيسرها للسلوك، وأمسها بالسنة طريق الشاذلية، إذ لا ترتيب فيها ولا تركيب، وإنما هي التحقيق باتباع السنة وشهود المنة، والتحقق في صحبة المشايخ بصدق الهمّة، فعليكم بها فإنها طريق الحق بلا غلط ومسلك، التحقيق بلا مغالطة، وتعين عليها الطباع لوجود أصلها عندها وهي العبودية التي لا تعب فيها، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 76
تشعب الأصل قاض بالتشعب في الفرع، وكل طريق القوم لم يرجعوا بها لأصل واحد، بل لأصول غير شاذلية فإنهم بنوها على أصل واحد، هو إسقاط التدبير مع الحق فيما دبره من القهريات والأمريات ففروعهم راجعة لاتباع الكتاب والسنة، وشهود المنة، والتسليم للحكم بملاحظة الحكمة. وهذه نكتة مذاهب القوم وحولها يحومون، لكنهم لم يصرحوا بوجهها كهذه الطائفة. ومن ثم قال ابن عطاء رضي الله عنه في التنوير: ما في كتب الصوفية المطولة والمختصرة مع زيادة البيان واختصار الألفاظ. قال: "والمسلك الذي يسلك فيه، مسلك توحيدي لا يسع أحدا إنكاره، ولا الطعن فيه، ولا يدع للمتصف له صفة حميدة إلا أكسبه إياها، ولا صفة ذميمة إلا أزالها عنه وطهره منها". انتهى. وإنه لكما قال رحمه الله.
قاعدة 77
اتساع الكلام وتشعبه في الأصل والفرع، مفيد لمن له أصل يرجع إليه به وإن كان مشوشا لغيره، فنظر المتسعات كالقوت(كتاب قوت القلوب لأبي طالب مكي)، والإحياء (كتاب إحياء علوم الدين) ونحوهما، نافع لمن له طريق يقتفيها بعلم أو عمل أو حال، فيما هو به سيما وهما مليان بتعريف النفوس ومشاكل إشكالها، وما هي عليه من تدقيق النظر في نوازل المعاملات والإشارة لوجوه المواصلات، وتحقيق ما وقع، وبيان النافع والأنفع، فهما وإن لم يكن فيهما للمريد ولا للعالم طريق التحقق والتحقيق.
والأول في القوت أكثر منه في الإحياء، والثاني في الإحياء أكثر منه في القوت.
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: كتاب قوت القلوب، يورثك النور، وكتاب إحياء علوم الدين يورثك العلم. انتهى
وما جرا مجراهما فهو على حكمهما، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 78
العلم إما أن يفيد بحثاً على الطلب وحثاً عليه، وإما أن يفيد كيفية العمل ووجهه، وإما أن يفيد أمرا وراء ذلك خبرياً يهدي إليه.
فالأول: من علوم القوم، علوم الوعظ والتذكير.
والثاني: علم المعاملات والعبودية.
والثالث: علم المكاشفة.
فالأول: دائر على قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}. هذه لقوم، وهذه لقوم، كل على حسب قبوله.
والثاني: دائر على قوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
والثالث: راجع لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأوقم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا، إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم، ولا يضار كابت ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقو الله، ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم}. ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
وإن كان: "إنما العلم بالتعلم" ففي الأصل لا في الفرع.
ومن ثم قال أبو سليمان:"إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما، والله سبحانه أعلم. انتهى.
قاعدة 79
أصل كل أصل من علوم الدنيا والآخرة، مأخوذ من الكتاب والسنة، مدحاً للممدوح، وذماً للمذموم، ووصفاً للمأمور به. ثم للناس في أخذها ثلاث مسالك.
أولها: قوم تعلقوا بالظاهر، مع قطع النظر عن المعنى جملة. وهؤلاء أهل الجحود من الظاهرية، لا عبرة بهم.
الثاني: قوم نظروا لنفس المعنى جمعا بين الحقائق، فتأولوا ما يؤول، وعدلوا ما يعدل، وهؤلاء أهل التحقق من أصحاب المعاني والفقهاء.
الثالث: قوم أثبتوا المعاني، وحققوا المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون، لا الباطنية الذين حملوا الكل عن الإشارة. فهم لم يثبتوا معنى ولا عبارة، فخرجوا عن الملة، ورفضوا الدين كله، نسأل الله العافية بمنه في الدنيا والآخرة.
قاعدة 80
الضروري: ما لا يؤمن الهلاك بفقده.
والحاجي: ما أدى فقده لخلل غير مستهلك.
والتكميلي: ما كان وجوده أولى من فقده، وذلك يجري في كل شيء يكتسب، فوجبت مراعاة المراتب بتقديم كل على بعده.
فضروري العلم ما لا يؤمن الهلاك مع جهله، وهذا هو المتعين بالوجوب على صاحبه. وحاجيه ما كان فقد نقصا لصاحبه وهو فرض الكفاية منه. وتكميليه ما كان وجوده زيادة في فضيلته كمنطق وفصاحة، وشعر ونحوها.
وواجب العبادات ضروري ومسنونها حاجي، ومندوبها تكميلي، ولكل رتب في أنفسها، فافهم.
قاعدة 81
لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. قال الشافعي إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم:"العلم إمام العمل، والعمل تابعه". فلزم كل أحد تعلم علم حاله، حسب وسعه بوجه إجمالي يبرءه من الجهل بأصل حكمه إذ لا يلزمه تتبع مسائله، بل عند النازلة والحالة ما يتعلق بها. وما وراء ذلك من فروض الكفاية الذي يحمله من قام به، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة فلا عذر في طلبه، فافهم.
قاعدة 82
إتيان الشيء من بابه أمكن من تحصيله، فمن ثم قيل:"العامي يسأل ليعمل، فحقه أن يذكر النازلة".
والطالب يسأل ليعلم، فحقه أن يسأل عن مسألة بمسألة أخرى، وعلى العالم أن يبين بيانا يمنع السائل من التأويل.
قلت: وسؤال الطالب كما في الحديث أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حوسب عذب".
فقالت عائشة رضي الله عنها: أوليس يقول الله عز وجل {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}.
وإجابة العالم مثل قوله عليه الصلاة والسلام في جوابها:"إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك".
وحقق النووي أنه عليه الصلاة والسلام إنما عاب على الخطيب الذي قال: ومن يعصمها، اختصاره في محل التعليم، لا الجمع بالكناية الذي قد ورد كثيرا والله سبحانه أعلم.
قاعدة 83
لا يقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم، ولا يسلم لأحد فيه ما وقع منه دون كلام فيه، بل يرد في نفسه بما يصح رد ظاهره به، ثم إن حضر قائله تكلم معه في معناه وحكمه في نفسه وذكره. وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق، إن وافق أصلا شرعيا في إطلاقه وثبتت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله، في مسألة الاستواء وغيره. وليس صوفي بأولى من فقيه، ولا فقيه بأولى من صوفي في ذلك ونحوه، بل الصوفي ربما كان أعذر لضيق العبارة عن مقاصده، وقصر ما تكلم فيه على نوعه ورومه التحقيق بإشارته، فإن سوغ التأويل في أحدهما لزم في الآخر. وإن قيل لا يتأول إلا كلام المعصوم، فتأويل الأئمة كلام مثلهم، ناقض له أو هي مردودة عليهم، أو لكل اجتهاده إذ الخلاف في المسألة بوجود كل ذك يعدد ما لا يحتمل الحق بوحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قاعدة 84
لا يجوز لأحد أن يتعدى ما انتهى إليه من العلم الصحيح، بالوجه الوضاح لما لا علم له به {ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا}. فالمنكر بعلم كالأخذ به والمتعصب بالباطل كالمنكر لما هو به جاهل، فقد أنكر موسى عليه السلام على الخضر عليه السلام ولم يكن منكرا في حق واحد منهما، إذ كل على حكمه.
فلذلك قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه، بعد كلام ذكره: والجاحد لمن يوحى إليه شيء من هذا الكلام وما يفهمه، هو معذور مسلم، له حاله من باب الضعف والتقصير والسلامة، وهو مؤمن إيمان الخائفين، ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان معه، واتساع دائره ومشهده واسع، سواء كان معه نور أو ظلمة بحسب ما في القوالب من الودائع الموضوعة على أي صفة كانت وهذا شيء معروف مفهوم. انتهى.
قاعدة 85
ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزوم الأحكام الشرعية لا يرفع خصوص المزية، فمن ثبت عليه حق، أو لزمه حد، وقع عليه مع حفظ حرمته الإيمانية أصلا، فلا يمتهن عرضه إلا بحقه، على قدر الحق المسوغ له، وإن ثبتت مزية دينية، لم ترفع إلا بموجب رفعها.
فالولي ولي وإن أتى حدا أو أقيم عليه، ما لم يخرج لحد الفسق بإصرار وإدمان ينفي ظاهر الحكم عنه بالولاية. لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله. "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وقد أعاذها الله من ذلك، {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائف من المؤمنين}. فمن ثم أفتى الشبلي بقتل الحلاج، والحريري بضربه وإطالة سجنه. وقال هو في نفسه ما على المسلمين أهم من قتله نصحا للدين من دعاوي الزنادقة، لا إقرارا على نفسه وإعانة على قتله بما علم براءته من حقيقته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 86
تحقق العلم بالمزية لا يبيح السكوت عند تعين الحق إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل من غير شك.
ثم إن وقع إنكار فليس بقادح في واحد منهما، إذ كل على علم علمه الله إياه، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما. وسكوت الثالث، لأن الحكم لغيره مع عدم تعيين الموجب لدخوله من إقامة حد أو غيره، مع احتمال التأويل لما وقع منه أن يكون قد أبيح لعلته التي أبداها في آخر أمره. فلو أتى بأمر لا يباح بوجه فلا تأويل إلا عصيانه أو فسقه، وما لا يباح بوجه هو اللواط، أو الزنا بمعينه، أو إدمان شرب خمر ونحوه لاقتلب ، وأخذ مال ونحوه مما له وجه في الإباحة، عند حصول شرطه، وإنما التوقف عند الاحتمال باطنا، ولا توقف في الحكم الظاهر عند تعيينه بوجه صحيح والله أعلم.
قاعدة 87
التوقف في محل الاشتباه مطلوب كعدمه فيما تبين وجهه من خير أو شر، ومبنى الطريق على ترجيح الظن الحسن عند موجبه وإن ظهر معارض. حتى قال ابن فورك رحمه الله:"الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلامه، ولا الغلط في إخراج مؤمن واحد بشبهة ظهرت منه". وسئل مالك عن أهل الأهواء: أكفار هم؟ قال: من الكفر هربوا. وأشار عليه السلام للتوقف في الخوارج بقوله: وتتمارى في الفرق. وقال قوم: ما أدى إليه الاجتهاد جزم به، ثم أمر الباطن إلى الله. فمن ثم اختلف في جماعة من الصوفية كابن الفارض، وابن أحلا، والعفيف التلمساني، وابن ذي سكين، وأبي إسحاق التجيبي، والششتري، وابن سبعين، والحاتمي، وغيرهم.
وقد سئل شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله وأنا اسمع، فقيل له: "ما تقول في ابن العربي الحاتمي؟".
فقال:"أعرف بكل فن، من أهل كل فن".
فقيل له: ما سألناك عن هذا؟
فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية.
قيل له: فما ترجح؟ قال: التسليم.
قلت: لأن التكفير خطرا، وتعظيمه ربما عاد على صاحبه بالضرر من جهة اتباع السامع لمبهماته وموهماته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 88
كمال العبادة بحفظها والمحافظة عليها، وذلك بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة ومن غير غلو ولا تفريط فالمفرط مطيع، والغالي مبتدع، سيما إن اعتقد القربة في زيادته، فمن ثم قيل: الوسوسة بدعة، واصلها جهل بالسنة، أو خيال في العقل يدفعها دوام ذكر "سبحان الملك الخلاق". {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز}. مع كل ورد والتزام التلهي والأخذ بالرخص، من أقوال العلماء النافية لها لا تتبع الرخص فإنها ضلال بإجماع فافهم.
قاعدة 89
أصل كل خير وشر اللقمة والخلطة، فكل ما شئت، فمثله تفعل واصحب من شئت فأنت على دينه. قيل: وما أكل بالغفلة استعمل فيها، فاستحبوا لذلك أن يسمى على كل لقمة ويحمد على بلعها.
قال ابن الحاج: وهذا حسن، ولكن التسمية سنة وتكون أولا، والحمدلة آخرا من غير زائد، والسنة أحسن.
فذكرت ذلك لبعض أهل الخير، فقبله، وبقي في نفسي شيء منه، فرددت الكلام معه فيه وقلت وهو معارض لسنة الحديث على الطعام فقال: هذا إن كان معه أحد، فقبلت بحثه، ثم بدا لي فرجعت عن قوله توقفا من السنة الحكم على الاعتياد في حق كل أحد على كل حال. والله سبحانه أعلم.
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قاعدة 90
تكلّف ما ليس في الوسع جائز عقلا، غير وارد شرعا. إذ {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}. وقد أمر كل مؤمن بطلب الحلال، فوجوده ممكن للكل في كل عصر وقطر لوجود أصوله عموما، ولأن الأرض لا تخلو من ولي وصالح وهو قوتهم، ولا يكلفنا الله بما في علمه، إنما يكلفنا بما نعلم من حيث نعلم. فمن لا يعمل بيده حراما ولا يغلب على ظنه دخوله في ماله بعلامة صحيحة، فلا وجه لاعتقاد الحرام ولا الشبهة فيه. بل قد قيل: المال كالماء، خلق الله هذا حلالا، كما خلق الله هذا طهورا هذا لا ينجسه إلا ما غير وهذا لا يحرمه إلا ماغير. وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من الإحياء وغيره، ولذا أجمعوا على وجوده كما ذكره السهروردي والله سبحانه أعلم.
قاعدة 91
حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازم، فلذا أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام، بقول أو فعل حتى أنجز في إجماعهم على الصلاة خلف كل بر وفاجر من الولاة وغيرهم ما لم يكن فسقه في عين الصلاة. وكذا يرون الجهاد مع كل أمير من المسلمين، وإن كان فاجرا لا غيره.
وزعم ابن مجاهد إجماع المسلمين، وأنكره ابن حزم، وفيه كلام لهما. والمعول، المنع بكل حال، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما سب قوم أميرهم إلا حر مواخيره". وقال عليه الصلاة والسلام "المؤمن لا يذل نفسه". قال ابن عباس: يتعرض للسلطان وليس له منه النصف. وفي الترمذي: "ما مشى قوم إلى السلطان شبرا ليذلوه، إلا أذلهم الله تعالى" إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
ويجمعه قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والقوم أهرب الناس مما لا يعنى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 92
العبادة: إقامة ما طلب شرعا من الأعمال الخارجة عن العبادة، أو الداخلة، سواء كان رخصة أو عزيمة، إذا أمر الله فيهما واحد. فليس الوضوء بأولى من التيمم في محله، ولا الصوم بأولى من الإفطار في محله، ولا الإكمال بأولى من القصر في موضوعه. وعليه يتنزل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تترك عزائمه". لا على الرخصة المختلف في حكمها، إذ الورع مطلوب في كل مشكوك الحكم، بخلاف المحقق، فإن تركه تنطع، وعلى هذا الأخير يتنزل كلام القوم في ذم الرخص، والتأويلات، والله أعلم.
قاعدة 93
المقصود موافقة الحق وإن كان موافقا للهوى، حتى قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:" إذا وافق الحق الهوى، فذلك الشهد بالزبد". وقد أغرق قوم في مخالفة النفس، حتى خالفوا الحق في طي ذلك. ومنه استئذانهم في الواجب والضروري الذي لا يمكن انفكاكه، وتركهم جملة من السنن، لإلفها مع ترك ما ألفوا منها. وهذا وإن كان مؤثرا في النفس، فهو مثير للباطل وسائر بصاحبه لعكس القصد، نسأل الله العافية.
قاعدة 94
الأجر على قدر الاتباع، لا على قدر المشقة لفضل الإيمان والمعرفة والذكر والتلاوة على ما هو أشف منها بكثير منالحركات الجسمانية. وقوله عليه الصلاة والسلام:"أجرك على قدر نصبك" إخبار خاص في فص لا يلزم عمومه. سيما وما خير في أمرين إلا اختار أيسرهما مع قوله: "إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا".
وكذا جاء:"خير دينكم أيسره" إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 95
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها. والتوسط: أخذ بالطرفين، فهو أحسن الأمور كما جاء: "خير الأمور أوسطها".
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}. {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}.
قال عليه السلام: "أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر". وكان يقوم من الليل نصفه، وثلثه، وثلثيه، وهو الوسط باعتبار من يأتي على كله، أو لا يقوم منه إلا اليسير. وكذلك رد عبد الله بن عمر للوسط بصيام نصف الدهر وقيام نصف الليل، وختم القرآن في سبع إلى غير ذلك، فلزم التوسط في كل مكتسب، لأنه أرفق بالنفس وابقى للعبادة".
قاعدة 96
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده، ولا أشارت النصوص الشرعية بأمر لا يمكن تركه ما حدد منه، ابتداع في الدين، ولا سيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات ورد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إلا الإتيان به، قبل صلاة الصبح، أو زوال اليوم. وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة، وتوقيت ورد الصلاة ونحوها، مما لم يرد من الشارع نص فيه، لا ما ورد فيه نص أو أشار إليه، كصلاة الرواتب، وأذكار ما بعد الصلاة، وقراءة القرآن، وصيام النقل، ونحوه مما يكره ترك معتاده ويمنع الاعتداد فيه فافهم.
قاعدة 97
استخراج الشيء من محله بإدخال الضد عليه أبدا، فإن تعدد تعدد، وإن اتحد اتحد، حسب سنة الله، لا لزوما في النظر، وإن اقتضاه العقل. فلهذا أمروا المريد في ابتداءه بتعدد الأوراد وإكثارها، نفيا لما في نفسه من آثارها، وعند توسطه بإفراد الورد لإفراد الهم وإفراد الحقيقة. وكل هذا بعد حفظ الورد الشرعي، ذكرا أو غيره حسبما ورد عموما والله أعلم.
قاعدة 98
ما ركب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها. فلذا قيل: إذا علم الصغير ما تميل إليه نفسه من المباحات، خرج إماما فيها. وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد، كان معينا على مقصده بدوامه. فإنه ما قصر جسد عن مهمته ويعين الله العبد على قدر نيته.
ما دخل بانبساط كان أدعى للدوام. وقد أشار لهذه الجملة في تاج العروس، وتكلم عليها الشيخ ابن أبي جمرة في حديث حذيفة إذ قال "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير". والله أعلم.
قاعدة 99
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله، وأدعى لدوام سببه المطلوب في نفسه لإفراد الحقيقة له، فلزم التزام ورده لا تنتقل عنه حتى تحصل نتائجه، وإلا فالمنتقل قبل الفتح كحافر بئر لا يدم على محل واحد، كالمقطر قطرة، على كل محل يريد تأثير المحل بالنظر أثرا يظهر لعمله مع ذلك أثر. قيل: والدوام في الشيء زيادة فيه باعتبار العمر، لا باعتبار العدد ومن استوى يومه هو الذي لم يعمل فيهما شيئا ومن احتوى أمسه على خلاف يومه فهو المحروم فإنه ليس عنده إلا عمل أمسه والله أعلم.
قاعدة 100
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته، ورتبته على قدر التقرب به. والله تعالى دائم الربوبية فأحكام عبوديته دائمة على خلقه لا ترتفع عنهم وأجل العباد عنده من عبده، لأنه أهل للعبادة، مع رجائه والخوف منه أو الهيبة أو الحياء ونحوه فافهم والله سبحانه أعلم.
قاعدة 101
العائدة على قدر الفائدة، وهي معتبرة بأنفسها ومقاصدها، لا أعدادها، إذ رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموماً بالنسبة كتتبع الفضائل. والعمل في المنافع العامة، مؤد لأعظم الضرر، بحسب الزمان والعقول، فلولا الأول ما طلب الفقير شيئا من ترهات الباطلين كالكنوز والكيمياء ونحوهما، مما لا يطلبه إلا من قل دينه وعقله ومرؤته وفلاحه.
أما قلة دينه، فإنه لا يخلو في الطلب والعمل والتصريف عن محرم، أقله عدم البيان أو الدلسة. وأما قلة عقله فلاشتغاله بمتوهم لا يدركه غالباً عن محقق أو مظنون يفوت هي الأسباب العادية. وأما قلة مروءته فلأنه ينسب للدلسة والخيانة والسحر إن ظهر عليه. وفي طلب منافع العامة ما لا يخفى من التعرض للأذى والرمي بالقيام ونحوه والله أعلم.
قاعدة 102
إقامة الأسباب ملحوظ في الأصل بحكمة إقامة العالم لاستقامة وجوده، فلذلك ذم ما خالف وجود حفظ النظام، ووقع مستغرباً في الوجود. من الأسباب وغيرها وأكدته الغيرة الإلهية يلزم نقيض المقصد، كالفقر في الكيمياء، والذل في طلب الكيماء، وميتة السوء في علم النجوم، لأن الكل خروج عن حكمة الأسباب، ومعاندة لحكم الحق ومقامة له في طلب الأكمل بالموهوم. ويزيد الأخير بالتجسس على مملكة الله سبحانه كما أشار إليه في التنوير، ولكل نصيب مما لصاحبه وإن اختلف البساط والله أعلم.
قاعدة 103
إقامة رسم الحكمة لازم، كالاستسلام للقدرة، فلزم إقامة العبد حيث أقيم من غير التفات لغيره، وإن كان الغير أتم في نظره، ما لم يختل شرط الإقامة بتخلف الفائدة أو عدم إقامة إمكان الحقوق الشرعية، فيتعين الانتقال للمثل حتى إذا تعذر الكل، جاز التجرد بل لزم ، فقد أقر عليه السلام على التجريد أهل الصفة، وأمر بالتسبب حكيم ابن حزام لما تعلقت نفسه بالعطاء، فمن ثم قال الخواص رضي الله عنه: "ما دامت الأسباب في النفس قائمة فالتسبب أولى، والأكل بكسب أحل له، لأن القعود لا يصلح لمن لم يستغن عن التكلف". انهى وهو فصل الخطاب في بابه.
قاعدة 104
استواء الفعل والترك في المنفعة يقضي بترجيح الترك، لأنه الأصل لاستصحابه السلامة، فمن ثم فضل الصمت عن الكلام حيث لا مرجح له، وترك الدنيا أخذها، والعزلة الصحبة سيما في زمان لا يأمن فيه الرجل جليسه والجوع والشبع إلى غير ذلك مما هو فقد في الحال فائدة في المال. ومنه ترك الشهوات عند قوم ما لم تعتقد القربة في ذلك، فلا يصح إلا بنية صالحة تحوله للندب، إذ قد أذن الله فيه، فليس أحد الجانيبين بأولى من غيره في أخذه وتركه إلا بمرجح والله أعلم.
قاعدة 105
ما مدح أو ذم لا لذاته قد ينعكس حكمه لموجب يقتضي نقيضه. فقد صح:"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه"، وصح: "لا تسبوا الدنيا فنعمت هي مطية المؤمن". ومدحت الرياسة لما تؤدي إليه من حفظ النظام، حتى أثنى الله على من طلب الرياسة الدينية إذ قال {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}. لما تؤدي إليه من الكبر والخروج عن الحق، ومدح الصمت للسلامة ، وذم عن الواجب الذي لا بد منه.
ومدح الجوع لتصفية الباطن وذم لإخلاله بالفكر، فلزم التوسط وهو في الجوع ما يشتهى إليه الخبز وحده، والمفرط ما يشتهى معه كل خبز، والكاذب ما ينضاف إليه كل شهوة غير معتادة له، فافهم.
قاعدة 106
قد يباح الممنوع لتوقع ما هو أعظم منه كالكذب في الجهاد لتفريق كلمة الكفار، وفي الإصلاح بين الناس للخير، وفي ستر مال المسلم أو عرضه ولو نفسه إذا سئل عن معصية عملها، أو مال أريد غصبه منه أو من غيره، لأن مفسدة الصدق في ذلك أعظم. وللزوجة والولد خوف نفورهما. وبالجملة فيسوغ لدفع مفسدة أعظم لا لجلب مصلحة. وكذا الغيبة تباح في التحذير والاستفتاء ونحوه مما ذكره الأئمة، وليس من ذلك قياس الخمول بالمحرمات لرفع الجاه بشربة خمرة غص بهذا الجاه مباح، ولا يباح الممنوع لدفع المباح، وإن كان مضراً فاعلم ذلك، فافهم.
قاعدة 107
تمرين النفس في أخذ الشيء وتركه وسوقها بالتدريج، أسهل لتحصيل المراد منها. فلذلك قيل: ترك الذنوب أيسر من طلب التوبة، ومن ترك شهوته سبع مرات كلما عرضت له تركها لم يبتل بها، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت لأجله.
وقال المحاسبي رحمه الله في صفة التوبة: (انه يتوب جملة، ثم يتبع التفاصيل بالترك، فإن أمكن ذلك له)، وهو صحيح والله اعلم .
قاعدة 108
بساط الكرم قاض بان الله تعالى لا يتعاظمه ذنب يغفره . وبساط الجلال قاض بان الله تعالى يأخذ العاصي ولا يمهله . فلزم أن يكون العبد ناظراً لهما في عموم أوقاته، حتى لو أطاع بأعظم الطاعات، لم يأمن مكر الله، ولو عصى بأعظم المعاصي لم ييأس من روح الله. وبحسب ذلك، فهو يتقي الله ما استطاع، ويتوب إليه، ولو عاد في اليوم ألف مرة، فافهم .
قاعدة 109
الخواص ثابتة في الأقوال والأفعال والأعيان وأعظمها خواص الأذكار، إذ ما عمل ادمي عملاً، أنجى له من عذاب الله من ذكر الله .
وقد جعلها الله للأشياء، كالأشربة والمعاجين في منافعها، لكل ما يخصه فلزم مراعاة العام في العموم، وفي الخاص بما يوافق حال الشخص وعلمه، مع اعتبار الجانب الشرعي في القصد في العمل، سيما وقد قال الإمام مالك رحمه الله في المجهولات ما يدريك لعله يكفر) .
قلت : وقد رأيت من يرقى بألفاظ كفرية، والله أعلم.
قاعدة 110
بساط الشريعة، قاض بجواز الأخذ بما اتضح معناه من الأذكار والأدعية، وإن لم يصح رواية، كما نبه ابن العربي في السراج وغيره . وجاءت أحاديث في تأثير الدعاء الجاري على لسان العبد، والمنبعث من همته، حتى أدخل مالك رخمه الله في موطئه، في باب دعائه صلى الله عليه وسلم قول أبي الدرداء : (نامت العيون وهدأت الجفون ولم يبق إلا أنت يا حي يا قيوم) . وقال صلى الله عليه وسلم للذي دعا بـ : إني أسألك بأنك الله الأحد الصمد ....الخ، (لقد دعوت باسمه الأعظم) .
وكذا قال للذي دعا بـ: (يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد)، إلى غير ذلك .فدل على أن كل واضح، مستحسن في ذاته، يحسن الأخذ به سيما أن استند لأصل شرعي، كرؤيا صالح، أو الهام ثابت المزية كأحزاب الشاذلي، والنووي، ونحوهما .
وفي أحزاب ابن سبعين كثير من المبهمات والموهمات فوجب التجنب جملةًَ لمحل الخطر، إلا لعالم يعتبر المعنى ولا يتقيد باللفظ فيه . والوظائف المجموعة من الأحاديث أكمل أمراً، إذ لا زيادةً فيها سوى الجمع سيما أن أخذت من المشايخ، وجل أحزاب الشاذلي عند التفصيل والنظر التام للعالم بالأحاديث من ذلك [مع ما تضمنته من التذكير والتأنيث بالأمور المطلوبة في الجملة والله سبحانه اعلم].
تكلّف ما ليس في الوسع جائز عقلا، غير وارد شرعا. إذ {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}. وقد أمر كل مؤمن بطلب الحلال، فوجوده ممكن للكل في كل عصر وقطر لوجود أصوله عموما، ولأن الأرض لا تخلو من ولي وصالح وهو قوتهم، ولا يكلفنا الله بما في علمه، إنما يكلفنا بما نعلم من حيث نعلم. فمن لا يعمل بيده حراما ولا يغلب على ظنه دخوله في ماله بعلامة صحيحة، فلا وجه لاعتقاد الحرام ولا الشبهة فيه. بل قد قيل: المال كالماء، خلق الله هذا حلالا، كما خلق الله هذا طهورا هذا لا ينجسه إلا ما غير وهذا لا يحرمه إلا ماغير. وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من الإحياء وغيره، ولذا أجمعوا على وجوده كما ذكره السهروردي والله سبحانه أعلم.
قاعدة 91
حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازم، فلذا أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام، بقول أو فعل حتى أنجز في إجماعهم على الصلاة خلف كل بر وفاجر من الولاة وغيرهم ما لم يكن فسقه في عين الصلاة. وكذا يرون الجهاد مع كل أمير من المسلمين، وإن كان فاجرا لا غيره.
وزعم ابن مجاهد إجماع المسلمين، وأنكره ابن حزم، وفيه كلام لهما. والمعول، المنع بكل حال، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما سب قوم أميرهم إلا حر مواخيره". وقال عليه الصلاة والسلام "المؤمن لا يذل نفسه". قال ابن عباس: يتعرض للسلطان وليس له منه النصف. وفي الترمذي: "ما مشى قوم إلى السلطان شبرا ليذلوه، إلا أذلهم الله تعالى" إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
ويجمعه قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والقوم أهرب الناس مما لا يعنى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 92
العبادة: إقامة ما طلب شرعا من الأعمال الخارجة عن العبادة، أو الداخلة، سواء كان رخصة أو عزيمة، إذا أمر الله فيهما واحد. فليس الوضوء بأولى من التيمم في محله، ولا الصوم بأولى من الإفطار في محله، ولا الإكمال بأولى من القصر في موضوعه. وعليه يتنزل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تترك عزائمه". لا على الرخصة المختلف في حكمها، إذ الورع مطلوب في كل مشكوك الحكم، بخلاف المحقق، فإن تركه تنطع، وعلى هذا الأخير يتنزل كلام القوم في ذم الرخص، والتأويلات، والله أعلم.
قاعدة 93
المقصود موافقة الحق وإن كان موافقا للهوى، حتى قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:" إذا وافق الحق الهوى، فذلك الشهد بالزبد". وقد أغرق قوم في مخالفة النفس، حتى خالفوا الحق في طي ذلك. ومنه استئذانهم في الواجب والضروري الذي لا يمكن انفكاكه، وتركهم جملة من السنن، لإلفها مع ترك ما ألفوا منها. وهذا وإن كان مؤثرا في النفس، فهو مثير للباطل وسائر بصاحبه لعكس القصد، نسأل الله العافية.
قاعدة 94
الأجر على قدر الاتباع، لا على قدر المشقة لفضل الإيمان والمعرفة والذكر والتلاوة على ما هو أشف منها بكثير منالحركات الجسمانية. وقوله عليه الصلاة والسلام:"أجرك على قدر نصبك" إخبار خاص في فص لا يلزم عمومه. سيما وما خير في أمرين إلا اختار أيسرهما مع قوله: "إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا".
وكذا جاء:"خير دينكم أيسره" إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 95
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها. والتوسط: أخذ بالطرفين، فهو أحسن الأمور كما جاء: "خير الأمور أوسطها".
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}. {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}.
قال عليه السلام: "أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر". وكان يقوم من الليل نصفه، وثلثه، وثلثيه، وهو الوسط باعتبار من يأتي على كله، أو لا يقوم منه إلا اليسير. وكذلك رد عبد الله بن عمر للوسط بصيام نصف الدهر وقيام نصف الليل، وختم القرآن في سبع إلى غير ذلك، فلزم التوسط في كل مكتسب، لأنه أرفق بالنفس وابقى للعبادة".
قاعدة 96
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده، ولا أشارت النصوص الشرعية بأمر لا يمكن تركه ما حدد منه، ابتداع في الدين، ولا سيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات ورد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إلا الإتيان به، قبل صلاة الصبح، أو زوال اليوم. وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة، وتوقيت ورد الصلاة ونحوها، مما لم يرد من الشارع نص فيه، لا ما ورد فيه نص أو أشار إليه، كصلاة الرواتب، وأذكار ما بعد الصلاة، وقراءة القرآن، وصيام النقل، ونحوه مما يكره ترك معتاده ويمنع الاعتداد فيه فافهم.
قاعدة 97
استخراج الشيء من محله بإدخال الضد عليه أبدا، فإن تعدد تعدد، وإن اتحد اتحد، حسب سنة الله، لا لزوما في النظر، وإن اقتضاه العقل. فلهذا أمروا المريد في ابتداءه بتعدد الأوراد وإكثارها، نفيا لما في نفسه من آثارها، وعند توسطه بإفراد الورد لإفراد الهم وإفراد الحقيقة. وكل هذا بعد حفظ الورد الشرعي، ذكرا أو غيره حسبما ورد عموما والله أعلم.
قاعدة 98
ما ركب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها. فلذا قيل: إذا علم الصغير ما تميل إليه نفسه من المباحات، خرج إماما فيها. وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد، كان معينا على مقصده بدوامه. فإنه ما قصر جسد عن مهمته ويعين الله العبد على قدر نيته.
ما دخل بانبساط كان أدعى للدوام. وقد أشار لهذه الجملة في تاج العروس، وتكلم عليها الشيخ ابن أبي جمرة في حديث حذيفة إذ قال "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير". والله أعلم.
قاعدة 99
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله، وأدعى لدوام سببه المطلوب في نفسه لإفراد الحقيقة له، فلزم التزام ورده لا تنتقل عنه حتى تحصل نتائجه، وإلا فالمنتقل قبل الفتح كحافر بئر لا يدم على محل واحد، كالمقطر قطرة، على كل محل يريد تأثير المحل بالنظر أثرا يظهر لعمله مع ذلك أثر. قيل: والدوام في الشيء زيادة فيه باعتبار العمر، لا باعتبار العدد ومن استوى يومه هو الذي لم يعمل فيهما شيئا ومن احتوى أمسه على خلاف يومه فهو المحروم فإنه ليس عنده إلا عمل أمسه والله أعلم.
قاعدة 100
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته، ورتبته على قدر التقرب به. والله تعالى دائم الربوبية فأحكام عبوديته دائمة على خلقه لا ترتفع عنهم وأجل العباد عنده من عبده، لأنه أهل للعبادة، مع رجائه والخوف منه أو الهيبة أو الحياء ونحوه فافهم والله سبحانه أعلم.
قاعدة 101
العائدة على قدر الفائدة، وهي معتبرة بأنفسها ومقاصدها، لا أعدادها، إذ رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموماً بالنسبة كتتبع الفضائل. والعمل في المنافع العامة، مؤد لأعظم الضرر، بحسب الزمان والعقول، فلولا الأول ما طلب الفقير شيئا من ترهات الباطلين كالكنوز والكيمياء ونحوهما، مما لا يطلبه إلا من قل دينه وعقله ومرؤته وفلاحه.
أما قلة دينه، فإنه لا يخلو في الطلب والعمل والتصريف عن محرم، أقله عدم البيان أو الدلسة. وأما قلة عقله فلاشتغاله بمتوهم لا يدركه غالباً عن محقق أو مظنون يفوت هي الأسباب العادية. وأما قلة مروءته فلأنه ينسب للدلسة والخيانة والسحر إن ظهر عليه. وفي طلب منافع العامة ما لا يخفى من التعرض للأذى والرمي بالقيام ونحوه والله أعلم.
قاعدة 102
إقامة الأسباب ملحوظ في الأصل بحكمة إقامة العالم لاستقامة وجوده، فلذلك ذم ما خالف وجود حفظ النظام، ووقع مستغرباً في الوجود. من الأسباب وغيرها وأكدته الغيرة الإلهية يلزم نقيض المقصد، كالفقر في الكيمياء، والذل في طلب الكيماء، وميتة السوء في علم النجوم، لأن الكل خروج عن حكمة الأسباب، ومعاندة لحكم الحق ومقامة له في طلب الأكمل بالموهوم. ويزيد الأخير بالتجسس على مملكة الله سبحانه كما أشار إليه في التنوير، ولكل نصيب مما لصاحبه وإن اختلف البساط والله أعلم.
قاعدة 103
إقامة رسم الحكمة لازم، كالاستسلام للقدرة، فلزم إقامة العبد حيث أقيم من غير التفات لغيره، وإن كان الغير أتم في نظره، ما لم يختل شرط الإقامة بتخلف الفائدة أو عدم إقامة إمكان الحقوق الشرعية، فيتعين الانتقال للمثل حتى إذا تعذر الكل، جاز التجرد بل لزم ، فقد أقر عليه السلام على التجريد أهل الصفة، وأمر بالتسبب حكيم ابن حزام لما تعلقت نفسه بالعطاء، فمن ثم قال الخواص رضي الله عنه: "ما دامت الأسباب في النفس قائمة فالتسبب أولى، والأكل بكسب أحل له، لأن القعود لا يصلح لمن لم يستغن عن التكلف". انهى وهو فصل الخطاب في بابه.
قاعدة 104
استواء الفعل والترك في المنفعة يقضي بترجيح الترك، لأنه الأصل لاستصحابه السلامة، فمن ثم فضل الصمت عن الكلام حيث لا مرجح له، وترك الدنيا أخذها، والعزلة الصحبة سيما في زمان لا يأمن فيه الرجل جليسه والجوع والشبع إلى غير ذلك مما هو فقد في الحال فائدة في المال. ومنه ترك الشهوات عند قوم ما لم تعتقد القربة في ذلك، فلا يصح إلا بنية صالحة تحوله للندب، إذ قد أذن الله فيه، فليس أحد الجانيبين بأولى من غيره في أخذه وتركه إلا بمرجح والله أعلم.
قاعدة 105
ما مدح أو ذم لا لذاته قد ينعكس حكمه لموجب يقتضي نقيضه. فقد صح:"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه"، وصح: "لا تسبوا الدنيا فنعمت هي مطية المؤمن". ومدحت الرياسة لما تؤدي إليه من حفظ النظام، حتى أثنى الله على من طلب الرياسة الدينية إذ قال {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}. لما تؤدي إليه من الكبر والخروج عن الحق، ومدح الصمت للسلامة ، وذم عن الواجب الذي لا بد منه.
ومدح الجوع لتصفية الباطن وذم لإخلاله بالفكر، فلزم التوسط وهو في الجوع ما يشتهى إليه الخبز وحده، والمفرط ما يشتهى معه كل خبز، والكاذب ما ينضاف إليه كل شهوة غير معتادة له، فافهم.
قاعدة 106
قد يباح الممنوع لتوقع ما هو أعظم منه كالكذب في الجهاد لتفريق كلمة الكفار، وفي الإصلاح بين الناس للخير، وفي ستر مال المسلم أو عرضه ولو نفسه إذا سئل عن معصية عملها، أو مال أريد غصبه منه أو من غيره، لأن مفسدة الصدق في ذلك أعظم. وللزوجة والولد خوف نفورهما. وبالجملة فيسوغ لدفع مفسدة أعظم لا لجلب مصلحة. وكذا الغيبة تباح في التحذير والاستفتاء ونحوه مما ذكره الأئمة، وليس من ذلك قياس الخمول بالمحرمات لرفع الجاه بشربة خمرة غص بهذا الجاه مباح، ولا يباح الممنوع لدفع المباح، وإن كان مضراً فاعلم ذلك، فافهم.
قاعدة 107
تمرين النفس في أخذ الشيء وتركه وسوقها بالتدريج، أسهل لتحصيل المراد منها. فلذلك قيل: ترك الذنوب أيسر من طلب التوبة، ومن ترك شهوته سبع مرات كلما عرضت له تركها لم يبتل بها، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت لأجله.
وقال المحاسبي رحمه الله في صفة التوبة: (انه يتوب جملة، ثم يتبع التفاصيل بالترك، فإن أمكن ذلك له)، وهو صحيح والله اعلم .
قاعدة 108
بساط الكرم قاض بان الله تعالى لا يتعاظمه ذنب يغفره . وبساط الجلال قاض بان الله تعالى يأخذ العاصي ولا يمهله . فلزم أن يكون العبد ناظراً لهما في عموم أوقاته، حتى لو أطاع بأعظم الطاعات، لم يأمن مكر الله، ولو عصى بأعظم المعاصي لم ييأس من روح الله. وبحسب ذلك، فهو يتقي الله ما استطاع، ويتوب إليه، ولو عاد في اليوم ألف مرة، فافهم .
قاعدة 109
الخواص ثابتة في الأقوال والأفعال والأعيان وأعظمها خواص الأذكار، إذ ما عمل ادمي عملاً، أنجى له من عذاب الله من ذكر الله .
وقد جعلها الله للأشياء، كالأشربة والمعاجين في منافعها، لكل ما يخصه فلزم مراعاة العام في العموم، وفي الخاص بما يوافق حال الشخص وعلمه، مع اعتبار الجانب الشرعي في القصد في العمل، سيما وقد قال الإمام مالك رحمه الله في المجهولات ما يدريك لعله يكفر) .
قلت : وقد رأيت من يرقى بألفاظ كفرية، والله أعلم.
قاعدة 110
بساط الشريعة، قاض بجواز الأخذ بما اتضح معناه من الأذكار والأدعية، وإن لم يصح رواية، كما نبه ابن العربي في السراج وغيره . وجاءت أحاديث في تأثير الدعاء الجاري على لسان العبد، والمنبعث من همته، حتى أدخل مالك رخمه الله في موطئه، في باب دعائه صلى الله عليه وسلم قول أبي الدرداء : (نامت العيون وهدأت الجفون ولم يبق إلا أنت يا حي يا قيوم) . وقال صلى الله عليه وسلم للذي دعا بـ : إني أسألك بأنك الله الأحد الصمد ....الخ، (لقد دعوت باسمه الأعظم) .
وكذا قال للذي دعا بـ: (يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد)، إلى غير ذلك .فدل على أن كل واضح، مستحسن في ذاته، يحسن الأخذ به سيما أن استند لأصل شرعي، كرؤيا صالح، أو الهام ثابت المزية كأحزاب الشاذلي، والنووي، ونحوهما .
وفي أحزاب ابن سبعين كثير من المبهمات والموهمات فوجب التجنب جملةًَ لمحل الخطر، إلا لعالم يعتبر المعنى ولا يتقيد باللفظ فيه . والوظائف المجموعة من الأحاديث أكمل أمراً، إذ لا زيادةً فيها سوى الجمع سيما أن أخذت من المشايخ، وجل أحزاب الشاذلي عند التفصيل والنظر التام للعالم بالأحاديث من ذلك [مع ما تضمنته من التذكير والتأنيث بالأمور المطلوبة في الجملة والله سبحانه اعلم].
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قاعدة 111
ما خرج مخرج التعليم وقف على وجهه من غير زيادة ولا نقص .
فلقد روي أن رجلاً كان يذكر في دبر كل صلاة :سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، مائة مرة من كل وأحد.
فرأى كأن قائلاً يقول : (أين الذاكرون أدبار الصلوات؟ فقام، فقيل له: ارجع فلست منهم إنما هذه المزية على الثلاث والثلاثين، فكل ما ورد فيه عدد قصر عليه، وكذا كل لفظ) .
نعم، اختلف في زيادة (( سيدنا )) في الوارد من كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والوجه أن يقتصر على لفظه، حيث تعبد به ويزداد حيث ما يراد الفضل في الجملة.
وقال ابن العربي في زيادة: (( وارحم محمداً)) انه قريب من بدعة، وذكره في العارضة، والله أعلم.
قاعدة 112
حق العبد أن لا يفرط في مأمور، ولا يعزم على محظور، ولا يقصر في مندوب فإن قصر به الحال حتى وقع في الأول، والثاني، والثالث، لزمه الرجوع لمولاهُ بالتوبة واللجأ والاستغفار. ثم إن كان ذلك بسبب منه، عاتب نفسه ولامها، وإن كان لا بسبب منه فلا عتب على قدر لا سبب للعبد فيه . وحديث ذلك في سؤال علي وفاطمة، إذ سألهما عليه السلام عن عدم صلاتهما بالليل، فأجابه علي بقوله ( إن الله قبض أرواحنا فمر وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً)) . ولما ناموا ليلة الوادي، حتى طلعت الشمس، قال عليه الصلاة والسلام: (( إن الله قبض أرواحنا )) وذلك أن علياً وفاطمة تسببا بوجود الجنابة، كما ذكره ابن أبي جمرة رحمه الله، فكان الجواب بالعذر وإن كان نفس الحق جدلاً [إذ سئلا] عن السبب، والصحابة في الوادي لم يتسببوا، بل وكلوا من يقوم لهم بالأمر من هو أهل للقيام به، فافهم.
قاعدة 113
فراغ القلب للعبادة والمعرفة مطلوب، فلزم الزهد وإسقاط الكلف، واختيار الأدنى، لأن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
ومن المشغلات الأحداث سنا وعقلا أو دينا، فلهذا نهى عن صحبتهم إذ التلون مانع الراحة، ولذا أمر بمجانبة الصحبة وإيثار العزلة سيما في هذه الأزمنة. لكن بشرطها وهو كفاية عن الخلق، كفايتهم عنه في الضرورة دينا ودنيا، مع سلامتهم من سوء ظنه وإقامة الشعائر الإسلامية من الواجبات والسنن المؤكدة، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 114
الخلوة أخص من العزلة وهو بوجوهها وصورتها نوع من الاعتكاف، ولكن لا في المسجد، وبما كانت فيه. وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى عليه السلام.
والقصد في الحقيقة: الثلاثون، إذ هي أصل المواعدة، وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهرا كما في مسلم.
وكذا اعتزل من نسائه، وشهر الصوم الواحد. وزيادة القصد ونقصانه كالمريد في سلوكه، وأقلها عشرا لاعتكافه عليه السلام العشر، وهي للكامل زيادة في حاله ولغيره ترقية، ولا بد من أصل يرجع إليه، والقصد بها تطهير القلب من أدناس الملابسة، وإفراد القلب لذكر وأحد، وحقيقة واحدة، ولكنها بلا شيخ مخطرة، وله فتوح عظيمة، وقد لا تصلح لأقوام فليعتبر كل أحد بها حاله، والله اعلم.
قاعدة 115
لا بد من عبادة ومعرفة وزهادة، لكل عابد وعارف وزاهد. لكن من غلب عليه طلب (العلم) كان عابدا ومعرفته تبع لعبادته. ومن غلب عليه ترك الفضول كان زاهدا وعبادته ومعرفته تبع لزهده، ومن غلب عليه النظر للحق بإسقاط الخلق، كان عارفا وعبادته، وزهده تابعان لأصله. فالنسب تابعة للأصول، وإلا فالطرق متداخلة، ومن فهم غير ذلك فقد أخطأ، نعم يخفف الأمر ويقوى بحسب البساط والله سبحانه اعلم.
قاعدة 116
التزام اللازم للملزوم موصل إليه، فمن ثم فضل الذكر غيره. إذا ما أردت أن يلزمك فالزم ملزوميته، وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}. ولا أعظم من هذه الكرامة. وجعل لكل حدا ووقتا، إلا ذكره تعالي، إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} و{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. و{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
ولأبي سعيد عن ابن جبان: (أذكر الله حتى يقولوا مجنون). والذكر منشور الولاية، فمن أعطي الذكر فقد أعطي المنشور.
قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: (عليك بدوام الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي سلم ومعراج وسلوك إلى الله تعالي إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا).
فقد سمعت في ست وأربعين وثمانمائة بالحرم الشريف، رجلا من الصالحين روى لي ذلك عن بعض أهل الصدق مع الله تعالى وكلاهما معروفان رأيتهما والله سبحانه اعلم.
قاعدة 117
نورانية الأذكار محرقة لأوصاف العبد، ومثيرة لحرارة طبعه بانحراف النفس عن طبعها. فمن ثم أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كالماء تقوي النفوس وتذهب وهج الطباع، وسر ذلك في السجود لآدم عند قولهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}. ولهذا أمر المشايخ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غلبة الوجد والذوق ولذلك شاهد. وقد أشار إليه الصديق رضي الله عنه إذ قال: (الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أمحق للذنوب من الماء البارد للنار). (ألا ترى إلى آخره) فليعتمد. وقد نص في مفتاح الفلاح أن علامة الفتح، ثوران الحرارة في الباطن والله سبحانه اعلم.
قاعدة 118
النظر لسابق القسمة وواجب الحكمة، هو القاضي بان الدعاء عبودية اقترنت بسبب، كاقتران الصلاة بوقتها، وكذا الذكر المرتب لفائدة ونحوها، لأنك إذا قلت: تذكر، فإنما يذكر من يجوز عليه الإغفال. وإن قلت: تنبيه، فإنما ينبه من يمكن منه الإهمال. وإن قلت: تسبب، فجعل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل. وقد جاء الأمر به، وترتيب الإجابة، عليه، فلزم أن يرعى من حيث الحكمة ولذا صح بمرفوع منه كـ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، عند من قال به وهو دعاء الأبدال، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 119
استواء العبادتين في الأصل مع جواز ترك إحداهما للأخرى شرعا، يقضي بالبدلية فيهما.
فالذكر بدل من الدعاء عند اعتراض الاشتغال به عنه وبالعكس، وقد صح من شغله ذكري عن مسائلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، فظهرت أفضلية الذكر في هذه الحالة خلي عن الحض مع اعتراضه، والتعريض عند الخلو من دواعيهما أتم بجمعه بين صمت الصامت ونطق الناطق والتحقيق أن الأفضل في كل محل ما وقع فيه إذ الكل وقع لأنبياء الله في أحوال، وهم فيها على أفضل الأحوال، فافهم.
قاعدة 120
إعطاء الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص فاحتيج بالخاص لدليل يخصه حتى يتخصص بهو من ذلك الجهر بالذكر والدعاء والجمع فيهما ولهما.
فأما الذكر فدليله: (إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
قيل: ومن أدلته: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}.
وقال ابن عباس: (ما كنت اعرف انصراف الناس من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالذكر) رواه البخاري.
والجهر في ذكر العيد في أدبار الصلوات وبالثغور وفي الأسفار حتى قال عليه السلام: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا).
وقد جهر عليه السلام بأذكار في مواطن جمة، وكذا السلف. وصح قوله جوابا لأهل الخندق: (اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكل هذه أدلة على الجهر والجمع. لكن في قضايا خاصة يكون وجودها مستندا، لا دليلا لاحتمال قصرها على ما وقعت فيه، وكونها مقصودة لغيرها لا لذاتها، فلزم تمهيد أصل آخر.
قاعدة 121
إثبات الحكم لقضية خاصة، لا يجري في عموم نوعها لاحتمال قصره على ما وقع فيه، سيما عند من يقول: (الأصل المنع حتى يأتي المبيح)، والجمع للذكر والدعاء والتلاوة أخص من الجمع فيهما لكونه مقصودا بخلاف الأول، فانه اعم من ذلك، فلزم طلب دليل يخصه.
فأما الجمع للذكر ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر. الحديث. وفي آخره: فيسألهم ربهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: (يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك ويمجدونك). الحديث.
وهو صريح في ندب الجمع لعين الذكر بالترغيب في سياقه. وما وقع في آخره من أن فيهم من ليس منهم فيقول تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فأخذ منه جواز الاجتماع لقصد عين الذكر بوجه لا يسوغ وتأويله كحديث: (ما جلس مسلمون مجلسا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
الذي تأول بالعمل مرة، وبذكر الآلاء أخرى، وحمل على ظاهره أيضا فسقط التمسك به في أعيان الأذكار كدلالته على ما تأول به لاحتماله. فإن قيل: يجتمعون، وكل على ذكره، فالجواب: إن كان سرا فجدواه غير ظاهره، وإن كان جهرا، وكل على ذكره، فلا يخفى ما فيه ما إساءة الأدب بالتخليط وغيره مما لا يسوغ في حديث الناس، فضلا عن ذكر الله. فلزم جوازه، بل ندبه بشرطه.
نعم، وتأويل التسبيح والتحميد (والتمجيد) بالتذاكر في التوحيد من ابعد البعيد، فتأويله غير مقبول لبعده عن الأفكار حتى لا يخطر إلا بالأخطار، وذلك من مقاصد (الشرع) بعيد جدا، فافهم.
وأما الدعاء فالجمع له، فقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه، وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله r يقول: (لا يجتمع ملأ فيدعوا بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله لهم دعاءهم). رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
وذكره شيخنا أبو زيد الثعالبي رحمه الله في (دلائل الخيرات) وأظنه نقله من ترغيب المنذري.
وحكا أبو اسحق الشاطبي عمل عمر رضي الله عنه به، وإنكاره له، وعده من البدع الإضافية، أي التي تذم لما يقترن بها، لا لذاتها، فافهم.
وأما التلاوة فصحح النووي وغيره: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يقرؤون القرآن ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)، الحديث كما في الذكر. وأخذوا منه جواز قراءة الحزب الذي يقرأ في المساجد، كل ذلك على أصل الشافعي ومذهبه.
وأما مذهب مالك في ذلك كله، هو الكراهة لعدم عمل السلف، ولسد ذريعة الابتداع بالزيادة على ذلك، والخروج فيه لغير الحق، وقد وقع ما اتقاه رضي الله عنه.
قاعدة 122
فضيلة الشيء غير أفضليته، وحكم الوقت غير حكم الأصل، فلا يلزم من الترغيب الأفضلية وإن ثبت الفضل، ولا من الترك الفعل لعارض الوقت، رفض حكم الأصل. والجمع للذكر والدعاء والتلاوة، وقد صح ندب كل ذلك بالأحاديث المتقدمة، فلا يصح دفع أصل حكمه، وإن أؤثر عليه غيره فلأفضلية الغير عليه كالذكر الخفي، وما يتعدى من العبادات نفعه، كالعلم والجهاد والتكسب على العيال إلى غير ذلك مما كان اعتناء الصحابة به وشغلهم فيه، حتى شغلهم عن الاجتماع للذكر والتفرغ له من غير ضميمة شيء من ذلك إليه. إلا تراهم عند إمكانه مع ما هم فيه استعملوه كالأسفار والأعياد وأدبار الصلوات ونحو ذلك. ولما جاء عليه الصلاة والسلام حلقة الذاكرين تجاوزها وجلس مع المتذاكرين في العلم، فآثر المتذاكرين في العلم لتعدي نفهم ولاحتياجهم إليه فيما هم به، إذ لا علم إلا من قبله فقصدهم لتبليغ ما جاء به، بخلاف الذاكرين، فإن ما هم فيه بين بنفسه ونفعه قاصر عليهم، لكنه لم ينكر على أولئك وإن آثر هؤلاء، والله اعلم.
قاعدة 123
للزمان حكم يخصه، بحيث يخصص مباحه بندب أو منع أو كراهة أو وجوب، ويرد مندوبه لمنع أو كراهة. كل ذلك إذا كان كل منهما مؤديا لما يعطاه حكمه من دليل آخر يقتضيه، والقول بمنع الجمع للذكر وكراهته في هذه الأزمنة من ذلك، كمنع النساء من الخروج للمساجد ونحوه، مما هو ممنوع لما عرض فيه وبه لا لذاته، إذ أصل الشريعة إباحته أو ندبه، وللناس في ذلك مذهبان: فمن يقول بسد الذرائع، يمنع جميع الصور لصورة واحدة وهو مذهب مالك رحمه الله، ومن لا يقول بها إنما يمنع ما يقع على الوجه الممنوع، وهو مذهب الشافعي وغيره.
ولما تكلم سيدي أبو عبد الله بن عباد رحمه الله على مسألة الحزب قال: (انه من روائح الدين التي يتعين التمسك بها لذهاب حقائق الديانة في هذه الأزمنة وإن كان بدعة، فهو مما اختلف فيه. وغاية القول فيه الكراهة فصح العمل به على قول من يقول به.
قلت: وقد يلحق الذكر به في بعض الأماكن والأوقات بشرطه. ولعل الشارع إنما قصد بترغيبه من بعد الصدر الأول لاحتياجهم له.
وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه لقوم وجدهم يذكرون جماعة: (لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فقتم أصحاب محمد علما).
فالجواب عنه بأنه لم يبلغه حديث الترغيب فيها، أو انه أنكر الهيئة ونحوها.
وإلا فلا يصلح إنكاره لهذا الوجه بعد صحة الحديث والله سبحانه اعلم.
قاعدة 124
مراعاة الشروط في مشروطها لازم لمريدها، وإلا لم يصح وجوده له، وإن قامت صورته.
وشروط الذكر التي تتعين عند الجمع له ثلاث:
أولها: خلو الوقت عن واجب أو مندوب متأكد يلزم من عمله الإخلال به كأن يسهر فينام عن الصلاة، أو يتثاقل فيها، أو يفرط في ورده، أو يضر بأهله، إلى غير ذلك.
ثانيهما: خلوه عن محرم أو مكروه يقترن به كإسماع النساء أو حضورهن أو يتقي من الأحداث، أو قصد طعام لا قربة فيه، أو داخلته شبهة ولو قلت، أو فراش محرم كحرير ونحوه، أو ذكر مساويء الناس، أو الاشتغال بالأراجيف إلى غير ذلك.
ثالثهما: التزام أدب الذكر من كونه شرعيا أو في معناه، بحيث يكون بما صح واتضح وذكره على وجه السكينة، وإن مع قيام مرة وقعود أخرى، لا مع رقص وصياح ونحوه، فانه من فعل المجانين كما أشار مالك رحمه الله، لما سئل عنهم فقال: (أمجانين هم). وغاية كلامه الاستقباح بوجه يكون المنع فيه أحرى فافهم، والله سبحانه اعلم.
ما خرج مخرج التعليم وقف على وجهه من غير زيادة ولا نقص .
فلقد روي أن رجلاً كان يذكر في دبر كل صلاة :سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، مائة مرة من كل وأحد.
فرأى كأن قائلاً يقول : (أين الذاكرون أدبار الصلوات؟ فقام، فقيل له: ارجع فلست منهم إنما هذه المزية على الثلاث والثلاثين، فكل ما ورد فيه عدد قصر عليه، وكذا كل لفظ) .
نعم، اختلف في زيادة (( سيدنا )) في الوارد من كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والوجه أن يقتصر على لفظه، حيث تعبد به ويزداد حيث ما يراد الفضل في الجملة.
وقال ابن العربي في زيادة: (( وارحم محمداً)) انه قريب من بدعة، وذكره في العارضة، والله أعلم.
قاعدة 112
حق العبد أن لا يفرط في مأمور، ولا يعزم على محظور، ولا يقصر في مندوب فإن قصر به الحال حتى وقع في الأول، والثاني، والثالث، لزمه الرجوع لمولاهُ بالتوبة واللجأ والاستغفار. ثم إن كان ذلك بسبب منه، عاتب نفسه ولامها، وإن كان لا بسبب منه فلا عتب على قدر لا سبب للعبد فيه . وحديث ذلك في سؤال علي وفاطمة، إذ سألهما عليه السلام عن عدم صلاتهما بالليل، فأجابه علي بقوله ( إن الله قبض أرواحنا فمر وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً)) . ولما ناموا ليلة الوادي، حتى طلعت الشمس، قال عليه الصلاة والسلام: (( إن الله قبض أرواحنا )) وذلك أن علياً وفاطمة تسببا بوجود الجنابة، كما ذكره ابن أبي جمرة رحمه الله، فكان الجواب بالعذر وإن كان نفس الحق جدلاً [إذ سئلا] عن السبب، والصحابة في الوادي لم يتسببوا، بل وكلوا من يقوم لهم بالأمر من هو أهل للقيام به، فافهم.
قاعدة 113
فراغ القلب للعبادة والمعرفة مطلوب، فلزم الزهد وإسقاط الكلف، واختيار الأدنى، لأن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
ومن المشغلات الأحداث سنا وعقلا أو دينا، فلهذا نهى عن صحبتهم إذ التلون مانع الراحة، ولذا أمر بمجانبة الصحبة وإيثار العزلة سيما في هذه الأزمنة. لكن بشرطها وهو كفاية عن الخلق، كفايتهم عنه في الضرورة دينا ودنيا، مع سلامتهم من سوء ظنه وإقامة الشعائر الإسلامية من الواجبات والسنن المؤكدة، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 114
الخلوة أخص من العزلة وهو بوجوهها وصورتها نوع من الاعتكاف، ولكن لا في المسجد، وبما كانت فيه. وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى عليه السلام.
والقصد في الحقيقة: الثلاثون، إذ هي أصل المواعدة، وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهرا كما في مسلم.
وكذا اعتزل من نسائه، وشهر الصوم الواحد. وزيادة القصد ونقصانه كالمريد في سلوكه، وأقلها عشرا لاعتكافه عليه السلام العشر، وهي للكامل زيادة في حاله ولغيره ترقية، ولا بد من أصل يرجع إليه، والقصد بها تطهير القلب من أدناس الملابسة، وإفراد القلب لذكر وأحد، وحقيقة واحدة، ولكنها بلا شيخ مخطرة، وله فتوح عظيمة، وقد لا تصلح لأقوام فليعتبر كل أحد بها حاله، والله اعلم.
قاعدة 115
لا بد من عبادة ومعرفة وزهادة، لكل عابد وعارف وزاهد. لكن من غلب عليه طلب (العلم) كان عابدا ومعرفته تبع لعبادته. ومن غلب عليه ترك الفضول كان زاهدا وعبادته ومعرفته تبع لزهده، ومن غلب عليه النظر للحق بإسقاط الخلق، كان عارفا وعبادته، وزهده تابعان لأصله. فالنسب تابعة للأصول، وإلا فالطرق متداخلة، ومن فهم غير ذلك فقد أخطأ، نعم يخفف الأمر ويقوى بحسب البساط والله سبحانه اعلم.
قاعدة 116
التزام اللازم للملزوم موصل إليه، فمن ثم فضل الذكر غيره. إذا ما أردت أن يلزمك فالزم ملزوميته، وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}. ولا أعظم من هذه الكرامة. وجعل لكل حدا ووقتا، إلا ذكره تعالي، إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} و{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. و{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
ولأبي سعيد عن ابن جبان: (أذكر الله حتى يقولوا مجنون). والذكر منشور الولاية، فمن أعطي الذكر فقد أعطي المنشور.
قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: (عليك بدوام الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي سلم ومعراج وسلوك إلى الله تعالي إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا).
فقد سمعت في ست وأربعين وثمانمائة بالحرم الشريف، رجلا من الصالحين روى لي ذلك عن بعض أهل الصدق مع الله تعالى وكلاهما معروفان رأيتهما والله سبحانه اعلم.
قاعدة 117
نورانية الأذكار محرقة لأوصاف العبد، ومثيرة لحرارة طبعه بانحراف النفس عن طبعها. فمن ثم أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كالماء تقوي النفوس وتذهب وهج الطباع، وسر ذلك في السجود لآدم عند قولهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}. ولهذا أمر المشايخ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غلبة الوجد والذوق ولذلك شاهد. وقد أشار إليه الصديق رضي الله عنه إذ قال: (الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أمحق للذنوب من الماء البارد للنار). (ألا ترى إلى آخره) فليعتمد. وقد نص في مفتاح الفلاح أن علامة الفتح، ثوران الحرارة في الباطن والله سبحانه اعلم.
قاعدة 118
النظر لسابق القسمة وواجب الحكمة، هو القاضي بان الدعاء عبودية اقترنت بسبب، كاقتران الصلاة بوقتها، وكذا الذكر المرتب لفائدة ونحوها، لأنك إذا قلت: تذكر، فإنما يذكر من يجوز عليه الإغفال. وإن قلت: تنبيه، فإنما ينبه من يمكن منه الإهمال. وإن قلت: تسبب، فجعل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل. وقد جاء الأمر به، وترتيب الإجابة، عليه، فلزم أن يرعى من حيث الحكمة ولذا صح بمرفوع منه كـ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، عند من قال به وهو دعاء الأبدال، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 119
استواء العبادتين في الأصل مع جواز ترك إحداهما للأخرى شرعا، يقضي بالبدلية فيهما.
فالذكر بدل من الدعاء عند اعتراض الاشتغال به عنه وبالعكس، وقد صح من شغله ذكري عن مسائلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، فظهرت أفضلية الذكر في هذه الحالة خلي عن الحض مع اعتراضه، والتعريض عند الخلو من دواعيهما أتم بجمعه بين صمت الصامت ونطق الناطق والتحقيق أن الأفضل في كل محل ما وقع فيه إذ الكل وقع لأنبياء الله في أحوال، وهم فيها على أفضل الأحوال، فافهم.
قاعدة 120
إعطاء الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص فاحتيج بالخاص لدليل يخصه حتى يتخصص بهو من ذلك الجهر بالذكر والدعاء والجمع فيهما ولهما.
فأما الذكر فدليله: (إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
قيل: ومن أدلته: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}.
وقال ابن عباس: (ما كنت اعرف انصراف الناس من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالذكر) رواه البخاري.
والجهر في ذكر العيد في أدبار الصلوات وبالثغور وفي الأسفار حتى قال عليه السلام: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا).
وقد جهر عليه السلام بأذكار في مواطن جمة، وكذا السلف. وصح قوله جوابا لأهل الخندق: (اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكل هذه أدلة على الجهر والجمع. لكن في قضايا خاصة يكون وجودها مستندا، لا دليلا لاحتمال قصرها على ما وقعت فيه، وكونها مقصودة لغيرها لا لذاتها، فلزم تمهيد أصل آخر.
قاعدة 121
إثبات الحكم لقضية خاصة، لا يجري في عموم نوعها لاحتمال قصره على ما وقع فيه، سيما عند من يقول: (الأصل المنع حتى يأتي المبيح)، والجمع للذكر والدعاء والتلاوة أخص من الجمع فيهما لكونه مقصودا بخلاف الأول، فانه اعم من ذلك، فلزم طلب دليل يخصه.
فأما الجمع للذكر ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر. الحديث. وفي آخره: فيسألهم ربهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: (يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك ويمجدونك). الحديث.
وهو صريح في ندب الجمع لعين الذكر بالترغيب في سياقه. وما وقع في آخره من أن فيهم من ليس منهم فيقول تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فأخذ منه جواز الاجتماع لقصد عين الذكر بوجه لا يسوغ وتأويله كحديث: (ما جلس مسلمون مجلسا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
الذي تأول بالعمل مرة، وبذكر الآلاء أخرى، وحمل على ظاهره أيضا فسقط التمسك به في أعيان الأذكار كدلالته على ما تأول به لاحتماله. فإن قيل: يجتمعون، وكل على ذكره، فالجواب: إن كان سرا فجدواه غير ظاهره، وإن كان جهرا، وكل على ذكره، فلا يخفى ما فيه ما إساءة الأدب بالتخليط وغيره مما لا يسوغ في حديث الناس، فضلا عن ذكر الله. فلزم جوازه، بل ندبه بشرطه.
نعم، وتأويل التسبيح والتحميد (والتمجيد) بالتذاكر في التوحيد من ابعد البعيد، فتأويله غير مقبول لبعده عن الأفكار حتى لا يخطر إلا بالأخطار، وذلك من مقاصد (الشرع) بعيد جدا، فافهم.
وأما الدعاء فالجمع له، فقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه، وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله r يقول: (لا يجتمع ملأ فيدعوا بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله لهم دعاءهم). رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
وذكره شيخنا أبو زيد الثعالبي رحمه الله في (دلائل الخيرات) وأظنه نقله من ترغيب المنذري.
وحكا أبو اسحق الشاطبي عمل عمر رضي الله عنه به، وإنكاره له، وعده من البدع الإضافية، أي التي تذم لما يقترن بها، لا لذاتها، فافهم.
وأما التلاوة فصحح النووي وغيره: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يقرؤون القرآن ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)، الحديث كما في الذكر. وأخذوا منه جواز قراءة الحزب الذي يقرأ في المساجد، كل ذلك على أصل الشافعي ومذهبه.
وأما مذهب مالك في ذلك كله، هو الكراهة لعدم عمل السلف، ولسد ذريعة الابتداع بالزيادة على ذلك، والخروج فيه لغير الحق، وقد وقع ما اتقاه رضي الله عنه.
قاعدة 122
فضيلة الشيء غير أفضليته، وحكم الوقت غير حكم الأصل، فلا يلزم من الترغيب الأفضلية وإن ثبت الفضل، ولا من الترك الفعل لعارض الوقت، رفض حكم الأصل. والجمع للذكر والدعاء والتلاوة، وقد صح ندب كل ذلك بالأحاديث المتقدمة، فلا يصح دفع أصل حكمه، وإن أؤثر عليه غيره فلأفضلية الغير عليه كالذكر الخفي، وما يتعدى من العبادات نفعه، كالعلم والجهاد والتكسب على العيال إلى غير ذلك مما كان اعتناء الصحابة به وشغلهم فيه، حتى شغلهم عن الاجتماع للذكر والتفرغ له من غير ضميمة شيء من ذلك إليه. إلا تراهم عند إمكانه مع ما هم فيه استعملوه كالأسفار والأعياد وأدبار الصلوات ونحو ذلك. ولما جاء عليه الصلاة والسلام حلقة الذاكرين تجاوزها وجلس مع المتذاكرين في العلم، فآثر المتذاكرين في العلم لتعدي نفهم ولاحتياجهم إليه فيما هم به، إذ لا علم إلا من قبله فقصدهم لتبليغ ما جاء به، بخلاف الذاكرين، فإن ما هم فيه بين بنفسه ونفعه قاصر عليهم، لكنه لم ينكر على أولئك وإن آثر هؤلاء، والله اعلم.
قاعدة 123
للزمان حكم يخصه، بحيث يخصص مباحه بندب أو منع أو كراهة أو وجوب، ويرد مندوبه لمنع أو كراهة. كل ذلك إذا كان كل منهما مؤديا لما يعطاه حكمه من دليل آخر يقتضيه، والقول بمنع الجمع للذكر وكراهته في هذه الأزمنة من ذلك، كمنع النساء من الخروج للمساجد ونحوه، مما هو ممنوع لما عرض فيه وبه لا لذاته، إذ أصل الشريعة إباحته أو ندبه، وللناس في ذلك مذهبان: فمن يقول بسد الذرائع، يمنع جميع الصور لصورة واحدة وهو مذهب مالك رحمه الله، ومن لا يقول بها إنما يمنع ما يقع على الوجه الممنوع، وهو مذهب الشافعي وغيره.
ولما تكلم سيدي أبو عبد الله بن عباد رحمه الله على مسألة الحزب قال: (انه من روائح الدين التي يتعين التمسك بها لذهاب حقائق الديانة في هذه الأزمنة وإن كان بدعة، فهو مما اختلف فيه. وغاية القول فيه الكراهة فصح العمل به على قول من يقول به.
قلت: وقد يلحق الذكر به في بعض الأماكن والأوقات بشرطه. ولعل الشارع إنما قصد بترغيبه من بعد الصدر الأول لاحتياجهم له.
وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه لقوم وجدهم يذكرون جماعة: (لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فقتم أصحاب محمد علما).
فالجواب عنه بأنه لم يبلغه حديث الترغيب فيها، أو انه أنكر الهيئة ونحوها.
وإلا فلا يصلح إنكاره لهذا الوجه بعد صحة الحديث والله سبحانه اعلم.
قاعدة 124
مراعاة الشروط في مشروطها لازم لمريدها، وإلا لم يصح وجوده له، وإن قامت صورته.
وشروط الذكر التي تتعين عند الجمع له ثلاث:
أولها: خلو الوقت عن واجب أو مندوب متأكد يلزم من عمله الإخلال به كأن يسهر فينام عن الصلاة، أو يتثاقل فيها، أو يفرط في ورده، أو يضر بأهله، إلى غير ذلك.
ثانيهما: خلوه عن محرم أو مكروه يقترن به كإسماع النساء أو حضورهن أو يتقي من الأحداث، أو قصد طعام لا قربة فيه، أو داخلته شبهة ولو قلت، أو فراش محرم كحرير ونحوه، أو ذكر مساويء الناس، أو الاشتغال بالأراجيف إلى غير ذلك.
ثالثهما: التزام أدب الذكر من كونه شرعيا أو في معناه، بحيث يكون بما صح واتضح وذكره على وجه السكينة، وإن مع قيام مرة وقعود أخرى، لا مع رقص وصياح ونحوه، فانه من فعل المجانين كما أشار مالك رحمه الله، لما سئل عنهم فقال: (أمجانين هم). وغاية كلامه الاستقباح بوجه يكون المنع فيه أحرى فافهم، والله سبحانه اعلم.
عدل سابقا من قبل أبو أويس في الجمعة 14 نوفمبر 2008 - 17:09 عدل 1 مرات
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: متن قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق رضي الله عنه.
قاعدة 125
الأذكار التي تتعلق بالأمور الدنيوية تؤدي إلى حب الله والأنس بذكره
استراق النفوس بملائمها طبعا، لما فيه نفع ديني مشروع، فمن ثم رغب في أذكار وعبادات لأمور دنيوية، كقراءة سورة الواقعة لدفع الفاقة: (وبسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العلمي) لصرف البلايا المفاجئة: (وأعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق) لصرف شر ذوات السموم، والحفظ في المنزل، إلى غير ذلك من أذكار صرف الهموم والديون والإعانة على الأسباب، كالغنى والعز ونحوه. بيان ذلك أنها إن أفادت عين ما قصدت له، كان داعيا لحبها، ثم داعيا لمن جاء بها ومن نسبت له أصلا وفرعا، فهي مؤدية لحب الله. وإن لم تؤد ما قصدت له، فاللطف موجود بها، ولا أقل من أنس النفس بذكر الحق، ودخول ذلك من حيث الطباع أمكن وأيسر.
ولهذا الأصل استند الشيخ أبو العباس البوني ومن نحا نحوه في ذكر الأسماء وخواصها، وإلا فالأصل أن لا تجعل الأذكار والعبادات سببا في الأعراض الدنيوية إجلالا لها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 126
كل اسم أو ذكر فخاصيته من معناه وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده وإجابته على قدر همة صاحبه، فمن ثم لا ينتفع عالم إلا بجلي واضح المعنى، ولا جاهل إلا بخفي لا يعرف معناه ويبقى من بينها. ولزم اعتبار العدد الموضوع شرعا، والمستخرج استنباطا لتوقف التحقيق عليه حسب سنة الله. فأما الكتابة والتفريط في الشكل ونحوه، فأمر مستفاد من علم الطباع والطبائع، ولا يخفى بعده عن الحق والتحقيق، فلذا قال ابن البنا رضي الله عنه: (باين البوني وأشكاله، ووافق خيرا النساج وأمثاله).
وقال الحاتمي رحمه الله: (علم الحروف علم شريف لكنه مذموم دينا ودنيا). فاعلم ذلك، وبالله سبحانه التوفيق.
قلت: أما دينا، فلتوغل صاحبه في الأسباب المتوهمة دون المحققة، وذلك قادح في مقام التوكل. وكل باعتبار الاجتهاد في السبب، كالمبادرة بالكي في التطبب لأنه من ترق النفس واستعجال البرء فافهم.
وأما دنيا فلأنه شغل في وجه يخل بعمارتها والله سبحانه اعلم.
قاعدة 127
اعتبار النسب الحكمية جار في الأمور الحكمية، على وجه نسبتها منها، فمن ثم اعتبر العدد في الذكر، إذ مرجع الوجود إليه باعتبار جواهره وأعراضه. فإذا وافقتا النسبة محلها، وقع التأثير حسب القسمة الأزلية. ولعقد الأعداد وجه في والشرع إذ قال صلى الله عليه وسلم لنساء من المؤمنات: (واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات)، وأقر بعض أزواجه على تسبيحها في نوى كان بين يديها. وكان لأبي هريرة خيط قد ربط فيه خمسمائة عقدة يسبح فيها، قيل: والسبحة أعون على الذكر وأدعى للدوام، وأجمع للفكر، وأقرب للحضور، وأعظم للثواب، إذ له ثواب أعدادها وما تعطلت فيه لضرورة أو تعطل منها لغلط ونحوه، لتعيينها وفي تحصيل ثواب ذكر جامع لعدد.
كقول: (سبحانه الله عدد خلقه) على ما هو به مع تضعيفه أو دونه، أو لغوه أقوال، وصحح بلا تضعيف. قيل: وذوات الأسباب كتسبيح التعجب أفضل من مطلقها فيترك المطلق للمقيد في وقته، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 128
ما أبيح لسبب أو على وجه خاص أو عام، فلا يكون شائعا في جميع الوجوه، حتى يتناول صورة خاصة بخصوصيتها ليست عن الوجه الخاص بنفسه، فلا يصح الاستدلال بإباحة الغناء في الولائم ونحوها على إباحة مطلق السماع، ولا بإباحة إنشاد الشعر على صورة السماع المعلومة لاحتمال اختصاص حكمها. فلذلك قال ابن الفاكهاني رحمه الله تعالى في شرح الرسالة: (ليس في السماع نص بمنع ولا إباحة). يعني على الوجه الخاص، وإلا فقد صح في الولائم والأعياد ونحوها من الأفراح المشروعة والاستعانة على الأشغال. فإذا المسألة جارية على حكم الأشياء، قبل ورود الشرع فيها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 129
الأشياء قبل ورود الشرع فيها، قيل: على الوقف، فالسماع لا يقدم عليه. وقيل: على الإباحة، فالسماع مباح، وقيل: على المنع، فالسماع ممنوع. وقد اختلف فيه الصوفية بالثلاثة الأقوال، كاختلاف الفقهاء. وقال الشيخ أبو اسحق الشاطبي رحمه الله: (السماع ليس من التصوف بالأصل ولا بالعرض، إنما أخذ من عمل الفلاسفة)، انتهى بمعناه.
والتحقيق أنه شُبهة تُتَّقى لشبهها بالباطل وهو اللهو، إلا لضرورة تقتضي الرجوع إليه، فقد تباح لذلك. وقد ذكر المقدسي أن أبا مصعب سأل مالكا رضي الله عنهما فقال: لا ادري إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا ناسك غبي، أو جاهل غليظ الطبع.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل رحمهما الله: رأيت والدي يتسمع من وراء الحائط لسماع كان عند جيراننا، وقال ابن المسيب لقوم يعيبون الشعر: (نسكوا نسكا أعجميا). وقد صح عن مالك إنكاره وكراهته، وأخذ من المدونة جوازه، كل ذلك إن تجرد عن آلة وإلا فمتفق على تحريمه، غير ما للعنبري وإبراهيم بن سعد، وما فيهما معلوم. وقد بالغ الطرطوشي في المسألة وغيره، وتحقيقها آيل للمنع والله سبحانه اعلم.
قاعدة 130
اعتقاد المرء فيما ليس بقربة بدعة. وكذلك أحداث حكم لمن يتقدم، وكل ذلك ضلال إلا أن يرجع لأصل استنبط منه، فيرجع حكمه إليه. والسماع لا دلالة على ندبه عند مبيحه جملة، وإن وقع فيه تفصيل عند قوم فالتحقيق انه عند مبيحه رخصة تباح للضرورة، أو في الجملة فيعتبر شرطها وإلا فالمنع، والله سبحانه اعلم.
يتبع إن شاء الله
الأذكار التي تتعلق بالأمور الدنيوية تؤدي إلى حب الله والأنس بذكره
استراق النفوس بملائمها طبعا، لما فيه نفع ديني مشروع، فمن ثم رغب في أذكار وعبادات لأمور دنيوية، كقراءة سورة الواقعة لدفع الفاقة: (وبسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العلمي) لصرف البلايا المفاجئة: (وأعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق) لصرف شر ذوات السموم، والحفظ في المنزل، إلى غير ذلك من أذكار صرف الهموم والديون والإعانة على الأسباب، كالغنى والعز ونحوه. بيان ذلك أنها إن أفادت عين ما قصدت له، كان داعيا لحبها، ثم داعيا لمن جاء بها ومن نسبت له أصلا وفرعا، فهي مؤدية لحب الله. وإن لم تؤد ما قصدت له، فاللطف موجود بها، ولا أقل من أنس النفس بذكر الحق، ودخول ذلك من حيث الطباع أمكن وأيسر.
ولهذا الأصل استند الشيخ أبو العباس البوني ومن نحا نحوه في ذكر الأسماء وخواصها، وإلا فالأصل أن لا تجعل الأذكار والعبادات سببا في الأعراض الدنيوية إجلالا لها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 126
كل اسم أو ذكر فخاصيته من معناه وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده وإجابته على قدر همة صاحبه، فمن ثم لا ينتفع عالم إلا بجلي واضح المعنى، ولا جاهل إلا بخفي لا يعرف معناه ويبقى من بينها. ولزم اعتبار العدد الموضوع شرعا، والمستخرج استنباطا لتوقف التحقيق عليه حسب سنة الله. فأما الكتابة والتفريط في الشكل ونحوه، فأمر مستفاد من علم الطباع والطبائع، ولا يخفى بعده عن الحق والتحقيق، فلذا قال ابن البنا رضي الله عنه: (باين البوني وأشكاله، ووافق خيرا النساج وأمثاله).
وقال الحاتمي رحمه الله: (علم الحروف علم شريف لكنه مذموم دينا ودنيا). فاعلم ذلك، وبالله سبحانه التوفيق.
قلت: أما دينا، فلتوغل صاحبه في الأسباب المتوهمة دون المحققة، وذلك قادح في مقام التوكل. وكل باعتبار الاجتهاد في السبب، كالمبادرة بالكي في التطبب لأنه من ترق النفس واستعجال البرء فافهم.
وأما دنيا فلأنه شغل في وجه يخل بعمارتها والله سبحانه اعلم.
قاعدة 127
اعتبار النسب الحكمية جار في الأمور الحكمية، على وجه نسبتها منها، فمن ثم اعتبر العدد في الذكر، إذ مرجع الوجود إليه باعتبار جواهره وأعراضه. فإذا وافقتا النسبة محلها، وقع التأثير حسب القسمة الأزلية. ولعقد الأعداد وجه في والشرع إذ قال صلى الله عليه وسلم لنساء من المؤمنات: (واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات)، وأقر بعض أزواجه على تسبيحها في نوى كان بين يديها. وكان لأبي هريرة خيط قد ربط فيه خمسمائة عقدة يسبح فيها، قيل: والسبحة أعون على الذكر وأدعى للدوام، وأجمع للفكر، وأقرب للحضور، وأعظم للثواب، إذ له ثواب أعدادها وما تعطلت فيه لضرورة أو تعطل منها لغلط ونحوه، لتعيينها وفي تحصيل ثواب ذكر جامع لعدد.
كقول: (سبحانه الله عدد خلقه) على ما هو به مع تضعيفه أو دونه، أو لغوه أقوال، وصحح بلا تضعيف. قيل: وذوات الأسباب كتسبيح التعجب أفضل من مطلقها فيترك المطلق للمقيد في وقته، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 128
ما أبيح لسبب أو على وجه خاص أو عام، فلا يكون شائعا في جميع الوجوه، حتى يتناول صورة خاصة بخصوصيتها ليست عن الوجه الخاص بنفسه، فلا يصح الاستدلال بإباحة الغناء في الولائم ونحوها على إباحة مطلق السماع، ولا بإباحة إنشاد الشعر على صورة السماع المعلومة لاحتمال اختصاص حكمها. فلذلك قال ابن الفاكهاني رحمه الله تعالى في شرح الرسالة: (ليس في السماع نص بمنع ولا إباحة). يعني على الوجه الخاص، وإلا فقد صح في الولائم والأعياد ونحوها من الأفراح المشروعة والاستعانة على الأشغال. فإذا المسألة جارية على حكم الأشياء، قبل ورود الشرع فيها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 129
الأشياء قبل ورود الشرع فيها، قيل: على الوقف، فالسماع لا يقدم عليه. وقيل: على الإباحة، فالسماع مباح، وقيل: على المنع، فالسماع ممنوع. وقد اختلف فيه الصوفية بالثلاثة الأقوال، كاختلاف الفقهاء. وقال الشيخ أبو اسحق الشاطبي رحمه الله: (السماع ليس من التصوف بالأصل ولا بالعرض، إنما أخذ من عمل الفلاسفة)، انتهى بمعناه.
والتحقيق أنه شُبهة تُتَّقى لشبهها بالباطل وهو اللهو، إلا لضرورة تقتضي الرجوع إليه، فقد تباح لذلك. وقد ذكر المقدسي أن أبا مصعب سأل مالكا رضي الله عنهما فقال: لا ادري إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا ناسك غبي، أو جاهل غليظ الطبع.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل رحمهما الله: رأيت والدي يتسمع من وراء الحائط لسماع كان عند جيراننا، وقال ابن المسيب لقوم يعيبون الشعر: (نسكوا نسكا أعجميا). وقد صح عن مالك إنكاره وكراهته، وأخذ من المدونة جوازه، كل ذلك إن تجرد عن آلة وإلا فمتفق على تحريمه، غير ما للعنبري وإبراهيم بن سعد، وما فيهما معلوم. وقد بالغ الطرطوشي في المسألة وغيره، وتحقيقها آيل للمنع والله سبحانه اعلم.
قاعدة 130
اعتقاد المرء فيما ليس بقربة بدعة. وكذلك أحداث حكم لمن يتقدم، وكل ذلك ضلال إلا أن يرجع لأصل استنبط منه، فيرجع حكمه إليه. والسماع لا دلالة على ندبه عند مبيحه جملة، وإن وقع فيه تفصيل عند قوم فالتحقيق انه عند مبيحه رخصة تباح للضرورة، أو في الجملة فيعتبر شرطها وإلا فالمنع، والله سبحانه اعلم.
يتبع إن شاء الله
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
مواضيع مماثلة
» ترجمة سيدي أحمد زروق الفاسي رضي الله عنه
» رسالة أصول الطريق الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى
» مناجاة للشيخ أحمد العلاوي رضي الله عنه.
» مذاكرة للشيخ أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي رضي الله عنه
» صلاة الأوصاف : (للشيخ أحمد الطيب البشير )
» رسالة أصول الطريق الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى
» مناجاة للشيخ أحمد العلاوي رضي الله عنه.
» مذاكرة للشيخ أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي رضي الله عنه
» صلاة الأوصاف : (للشيخ أحمد الطيب البشير )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 9:17 من طرف ابن الطريقة
» شيخ التربية
اليوم في 8:33 من طرف ابن الطريقة
» رسالة من مولانا وسيدنا إسماعيل الهادفي رضي الله عنه إلى إخوان الرقاب
أمس في 20:13 من طرف ابن الطريقة
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
أمس في 20:06 من طرف ابن الطريقة
» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
أمس في 8:36 من طرف أبو أويس
» يا هو الهويه
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 22:37 من طرف الطالب
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس