بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
مارس 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
31 |
اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
+4
أمة الله
عادل
أبو أويس
سرّي خمّاري
8 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
استرواح في مرآة الذّاكرين
سرّي خمّاري في الأربعاء 24 يونيو 2009 - 18:38
أَهْلَ وِدِّي الأَفَاضِلَ!
أَتْحَفَكُمْ اللَّهُ بِأَبْكَارِ المَعَانِي الحُور ، المَقْصُورَاتِ فِي خِيَامِ النُّور ، وَجَعَلَكُمْ عَلَى خَزَائِنِ الوُجُودِ تَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَ السِّرِّ المَسْتُور ، بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ ، إِنَّهُ هُوَ الحَمِيدُ الشَّكُور!
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتْبَعَ قَلْبِي فِي تَأْوِيلِ الفَقْرَةِ التَّالِيَةِ مِنْ "مِرْآةِ الذَّكِرِينَ فِي مُنَاجَاةِ رَبِّ العَالَمِينَ" مُسْتَحْضِرًا قَوَاعِدَ العَرَبِيَّةِ نَحْوًا وَصَرْفًا وَتَرْكِيبًا وَبَلاَغَةً وَرَسْمًا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ فَقِهَ مَعَانِي حُرُوفِ الجَرِّ فَقَدْ فَقَهَ أَسْرَارَ العَرَبِيَّةَ. وَلَعَلَّ الإِخْوَةَ الكِرَامَ يَجِدُونَ فِي مَا يَلِي تَعْقِيبًا عَلَى بَعْضِ آرَائِهِمْ أَرْجُو أَنْ تَتَّسِعَ لَهُ صُدُورُهُمْ ، أَسْأَلُ لِي وَلَكُمْ كَامِلَ التَّوْفِيقِ. آمِينَ!
<< إلَهِـي! إِنَّ بِدَايَةَ الخِذْلاَنِ الغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتَكَ هِيَ بَذْرَةُ العِلَّةِ ، فَأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُنِي عَنْكَ وَيُبْعدُنِي مِنْكَ ، وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ ، وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ ، وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ ، وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي ، وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ وَأَنْتَ تَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يَا رَبَّ العَالَمِين! >>.
* شَرْحُ الأَلْفَاظِ :
- الغَفْلَةُ : من غَفَلَ يَغْفُلُ غُفُولاً وَغَفْلَةً عَنِ الشَّيْءِ = سَهَا عَنْهُ وَلَمْ يَفْطُنْ لَهُ.
* شَرْحُ المَعَانِي :
الغَفْلَةُ المَعْنِيَّةُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ هِيَ الغَفْلَةُ عَنِ اللَّهِ. وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ : غَفْلَةٌ عَنِ الذِّكْرِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الحُضُورِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الشُّعُورِ. وَمِنَ الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ فِي هَذَا البَابِ: <<الذِّكْرُ غَايَتُهُ الحُضُورُ ، وَالحُضُورُ عَتَبَةُ الشُّعُورِ>>. وَعَلَيْهِ :
- فالصِّنْفُ الأَوَّلُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ البِدَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ اللِّسَانِ. حَيْثُ يَتْرُكُونَ الذِّكْرَ إِلَى اللَّغْوِ وَالنِّسْيَانِ. <<وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً>>142 النّساء. <<نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ>>19 الحشر.
- وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِلسَّائِرِينَ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ الجَنَانِ ، أَيْ أَهْلُ مَقَامِ الحُضُورِ. وَإِنَّ الحُضُورَ حَالُ الذَّاكِرِ فِي مُرَاقَبَةِ ذَاتِ الحَقِّ مِنْ خِلاَلِ مُشَاهَدَةِ صِفَاتِ الخَلْقِ. فَهْوَ إِذَنْ يَسْتَبْقِي مِسَافَةَ المُرَاقَبَةِ مَهْمَا قَصُرَتْ وَشَفَّتْ. وَلِهَذَا فَالحُضُورُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ مَقَامِ الفَرْقِ. يَبْدَأُ حُضُورًا لِلْمَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا مَعَ المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا فِي المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا بِالمَذْكُورِ. وَهْوَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَسْتَشْرِفُ سِرَّ الذَّاتِ مُعَظِّمًا ومُقَدِّسًا لَهَا. وَأَثْنَاءَ تِلْكَ التَّحَوُّلاَتِ يُخْشَى عَلَى السَّائِرِ أَنْ تَتَكَاثَفَ عَلَى بَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ حُجُبٌ مِنَ الصِّفَاتِ الظُّلْمَانِيَّةِ وَالنُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى تَجَاوُزِهَا مُؤَنَّسًا بِاللَّهِ لِيَخْرُجَ مِنْ ظُلُمَاتِ لَيْلِهَا وَبَحْرِهَا وَبَطْنِ حُوتِهَا وَلِيَهْزِمَ سَحَرَةَ فِرْعَوْنِهَا فِي ضُحَى يَوْمِ زَينَتِهَا. <<لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ>>88 القِصَصُ.
- وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ النِّهَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الوِجْدَانِ وَهُمْ أَهْلُ مَقَامِ الشُّعُورِ. فَعَمَلُ أَهْلِ البِدَايَةِ ، ذِكْرُ اللِّسَانِ ، وَكُلُّ حَالاَتِ أَهْلِ الحُضُورِ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، تَجْتَمِعُ مَعًا لَدَى العَارِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ وَحُضُورُهُ فِي نَفْسِ الوَقْتِ لِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ فَلاَ يَحْجُبُهُ فَرْقُهُ عَنْ جَمْعِهِ وَلا جَمْعُهُ عَنْ فَرْقِهِ. وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ حُضُورُهُ عَتَبَةً يَتَجَاوَزُهَا إِلَى الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ وَبَقَاءُ الذَّاكِرِ حَيَاةً وَبَقَاءً لِلَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اللَّهِ بِاللَّهِ. وَذَلِكَ مَفَادُ الحَدِيثِ :<<مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الحَيِّ وَالمَيِّتِ>>.فَإِذَا الفَرْقُ عَيْنُ الجَمْعِ وَإِذَا الفَتْقٌ فَيْضُ الرَّتْقِ <<وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا>>69الزّمر.<<وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ>>115البقرة.<<وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا>>137 ق. فَصَاحِبُ هَذَا المَقَامِ مُوَحِّدٌ لاَ يُرَاوِدُهُ وَهْمُ الغَيْرِيَّةِ.
عَلَى هَذَا الأَسَاسِ ، أَكَّدَ الشَّيْخُ فِي مُنَاجَاتِهِ أَنَّ الغَفْلَةَ مِفْتَاحُ العِلَّةِ وَمُبْتَدَأُ مَوْتِ القَلْبِ. وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ كُلِّ شَاغِلٍ عَنِ اللَّهِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ نَاظِرٍ بِنُورِ الشُّهُودِ غَيْرَ شَاعِرٍ بِحَقِيقَةِ الوُجُودِ فَيَكُونُ مِمَّنْ <<لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمُ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمُ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ>>179 الأعراف. وَمِمَّنْ <<يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ>>7 الرّوم. وَأَمَّا ذَاتُهُ <<فَهْيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٌ مُعَطَّلَةٌ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ>>45 الحجّ. وَحَيْثُ صَحَّ <<قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه>>84 الإسراء ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ أَهْلُ الصِّفَاتِ غَيْرُ المُحَقِّقِينَ الَّذِينَ حُجِبُوا عَنْ سِرِّ الذّاتِ بِظُلُمَاتِ وَأَنْوَارِ الظَّاهِرِ ، أَوْ لِنَقُلْ بِسَرَابِ الصِّفَاتِ. فَهُمْ سُكَارَى مُخَدَّرُونَ بِِسَكْرَةِ الحِسِّ ، عَلَى رَأْيِ العَلاَوِي ، لاَ بِخَمْرِ القُدْسِ. قَدْ هَمَدَتْ بَوَاطِنُهُمْ ، فَهُمْ لاَ يَتَعَامَلُونَ إِلاَّ عَلَى مُسْتَوَى انْفِعَالِ الجَوَارِحِ لِلْمُؤَثِّرَاتِ المَادِّيَّةِ. مَفْعُولاً بِهِمْ غَيْرَ فَاعِلِينَ <<أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ>>21 النّحل. وَدَفْعًا لِكُلِّ تِلْكَ المَهَالِكِ اسْتَعَاذَ مِنْ وَهْمِ البُعْدِ وَالاِنْفِصَالِ وَمِنَ الحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ وَالظُّلْمَانِيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا صِفَاتُ الحَقِّ وَمِنْهَا صِفَاتُ الخَلْقِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فِي الحَقِيقَة صِفَاتُ اللَّهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ ، كَمَا سَنَرَى لاَحِقًا.
وَحَيْثُ أَنَّ الغَفْلَةَ أَرْضٌ مُهَيَّأَةٌ لِبَذْرَةِ المَعْصِيَةِ فَإِنَّ عَلِيلَ المَعْصِيَةِ عَلَى شَفَا الخِذْلاَنِ يُوشِكُ أَنْ يَهْلَكَ إِلاَّ أَنْ تَتَدَارَكَهُ العِنَايَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَجَاوَزَ تِلْكَ الحُجُبَ الظُّلْمَانِيَّةَ وَالنُّورَانِيَّةَ مُتَمَسِّكًا بِشَرِيعَةِ الطَّرِيقِ وَمِنْهَاجِ التَّحْقِيقِ. وَالشَّرِيعَةُ لُغَةً هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى بِئْرِ المَاءِ. وَفِي مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ طَرِيقٌ وَمِنْهَاجٌ إِلَى الحَقِّ. وَمَاءُ البِئْرِ المَوْرُودُ هُوَ سِرُّ الوُجُودِ الكَامِنِ كُمُونَ المَاءِ فِي غَيْبِ السَّمَاءِ وَفِي بَاطِنِ الأَرْضِ وَالَّذِي بِهِ الحَيَاةُ الحَقُّ <<وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ>>30 الأنبياء. وَعَلَيْهِ فَكُلُّ طَرِيقٍ أَوْ مَسْلَكٍ لاَ يُؤَدِّي إِلَى مَاءِ بِئْرٍ مَوْرُودٍ لاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ شَرِيعَةً. وَكُلُّ شَرِيعَةٍ لاَ تُؤَدِّي إِلَى سِرِّ حَقِيقَةِ الوُجُودِ فَإِنَّمَا هِيَ ضَلاَلَةٌ.
وَحَيْثُ أَنَّ الذَّاتَ ، لُغَةً ، هِيَ ظَاهِرُ عَيْنِ الشَّيْءِ بِمُقَابِلِ بَاطِنِهِ وَمَعْنَاهُ. مِثَالُ ذَلِكَ كُلُّ كَائِنٍ حَيٍّ. فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الجَسَدُ ذَاتٌ حِسِّيَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَمِنْ حَيْثُ الرُّوحُ سِرٌّ غَيْبِيٌّ بَاطِنٌ. وَبِاعْتِبَارِ عِلْمِ النَّحْوِ فَإِنَّ "اسْمَ الذَّاتِ" مَا يَقَعُ عَلَى ذَاتٍ كَالرَّجُلِ وَالأَسَدِ. وَإِنَّ "اسْمَ المَعْنَى" مَا يَقَعُ عَلَى مَعْنَوِيٍّ كَالعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالكَرَمِ. وَحَيْثُ أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَحْمَدُ زَرُّوق فِي قَوَاعِدِهِ ، هِيَ <<مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَتُهُ>> فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كُلِّيَتُهُ المُحَصَّلَةُ جَمْعًا ، غَيْبًا وَشَهَادَةً ، وَوَحْدَةً قَائِمَةً مَوْجُودَةً مَشْهُودَةً مِنْ حَيْثُ مَدْلُولاَتُ اسْمَيْهِ "الظَّاهِرُ" وَ"البَاطِنُ". وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الذَّاتَ الإِلَهِيَّةَ مَوْجُودَةٌ مَشْهُودَةٌ لاَ يَحْجِبُهَا شَيْءٌ : <<قُلَ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*>> 19الأنعام. وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ ، دَعَا الشَّيْخُ اللَّهَ فَقَالَ: <<وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ>> وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ سَيْرَهُ مُؤَدِّيًا رَأْسًا إِلَى التَّحَقُّقِ بِسِرِّ تَوْحِيدِ اللَّهِ الحَيِّ الكَامِنِ فِي بَاطِنِ كُلِّ الوُجُودِ ، وَالقَيُّومِ الظَّاهِرِ بِجَمِيعِ أَنْوَارِ وَصِفَاتِ الشُّهُودِ.
وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ تُسْقَى جَمِيعُهَا بِمَاءٍ واحِدٍ هُوَ مَاءُ الحَيَاةِ الدَّافِقِ مِنْ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الأُكْلِ ، فَإِنَّ ذَاتَ الوُجُودِ المَعْنِيَّةَ بِاسْمِ اللَّهِ "الظَّاهِرُ" تَسْقِي جَمِيعَ صِفَاتِهَا المَعْنَوِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي المَخْلُوقَاتِ بِسِرٍّ وَاحِدٍ هُوَ المُتَمَثِّلُ فِي الرُّوحِ الَّذِي نَفَخَهُ اللَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ مِنْ رُوحِهِ وَسِرِّ وُجُودِهِ فِي طِينَةِ ظُهُورِهِ وَشُهُودِهِ بِحَيْثُ أَبْدَى غَيْبَ ذَاتِهِ بِشُهُودِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي كَسَاهَا حُلَلَ أَنْوَارِ أَفْعَالِهِ وَصَفَاتِهِ <<كُنْتُ كَنْزًا خَفِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَبِي عَرَفُونِي>>حديث قدسي.
وَحَيْثُ أَنَّ مِنَ الصِّفَاتِ ظُلْمَانِيَّةٌ كَافِرَةٌ تَجْحَدُ اللَّهَ ، وَأُخْرَى نُورَانِيَّةٌ مُؤْمِنَةٌ مُحْسِنَةٌ تَشْهَدُ وَتُشْهِدُ اللَّهَ، عَلَى غِرَارِ آيَتَيْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، سَأَلَ الشَّيْخُ اللَّهَ أَنْ يَكْسُوَهُ أَنْوَرَ وَأَقْدَسَ حُلَلِ شُهُودِهِ الصِّفَاتِيِّ فَقَالَ: <<وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ >>. حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ الجَمْعِ قَائِمًا للَّهِ فِي اللَّهِ دَالاًّ عَلَيْهِ بِهِ. وَلِهَذَا طَلَبَ التَّمْكِينَ. وَكُلُّ مُمَكَّنٍ يَتَطَلَّبُ مَكَانًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ أَيْ مُسْتَقَرٌّ يُهَيْمِنُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وُجُودًا وَلاَ شُهُودًا. فَقَالَ الشَّيْخُ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَطَلَبَ الثَّبَاتَ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ فِيهَا بِهَا وَشُهُودٌ مِنْهَا لَهَا حَتَّى لاَ يَنْحَجِبَ عَنْ حَقِيقَةِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ حَقِيقَتِهِ وَبَدُّهُ اللاَّزِمُ مُوَافَقَةً لِابْنِ سَبْعِينَ.
وَالحُجُبُ ثَلاَثَةٌ : - حُجُبٌ نَفِسِيَّةٌ. وَحُجُبٌ كَوْنِيَّةٌ. وَحُجُبٌ إِلَهِيَّةٌ. وَلاَ يُمْكِنُ خَرْقُ الحُجُبِ الكَوْنِيَّةِ ثُمَّ الإِلَهِيَّةِ إِلاَّ بِخَرْقِ الحُجُبِ النَّفْسِيَّةِ وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ النَّفْسِ الجُزْئِيَّةِ ، حِسًّا وَمَغْنًى ، إِلَى النَّفْسِ الإِلَهِيَّةِ الكُلِّيَّةِ ، وَاللَّهُ يَقُولُ: <<يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَّنِسَاءَ>>1 النّساء. وَالقَائِلُ: <<وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه وَإِلَيْهِ المَصِيرُ>>28 آل عمران. ثُمَّ بِإِرْجَاعِهَا رُوحًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَى اللَّهِ الَّذِي نَفَخَهَا مِنْ رُوحِهِ فِي طِينَةِ التَّكْوِينِ وَالتَّلْوِينِ. وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ ذَوْقًا وَحَقًّا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: <<إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاتِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرْءَانِ وَمَنَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ >>111 التَّوْبَة. وَإِنْجَازُ هَذِهِ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ مَوْتَ النَّفْسِ بِالكُلِّيَّةِ. فَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: <<أَعْدَى أَعْدَائِكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ>> وَلَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ربَّهُ: <<كَيْفَ الوُصُولُ إِلَيْكَ يَا رَبِّ؟>> اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَوْتَ النَّفْسِ فَقَالَ: <<أُتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ>>. فَقَوْلُ الشَّيْخِ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> طَلَبَ بِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَبِذَاتِ اللَّهِ ثَابِتًا مُمَكَّنًا فِيهَا وَبِهَا لاَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ مُتَحَوِّلَةً مُتَبَدِّلَةً خَاصَّةً وَأَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مَخَلُوقَةٌ لاَ حَيَاةَ لَهَا وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالذَّاتِ ، لاَ تَشْفَعُ عِنْدَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا. فَهْيَ لاَ تُبْدِيءُ وَلاَ تُعِيدُ. حَتَّى إِذَا اسْتُجِيبَ لَهُ كَانَ مِنَ الذَّاتِ فِي الذَاتِ فَسَأَلَ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَانْقَشَعَ عَنَهُ حِجَابُ الصِّفَاتِ فَأَدْرَكَ وُجُودَ الذَّاتِ حَقِيقَةً وَأَبْصَرَهَا خَلِيقَةً حَيْثُ <<لاَ يَرَى اللَّهَ إِلاَّ اللَّهُ>> وَ<<الطُّيُورُ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ>> فَمَاتَتِ النَّفْسُ عَنْ نَفْسِهَا لِقَوْلِهِ: <<وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي>> غِيَابًا كَامِلاً دَائِمًا فِي سِرِّ قُدْسِهَا القَدِيمِ بِغِيَابِ ظِلِّ الكَوْنِ العَدِيمِ ، وَامِّحَاءِ حَيِّزِ وَحُدُودِ الأَيْنِ ، وَاحْتِرَاقِ حِجَابِ الغَيْنِ ، فَتُشْرِقُ أَرْضُ ["أَنَا" حَاضِرِ الشُّهُودِ المُشْرِقْ] بِنُورِ رَبِّهَا [سِرِّ "إِنِّي" غَيْبِ الوُجُودِ المُطْلَقِ] فَلاَ يَحِقَّ وَلاَ يَتَحَقَّقَ إِلاَّ اللَّهُ [<<إِنَّنِي أنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا>>14 طه.] فَتَنْبَعِثَ النَّفْسُ عِنْدَئِذٍ بِسِرِّ قُدْسِهَا وَأَنْوَارِ وَصِفَاتِ أُنْسِهَا. وَلِذَلِكَ طَلَبَ إِدَامَةَ هَذِهِ الحَالِ وَجَعْلَهَا مَقَامًا ثَابِتًا وَشَأْنًا ذَاتِيًّا إِلَهِيًّا كَامِلاً فَقَالَ: <<وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ>>. فَإِذَا هُوَ مِنَ الذَّاتِ [مِنْكَ] فِي الذَّاتِ غَيْرَ مُحَيَّزٍ فِيهَا ، تَشْمَلُهُ الذَّاتُ بِرِعَايَتةٍ مِنْهَا [مِنْكَ] مِنْ حَيْثُ حَيَاةُ الذَّاتِ وَقَيُّومِيَّتُهَا. وفي هَذَا المَقَامِ يَكُونُ نَظَرُ الصِّفَةِ/المَخْلُوقِ بِنُورِ الذَّاتِ/اللَّهِ ، فَتَرَى العَيْنُ عَيْنَهَا بِالبَصَرِ نُورًا وَبِالقَلْبِ حُضُورًا وَبِبَصِيرَةِ الرُّوحِ سِرًّا مَسْتُورًا. وَذَلِكَ مَطْمَحُ قَوْلِهِ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> وَهْوَ مَطْلَبٌ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ النَّفْسِ نَفْسَهَا بِغِيَابِهَا فِي نَفْسِ اللَّهِ أَوْ قَلْ ذَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ مَفَادُ دُعَائِهِ: <<وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي>> فَيَكُونُ قَائِمًا فِيهَا بِهَا غَائِبًا فِيهَا عَنْ نَفْسِهِ لاَ حَظَّ لَهُ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لَهَا. فَلَوْ غَابَ فِيهَا عَنْهَا لَمْ يَصِحُّ طَلَبُهُ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>>. وذَلِكَ مُقْتَضَى السَّيْرِ الصُّوفِيِّ الخَالِصِ الَّذِي عَنَاهُ أَبُو مَدْيَن حِينَ قَالَ: <<السَّالِكُ ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَالعَارِفُ ذَاهِبٌ فِيهِ>> بِمَعْنَى أَنَّ صَيْرُورَةَ الذَّاكِرِ حَتَّى يُصْبِحَ عَارِفًا وَصُوفِيًّا كَامِلاً إِنَّمَا هِيَ صَيْرُورَةٌ ذَاتِيَّةُ يُنْجِزُهَا المُرِيدُ تَحَوُّلاً عَبْرَ مَسِيرَةِ السُّلُوكِ بِالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالمُذَاكَرَةِ حَتَّى يَصِيرَ اللَّهُ [عَيْنَهُ الَّتِي بِهَا يَرَى وَأُذْنَهُ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيَدَهُ الَّتِي بِهَا يَبْطُشُ وَرِجْلَهُ الَّتِي بِهَا يَسْعَى] الحَدِيثُ القُدُسِيُّ المَشْهُورُ. فَيَفْنَى مَا هُوَ خَلْقٌ وَيَبْقَى مَا هُوَ حَقٌّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَعْذِرَةً عَلَى الإِطَالَةِ!
سرّي خمّاري في الأربعاء 24 يونيو 2009 - 18:38
أَهْلَ وِدِّي الأَفَاضِلَ!
أَتْحَفَكُمْ اللَّهُ بِأَبْكَارِ المَعَانِي الحُور ، المَقْصُورَاتِ فِي خِيَامِ النُّور ، وَجَعَلَكُمْ عَلَى خَزَائِنِ الوُجُودِ تَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَ السِّرِّ المَسْتُور ، بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ ، إِنَّهُ هُوَ الحَمِيدُ الشَّكُور!
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتْبَعَ قَلْبِي فِي تَأْوِيلِ الفَقْرَةِ التَّالِيَةِ مِنْ "مِرْآةِ الذَّكِرِينَ فِي مُنَاجَاةِ رَبِّ العَالَمِينَ" مُسْتَحْضِرًا قَوَاعِدَ العَرَبِيَّةِ نَحْوًا وَصَرْفًا وَتَرْكِيبًا وَبَلاَغَةً وَرَسْمًا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ فَقِهَ مَعَانِي حُرُوفِ الجَرِّ فَقَدْ فَقَهَ أَسْرَارَ العَرَبِيَّةَ. وَلَعَلَّ الإِخْوَةَ الكِرَامَ يَجِدُونَ فِي مَا يَلِي تَعْقِيبًا عَلَى بَعْضِ آرَائِهِمْ أَرْجُو أَنْ تَتَّسِعَ لَهُ صُدُورُهُمْ ، أَسْأَلُ لِي وَلَكُمْ كَامِلَ التَّوْفِيقِ. آمِينَ!
<< إلَهِـي! إِنَّ بِدَايَةَ الخِذْلاَنِ الغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتَكَ هِيَ بَذْرَةُ العِلَّةِ ، فَأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُنِي عَنْكَ وَيُبْعدُنِي مِنْكَ ، وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ ، وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ ، وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ ، وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي ، وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ وَأَنْتَ تَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يَا رَبَّ العَالَمِين! >>.
* شَرْحُ الأَلْفَاظِ :
- الغَفْلَةُ : من غَفَلَ يَغْفُلُ غُفُولاً وَغَفْلَةً عَنِ الشَّيْءِ = سَهَا عَنْهُ وَلَمْ يَفْطُنْ لَهُ.
* شَرْحُ المَعَانِي :
الغَفْلَةُ المَعْنِيَّةُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ هِيَ الغَفْلَةُ عَنِ اللَّهِ. وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ : غَفْلَةٌ عَنِ الذِّكْرِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الحُضُورِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الشُّعُورِ. وَمِنَ الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ فِي هَذَا البَابِ: <<الذِّكْرُ غَايَتُهُ الحُضُورُ ، وَالحُضُورُ عَتَبَةُ الشُّعُورِ>>. وَعَلَيْهِ :
- فالصِّنْفُ الأَوَّلُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ البِدَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ اللِّسَانِ. حَيْثُ يَتْرُكُونَ الذِّكْرَ إِلَى اللَّغْوِ وَالنِّسْيَانِ. <<وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً>>142 النّساء. <<نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ>>19 الحشر.
- وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِلسَّائِرِينَ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ الجَنَانِ ، أَيْ أَهْلُ مَقَامِ الحُضُورِ. وَإِنَّ الحُضُورَ حَالُ الذَّاكِرِ فِي مُرَاقَبَةِ ذَاتِ الحَقِّ مِنْ خِلاَلِ مُشَاهَدَةِ صِفَاتِ الخَلْقِ. فَهْوَ إِذَنْ يَسْتَبْقِي مِسَافَةَ المُرَاقَبَةِ مَهْمَا قَصُرَتْ وَشَفَّتْ. وَلِهَذَا فَالحُضُورُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ مَقَامِ الفَرْقِ. يَبْدَأُ حُضُورًا لِلْمَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا مَعَ المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا فِي المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا بِالمَذْكُورِ. وَهْوَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَسْتَشْرِفُ سِرَّ الذَّاتِ مُعَظِّمًا ومُقَدِّسًا لَهَا. وَأَثْنَاءَ تِلْكَ التَّحَوُّلاَتِ يُخْشَى عَلَى السَّائِرِ أَنْ تَتَكَاثَفَ عَلَى بَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ حُجُبٌ مِنَ الصِّفَاتِ الظُّلْمَانِيَّةِ وَالنُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى تَجَاوُزِهَا مُؤَنَّسًا بِاللَّهِ لِيَخْرُجَ مِنْ ظُلُمَاتِ لَيْلِهَا وَبَحْرِهَا وَبَطْنِ حُوتِهَا وَلِيَهْزِمَ سَحَرَةَ فِرْعَوْنِهَا فِي ضُحَى يَوْمِ زَينَتِهَا. <<لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ>>88 القِصَصُ.
- وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ النِّهَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الوِجْدَانِ وَهُمْ أَهْلُ مَقَامِ الشُّعُورِ. فَعَمَلُ أَهْلِ البِدَايَةِ ، ذِكْرُ اللِّسَانِ ، وَكُلُّ حَالاَتِ أَهْلِ الحُضُورِ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، تَجْتَمِعُ مَعًا لَدَى العَارِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ وَحُضُورُهُ فِي نَفْسِ الوَقْتِ لِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ فَلاَ يَحْجُبُهُ فَرْقُهُ عَنْ جَمْعِهِ وَلا جَمْعُهُ عَنْ فَرْقِهِ. وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ حُضُورُهُ عَتَبَةً يَتَجَاوَزُهَا إِلَى الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ وَبَقَاءُ الذَّاكِرِ حَيَاةً وَبَقَاءً لِلَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اللَّهِ بِاللَّهِ. وَذَلِكَ مَفَادُ الحَدِيثِ :<<مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الحَيِّ وَالمَيِّتِ>>.فَإِذَا الفَرْقُ عَيْنُ الجَمْعِ وَإِذَا الفَتْقٌ فَيْضُ الرَّتْقِ <<وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا>>69الزّمر.<<وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ>>115البقرة.<<وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا>>137 ق. فَصَاحِبُ هَذَا المَقَامِ مُوَحِّدٌ لاَ يُرَاوِدُهُ وَهْمُ الغَيْرِيَّةِ.
عَلَى هَذَا الأَسَاسِ ، أَكَّدَ الشَّيْخُ فِي مُنَاجَاتِهِ أَنَّ الغَفْلَةَ مِفْتَاحُ العِلَّةِ وَمُبْتَدَأُ مَوْتِ القَلْبِ. وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ كُلِّ شَاغِلٍ عَنِ اللَّهِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ نَاظِرٍ بِنُورِ الشُّهُودِ غَيْرَ شَاعِرٍ بِحَقِيقَةِ الوُجُودِ فَيَكُونُ مِمَّنْ <<لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمُ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمُ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ>>179 الأعراف. وَمِمَّنْ <<يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ>>7 الرّوم. وَأَمَّا ذَاتُهُ <<فَهْيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٌ مُعَطَّلَةٌ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ>>45 الحجّ. وَحَيْثُ صَحَّ <<قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه>>84 الإسراء ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ أَهْلُ الصِّفَاتِ غَيْرُ المُحَقِّقِينَ الَّذِينَ حُجِبُوا عَنْ سِرِّ الذّاتِ بِظُلُمَاتِ وَأَنْوَارِ الظَّاهِرِ ، أَوْ لِنَقُلْ بِسَرَابِ الصِّفَاتِ. فَهُمْ سُكَارَى مُخَدَّرُونَ بِِسَكْرَةِ الحِسِّ ، عَلَى رَأْيِ العَلاَوِي ، لاَ بِخَمْرِ القُدْسِ. قَدْ هَمَدَتْ بَوَاطِنُهُمْ ، فَهُمْ لاَ يَتَعَامَلُونَ إِلاَّ عَلَى مُسْتَوَى انْفِعَالِ الجَوَارِحِ لِلْمُؤَثِّرَاتِ المَادِّيَّةِ. مَفْعُولاً بِهِمْ غَيْرَ فَاعِلِينَ <<أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ>>21 النّحل. وَدَفْعًا لِكُلِّ تِلْكَ المَهَالِكِ اسْتَعَاذَ مِنْ وَهْمِ البُعْدِ وَالاِنْفِصَالِ وَمِنَ الحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ وَالظُّلْمَانِيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا صِفَاتُ الحَقِّ وَمِنْهَا صِفَاتُ الخَلْقِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فِي الحَقِيقَة صِفَاتُ اللَّهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ ، كَمَا سَنَرَى لاَحِقًا.
وَحَيْثُ أَنَّ الغَفْلَةَ أَرْضٌ مُهَيَّأَةٌ لِبَذْرَةِ المَعْصِيَةِ فَإِنَّ عَلِيلَ المَعْصِيَةِ عَلَى شَفَا الخِذْلاَنِ يُوشِكُ أَنْ يَهْلَكَ إِلاَّ أَنْ تَتَدَارَكَهُ العِنَايَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَجَاوَزَ تِلْكَ الحُجُبَ الظُّلْمَانِيَّةَ وَالنُّورَانِيَّةَ مُتَمَسِّكًا بِشَرِيعَةِ الطَّرِيقِ وَمِنْهَاجِ التَّحْقِيقِ. وَالشَّرِيعَةُ لُغَةً هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى بِئْرِ المَاءِ. وَفِي مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ طَرِيقٌ وَمِنْهَاجٌ إِلَى الحَقِّ. وَمَاءُ البِئْرِ المَوْرُودُ هُوَ سِرُّ الوُجُودِ الكَامِنِ كُمُونَ المَاءِ فِي غَيْبِ السَّمَاءِ وَفِي بَاطِنِ الأَرْضِ وَالَّذِي بِهِ الحَيَاةُ الحَقُّ <<وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ>>30 الأنبياء. وَعَلَيْهِ فَكُلُّ طَرِيقٍ أَوْ مَسْلَكٍ لاَ يُؤَدِّي إِلَى مَاءِ بِئْرٍ مَوْرُودٍ لاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ شَرِيعَةً. وَكُلُّ شَرِيعَةٍ لاَ تُؤَدِّي إِلَى سِرِّ حَقِيقَةِ الوُجُودِ فَإِنَّمَا هِيَ ضَلاَلَةٌ.
وَحَيْثُ أَنَّ الذَّاتَ ، لُغَةً ، هِيَ ظَاهِرُ عَيْنِ الشَّيْءِ بِمُقَابِلِ بَاطِنِهِ وَمَعْنَاهُ. مِثَالُ ذَلِكَ كُلُّ كَائِنٍ حَيٍّ. فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الجَسَدُ ذَاتٌ حِسِّيَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَمِنْ حَيْثُ الرُّوحُ سِرٌّ غَيْبِيٌّ بَاطِنٌ. وَبِاعْتِبَارِ عِلْمِ النَّحْوِ فَإِنَّ "اسْمَ الذَّاتِ" مَا يَقَعُ عَلَى ذَاتٍ كَالرَّجُلِ وَالأَسَدِ. وَإِنَّ "اسْمَ المَعْنَى" مَا يَقَعُ عَلَى مَعْنَوِيٍّ كَالعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالكَرَمِ. وَحَيْثُ أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَحْمَدُ زَرُّوق فِي قَوَاعِدِهِ ، هِيَ <<مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَتُهُ>> فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كُلِّيَتُهُ المُحَصَّلَةُ جَمْعًا ، غَيْبًا وَشَهَادَةً ، وَوَحْدَةً قَائِمَةً مَوْجُودَةً مَشْهُودَةً مِنْ حَيْثُ مَدْلُولاَتُ اسْمَيْهِ "الظَّاهِرُ" وَ"البَاطِنُ". وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الذَّاتَ الإِلَهِيَّةَ مَوْجُودَةٌ مَشْهُودَةٌ لاَ يَحْجِبُهَا شَيْءٌ : <<قُلَ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*>> 19الأنعام. وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ ، دَعَا الشَّيْخُ اللَّهَ فَقَالَ: <<وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ>> وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ سَيْرَهُ مُؤَدِّيًا رَأْسًا إِلَى التَّحَقُّقِ بِسِرِّ تَوْحِيدِ اللَّهِ الحَيِّ الكَامِنِ فِي بَاطِنِ كُلِّ الوُجُودِ ، وَالقَيُّومِ الظَّاهِرِ بِجَمِيعِ أَنْوَارِ وَصِفَاتِ الشُّهُودِ.
وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ تُسْقَى جَمِيعُهَا بِمَاءٍ واحِدٍ هُوَ مَاءُ الحَيَاةِ الدَّافِقِ مِنْ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الأُكْلِ ، فَإِنَّ ذَاتَ الوُجُودِ المَعْنِيَّةَ بِاسْمِ اللَّهِ "الظَّاهِرُ" تَسْقِي جَمِيعَ صِفَاتِهَا المَعْنَوِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي المَخْلُوقَاتِ بِسِرٍّ وَاحِدٍ هُوَ المُتَمَثِّلُ فِي الرُّوحِ الَّذِي نَفَخَهُ اللَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ مِنْ رُوحِهِ وَسِرِّ وُجُودِهِ فِي طِينَةِ ظُهُورِهِ وَشُهُودِهِ بِحَيْثُ أَبْدَى غَيْبَ ذَاتِهِ بِشُهُودِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي كَسَاهَا حُلَلَ أَنْوَارِ أَفْعَالِهِ وَصَفَاتِهِ <<كُنْتُ كَنْزًا خَفِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَبِي عَرَفُونِي>>حديث قدسي.
وَحَيْثُ أَنَّ مِنَ الصِّفَاتِ ظُلْمَانِيَّةٌ كَافِرَةٌ تَجْحَدُ اللَّهَ ، وَأُخْرَى نُورَانِيَّةٌ مُؤْمِنَةٌ مُحْسِنَةٌ تَشْهَدُ وَتُشْهِدُ اللَّهَ، عَلَى غِرَارِ آيَتَيْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، سَأَلَ الشَّيْخُ اللَّهَ أَنْ يَكْسُوَهُ أَنْوَرَ وَأَقْدَسَ حُلَلِ شُهُودِهِ الصِّفَاتِيِّ فَقَالَ: <<وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ >>. حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ الجَمْعِ قَائِمًا للَّهِ فِي اللَّهِ دَالاًّ عَلَيْهِ بِهِ. وَلِهَذَا طَلَبَ التَّمْكِينَ. وَكُلُّ مُمَكَّنٍ يَتَطَلَّبُ مَكَانًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ أَيْ مُسْتَقَرٌّ يُهَيْمِنُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وُجُودًا وَلاَ شُهُودًا. فَقَالَ الشَّيْخُ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَطَلَبَ الثَّبَاتَ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ فِيهَا بِهَا وَشُهُودٌ مِنْهَا لَهَا حَتَّى لاَ يَنْحَجِبَ عَنْ حَقِيقَةِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ حَقِيقَتِهِ وَبَدُّهُ اللاَّزِمُ مُوَافَقَةً لِابْنِ سَبْعِينَ.
وَالحُجُبُ ثَلاَثَةٌ : - حُجُبٌ نَفِسِيَّةٌ. وَحُجُبٌ كَوْنِيَّةٌ. وَحُجُبٌ إِلَهِيَّةٌ. وَلاَ يُمْكِنُ خَرْقُ الحُجُبِ الكَوْنِيَّةِ ثُمَّ الإِلَهِيَّةِ إِلاَّ بِخَرْقِ الحُجُبِ النَّفْسِيَّةِ وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ النَّفْسِ الجُزْئِيَّةِ ، حِسًّا وَمَغْنًى ، إِلَى النَّفْسِ الإِلَهِيَّةِ الكُلِّيَّةِ ، وَاللَّهُ يَقُولُ: <<يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَّنِسَاءَ>>1 النّساء. وَالقَائِلُ: <<وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه وَإِلَيْهِ المَصِيرُ>>28 آل عمران. ثُمَّ بِإِرْجَاعِهَا رُوحًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَى اللَّهِ الَّذِي نَفَخَهَا مِنْ رُوحِهِ فِي طِينَةِ التَّكْوِينِ وَالتَّلْوِينِ. وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ ذَوْقًا وَحَقًّا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: <<إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاتِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرْءَانِ وَمَنَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ >>111 التَّوْبَة. وَإِنْجَازُ هَذِهِ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ مَوْتَ النَّفْسِ بِالكُلِّيَّةِ. فَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: <<أَعْدَى أَعْدَائِكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ>> وَلَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ربَّهُ: <<كَيْفَ الوُصُولُ إِلَيْكَ يَا رَبِّ؟>> اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَوْتَ النَّفْسِ فَقَالَ: <<أُتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ>>. فَقَوْلُ الشَّيْخِ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> طَلَبَ بِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَبِذَاتِ اللَّهِ ثَابِتًا مُمَكَّنًا فِيهَا وَبِهَا لاَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ مُتَحَوِّلَةً مُتَبَدِّلَةً خَاصَّةً وَأَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مَخَلُوقَةٌ لاَ حَيَاةَ لَهَا وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالذَّاتِ ، لاَ تَشْفَعُ عِنْدَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا. فَهْيَ لاَ تُبْدِيءُ وَلاَ تُعِيدُ. حَتَّى إِذَا اسْتُجِيبَ لَهُ كَانَ مِنَ الذَّاتِ فِي الذَاتِ فَسَأَلَ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَانْقَشَعَ عَنَهُ حِجَابُ الصِّفَاتِ فَأَدْرَكَ وُجُودَ الذَّاتِ حَقِيقَةً وَأَبْصَرَهَا خَلِيقَةً حَيْثُ <<لاَ يَرَى اللَّهَ إِلاَّ اللَّهُ>> وَ<<الطُّيُورُ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ>> فَمَاتَتِ النَّفْسُ عَنْ نَفْسِهَا لِقَوْلِهِ: <<وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي>> غِيَابًا كَامِلاً دَائِمًا فِي سِرِّ قُدْسِهَا القَدِيمِ بِغِيَابِ ظِلِّ الكَوْنِ العَدِيمِ ، وَامِّحَاءِ حَيِّزِ وَحُدُودِ الأَيْنِ ، وَاحْتِرَاقِ حِجَابِ الغَيْنِ ، فَتُشْرِقُ أَرْضُ ["أَنَا" حَاضِرِ الشُّهُودِ المُشْرِقْ] بِنُورِ رَبِّهَا [سِرِّ "إِنِّي" غَيْبِ الوُجُودِ المُطْلَقِ] فَلاَ يَحِقَّ وَلاَ يَتَحَقَّقَ إِلاَّ اللَّهُ [<<إِنَّنِي أنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا>>14 طه.] فَتَنْبَعِثَ النَّفْسُ عِنْدَئِذٍ بِسِرِّ قُدْسِهَا وَأَنْوَارِ وَصِفَاتِ أُنْسِهَا. وَلِذَلِكَ طَلَبَ إِدَامَةَ هَذِهِ الحَالِ وَجَعْلَهَا مَقَامًا ثَابِتًا وَشَأْنًا ذَاتِيًّا إِلَهِيًّا كَامِلاً فَقَالَ: <<وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ>>. فَإِذَا هُوَ مِنَ الذَّاتِ [مِنْكَ] فِي الذَّاتِ غَيْرَ مُحَيَّزٍ فِيهَا ، تَشْمَلُهُ الذَّاتُ بِرِعَايَتةٍ مِنْهَا [مِنْكَ] مِنْ حَيْثُ حَيَاةُ الذَّاتِ وَقَيُّومِيَّتُهَا. وفي هَذَا المَقَامِ يَكُونُ نَظَرُ الصِّفَةِ/المَخْلُوقِ بِنُورِ الذَّاتِ/اللَّهِ ، فَتَرَى العَيْنُ عَيْنَهَا بِالبَصَرِ نُورًا وَبِالقَلْبِ حُضُورًا وَبِبَصِيرَةِ الرُّوحِ سِرًّا مَسْتُورًا. وَذَلِكَ مَطْمَحُ قَوْلِهِ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> وَهْوَ مَطْلَبٌ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ النَّفْسِ نَفْسَهَا بِغِيَابِهَا فِي نَفْسِ اللَّهِ أَوْ قَلْ ذَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ مَفَادُ دُعَائِهِ: <<وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي>> فَيَكُونُ قَائِمًا فِيهَا بِهَا غَائِبًا فِيهَا عَنْ نَفْسِهِ لاَ حَظَّ لَهُ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لَهَا. فَلَوْ غَابَ فِيهَا عَنْهَا لَمْ يَصِحُّ طَلَبُهُ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>>. وذَلِكَ مُقْتَضَى السَّيْرِ الصُّوفِيِّ الخَالِصِ الَّذِي عَنَاهُ أَبُو مَدْيَن حِينَ قَالَ: <<السَّالِكُ ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَالعَارِفُ ذَاهِبٌ فِيهِ>> بِمَعْنَى أَنَّ صَيْرُورَةَ الذَّاكِرِ حَتَّى يُصْبِحَ عَارِفًا وَصُوفِيًّا كَامِلاً إِنَّمَا هِيَ صَيْرُورَةٌ ذَاتِيَّةُ يُنْجِزُهَا المُرِيدُ تَحَوُّلاً عَبْرَ مَسِيرَةِ السُّلُوكِ بِالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالمُذَاكَرَةِ حَتَّى يَصِيرَ اللَّهُ [عَيْنَهُ الَّتِي بِهَا يَرَى وَأُذْنَهُ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيَدَهُ الَّتِي بِهَا يَبْطُشُ وَرِجْلَهُ الَّتِي بِهَا يَسْعَى] الحَدِيثُ القُدُسِيُّ المَشْهُورُ. فَيَفْنَى مَا هُوَ خَلْقٌ وَيَبْقَى مَا هُوَ حَقٌّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَعْذِرَةً عَلَى الإِطَالَةِ!
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 70
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
السلام عليكم أيها الأحبة الكرام
سيدي سري خماري بارك الله فيكم وجعل ما تكتبونه في منتدى الصفاء صفاء لا كدرة فيه
لقد أمتعتمونا أنت وسيدي علي بشروحكم ومفاهيمكم حتى أن البعض من الفقراء اقترحوا عليكما مواصلة هذا الشرح لمرآة الذاكرين
وكما ذكرتم فهذه دعوتم لكل من يجد مفهوما أو إشارة أو بيانا يشحذ به الهمم.
وإن في هذه الوسيلة الجامعة والميسرة إشارة للإذن من الله لخوض هذا الميدان وإخراج تركة ناصعة بيضاء لدى أبناء سيدنا الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنه.
وقل كل من عند الله.
سيدي سري خماري بارك الله فيكم وجعل ما تكتبونه في منتدى الصفاء صفاء لا كدرة فيه
لقد أمتعتمونا أنت وسيدي علي بشروحكم ومفاهيمكم حتى أن البعض من الفقراء اقترحوا عليكما مواصلة هذا الشرح لمرآة الذاكرين
وكما ذكرتم فهذه دعوتم لكل من يجد مفهوما أو إشارة أو بيانا يشحذ به الهمم.
وإن في هذه الوسيلة الجامعة والميسرة إشارة للإذن من الله لخوض هذا الميدان وإخراج تركة ناصعة بيضاء لدى أبناء سيدنا الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنه.
وقل كل من عند الله.
أبو أويس- عدد الرسائل : 1548
العمر : 64
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
سيدي سري خماري أضم صوتي لصوت سيدي أبو أويس في مواصلة هاته النفحات الإلاهية
ولو تتكرموا علينا بمواصلة شروح ما يخص الطريقة الإسماعيلية صحبة سيدي أبو أويس وسيدي علي وسيدي سلطان وهذا ليس إطراء ولكن الحقيقة تقال.
ولا يفوتني أن أشيد بدور باقي الإخوة.
ودمتم نجوما في طريق الهدى
ولو تتكرموا علينا بمواصلة شروح ما يخص الطريقة الإسماعيلية صحبة سيدي أبو أويس وسيدي علي وسيدي سلطان وهذا ليس إطراء ولكن الحقيقة تقال.
ولا يفوتني أن أشيد بدور باقي الإخوة.
ودمتم نجوما في طريق الهدى
عادل- عدد الرسائل : 102
العمر : 51
تاريخ التسجيل : 25/01/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
عادل كتب:سيدي سري خماري أضم صوتي لصوت سيدي أبو أويس في مواصلة هاته النفحات الإلاهية
ولو تتكرموا علينا بمواصلة شروح ما يخص الطريقة الإسماعيلية صحبة سيدي أبو أويس وسيدي علي وسيدي سلطان وهذا ليس إطراء ولكن الحقيقة تقال.
ولا يفوتني أن أشيد بدور باقي الإخوة.
ودمتم نجوما في طريق الهدى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كذلك أضم صوتي للإخوة
لأن الذي يقولونه لا يوجد عند غيرهم
وهذا سرّ مولانا الإمام قدس الله روحة ساري في أبنائه
وكم أعجبني إختيار الكنية لأخينا سري خماري.
وهذا السر لا يكون إلا من الخمار.
كما لاحظت تقلص المشاركات هاته الأيام ولعل ذلك نتيجة العطلة والسياحات الصيفية.
بارك فيكم إخوتي الأفاضل
أمة الله- عدد الرسائل : 92
العمر : 51
تاريخ التسجيل : 23/04/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
الأَخَوَيْنِ الكَرِيمَيْنِ عَادِلَ وَأَمَةََ اللَّـهِ ،
زَادَكُمَا اللَّهُ نُورًا .. وَأَفَاضَ عَلَيْكُمَا مَزِيدًا مِنْ أَسْرَارِهِ ..
...
سَنُوَاصِلُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْنِهِ اسْتِلْهَامَنَا مِنْ نُورِ شَيْخِنَا إِسْمَاعِيلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ..
وَسَنَظَلُّ نَقْتَفِي آثَارَهُ مُتَعَرِّضِينَ لِنَفَحَاتِ سِرِّهِ وَسَحَائِبِ خَمْرِهِ فِي مُنَاجَاتِهِ الكَرِيمَةِ "مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ" ..
وَلَكِـــــــــنْ ، رَجَائِي أَنْ يُدْلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الإِخْوَةِ بِدَلْوِهِ عَسَى أَنْ تَتَحَرَّكَ الهِمَمُ وَنَشْرَبَ مِنْ أَكْوَابِهِمْ شَرَابَ أَهْلِ الصَّفَاءِ ،
فَأَلْسِنَةُ الخَلْقِ أَقْلاَمُ البَارِي .. وَالمَعْرِفَةُ إِرْثُ مُشَاعٌ بَيْنَ المُخْلِصِينَ مِنْ أَهْلِ النِّسْبَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنَّا بِهِمْ ..
"وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" ...
زَادَكُمَا اللَّهُ نُورًا .. وَأَفَاضَ عَلَيْكُمَا مَزِيدًا مِنْ أَسْرَارِهِ ..
...
سَنُوَاصِلُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْنِهِ اسْتِلْهَامَنَا مِنْ نُورِ شَيْخِنَا إِسْمَاعِيلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ..
وَسَنَظَلُّ نَقْتَفِي آثَارَهُ مُتَعَرِّضِينَ لِنَفَحَاتِ سِرِّهِ وَسَحَائِبِ خَمْرِهِ فِي مُنَاجَاتِهِ الكَرِيمَةِ "مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ" ..
وَلَكِـــــــــنْ ، رَجَائِي أَنْ يُدْلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الإِخْوَةِ بِدَلْوِهِ عَسَى أَنْ تَتَحَرَّكَ الهِمَمُ وَنَشْرَبَ مِنْ أَكْوَابِهِمْ شَرَابَ أَهْلِ الصَّفَاءِ ،
فَأَلْسِنَةُ الخَلْقِ أَقْلاَمُ البَارِي .. وَالمَعْرِفَةُ إِرْثُ مُشَاعٌ بَيْنَ المُخْلِصِينَ مِنْ أَهْلِ النِّسْبَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنَّا بِهِمْ ..
"وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" ...
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 70
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شدّتني هاته النفحات الإلاهية وأحسب أنها قريبة العهد من رب العزة
وإني أنتظر منكم المزيد فهذا مما عزّ في هذا الزمان...
رضوان- عدد الرسائل : 228
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 11/12/2007
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
[justify]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالاَهُ .
عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ ، نُوَاصِلُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَكَارِمُ ، التَّعَرُّضَ لِنَفَحَاتِ اللَّهِ بِالإِسْتِرْوَاحِ فِي مُنَاجَاةِ مَوْلاَنَا الإمَامِ إِسْمَاعِيلِ الهَادِفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المُسَمَّاةُ : "مِرْآةُ الذَّاكِرِينَ" رَجَاءَ أَنْ نَسْتَوْفِي مَعًا شَرْحَهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهِ فِي ظِلِّ هِمَمِكُمْ العَالِيَةِ وَأَذْوَاقِكٌمْ الصَّافِيَة ، وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ، فأقُولِ ، وَما التّوْفِيقُ إِلاَّ بِاللهِ :
<<نَسْتَمِدُّ مِنَ اللَّهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، الحَوْلَ وَالقُوَّةَ ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُعْظِمَ حَظَّنَا مِنْ أَسْرَارِ العِلْمِ وَأَنْوَارِ الفَهْمِ وَيَشْرَحَ صُدُورَنَا وَيُيَسِّرَ أُمُورَنَا وَيَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ أَلْسِنَتِنَا بِبَسْطِ العِبَارَةِ فِي شَرْحِ مُنَاجَاةِ شَيْخِنَا وَقُدْوَتِنَا إِسْمَاعِيلِ الهَادِفِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ، وَهْيَ المُسَمَّاةُ "مِرْآةُ الذَّاكِرِينَ فِي مُنَاجَاةِ رَبِّ العَالَمِينَ".
فَقَدِ افْتَتَحَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُنَاجَاتَهُ بِالدُّعَاءِ التَّالِي :
<<إِلَهِـي! قَدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْر ِكَرَمِكَ الزَّاخِرِ الَّذِي لاَ يَتَنَاهَى فَاحْرُسْنِي فِيهَا حَتَّى لاَ أَطْغَى بِهَا وَثَبِّتْهَا لَدَيَّ بِتَوْفِيقِي لِشُكْرِكَ عَلَيْهَا فَأَرَاهَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ وَأَكُونُ فِيهَا دَاعِيًا بِكَ إِلَيْكَ إِذْ رَحْمَتُكَ جَاءَتْ بِي إِلَيْكَ وَفَضْلُكَ دَلَّنِي عَلَيْكَ ، وَالكَرِيمُ إذَا أَعْطَى أَجْزَلَ العَطَاءَ وَرَفَعَ عَنْ عَظيمِ آيَاتِ جُودِهِ الغِطَاءَ ، وَكَيْفَ لاَ وَأَنْتَ أَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ؟!>>.
* شَرْحُ الأَلْفَاظِ :
إلهي! : اِسْمٌ عَلَمٌ خَاصٌّ بِالذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ الوَاجِبَةِ الوُجُودِ. جَاءَ هُنَا مُنَادَى وَقَدْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ يَاءُ النِّسْبَةِ فَوَقَعَ التَّعْرِيفُ بِالإِضَافَةِ. وَ"إِلَهٌ" اِسْمٌ مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ أُلُوهَةً وَإِلَهَةً وَأُلُوهِيَّةً. وَ"أَلِهَ" اللََّهُ = حَيَّرَ العُقُولَ وَالأَلْبَابَ. وَ"أَلِهَ" العَبْدُ = عَبَدَ اللَّهَ.
* شَرْحُ المَعَانِي :
نِدَاءٌ تَوَجَّهَ بِهِ إِلى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ خُصُوصِيَّةِ النِّسْبَةِ المُشَارِ إِلَيْهَا بِاليَاءِ آخِرَ كَلِمَةِ "إِلَهِي". وَحَيْثُ أَنَّ اللَّهَ مُطْلَقُ الوُجُودِ وَهُوَ "الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ" ، فَقَدْ انْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَوْ يَطْرَأَ عَلَى وُجُودِهِ غَيْرٌ وِفْقَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ :<<كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ>>البخاري ، باب : بدء الخلق. وَتَأَكَّدَ تَبَعًا لِذَلِكَ أَلاَّ مَوْجُودَ فِي وُجُودِ اللَّهِ إِلاَّ وَهُوَ مِنْهُ وَفِيهِ وَبِهِ وَلَهُ ، مِنْهُ أَوَّلاً ، وَلَهُ آخِرًا ، وَبِهِ ظَاهِرًا ، وَفِيهِ بَاطِنًا. يَقُولُ العَارِفُ :
"مَنْ لاَ وُجُودَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ *** فَوُجُودُهُ لَوْلاَهُ عَيْنُ مُحَالِ".
وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ ، وَحَيْثُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الدُّعَاءُ وِجْهَةً عَامَّةً غَيْرَ مُحَدَّدَةٍ ، وَمُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْمَالِ الإِيمَانِ ، وَالإِيمَانُ مُتَعَلِّقٌ أَبَدًا بِغَائِبٍ. وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَبْيِينُ مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَطَبِيعَةِ عَلاَقَةِ الدَّاعِي بِاللَّهِ بِحَسَبِ الدَّاعِي وَبِسَاطِ الدُّعَاءِ بِاعْتِبَارِ مَقَامَاتِ الدِّينِ الثَّلاَثَةِ : الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ.
- الوَجْهُ الأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ مَقَامِ الإِسْلاَمِ عَمَلاً حِسِّيًّا فِي عَالَمِ الشُّهُودِ المُسَمَّى صُوفِيًّا عَالَمَ المُلْكِ وَهْوَ عَالَمُ المَادَّةِ المُتَشَكِّلَةِ الظَّاهِرَةِ بِالصِّفَاتِ الحِسِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ ، المُنْفَعِلَةِ حَرَكَةً بِالقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ. وَهْوَ العَالَمُ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ كُلُّ المُتَجَسِّدَاتِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَجَمَادٍ مَعَ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِهَا مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا وَحَرَكَاتُهَا وُرُتَبُ وُجُودِهَا وَشُهُودِهَا ، وَخُضُوعُهَا جَمِيعِهَا لِلتَّرَاتُبِ مِنْ حَيْثُ قِيمَتُهَا وِفْقَ ضَوَابِطِ الهَيْئَةِ الفِطْرِيَّةِ وَحُظُوظِهَا مِنَ السَّلاَمَةِ خَلْقًا وَتَكْوِينًا جَسَدِيًّا ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ سَلاَمَةُ المَلَكَاتِ وَالقُوَى البَاطِنِيَّةِ <<هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ>>163 آل عمران. وَمِنْ جِهَةِ خُضُوعِهَا كَذَلِكَ لِضَوَابِطِ الحِكْمَةِ مِنْ حَيْثُ الصَّوَابُ وَالخَطَأُ <<رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوَ أَخْطَأْنَا>>286 البقرة. وَانْدِرَاجُهَا تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِحَسِبِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ سُلُوكُهَا طَاعَةً أَوْ عِصْيَانًا عَلَى ضَوْءِ التَّكْلِيفِ <<يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ>>33 محمّد.
وَحَيْثُ أَنَّ الأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِالإِنْسَانِ دِينًا وَتَكْلِيفًا ، فَإِنَّ وِجْهَةَ الإِنْسَانِ فِي عَمَلِهِ تَكُونَ بِحَسَبِ حَظِّهِ مِنَ اللَّهِ. فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ مَحْجُوبًا عَنْ عَالَمَيْ المَلَكُوتِ وَالجَبَرُوتِ قَائِمًا فِي عَالَمِ المُلْكِ كَمُجَرَّدِ جَسَدٍ بَيْنَ أَجْسَادٍ ، مُقِيمًا عَلَى غَفْلَتِهِ ، فِإِنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَرَى شَيْئًا يَنْفَعُهُ وَلاَ شَيْئًا يَضُرُّهُ إِلاَّ مِنْ جُمْلَةِ المُجَسَّدَاتِ المَاثِلَةِ فِي دَائِرَةِ عَالَمِ إِدْرَاكِهِ المَادِّيِّ <<وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ>>12 محمّد. وَمِنْ هُنَا كَانَ تَوَجُّهُ الكَافِرِ إِلَى عِبَادَةِ المَحْسُوسَاتِ مِنْ أَصْنَامٍ وَقُوَى طَبِيعِيَّةٍ. فَإِذَا دَعَا وَنَادَى قَائِلاً <<إِلَهِي>> فَهْوَ لاَ يَعْنِي بِهِ عِنْدَئِذٍ إِلاَّ مَعْبُودًا مُجَسَّمًا مَحْسُوسًا مُحَيَّزًا مِنْ عَالَمِ المُلْكِ ، عَالَمِ المَادَّةِ. وَعَلَى شَاكِلَتِهِ ، كُلُّ المَادِّيِّين وَالعِلْمَانِيِّينَ وَالطَّبِيعِيِّينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ الأُخْرَى.
وَلَكِنْ ، إِذَا كَانَ فِي حِجَابِ المَرْءِ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَافِيَّةِ وَالنُّورِ يُمَكِّنُهُ مِنْ شَيْءٍ وَلَوْ بَسِيطٍ مِنْ تَمَثُّلِ أَرْكَانِ الإِيمَانِ وَسِرِّ الإِحْسَانِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ كَافِرًا خَالِصًا كَامِلَ الظُّلْمَةِ ، بَلْ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الإِيمَانِ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ شَوَائِبِ وَشُبُهَاتِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالخَفِيِّ. وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ عَنَتْهُمُ الآيَةُ: <<وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ>>106 يوسف. فَهَذَا أَيْضًا إِذَا تَوَجَّهَ بِدُعَائِهِ تَوَجَّهَ وِجْهَةً ضَبَابِيَّةً لاَ يَتَبَيَّنُهَا وَلاَ يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ.
- الوَجْهُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ عَالَمِ المَلَكُوتِ هُوَ عَالَمُ المَلاَئِكَةِ وَالجِنِّ وَالأَرْوَاحِ. وَهْوَ المَعْنِيُّ بِمَقَامِ الإِيمَانِ. وَهْوَ غَيْبٌ بِالنَّظَرِ إِلَى عَالَمِ المُلْكِ وَالشَّهَادَةِ. وَهْوَ وَسَطٌ بَيْنَ عَالَمِ المُلْكِ الحِسِّيِّ وَعَالَمِ الجَبَرُوتِ الغَيْبِيِّ المُسَمَّى أَيْضًا بِعَالَمِ العَمَى الكُلِّيِّ حَيْثُ "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ". وَلِتَوَسُّطِ عَالَمِ المَلَكُوتِ بَيْنَ عَالَمِ المُلْكِ وَعَالَمِ الجَبَرُوتِ ، اِخْتَلَفَتْ وِجْهَاتُ كَائِنَاتِ عَالَمِ المُلَكُوتِ ، فَمِنْهَا مُتَوَجِّهُونَ إِلَى عَالَمِ المَادَّةِ المَحْسُوسِ يَخُصُّونَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَ مُكَوِّنَاتِهِ بِالعِبَادَةِ ، وَهُمْ فَسَقَةُ الجِنِّ وَالأَرْوَاحِ الكَافِرَةِ. أَمَّا المَلاَئِكَةُ وَالجِنُّ المُؤْمِنُونَ وَالأَرْوَاحُ الإِنْسِيَّةُ المُؤْمِنَةُ فَهِيَ لاَ تَتَوَجَّهُ بِالعِبَادَةِ إِلاَّ إِلَى سِرِّ الجَبَرُوتِ الَّذِي هُوَ غَيْبُ الغَيْبِ تَعْبُدُهُ تَقْدِيسًا وَتَنْزِيهًا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: <<وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ>>30 البقرة. وَعَلَى هَذَا ، اعْتَبَرَ خِطَابُ الشَّرْعِ اللَّهَ تَعَالَى غَيْبًا خَالِصًا عُلْوِيًّا لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ. وَذَلِكَ حِكْمَةً مِنْ مُنَزِّلِ القُرْآنِ لِزَحْزَحَةِ اهْتِمَامِ النُّفُوسِ بِأَنْفُسِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى سِرِّ الوُجُودِ الحَقِّ المُتَنَزِّهِ عَنْ حَيْثِيَّاتِ الحُدُوثِ وَصِفَاتِ الخَلْقِ وَالكَامِلِ فِي مَدَاهُ الأَعْمَقِ وَالأََكْبَرِ وَالأَعْظَمِ وَالأَوْسَعِ وَالأَبْعَدِ وَالأَعْلَى... وَعَلَيْهِ ، فَإِنَّ تَوَجُّهَ أَهْلِ مَقَامِ الإِيمَانِ ، وَأَهْلِ الوَسَطِ مِنْ سَالِكِي طَرِيقِ اللَّهِ ، إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ اسْتِمْدَادٍ. فَهُمْ ، بِاعْتِبَارِهِمْ صِفَاتٍ خَلْقِيَّةً ، يَسْتَمِدُّونَ مِنَ اللَّهِ/الذَّاتِ نُورَهُمْ الظَّاهِرَ وَقُوَاهُمْ الرُّوحِيَّةَ بِمَعْنَى<<لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ كُنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ>>ح.ش.
- الوَجْهُ الثَّالِثُ بِاعْتِبَارِ عَالَمِ الجَبَرُوتِ عَالَمَ السِّرِّ الأَحَدِ المُطَلْسَمِ المَعْرُوفَ صُوفِيًّا بِبَحْرِ القِدَمِ وَالعَمَى الأَزَلِيِّ. وَهْوَ مُتَعَلَّقُ مَقَامِ الإِحْسَانِ بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَلاَ تَرَى مَعَهُ غَيْرًا. وَعَالَمُ الجَبَرُوتِ هَذَا ، هُوَ مَجْمَعُ الصِّفَاتِ الإِلِهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ المَعْنَوِيَّةِ السَّبْعِ مِنْ وُجُودٍ وَقِدَمٍ وَبَقَاءٍ وَقُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ. وَهُوَ بِذَلِكَ عَالَمُ الأَمْرِ. وَمَخْلُوقَاتُهُ هِيَ صِفَاتُهُ الحِسِّيَّةُ <<أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ>>54 الأَعْرَافُ. وَحَيْثُ أَنَّ صِفَاتِهِ الحِسِّيَّةَ "مَخْلُوقَاتِهِ" هِيَ أَنْوَارُهُ الذَّاتِيَّةُ المُنْدَرِجَةُ تَحْتَ اِسْمِهِ "الظَّاهِرُ" ، فَإِنَّهَا لاَ تَقُومُ إِلاَّ بِمَا يُمِدُّهَا بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ المَعْنَوِيَّةِ. وَعَلَيْهِ ، فَإِنَّ تَوَجُّهَهَا هُوَ اسْتِعْدَادُهَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَقِيَامُهَا بِصِفَاتِهِ المَعْنَوِيَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي نِطَاقِ رَحْمَةِ الاِئْتِلاَفِ وَنِعْمَةِ وَحِكْمَةِ الاِخْتِلاَفِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الوَعْيُ بِالوُجُودِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ وَأَحْوَالِهِ لِظُهُورِ الوَحْدَةِ بِالكَثْرَةِ: <<وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ>>119 هود. <<وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ>>15-16 النّحل. لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِ المَفْرُوضَةِ مِنْ لَدُنْهُ عَلَى كَلِّ مُكَوِّنَاتِ عَالَمَيْ المَلَكُوتِ وَالمُلْكِ. فَتَتَّجِهُ إِلَيْهِ كُلُّ أَنْوَارِ وَصِفَاتِ الإِيمَانِ مُلَبِّيَةً عَابِدَةً لَهُ بِإِذْنِهِ وَفَضْلِهِ ، وَتُعْرِضُ عَنْ عِبَادَتِهِ كُلُّ ظِلاَلِ وَصِفَاتِ الكُفْرِ فِي عَالَمَيْ المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِإِذْنِهِ وَعَدْلِهِ. وَهْوَ مَفَادُ قَوْلِهِ تَعَالَى: <<ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ إِيتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ>>11 فصّلت. وَقَوْلِهِ: <<وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ>> 15 الرّعد.
أَمَّا عَالَمُ الجَبَرُوتِ فَلاَ يَتَلَقَّى عَنْهُ إِلاَّ المَلاَئِكَةُ الَّذِينَ يُعْتَبَرُ فِعْلُهُمْ فِعْلاً إِلَهِيًّا صِرْفًا وَهُمْ مُخْلَصُونَ مُنَزَّهُونَ عَنْ العَاطِفَةِ وَالشَّهَوَاتِ <<لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ>>6 التّحريم. وَعَلَى دَرَجَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ دَرَجَةِ المَلاَئِكَةِ ، تَقُومُ الأَرْوَاحُ الصَّافِيَةُ الخَالِصَةُ فِي تَلَقِّيهَا عَنْ عَالَمِ الجَبَرُوتِ عَلَى سَبِيلِ النُّبُوَّةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ وَالإِلْهَامَاتِ الوَاضِحَةِ لِلصَّالِحِينَ الأَتْقِيَاءِ مِثْلَمَا كَانَ الشَّأْنُ مَعَ عُمَرِ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنُزُولِ القُرْآنِ مُوَافِقًا لَهُ.
وَحَيْثُ أَنَّ الأَرْوَاحَ النَّقِيَّةَ ، مِنْ جُمْلَةِ أَرْوَاحِ الإِنْسِ وَالجِنِّ ، عُرْضَةٌ لِلاِنْحِطَاطِ عَنْ أَوْصَافِ القَدَاسَةِ وَالتَّلَوُّثِ بِأَوْصَافِ النَّجَاسَةِ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ حِكْمَةً تَحْتَ اسْمِ الخَطَأِ ، وَشَرْعًا تَحْتَ اِسْمِ المَعْصِيَةِ ، فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ هُمْ وَحْدَهُمْ المُتَّصِفُونَ بِالطَّاعَةِ وَعَدَمِ العِصْيَانِ. وَهُمْ وَحْدَهُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلَ الذَاتِ المُقَدَّسَةِ/اللَّهِ. وَلِهَذَا كَانَ التَّكْلِيفُ لِلْجِنِّ وَالإِنْسِ: <<وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِي>>56 الذَّارِيَات. وَكَانَ الإِشْرَافُ لِلْمَلاَئِكَةِ <<لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ>>6 التّحريم. وَلَهَذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الإِنْسِ وَالجِنِّ أَنْ يُجَاهِدُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَتَشَبَّهُوا بِالمَلاَئِكَةِ وَذَلِكَ مَطْلَبُ جَمِيعِ العِبَادَاتِ ضِمْنَ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ الخَمْسَةِ حَتَّى يَتَأَهَّلُوا لِلتَّلَقِّي عَنِ جَبَرُوتِ الذَّاتِ/اللَّهِ ثُمَّ الفَنَاءِ فِيهِ وَالبَقَاءِ بِهِ لَهُ. وَهَذَا مَقَامُ <<فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُون>>152 البقرة. وَمَقَامُ الأَشْعَثِ الأَغْبَرِ المَدْفُوعِ بِأَبْوَابِ الأَسْبَابِ إِلَى إِطْلاَقِ الجَبَرُوتِ الوَهَّابِ يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ بِاللَّهِ فِي اللَّهِ لِلَّهِ فَيَبَرُّهُ.
بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَأْخُذُ مَعْنَاهُ وَتَوَجُّهَهُ بِحَسَبِ مَقَامَاتِ الدِّينِ الثَّلاَثَةِ : الإِسْلاَمُ وَالإِيمَانًُ وَالإِحْسَانُ.
- فَالدُّعَاءُ لَدَى المُسْلِمِينَ أَهِلِ مَقَامِ الإِسْلاَمِ ، عُمَّارِ عَالَمِ المُلْكِ ، تَوَجُّهٌ مِنَ المَخْلُوقِ إِلَى خَالِقِهِ بِمَعْنَى تَوَجُّهِ الشَّاهِدِ إِلَى الغَائِبِ ، يَسْأَلُهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الطِّينِ وَالمُجَاهَدَةِ. فَهُؤُلاَءِ سَائِرُونَ ، أَهْلُ بِدَايَةٍ ، وَلَهُمْ أَنْوَارُ التَّوَجُّهْ.
- وَالدُّعَاءُ لَدَى أَهْلِ مَقَامِ الإِيمَانِ ، عُمَّارِ عَالَمِ المَلَكُوتِ ، هُوَ تَوَجُّهُ الرُّوحِ المَنْفُوخِ إِلَى صَاحِبِهِ النَّافِخِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، يَسْأَلُونَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ التَّلْوِينِ وَفَرْقِ المُشَاهَدَةِ وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ. فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَحْبَابِهِ السَّائِرِينَ إِلَيْهِ ، أَهْلُ الوَسَطِ ، يَسْأَلُونَهُ رَفْعَ حِجَابِهِ وَالتَّعَرُّفَ إِلَيْهِ بِأَنْوَارِ التَّشَبُّهِ مُتَخَلِّقِينَ بِأَخْلاَقِهِ مُتَأَدِّبِينَ بِآدَابِهِ عَامِلِينَ بِأَسْبَابِهِ.
- وَالدُّعَاءُ لَدَى العَارِفِينَ أَهْلِ مَقَامِ الإِحْسَانِ ، أَهْلِ الفَنَاءِ وَالبَقَاءِ الَّذِينَ انْطَوُوا فِي الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ حِسًّا وَمَعْنًى بَعْدَ مَا حَقُّقُوا فَرْعَهُمْ المَلَكُوتِيَّ الرُّوحِيَّ وَفَرْعَهُمْ المُلْكِيَّ الجَسَدِيَّ بِأَصْلِهِمْ الجَبَرُوتِيِّ الوَاحِدِ الأَحَدِ ، مُنَاجَاةٌ ذَاتِيَّةٌ خَالِصَةٌ. فَهُمْ فِي مَقَامِ فَرْدَانِيَّةِ "سِرُّهُ يَعْبُدُهُ" وَ"لِي وَقْتٌ لاَ يَسَعُنِي فِيهِ إِلاَّ رَبِّي" ، وَهُمْ أَهْلُ المُكَابَدَةِ وَأَنْوَارِ المُجَابَهَةِ المُتَوَلِّهُونَ. إِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ مَقَامُ الإِسْلاَمِ وَشُهُودُهُمْ الجَسَدِيُِّ لَمْ تَرَهُمْ إِلاَّ أَلْسِنَةً لاَهِجَةً بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ يَتَمَلَّقُونَ اللَّهَ الَّذِي مَنَحَهُمْ وُجُودًا فِي وُجُودِهِ وَشُهُودًا فِي شُهُودِهِ فَهُمْ بِهِ إِيَّاهُ يَحْمَدُونَ وَبِهِ لَهُ يَشْكُرُونَ ، وَبِهِمْ يُذْكَرُ وَبِهِ يُذْكَرُونَ :
خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَوَدَّتِي *** وَأُحِسُّ مِنْهَا فِي الفُؤَادِ دَبِيبَا
لاَ عُضْوَ لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَـابَةٌ *** فَكَأَنَّ أَعْضَـائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا
وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ مَقَامُ الإِيمَانِ وَوُجُودُهُمْ الرُّوحِيُّ فِي عَالَمِ المَلَكُوتِ لَمْ تَرَهُمْ إِلاَّ طُيُورَ أَنْوَارٍ ذَاتِيَّةٍ خُضْرًا تَسْرَحُ فِي جَنَّاتِ َالأَسْرَارِ القُدُسِيَّةِ وَتَأْوِي إِلَى غُرَفٍ مُعَلَّقَةٍ بالعَرْشِ مُطْمَئِنَّةً رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.
وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ مَقَامُ الإِحْسَانِ وَسِرُّهُمْ الجَبَرُوتِيِّ لَمْ تَرَهُمْ إِلاَّ أَسْرَارًا فِي سِرِّ اللَّهِ الأَحَدِ. فَهُمْ فِيهِ أَمْوَاتٌ ، لاَ وُجُودَ لَهُمْ فِي وُجُودِهِ وَلاَ شُهُودَ لَهُمْ فِي شُهُودِهِ ، أَفْنَاهُمْ فِيهِ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ غَيْرَةً عَلَى أَحَدِيَّةِ وُجُودِهِ <<كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةٌ المَوْتَ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ>>57 العنكبوت. ثُمَّ أَبْقَاهُمْ فِيهِ بِهِ وَلَهُ إِقَامَةً لِِكَثْرَةِ شُهُودِهِ. فَهُمْ أَسْرَارُهُ وَهُوَ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ البَاطِنُ الجَبَرُوتِيُّ الحَيُّ القَيُّومُ <<اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ>>255 البقرة. وَهُمْ أَنْوَارُهُ وَهُوَ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ المُلْكِيُّ الجَسَدِيُّ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ <<وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ>>111 طه. و<<وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ>>115 البقرة. وَعَلَى مَعْنَى الحَدِيثِ القُدُسِيِّ:<<كُنْتُ كَنْزًا خَفِيًّا فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَبِي عَرَفُونِي>>
إِذَا رُؤُوا ذَكَّرَ بِاللَّهِ مَرْآهُمْ ، وَإِذَا ذُكِرَ ذُكِرُوا؟. أَقَامَهُمْ بِسِرِّ أَسْرَارِهِ وَكَسَاهُمْ حُلَلَ نُورِ أَنْوَارِهِ. فَهُمْ أَهْلُ المُشَاهَدَةِ وَالمُكَابَدَةِ وَهُمْ عِنْدَهُ عَبِيدُهُ ، مِنْهُ وَفِيهِ وَبِهِ وَلَهُ ، وَهُوَ مَلِيكُهُمْ ، مَعَهُمْ وَلَهُمْ :
مَلِكٌ إِذَا عَـايَنْتُ نُورَ جَبِينِـهِ *** فَارَقْتُهُ وَالنُّـورُ فَوْقَ جَبِيـنِي
وَإِذَا لَثَمْتُ يَمِينَهُ وَخَرَجْتُ مِـنْ *** أَبْـوَابِهِ لَثَـمَ المُلُوكُ يَمِيـنِي
فَهَؤُلاَءِ يَأْبَى عَلَيْهِمْ تَوْحِيدُهُمْ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى غَيْرِ ذَاتِهِمْ. فَهُمْ يَطْلُبُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ فِيهَا بِهِمَمِهِمْ العَالِيَةِ الكَامِلَةِ. وَقَدْ رَأَوْا فِي ذَاتِهِمْ سِرَّهُ وَنُورَهُ حَقًّا صُرَاحًا: <<سَنُرِيهُمُ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ أَنَّهُ الحَقُّ>>53 فصّلت. <<نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِِأَيْمَانِهِمْ>>8 التّحريم. وَفِي الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ: <<لاَ تَطْلُبْهُ فِي غَيْرِ ذَاتِكَ فَتَضِلَّ بِهَا عَنْهُ وَاطْلُبْهُ فِي ذَاتِكَ لِتَهْتَدِيَ بِهَا إِلَيْهِ>> عَلَى شَرْطِ أَلاَّ يَقُولَ إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَنَّى لِلصُّوفِيِّ العَارِفِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ يَدَّعِيَهُ وَهْوَ يَقُولُ: <<وَمَن يَّقُلْ مِنْهُمُ إِنِّيَ إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ>>29 الأنبياء. فَهُؤُلاَءِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَشُهُودِهِ وَهْوَ فِي أَنْفُسِهِمْ "بَدُّهُمْ اللاَّزِمُ" الَّذِي بِهِ يَقُومُونَ ، وَهُوَ فِي الآفَاقِ ذَاتُهُمْ الكَوْنِيَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِ الصُّوفِيِّ العَارِفِ ذَاتًا ظَاهِرَةً قَائِمَةً فِي نُقْطَةِ طِينِهِ ، فِي جَسَدِهِ المَحْدُودِ ، ذَاتًا "جُزْئِيَّةً" وَلَكِنَّهَا فِي الآنِ نَفْسِهِ مَوْصُولَةٌ وُجُودًا وَشُهُودًا ، تَكْوِينًا وَتَلْوِينًا ، بِالذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ الكُلِّيَّةُ الخَالِقَةُ الَّتِي تَسْبَحُ فِيهَا جَمِيعُ الذَّوَاتِ الجُزْئِيَّةُ المَخْلُوقَةُ. فَأَيْنَمَا تَوَجَّهُوا تَعَرَّفُوا إِلَى ذَاتِهِمْ الكُلِّيَّةِ فِي وُجُوهِهِ المُتَكَاثِرَةِ: << وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ>>115 البقرة. وَبِهَذَا الاعْتِبَارِ عَرَّفَ الجُنَيْدُ التَّصَوُّفَ قَائِلاً: <<هُوَ أَنْ تَكُونَ مَعَ اللَّهِ بِلاَ عَلاَقَةٍ>> وَقَالَ غَيْرُهُ: <<الصُّوفِيُّ لاَ تُقِلُّهُ أَرْضٌ وَلاَ تُظِلُّهُ سَمَاءٌ>>. ذَلِكَ أَنَّ الصُّوفِيَّ نُقْطَةُ طِينِ الشُّهُودِ وَمُطْلَقُ سِرٍّ الوُجُودِ ، وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِمْ: <<الصُّوفِيُّ ظَاهِرُهُ شَرِيعَةٌ مَشْهُودَةٌ وَبَاطِنُهُ حَقِيقَةٌ مَوْجُودَةٌ>>. وَقَالَ مَعْرُوفُ الكَرْخِي: <<التَّصَوُّفُ هُوَ الأَخْذُ بِالحَقَائِقِ وَاليَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي الخَلاَئِقِ>>. وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ الحَقِيقَةِ الاسْتِغْنَاءَ عَنْ غَيْرِهَا – الَّذِي لاَ يَكُونُ إِلاَّ وَهْمًا بَاطِلاً- وَالاِكْتِفَاءَ بِنَفْسِهَا. فَهْيَ لاَ تَسْتَمِدُّ مِنْ غَيْرِهَا شَيْئًا وَلاَ تَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهَا أَبَدًا. وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: <<...وَمَا زَالَ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ وَيُحِبَّنِي. فَإِذَا أُحْبَبْتُهُ وَأَحَبَّنِي كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ>>. وَذَلِكَ مُنْتَهَى سَيْرِ الوَاصِلِينَ: <<لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ>>15 الشُّورَى.
هَذَا مِمَّا بَدَا لِي مِنَ الضَّرُورِيِّ وَالأَسَاسِيِّ تَبْيِينُهُ فِي إِطَارِ بَسْطِ الحَدِيثِ عَنِ "التَّوَجُّهِ" بِحَسَبِ مَقَامَاتِ الدُّعَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. <<وَهْوَ يَهْدِي السَّبِيلَ>>.
<< إلَهِـي! إِنَّ بِدَايَةَ الخِذْلاَنِ الغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتَكَ هِيَ بَذْرَةُ العِلَّةِ ، فَأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُنِي عَنْكَ وَيُبْعدُنِي مِنْكَ ، وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ ، وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ ، وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ ، وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي ، وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ وَأَنْتَ تَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يَا رَبَّ العَالَمِين! >>.
* شَرْحُ الأَلْفَاظِ :
- الغَفْلَةُ : من غَفَلَ يَغْفُلُ غُفُولاً وَغَفْلَةً عَنِ الشَّيْءِ = سَهَا عَنْهُ وَلَمْ يَفْطُنْ لَهُ.
* شَرْحُ المَعَانِي :
الغَفْلَةُ المَعْنِيَّةُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ هِيَ الغَفْلَةُ عَنِ اللَّهِ. وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ : غَفْلَةٌ عَنِ الذِّكْرِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الحُضُورِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الشُّعُورِ. وَمِنَ الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ فِي هَذَا البَابِ: <<الذِّكْرُ غَايَتُهُ الحُضُورُ ، وَالحُضُورُ عَتَبَةُ الشُّعُورِ>>. وَعَلَيْهِ :
- فالصِّنْفُ الأَوَّلُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ البِدَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ اللِّسَانِ. حَيْثُ يَتْرُكُونَ الذِّكْرَ إِلَى اللَّغْوِ وَالنِّسْيَانِ. <<وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً>>142 النّساء. <<نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ>>19 الحشر.
- وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِلسَّائِرِينَ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ الجَنَانِ ، أَيْ أَهْلُ مَقَامِ الحُضُورِ. وَإِنَّ الحُضُورَ حَالُ الذَّاكِرِ فِي مُرَاقَبَةِ ذَاتِ الحَقِّ مِنْ خِلاَلِ مُشَاهَدَةِ صِفَاتِ الخَلْقِ. فَهْوَ إِذَنْ يَسْتَبْقِي مِسَافَةَ المُرَاقَبَةِ مَهْمَا قَصُرَتْ وَشَفَّتْ. وَلِهَذَا فَالحُضُورُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ مَقَامِ الفَرْقِ. يَبْدَأُ حُضُورًا لِلْمَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا مَعَ المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا فِي المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا بِالمَذْكُورِ. وَهْوَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَسْتَشْرِفُ سِرَّ الذَّاتِ مُعَظِّمًا ومُقَدِّسًا لَهَا. وَأَثْنَاءَ تِلْكَ التَّحَوُّلاَتِ يُخْشَى عَلَى السَّائِرِ أَنْ تَتَكَاثَفَ عَلَى بَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ حُجُبٌ مِنَ الصِّفَاتِ الظُّلْمَانِيَّةِ وَالنُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى تَجَاوُزِهَا مُؤَنَّسًا بِاللَّهِ لِيَخْرُجَ مِنْ ظُلُمَاتِ لَيْلِهَا وَبَحْرِهَا وَبَطْنِ حُوتِهَا وَلِيَهْزِمَ سَحَرَةَ فِرْعَوْنِهَا فِي ضُحَى يَوْمِ زَينَتِهَا. <<لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ>>88 القِصَصُ.
- وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ النِّهَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الوِجْدَانِ وَهُمْ أَهْلُ مَقَامِ الشُّعُورِ. فَعَمَلُ أَهْلِ البِدَايَةِ ، ذِكْرُ اللِّسَانِ ، وَكُلُّ حَالاَتِ أَهْلِ الحُضُورِ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، تَجْتَمِعُ مَعًا لَدَى العَارِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ وَحُضُورُهُ فِي نَفْسِ الوَقْتِ لِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ فَلاَ يَحْجُبُهُ فَرْقُهُ عَنْ جَمْعِهِ وَلا جَمْعُهُ عَنْ فَرْقِهِ. وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ حُضُورُهُ عَتَبَةً يَتَجَاوَزُهَا إِلَى الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ وَبَقَاءُ الذَّاكِرِ حَيَاةً وَبَقَاءً لِلَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اللَّهِ بِاللَّهِ. وَذَلِكَ مَفَادُ الحَدِيثِ :<<مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الحَيِّ وَالمَيِّتِ>>.فَإِذَا الفَرْقُ عَيْنُ الجَمْعِ وَإِذَا الفَتْقٌ فَيْضُ الرَّتْقِ <<وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا>>69الزّمر.<<وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ>>115البقرة.<<وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا>>137 ق. فَصَاحِبُ هَذَا المَقَامِ مُوَحِّدٌ لاَ يُرَاوِدُهُ وَهْمُ الغَيْرِيَّةِ.
عَلَى هَذَا الأَسَاسِ ، أَكَّدَ الشَّيْخُ فِي مُنَاجَاتِهِ أَنَّ الغَفْلَةَ مِفْتَاحُ العِلَّةِ وَمُبْتَدَأُ مَوْتِ القَلْبِ. وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ كُلِّ شَاغِلٍ عَنِ اللَّهِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ نَاظِرٍ بِنُورِ الشُّهُودِ غَيْرَ شَاعِرٍ بِحَقِيقَةِ الوُجُودِ فَيَكُونُ مِمَّنْ <<لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمُ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمُ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ>>179 الأعراف. وَمِمَّنْ <<يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ>>7 الرّوم. وَأَمَّا ذَاتُهُ <<فَهْيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٌ مُعَطَّلَةٌ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ>>45 الحجّ. وَحَيْثُ صَحَّ <<قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه>>84 الإسراء ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ أَهْلُ الصِّفَاتِ غَيْرُ المُحَقِّقِينَ الَّذِينَ حُجِبُوا عَنْ سِرِّ الذّاتِ بِظُلُمَاتِ وَأَنْوَارِ الظَّاهِرِ ، أَوْ لِنَقُلْ بِسَرَابِ الصِّفَاتِ. فَهُمْ سُكَارَى مُخَدَّرُونَ بِِسَكْرَةِ الحِسِّ ، عَلَى رَأْيِ العَلاَوِي ، لاَ بِخَمْرِ القُدْسِ. قَدْ هَمَدَتْ بَوَاطِنُهُمْ ، فَهُمْ لاَ يَتَعَامَلُونَ إِلاَّ عَلَى مُسْتَوَى انْفِعَالِ الجَوَارِحِ لِلْمُؤَثِّرَاتِ المَادِّيَّةِ. مَفْعُولاً بِهِمْ غَيْرَ فَاعِلِينَ <<أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ>>21 النّحل. وَدَفْعًا لِكُلِّ تِلْكَ المَهَالِكِ اسْتَعَاذَ مِنْ وَهْمِ البُعْدِ وَالاِنْفِصَالِ وَمِنَ الحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ وَالظُّلْمَانِيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا صِفَاتُ الحَقِّ وَمِنْهَا صِفَاتُ الخَلْقِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فِي الحَقِيقَة صِفَاتُ اللَّهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ ، كَمَا سَنَرَى لاَحِقًا.
وَحَيْثُ أَنَّ الغَفْلَةَ أَرْضٌ مُهَيَّأَةٌ لِبَذْرَةِ المَعْصِيَةِ فَإِنَّ عَلِيلَ المَعْصِيَةِ عَلَى شَفَا الخِذْلاَنِ يُوشِكُ أَنْ يَهْلَكَ إِلاَّ أَنْ تَتَدَارَكَهُ العِنَايَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَجَاوَزَ تِلْكَ الحُجُبَ الظُّلْمَانِيَّةَ وَالنُّورَانِيَّةَ مُتَمَسِّكًا بِشَرِيعَةِ الطَّرِيقِ وَمِنْهَاجِ التَّحْقِيقِ. وَالشَّرِيعَةُ لُغَةً هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى بِئْرِ المَاءِ. وَفِي مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ طَرِيقٌ وَمِنْهَاجٌ إِلَى الحَقِّ. وَمَاءُ البِئْرِ المَوْرُودُ هُوَ سِرُّ الوُجُودِ الكَامِنِ كُمُونَ المَاءِ فِي غَيْبِ السَّمَاءِ وَفِي بَاطِنِ الأَرْضِ وَالَّذِي بِهِ الحَيَاةُ الحَقُّ <<وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ>>30 الأنبياء. وَعَلَيْهِ فَكُلُّ طَرِيقٍ أَوْ مَسْلَكٍ لاَ يُؤَدِّي إِلَى مَاءِ بِئْرٍ مَوْرُودٍ لاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ شَرِيعَةً. وَكُلُّ شَرِيعَةٍ لاَ تُؤَدِّي إِلَى سِرِّ حَقِيقَةِ الوُجُودِ فَإِنَّمَا هِيَ ضَلاَلَةٌ.
وَحَيْثُ أَنَّ الذَّاتَ ، لُغَةً ، هِيَ ظَاهِرُ عَيْنِ الشَّيْءِ مُقَابِلَ بَاطِنِهِ وَمَعْنَاهُ. مِثَالُ ذَلِكَ كُلُّ كَائِنٍ حَيٍّ. فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الجَسَدُ ذَاتٌ حِسِّيَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَمِنْ حَيْثُ الرُّوحُ سِرٌّ غَيْبِيٌّ بَاطِنٌ. وَبِاعْتِبَارِ عِلْمِ النَّحْوِ فَإِنَّ "اسْمَ الذَّاتِ" مَا يَقَعُ عَلَى ذَاتٍ كَالرَّجُلِ وَالأَسَدِ. وَإِنَّ "اسْمَ المَعْنَى" مَا يَقَعُ عَلَى مَعْنَوِيٍّ كَالعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالكَرَمِ. وَحَيْثُ أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَحْمَدُ زَرُّوق فِي قَوَاعِدِهِ ، هِيَ <<مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَتُهُ>> فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كُلِّيَتُهُ المُحَصَّلَةُ جَمْعًا ، غَيْبًا وَشَهَادَةً ، وَوَحْدَةً قَائِمَةً مَوْجُودَةً مَشْهُودَةً مِنْ حَيْثُ مَدْلُولاَتُ اسْمَيْهِ "الظَّاهِرُ" وَ"البَاطِنُ". وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الذَّاتَ الإِلَهِيَّةَ مَوْجُودَةٌ مَشْهُودَةٌ لاَ يَحْجِبُهَا شَيْءٌ : <<قُلَ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*>> 19الأنعام. وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ ، دَعَا الشَّيْخُ اللَّهَ فَقَالَ: <<وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ>> وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ سَيْرَهُ مُؤَدِّيًا رَأْسًا إِلَى التَّحَقُّقِ بِسِرِّ تَوْحِيدِ اللَّهِ الحَيِّ الكَامِنِ فِي بَاطِنِ كُلِّ الوُجُودِ ، وَالقَيُّومِ الظَّاهِرِ بِجَمِيعِ أَنْوَارِ وَصِفَاتِ الشُّهُودِ.
وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ تُسْقَى جَمِيعُهَا بِمَاءٍ واحِدٍ هُوَ مَاءُ الحَيَاةِ الدَّافِقِ مِنْ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الأُكْلِ ، فَإِنَّ ذَاتَ الوُجُودِ المَعْنِيَّةَ بِاسْمِ اللَّهِ "الظَّاهِرُ" تَسْقِي جَمِيعَ صِفَاتِهَا المَعْنَوِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي المَخْلُوقَاتِ بِسِرٍّ وَاحِدٍ وَهْوَ المُتَمَثِّلُ فِي الرُّوحِ الَّذِي نَفَخَهُ اللَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ مِنْ رُوحِهِ وَسِرِّ وُجُودِهِ فِي طِينَةِ ظُهُورِهِ وَشُهُودِهِ بِحَيْثُ أَبْدَى غَيْبَ ذَاتِهِ بِشُهُودِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي كَسَاهَا حُلَلَ أَنْوَارِ أَفْعَالِهِ وَصَفَاتِهِ <<كُنْتُ كَنْزًا خَفِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَبِي عَرَفُونِي>>حديث قدسي.
وَحَيْثُ أَنَّ مِنَ الصِّفَاتِ ظُلْمَانِيَّةٌ كَافِرَةٌ تَجْحَدُ اللَّهَ ، وَأُخْرَى نُورَانِيَّةٌ مُؤْمِنَةٌ مُحْسِنَةٌ تَشْهَدُ وَتُشْهِدُ اللَّهَ، عَلَى غِرَارِ آيَتَيْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، سَأَلَ الشَّيْخُ اللَّهَ أَنْ يَكْسُوَهُ أَنْوَرَ وَأَقْدَسَ حُلَلِ شُهُودِهِ الصِّفَاتِيِّ فَقَالَ: <<وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ >>. حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ الجَمْعِ قَائِمًا للَّهِ فِي اللَّهِ دَالاًّ عَلَيْهِ بِهِ. وَلِهَذَا طَلَبَ التَّمْكِينَ. وَكُلُّ مُمَكَّنٍ يَتَطَلَّبُ مَكَانًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ أَيْ مُسْتَقَرٌّ يُهَيْمِنُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وُجُودًا وَلاَ شُهُودًا. فَقَالَ الشَّيْخُ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَطَلَبَ الثَّبَاتَ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ فِيهَا بِهَا وَشُهُودٌ مِنْهَا لَهَا حَتَّى لاَ يَنْحَجِبَ عَنْ حَقِيقَةِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ حَقِيقَتِهِ وَبَدُّهُ اللاَّزِمُ مُوَافَقَةً لِابْنِ سَبْعِينَ. وَالحُجُبُ ثَلاَثَةٌ : - حُجُبٌ نَفِسِيَّةٌ. وَحُجُبٌ كَوْنِيَّةٌ. وَحُجُبٌ إِلَهِيَّةٌ. وَلاَ يُمْكِنُ خَرْقُ الحُجُبِ الكَوْنِيَّةِ ثُمَّ الإِلَهِيَّةِ إِلاَّ بِخَرْقِ الحُجُبِ النَّفْسِيَّةِ بِإِرْجَاعِ النَّفْسِ ، حِسًّا وَمَغْنًى ، إِلَى نَفْسِ اللَّهِ القَائِلِ: <<يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَّنِسَاءَ>>1 النّساء. وَالقَائِلُ: <<وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه وَإِلَيْهِ المَصِيرُ>>28 آل عمران. ثُمَّ بِإِرْجَاعِهَا رُوحًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَى اللَّهِ الَّذِي نَفَخَهَا مِنْ رُوحِهِ فِي طِينَةِ التَّكْوِينِ وَالتَّلْوِينِ. وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ ذَوْقًا وَحَقًّا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: <<إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاتِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرْءَانِ وَمَنَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ >>111 التَّوْبَة. وَإِنْجَازُ هَذِهِ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ مَوْتَ النَّفْسِ بِالكُلِّيَّةِ. فَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: <<أَعْدَى أَعْدَائِكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ>> وَلَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَبَّهُ: <<كَيْفَ الوُصُولُ إِلَيْكَ يَا رَبِّ؟>> اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَوْتَ النَّفْسِ فَقَالَ: <<أُتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ>>. فَقَوْلُ الشَّيْخِ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> طَلَبَ بِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَبِذَاتِ اللَّهِ ثَابِتًا مُمَكَّنًا فِيهَا وَبِهَا لاَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ مُتَحَوِّلَةً مُتَبَدِّلَةً خَاصَّةً وَأَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مَخَلُوقَةٌ لاَ حَيَاةَ لَهَا وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالذَّاتِ ، لاَ تَشْفَعُ عِنْدَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا. فَهْيَ لاَ تُبْدِيءُ وَلاَ تُعِيدُ. حَتَّى إِذَا اسْتُجِيبَ لَهُ كَانَ مِنَ الذَّاتِ فِي الذَاتِ فَسَأَلَ: << حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَانْقَشَعَ عَنَهُ حِجَابُ الصِّفَاتِ فَأَدْرَكَ وُجُودَ الذَّاتِ حَقِيقَةً وَأَبْصَرَهَا خَلِيقَةً حَيْثُ <<لاَ يَرَى اللَّهَ إِلاَّ اللَّهُ>> وَ<<الطُّيُورُ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ>> فَمَاتَتِ النَّفْسُ عَنْ نَفْسِهَا لِقَوْلِهِ: <<وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي>> غِيَابًا كَامِلاً دَائِمًا فِي سِرِّ قُدْسِهَا القَدِيمِ بِغِيَابِ ظِلِّ الكَوْنِ العَدِيمِ ، وَامِّحَاءِ حَيِّزِ وَحُدُودِ الأَيْنِ ، وَاحْتِرَاقِ حِجَابِ الغَيْنِ ، فَتُشْرِقُ أَرْضُ ["أَنَا" حَاضِرِ الشُّهُودِ المُشْرِقْ] بِنُورِ رَبِّهَا [سِرِّ "إِنِّي" غَيْبِ الوُجُودِ المُطْلَقِ] فَلاَ يَحِقَّ وَلاَ يَتَحَقَّقَ إِلاَّ اللَّهُ [<<إِنَّنِي أنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا>>14 طه.] فَتَنْبَعِثَ النَّفْسُ عِنْدَئِذٍ بِسِرِّ قُدْسِهَا وَأَنْوَارِ وَصِفَاتِ أُنْسِهَا. وَلِذَلِكَ طَلَبَ إِدَامَةَ هَذِهِ الحَالِ وَجَعْلَهَا مَقَامًا ثَابِتًا وَشَأْنًا ذَاتِيًّا إِلَهِيًّا كَامِلاً فَقَالَ: <<وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ>>. فَإِذَا هُوَ مِنَ الذَّاتِ [مِنْكَ] فِي الذَّاتِ غَيْرَ مُحَيَّزٍ فِيهَا ، تَشْمَلُهُ الذَّاتُ بِرِعَايَةٍ مِنْهَا [مِنْكَ] مِنْ حَيْثُ حَيَاةُ الذَّاتِ وَقَيُّومِيَّتُهَا. وفي هَذَا المَقَامِ يَكُونُ نَظَرُ الصِّفَةِ/المَخْلُوقِ بِنُورِ الذَّاتِ/اللَّهِ ، فَتَرَى العَيْنُ عَيْنَهَا بِالبَصَرِ نُورًا وَبِالقَلْبِ حُضُورًا وَبِبَصِيرَةِ الرُّوحِ سِرًّا مَسْتُورًا. وَذَلِكَ مَطْمَحُ قَوْلِهِ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>>. فَإِنَّ صَيْرُورَةَ الذَّاكِرِ صَيْرُورَةٌ ذَاتِيَّةٌ يُنْجِزُهَا تَحَوُّلاً عَبْرَ مَسِيرَةِ السَّيْرِ بِالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالمُذَاكَرَةِ حَتَّى يَصِيرَ اللَّهُ [عَيْنَهُ الَّتِي بِهَا يَرَى وَأُذْنَهُ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيَدَهُ الَّتِي بِهَا يَبْطُشُ وَرِجْلَهُ الَّتِي بِهَا يَسْعَى] الحَدِيثُ القُدُسِيُّ المَشْهُورُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالاَهُ .
عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ ، نُوَاصِلُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَكَارِمُ ، التَّعَرُّضَ لِنَفَحَاتِ اللَّهِ بِالإِسْتِرْوَاحِ فِي مُنَاجَاةِ مَوْلاَنَا الإمَامِ إِسْمَاعِيلِ الهَادِفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المُسَمَّاةُ : "مِرْآةُ الذَّاكِرِينَ" رَجَاءَ أَنْ نَسْتَوْفِي مَعًا شَرْحَهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهِ فِي ظِلِّ هِمَمِكُمْ العَالِيَةِ وَأَذْوَاقِكٌمْ الصَّافِيَة ، وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ، فأقُولِ ، وَما التّوْفِيقُ إِلاَّ بِاللهِ :
<<نَسْتَمِدُّ مِنَ اللَّهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، الحَوْلَ وَالقُوَّةَ ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُعْظِمَ حَظَّنَا مِنْ أَسْرَارِ العِلْمِ وَأَنْوَارِ الفَهْمِ وَيَشْرَحَ صُدُورَنَا وَيُيَسِّرَ أُمُورَنَا وَيَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ أَلْسِنَتِنَا بِبَسْطِ العِبَارَةِ فِي شَرْحِ مُنَاجَاةِ شَيْخِنَا وَقُدْوَتِنَا إِسْمَاعِيلِ الهَادِفِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ، وَهْيَ المُسَمَّاةُ "مِرْآةُ الذَّاكِرِينَ فِي مُنَاجَاةِ رَبِّ العَالَمِينَ".
فَقَدِ افْتَتَحَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُنَاجَاتَهُ بِالدُّعَاءِ التَّالِي :
<<إِلَهِـي! قَدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْر ِكَرَمِكَ الزَّاخِرِ الَّذِي لاَ يَتَنَاهَى فَاحْرُسْنِي فِيهَا حَتَّى لاَ أَطْغَى بِهَا وَثَبِّتْهَا لَدَيَّ بِتَوْفِيقِي لِشُكْرِكَ عَلَيْهَا فَأَرَاهَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ وَأَكُونُ فِيهَا دَاعِيًا بِكَ إِلَيْكَ إِذْ رَحْمَتُكَ جَاءَتْ بِي إِلَيْكَ وَفَضْلُكَ دَلَّنِي عَلَيْكَ ، وَالكَرِيمُ إذَا أَعْطَى أَجْزَلَ العَطَاءَ وَرَفَعَ عَنْ عَظيمِ آيَاتِ جُودِهِ الغِطَاءَ ، وَكَيْفَ لاَ وَأَنْتَ أَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ؟!>>.
* شَرْحُ الأَلْفَاظِ :
إلهي! : اِسْمٌ عَلَمٌ خَاصٌّ بِالذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ الوَاجِبَةِ الوُجُودِ. جَاءَ هُنَا مُنَادَى وَقَدْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ يَاءُ النِّسْبَةِ فَوَقَعَ التَّعْرِيفُ بِالإِضَافَةِ. وَ"إِلَهٌ" اِسْمٌ مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ أُلُوهَةً وَإِلَهَةً وَأُلُوهِيَّةً. وَ"أَلِهَ" اللََّهُ = حَيَّرَ العُقُولَ وَالأَلْبَابَ. وَ"أَلِهَ" العَبْدُ = عَبَدَ اللَّهَ.
* شَرْحُ المَعَانِي :
نِدَاءٌ تَوَجَّهَ بِهِ إِلى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ خُصُوصِيَّةِ النِّسْبَةِ المُشَارِ إِلَيْهَا بِاليَاءِ آخِرَ كَلِمَةِ "إِلَهِي". وَحَيْثُ أَنَّ اللَّهَ مُطْلَقُ الوُجُودِ وَهُوَ "الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ" ، فَقَدْ انْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَوْ يَطْرَأَ عَلَى وُجُودِهِ غَيْرٌ وِفْقَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ :<<كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ>>البخاري ، باب : بدء الخلق. وَتَأَكَّدَ تَبَعًا لِذَلِكَ أَلاَّ مَوْجُودَ فِي وُجُودِ اللَّهِ إِلاَّ وَهُوَ مِنْهُ وَفِيهِ وَبِهِ وَلَهُ ، مِنْهُ أَوَّلاً ، وَلَهُ آخِرًا ، وَبِهِ ظَاهِرًا ، وَفِيهِ بَاطِنًا. يَقُولُ العَارِفُ :
"مَنْ لاَ وُجُودَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ *** فَوُجُودُهُ لَوْلاَهُ عَيْنُ مُحَالِ".
وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ ، وَحَيْثُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الدُّعَاءُ وِجْهَةً عَامَّةً غَيْرَ مُحَدَّدَةٍ ، وَمُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْمَالِ الإِيمَانِ ، وَالإِيمَانُ مُتَعَلِّقٌ أَبَدًا بِغَائِبٍ. وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَبْيِينُ مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَطَبِيعَةِ عَلاَقَةِ الدَّاعِي بِاللَّهِ بِحَسَبِ الدَّاعِي وَبِسَاطِ الدُّعَاءِ بِاعْتِبَارِ مَقَامَاتِ الدِّينِ الثَّلاَثَةِ : الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ.
- الوَجْهُ الأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ مَقَامِ الإِسْلاَمِ عَمَلاً حِسِّيًّا فِي عَالَمِ الشُّهُودِ المُسَمَّى صُوفِيًّا عَالَمَ المُلْكِ وَهْوَ عَالَمُ المَادَّةِ المُتَشَكِّلَةِ الظَّاهِرَةِ بِالصِّفَاتِ الحِسِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ ، المُنْفَعِلَةِ حَرَكَةً بِالقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ. وَهْوَ العَالَمُ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ كُلُّ المُتَجَسِّدَاتِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَجَمَادٍ مَعَ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِهَا مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا وَحَرَكَاتُهَا وُرُتَبُ وُجُودِهَا وَشُهُودِهَا ، وَخُضُوعُهَا جَمِيعِهَا لِلتَّرَاتُبِ مِنْ حَيْثُ قِيمَتُهَا وِفْقَ ضَوَابِطِ الهَيْئَةِ الفِطْرِيَّةِ وَحُظُوظِهَا مِنَ السَّلاَمَةِ خَلْقًا وَتَكْوِينًا جَسَدِيًّا ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ سَلاَمَةُ المَلَكَاتِ وَالقُوَى البَاطِنِيَّةِ <<هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ>>163 آل عمران. وَمِنْ جِهَةِ خُضُوعِهَا كَذَلِكَ لِضَوَابِطِ الحِكْمَةِ مِنْ حَيْثُ الصَّوَابُ وَالخَطَأُ <<رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوَ أَخْطَأْنَا>>286 البقرة. وَانْدِرَاجُهَا تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِحَسِبِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ سُلُوكُهَا طَاعَةً أَوْ عِصْيَانًا عَلَى ضَوْءِ التَّكْلِيفِ <<يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ>>33 محمّد.
وَحَيْثُ أَنَّ الأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِالإِنْسَانِ دِينًا وَتَكْلِيفًا ، فَإِنَّ وِجْهَةَ الإِنْسَانِ فِي عَمَلِهِ تَكُونَ بِحَسَبِ حَظِّهِ مِنَ اللَّهِ. فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ مَحْجُوبًا عَنْ عَالَمَيْ المَلَكُوتِ وَالجَبَرُوتِ قَائِمًا فِي عَالَمِ المُلْكِ كَمُجَرَّدِ جَسَدٍ بَيْنَ أَجْسَادٍ ، مُقِيمًا عَلَى غَفْلَتِهِ ، فِإِنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَرَى شَيْئًا يَنْفَعُهُ وَلاَ شَيْئًا يَضُرُّهُ إِلاَّ مِنْ جُمْلَةِ المُجَسَّدَاتِ المَاثِلَةِ فِي دَائِرَةِ عَالَمِ إِدْرَاكِهِ المَادِّيِّ <<وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ>>12 محمّد. وَمِنْ هُنَا كَانَ تَوَجُّهُ الكَافِرِ إِلَى عِبَادَةِ المَحْسُوسَاتِ مِنْ أَصْنَامٍ وَقُوَى طَبِيعِيَّةٍ. فَإِذَا دَعَا وَنَادَى قَائِلاً <<إِلَهِي>> فَهْوَ لاَ يَعْنِي بِهِ عِنْدَئِذٍ إِلاَّ مَعْبُودًا مُجَسَّمًا مَحْسُوسًا مُحَيَّزًا مِنْ عَالَمِ المُلْكِ ، عَالَمِ المَادَّةِ. وَعَلَى شَاكِلَتِهِ ، كُلُّ المَادِّيِّين وَالعِلْمَانِيِّينَ وَالطَّبِيعِيِّينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ الأُخْرَى.
وَلَكِنْ ، إِذَا كَانَ فِي حِجَابِ المَرْءِ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَافِيَّةِ وَالنُّورِ يُمَكِّنُهُ مِنْ شَيْءٍ وَلَوْ بَسِيطٍ مِنْ تَمَثُّلِ أَرْكَانِ الإِيمَانِ وَسِرِّ الإِحْسَانِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ كَافِرًا خَالِصًا كَامِلَ الظُّلْمَةِ ، بَلْ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الإِيمَانِ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ شَوَائِبِ وَشُبُهَاتِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالخَفِيِّ. وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ عَنَتْهُمُ الآيَةُ: <<وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ>>106 يوسف. فَهَذَا أَيْضًا إِذَا تَوَجَّهَ بِدُعَائِهِ تَوَجَّهَ وِجْهَةً ضَبَابِيَّةً لاَ يَتَبَيَّنُهَا وَلاَ يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ.
- الوَجْهُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ عَالَمِ المَلَكُوتِ هُوَ عَالَمُ المَلاَئِكَةِ وَالجِنِّ وَالأَرْوَاحِ. وَهْوَ المَعْنِيُّ بِمَقَامِ الإِيمَانِ. وَهْوَ غَيْبٌ بِالنَّظَرِ إِلَى عَالَمِ المُلْكِ وَالشَّهَادَةِ. وَهْوَ وَسَطٌ بَيْنَ عَالَمِ المُلْكِ الحِسِّيِّ وَعَالَمِ الجَبَرُوتِ الغَيْبِيِّ المُسَمَّى أَيْضًا بِعَالَمِ العَمَى الكُلِّيِّ حَيْثُ "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ". وَلِتَوَسُّطِ عَالَمِ المَلَكُوتِ بَيْنَ عَالَمِ المُلْكِ وَعَالَمِ الجَبَرُوتِ ، اِخْتَلَفَتْ وِجْهَاتُ كَائِنَاتِ عَالَمِ المُلَكُوتِ ، فَمِنْهَا مُتَوَجِّهُونَ إِلَى عَالَمِ المَادَّةِ المَحْسُوسِ يَخُصُّونَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَ مُكَوِّنَاتِهِ بِالعِبَادَةِ ، وَهُمْ فَسَقَةُ الجِنِّ وَالأَرْوَاحِ الكَافِرَةِ. أَمَّا المَلاَئِكَةُ وَالجِنُّ المُؤْمِنُونَ وَالأَرْوَاحُ الإِنْسِيَّةُ المُؤْمِنَةُ فَهِيَ لاَ تَتَوَجَّهُ بِالعِبَادَةِ إِلاَّ إِلَى سِرِّ الجَبَرُوتِ الَّذِي هُوَ غَيْبُ الغَيْبِ تَعْبُدُهُ تَقْدِيسًا وَتَنْزِيهًا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: <<وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ>>30 البقرة. وَعَلَى هَذَا ، اعْتَبَرَ خِطَابُ الشَّرْعِ اللَّهَ تَعَالَى غَيْبًا خَالِصًا عُلْوِيًّا لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ. وَذَلِكَ حِكْمَةً مِنْ مُنَزِّلِ القُرْآنِ لِزَحْزَحَةِ اهْتِمَامِ النُّفُوسِ بِأَنْفُسِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى سِرِّ الوُجُودِ الحَقِّ المُتَنَزِّهِ عَنْ حَيْثِيَّاتِ الحُدُوثِ وَصِفَاتِ الخَلْقِ وَالكَامِلِ فِي مَدَاهُ الأَعْمَقِ وَالأََكْبَرِ وَالأَعْظَمِ وَالأَوْسَعِ وَالأَبْعَدِ وَالأَعْلَى... وَعَلَيْهِ ، فَإِنَّ تَوَجُّهَ أَهْلِ مَقَامِ الإِيمَانِ ، وَأَهْلِ الوَسَطِ مِنْ سَالِكِي طَرِيقِ اللَّهِ ، إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ اسْتِمْدَادٍ. فَهُمْ ، بِاعْتِبَارِهِمْ صِفَاتٍ خَلْقِيَّةً ، يَسْتَمِدُّونَ مِنَ اللَّهِ/الذَّاتِ نُورَهُمْ الظَّاهِرَ وَقُوَاهُمْ الرُّوحِيَّةَ بِمَعْنَى<<لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ كُنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ>>ح.ش.
- الوَجْهُ الثَّالِثُ بِاعْتِبَارِ عَالَمِ الجَبَرُوتِ عَالَمَ السِّرِّ الأَحَدِ المُطَلْسَمِ المَعْرُوفَ صُوفِيًّا بِبَحْرِ القِدَمِ وَالعَمَى الأَزَلِيِّ. وَهْوَ مُتَعَلَّقُ مَقَامِ الإِحْسَانِ بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَلاَ تَرَى مَعَهُ غَيْرًا. وَعَالَمُ الجَبَرُوتِ هَذَا ، هُوَ مَجْمَعُ الصِّفَاتِ الإِلِهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ المَعْنَوِيَّةِ السَّبْعِ مِنْ وُجُودٍ وَقِدَمٍ وَبَقَاءٍ وَقُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ. وَهُوَ بِذَلِكَ عَالَمُ الأَمْرِ. وَمَخْلُوقَاتُهُ هِيَ صِفَاتُهُ الحِسِّيَّةُ <<أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ>>54 الأَعْرَافُ. وَحَيْثُ أَنَّ صِفَاتِهِ الحِسِّيَّةَ "مَخْلُوقَاتِهِ" هِيَ أَنْوَارُهُ الذَّاتِيَّةُ المُنْدَرِجَةُ تَحْتَ اِسْمِهِ "الظَّاهِرُ" ، فَإِنَّهَا لاَ تَقُومُ إِلاَّ بِمَا يُمِدُّهَا بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ المَعْنَوِيَّةِ. وَعَلَيْهِ ، فَإِنَّ تَوَجُّهَهَا هُوَ اسْتِعْدَادُهَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَقِيَامُهَا بِصِفَاتِهِ المَعْنَوِيَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي نِطَاقِ رَحْمَةِ الاِئْتِلاَفِ وَنِعْمَةِ وَحِكْمَةِ الاِخْتِلاَفِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الوَعْيُ بِالوُجُودِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ وَأَحْوَالِهِ لِظُهُورِ الوَحْدَةِ بِالكَثْرَةِ: <<وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ>>119 هود. <<وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ>>15-16 النّحل. لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِ المَفْرُوضَةِ مِنْ لَدُنْهُ عَلَى كَلِّ مُكَوِّنَاتِ عَالَمَيْ المَلَكُوتِ وَالمُلْكِ. فَتَتَّجِهُ إِلَيْهِ كُلُّ أَنْوَارِ وَصِفَاتِ الإِيمَانِ مُلَبِّيَةً عَابِدَةً لَهُ بِإِذْنِهِ وَفَضْلِهِ ، وَتُعْرِضُ عَنْ عِبَادَتِهِ كُلُّ ظِلاَلِ وَصِفَاتِ الكُفْرِ فِي عَالَمَيْ المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِإِذْنِهِ وَعَدْلِهِ. وَهْوَ مَفَادُ قَوْلِهِ تَعَالَى: <<ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ إِيتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ>>11 فصّلت. وَقَوْلِهِ: <<وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ>> 15 الرّعد.
أَمَّا عَالَمُ الجَبَرُوتِ فَلاَ يَتَلَقَّى عَنْهُ إِلاَّ المَلاَئِكَةُ الَّذِينَ يُعْتَبَرُ فِعْلُهُمْ فِعْلاً إِلَهِيًّا صِرْفًا وَهُمْ مُخْلَصُونَ مُنَزَّهُونَ عَنْ العَاطِفَةِ وَالشَّهَوَاتِ <<لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ>>6 التّحريم. وَعَلَى دَرَجَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ دَرَجَةِ المَلاَئِكَةِ ، تَقُومُ الأَرْوَاحُ الصَّافِيَةُ الخَالِصَةُ فِي تَلَقِّيهَا عَنْ عَالَمِ الجَبَرُوتِ عَلَى سَبِيلِ النُّبُوَّةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ وَالإِلْهَامَاتِ الوَاضِحَةِ لِلصَّالِحِينَ الأَتْقِيَاءِ مِثْلَمَا كَانَ الشَّأْنُ مَعَ عُمَرِ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنُزُولِ القُرْآنِ مُوَافِقًا لَهُ.
وَحَيْثُ أَنَّ الأَرْوَاحَ النَّقِيَّةَ ، مِنْ جُمْلَةِ أَرْوَاحِ الإِنْسِ وَالجِنِّ ، عُرْضَةٌ لِلاِنْحِطَاطِ عَنْ أَوْصَافِ القَدَاسَةِ وَالتَّلَوُّثِ بِأَوْصَافِ النَّجَاسَةِ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ حِكْمَةً تَحْتَ اسْمِ الخَطَأِ ، وَشَرْعًا تَحْتَ اِسْمِ المَعْصِيَةِ ، فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ هُمْ وَحْدَهُمْ المُتَّصِفُونَ بِالطَّاعَةِ وَعَدَمِ العِصْيَانِ. وَهُمْ وَحْدَهُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلَ الذَاتِ المُقَدَّسَةِ/اللَّهِ. وَلِهَذَا كَانَ التَّكْلِيفُ لِلْجِنِّ وَالإِنْسِ: <<وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِي>>56 الذَّارِيَات. وَكَانَ الإِشْرَافُ لِلْمَلاَئِكَةِ <<لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ>>6 التّحريم. وَلَهَذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الإِنْسِ وَالجِنِّ أَنْ يُجَاهِدُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَتَشَبَّهُوا بِالمَلاَئِكَةِ وَذَلِكَ مَطْلَبُ جَمِيعِ العِبَادَاتِ ضِمْنَ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ الخَمْسَةِ حَتَّى يَتَأَهَّلُوا لِلتَّلَقِّي عَنِ جَبَرُوتِ الذَّاتِ/اللَّهِ ثُمَّ الفَنَاءِ فِيهِ وَالبَقَاءِ بِهِ لَهُ. وَهَذَا مَقَامُ <<فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُون>>152 البقرة. وَمَقَامُ الأَشْعَثِ الأَغْبَرِ المَدْفُوعِ بِأَبْوَابِ الأَسْبَابِ إِلَى إِطْلاَقِ الجَبَرُوتِ الوَهَّابِ يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ بِاللَّهِ فِي اللَّهِ لِلَّهِ فَيَبَرُّهُ.
بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَأْخُذُ مَعْنَاهُ وَتَوَجُّهَهُ بِحَسَبِ مَقَامَاتِ الدِّينِ الثَّلاَثَةِ : الإِسْلاَمُ وَالإِيمَانًُ وَالإِحْسَانُ.
- فَالدُّعَاءُ لَدَى المُسْلِمِينَ أَهِلِ مَقَامِ الإِسْلاَمِ ، عُمَّارِ عَالَمِ المُلْكِ ، تَوَجُّهٌ مِنَ المَخْلُوقِ إِلَى خَالِقِهِ بِمَعْنَى تَوَجُّهِ الشَّاهِدِ إِلَى الغَائِبِ ، يَسْأَلُهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الطِّينِ وَالمُجَاهَدَةِ. فَهُؤُلاَءِ سَائِرُونَ ، أَهْلُ بِدَايَةٍ ، وَلَهُمْ أَنْوَارُ التَّوَجُّهْ.
- وَالدُّعَاءُ لَدَى أَهْلِ مَقَامِ الإِيمَانِ ، عُمَّارِ عَالَمِ المَلَكُوتِ ، هُوَ تَوَجُّهُ الرُّوحِ المَنْفُوخِ إِلَى صَاحِبِهِ النَّافِخِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، يَسْأَلُونَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ التَّلْوِينِ وَفَرْقِ المُشَاهَدَةِ وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ. فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَحْبَابِهِ السَّائِرِينَ إِلَيْهِ ، أَهْلُ الوَسَطِ ، يَسْأَلُونَهُ رَفْعَ حِجَابِهِ وَالتَّعَرُّفَ إِلَيْهِ بِأَنْوَارِ التَّشَبُّهِ مُتَخَلِّقِينَ بِأَخْلاَقِهِ مُتَأَدِّبِينَ بِآدَابِهِ عَامِلِينَ بِأَسْبَابِهِ.
- وَالدُّعَاءُ لَدَى العَارِفِينَ أَهْلِ مَقَامِ الإِحْسَانِ ، أَهْلِ الفَنَاءِ وَالبَقَاءِ الَّذِينَ انْطَوُوا فِي الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ حِسًّا وَمَعْنًى بَعْدَ مَا حَقُّقُوا فَرْعَهُمْ المَلَكُوتِيَّ الرُّوحِيَّ وَفَرْعَهُمْ المُلْكِيَّ الجَسَدِيَّ بِأَصْلِهِمْ الجَبَرُوتِيِّ الوَاحِدِ الأَحَدِ ، مُنَاجَاةٌ ذَاتِيَّةٌ خَالِصَةٌ. فَهُمْ فِي مَقَامِ فَرْدَانِيَّةِ "سِرُّهُ يَعْبُدُهُ" وَ"لِي وَقْتٌ لاَ يَسَعُنِي فِيهِ إِلاَّ رَبِّي" ، وَهُمْ أَهْلُ المُكَابَدَةِ وَأَنْوَارِ المُجَابَهَةِ المُتَوَلِّهُونَ. إِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ مَقَامُ الإِسْلاَمِ وَشُهُودُهُمْ الجَسَدِيُِّ لَمْ تَرَهُمْ إِلاَّ أَلْسِنَةً لاَهِجَةً بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ يَتَمَلَّقُونَ اللَّهَ الَّذِي مَنَحَهُمْ وُجُودًا فِي وُجُودِهِ وَشُهُودًا فِي شُهُودِهِ فَهُمْ بِهِ إِيَّاهُ يَحْمَدُونَ وَبِهِ لَهُ يَشْكُرُونَ ، وَبِهِمْ يُذْكَرُ وَبِهِ يُذْكَرُونَ :
خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَوَدَّتِي *** وَأُحِسُّ مِنْهَا فِي الفُؤَادِ دَبِيبَا
لاَ عُضْوَ لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَـابَةٌ *** فَكَأَنَّ أَعْضَـائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا
وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ مَقَامُ الإِيمَانِ وَوُجُودُهُمْ الرُّوحِيُّ فِي عَالَمِ المَلَكُوتِ لَمْ تَرَهُمْ إِلاَّ طُيُورَ أَنْوَارٍ ذَاتِيَّةٍ خُضْرًا تَسْرَحُ فِي جَنَّاتِ َالأَسْرَارِ القُدُسِيَّةِ وَتَأْوِي إِلَى غُرَفٍ مُعَلَّقَةٍ بالعَرْشِ مُطْمَئِنَّةً رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.
وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ مَقَامُ الإِحْسَانِ وَسِرُّهُمْ الجَبَرُوتِيِّ لَمْ تَرَهُمْ إِلاَّ أَسْرَارًا فِي سِرِّ اللَّهِ الأَحَدِ. فَهُمْ فِيهِ أَمْوَاتٌ ، لاَ وُجُودَ لَهُمْ فِي وُجُودِهِ وَلاَ شُهُودَ لَهُمْ فِي شُهُودِهِ ، أَفْنَاهُمْ فِيهِ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ غَيْرَةً عَلَى أَحَدِيَّةِ وُجُودِهِ <<كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةٌ المَوْتَ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ>>57 العنكبوت. ثُمَّ أَبْقَاهُمْ فِيهِ بِهِ وَلَهُ إِقَامَةً لِِكَثْرَةِ شُهُودِهِ. فَهُمْ أَسْرَارُهُ وَهُوَ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ البَاطِنُ الجَبَرُوتِيُّ الحَيُّ القَيُّومُ <<اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ>>255 البقرة. وَهُمْ أَنْوَارُهُ وَهُوَ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ المُلْكِيُّ الجَسَدِيُّ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ <<وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ>>111 طه. و<<وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ>>115 البقرة. وَعَلَى مَعْنَى الحَدِيثِ القُدُسِيِّ:<<كُنْتُ كَنْزًا خَفِيًّا فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَبِي عَرَفُونِي>>
إِذَا رُؤُوا ذَكَّرَ بِاللَّهِ مَرْآهُمْ ، وَإِذَا ذُكِرَ ذُكِرُوا؟. أَقَامَهُمْ بِسِرِّ أَسْرَارِهِ وَكَسَاهُمْ حُلَلَ نُورِ أَنْوَارِهِ. فَهُمْ أَهْلُ المُشَاهَدَةِ وَالمُكَابَدَةِ وَهُمْ عِنْدَهُ عَبِيدُهُ ، مِنْهُ وَفِيهِ وَبِهِ وَلَهُ ، وَهُوَ مَلِيكُهُمْ ، مَعَهُمْ وَلَهُمْ :
مَلِكٌ إِذَا عَـايَنْتُ نُورَ جَبِينِـهِ *** فَارَقْتُهُ وَالنُّـورُ فَوْقَ جَبِيـنِي
وَإِذَا لَثَمْتُ يَمِينَهُ وَخَرَجْتُ مِـنْ *** أَبْـوَابِهِ لَثَـمَ المُلُوكُ يَمِيـنِي
فَهَؤُلاَءِ يَأْبَى عَلَيْهِمْ تَوْحِيدُهُمْ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى غَيْرِ ذَاتِهِمْ. فَهُمْ يَطْلُبُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ فِيهَا بِهِمَمِهِمْ العَالِيَةِ الكَامِلَةِ. وَقَدْ رَأَوْا فِي ذَاتِهِمْ سِرَّهُ وَنُورَهُ حَقًّا صُرَاحًا: <<سَنُرِيهُمُ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ أَنَّهُ الحَقُّ>>53 فصّلت. <<نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِِأَيْمَانِهِمْ>>8 التّحريم. وَفِي الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ: <<لاَ تَطْلُبْهُ فِي غَيْرِ ذَاتِكَ فَتَضِلَّ بِهَا عَنْهُ وَاطْلُبْهُ فِي ذَاتِكَ لِتَهْتَدِيَ بِهَا إِلَيْهِ>> عَلَى شَرْطِ أَلاَّ يَقُولَ إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَنَّى لِلصُّوفِيِّ العَارِفِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ يَدَّعِيَهُ وَهْوَ يَقُولُ: <<وَمَن يَّقُلْ مِنْهُمُ إِنِّيَ إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ>>29 الأنبياء. فَهُؤُلاَءِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَشُهُودِهِ وَهْوَ فِي أَنْفُسِهِمْ "بَدُّهُمْ اللاَّزِمُ" الَّذِي بِهِ يَقُومُونَ ، وَهُوَ فِي الآفَاقِ ذَاتُهُمْ الكَوْنِيَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِ الصُّوفِيِّ العَارِفِ ذَاتًا ظَاهِرَةً قَائِمَةً فِي نُقْطَةِ طِينِهِ ، فِي جَسَدِهِ المَحْدُودِ ، ذَاتًا "جُزْئِيَّةً" وَلَكِنَّهَا فِي الآنِ نَفْسِهِ مَوْصُولَةٌ وُجُودًا وَشُهُودًا ، تَكْوِينًا وَتَلْوِينًا ، بِالذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ الكُلِّيَّةُ الخَالِقَةُ الَّتِي تَسْبَحُ فِيهَا جَمِيعُ الذَّوَاتِ الجُزْئِيَّةُ المَخْلُوقَةُ. فَأَيْنَمَا تَوَجَّهُوا تَعَرَّفُوا إِلَى ذَاتِهِمْ الكُلِّيَّةِ فِي وُجُوهِهِ المُتَكَاثِرَةِ: << وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ>>115 البقرة. وَبِهَذَا الاعْتِبَارِ عَرَّفَ الجُنَيْدُ التَّصَوُّفَ قَائِلاً: <<هُوَ أَنْ تَكُونَ مَعَ اللَّهِ بِلاَ عَلاَقَةٍ>> وَقَالَ غَيْرُهُ: <<الصُّوفِيُّ لاَ تُقِلُّهُ أَرْضٌ وَلاَ تُظِلُّهُ سَمَاءٌ>>. ذَلِكَ أَنَّ الصُّوفِيَّ نُقْطَةُ طِينِ الشُّهُودِ وَمُطْلَقُ سِرٍّ الوُجُودِ ، وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِمْ: <<الصُّوفِيُّ ظَاهِرُهُ شَرِيعَةٌ مَشْهُودَةٌ وَبَاطِنُهُ حَقِيقَةٌ مَوْجُودَةٌ>>. وَقَالَ مَعْرُوفُ الكَرْخِي: <<التَّصَوُّفُ هُوَ الأَخْذُ بِالحَقَائِقِ وَاليَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي الخَلاَئِقِ>>. وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ الحَقِيقَةِ الاسْتِغْنَاءَ عَنْ غَيْرِهَا – الَّذِي لاَ يَكُونُ إِلاَّ وَهْمًا بَاطِلاً- وَالاِكْتِفَاءَ بِنَفْسِهَا. فَهْيَ لاَ تَسْتَمِدُّ مِنْ غَيْرِهَا شَيْئًا وَلاَ تَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهَا أَبَدًا. وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: <<...وَمَا زَالَ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ وَيُحِبَّنِي. فَإِذَا أُحْبَبْتُهُ وَأَحَبَّنِي كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ>>. وَذَلِكَ مُنْتَهَى سَيْرِ الوَاصِلِينَ: <<لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ>>15 الشُّورَى.
هَذَا مِمَّا بَدَا لِي مِنَ الضَّرُورِيِّ وَالأَسَاسِيِّ تَبْيِينُهُ فِي إِطَارِ بَسْطِ الحَدِيثِ عَنِ "التَّوَجُّهِ" بِحَسَبِ مَقَامَاتِ الدُّعَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. <<وَهْوَ يَهْدِي السَّبِيلَ>>.
<< إلَهِـي! إِنَّ بِدَايَةَ الخِذْلاَنِ الغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتَكَ هِيَ بَذْرَةُ العِلَّةِ ، فَأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُنِي عَنْكَ وَيُبْعدُنِي مِنْكَ ، وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ ، وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ ، وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ ، وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي ، وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ وَأَنْتَ تَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يَا رَبَّ العَالَمِين! >>.
* شَرْحُ الأَلْفَاظِ :
- الغَفْلَةُ : من غَفَلَ يَغْفُلُ غُفُولاً وَغَفْلَةً عَنِ الشَّيْءِ = سَهَا عَنْهُ وَلَمْ يَفْطُنْ لَهُ.
* شَرْحُ المَعَانِي :
الغَفْلَةُ المَعْنِيَّةُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ هِيَ الغَفْلَةُ عَنِ اللَّهِ. وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ : غَفْلَةٌ عَنِ الذِّكْرِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الحُضُورِ ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الشُّعُورِ. وَمِنَ الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ فِي هَذَا البَابِ: <<الذِّكْرُ غَايَتُهُ الحُضُورُ ، وَالحُضُورُ عَتَبَةُ الشُّعُورِ>>. وَعَلَيْهِ :
- فالصِّنْفُ الأَوَّلُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ البِدَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ اللِّسَانِ. حَيْثُ يَتْرُكُونَ الذِّكْرَ إِلَى اللَّغْوِ وَالنِّسْيَانِ. <<وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً>>142 النّساء. <<نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ>>19 الحشر.
- وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِلسَّائِرِينَ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِكْرِ الجَنَانِ ، أَيْ أَهْلُ مَقَامِ الحُضُورِ. وَإِنَّ الحُضُورَ حَالُ الذَّاكِرِ فِي مُرَاقَبَةِ ذَاتِ الحَقِّ مِنْ خِلاَلِ مُشَاهَدَةِ صِفَاتِ الخَلْقِ. فَهْوَ إِذَنْ يَسْتَبْقِي مِسَافَةَ المُرَاقَبَةِ مَهْمَا قَصُرَتْ وَشَفَّتْ. وَلِهَذَا فَالحُضُورُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ مَقَامِ الفَرْقِ. يَبْدَأُ حُضُورًا لِلْمَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا مَعَ المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا فِي المَذْكُورِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حُضُورًا بِالمَذْكُورِ. وَهْوَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَسْتَشْرِفُ سِرَّ الذَّاتِ مُعَظِّمًا ومُقَدِّسًا لَهَا. وَأَثْنَاءَ تِلْكَ التَّحَوُّلاَتِ يُخْشَى عَلَى السَّائِرِ أَنْ تَتَكَاثَفَ عَلَى بَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ حُجُبٌ مِنَ الصِّفَاتِ الظُّلْمَانِيَّةِ وَالنُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى تَجَاوُزِهَا مُؤَنَّسًا بِاللَّهِ لِيَخْرُجَ مِنْ ظُلُمَاتِ لَيْلِهَا وَبَحْرِهَا وَبَطْنِ حُوتِهَا وَلِيَهْزِمَ سَحَرَةَ فِرْعَوْنِهَا فِي ضُحَى يَوْمِ زَينَتِهَا. <<لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ>>88 القِصَصُ.
- وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الغَفْلَةِ : آفَّةٌ لِأَهْلِ النِّهَايَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الوِجْدَانِ وَهُمْ أَهْلُ مَقَامِ الشُّعُورِ. فَعَمَلُ أَهْلِ البِدَايَةِ ، ذِكْرُ اللِّسَانِ ، وَكُلُّ حَالاَتِ أَهْلِ الحُضُورِ ، أَهْلِ الوَسَطِ ، تَجْتَمِعُ مَعًا لَدَى العَارِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ وَحُضُورُهُ فِي نَفْسِ الوَقْتِ لِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ فَلاَ يَحْجُبُهُ فَرْقُهُ عَنْ جَمْعِهِ وَلا جَمْعُهُ عَنْ فَرْقِهِ. وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ حُضُورُهُ عَتَبَةً يَتَجَاوَزُهَا إِلَى الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ وَبَقَاءُ الذَّاكِرِ حَيَاةً وَبَقَاءً لِلَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اللَّهِ بِاللَّهِ. وَذَلِكَ مَفَادُ الحَدِيثِ :<<مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الحَيِّ وَالمَيِّتِ>>.فَإِذَا الفَرْقُ عَيْنُ الجَمْعِ وَإِذَا الفَتْقٌ فَيْضُ الرَّتْقِ <<وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا>>69الزّمر.<<وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ>>115البقرة.<<وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا>>137 ق. فَصَاحِبُ هَذَا المَقَامِ مُوَحِّدٌ لاَ يُرَاوِدُهُ وَهْمُ الغَيْرِيَّةِ.
عَلَى هَذَا الأَسَاسِ ، أَكَّدَ الشَّيْخُ فِي مُنَاجَاتِهِ أَنَّ الغَفْلَةَ مِفْتَاحُ العِلَّةِ وَمُبْتَدَأُ مَوْتِ القَلْبِ. وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ كُلِّ شَاغِلٍ عَنِ اللَّهِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ نَاظِرٍ بِنُورِ الشُّهُودِ غَيْرَ شَاعِرٍ بِحَقِيقَةِ الوُجُودِ فَيَكُونُ مِمَّنْ <<لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمُ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمُ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ>>179 الأعراف. وَمِمَّنْ <<يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ>>7 الرّوم. وَأَمَّا ذَاتُهُ <<فَهْيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٌ مُعَطَّلَةٌ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ>>45 الحجّ. وَحَيْثُ صَحَّ <<قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه>>84 الإسراء ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ أَهْلُ الصِّفَاتِ غَيْرُ المُحَقِّقِينَ الَّذِينَ حُجِبُوا عَنْ سِرِّ الذّاتِ بِظُلُمَاتِ وَأَنْوَارِ الظَّاهِرِ ، أَوْ لِنَقُلْ بِسَرَابِ الصِّفَاتِ. فَهُمْ سُكَارَى مُخَدَّرُونَ بِِسَكْرَةِ الحِسِّ ، عَلَى رَأْيِ العَلاَوِي ، لاَ بِخَمْرِ القُدْسِ. قَدْ هَمَدَتْ بَوَاطِنُهُمْ ، فَهُمْ لاَ يَتَعَامَلُونَ إِلاَّ عَلَى مُسْتَوَى انْفِعَالِ الجَوَارِحِ لِلْمُؤَثِّرَاتِ المَادِّيَّةِ. مَفْعُولاً بِهِمْ غَيْرَ فَاعِلِينَ <<أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ>>21 النّحل. وَدَفْعًا لِكُلِّ تِلْكَ المَهَالِكِ اسْتَعَاذَ مِنْ وَهْمِ البُعْدِ وَالاِنْفِصَالِ وَمِنَ الحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ وَالظُّلْمَانِيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا صِفَاتُ الحَقِّ وَمِنْهَا صِفَاتُ الخَلْقِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فِي الحَقِيقَة صِفَاتُ اللَّهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ ، كَمَا سَنَرَى لاَحِقًا.
وَحَيْثُ أَنَّ الغَفْلَةَ أَرْضٌ مُهَيَّأَةٌ لِبَذْرَةِ المَعْصِيَةِ فَإِنَّ عَلِيلَ المَعْصِيَةِ عَلَى شَفَا الخِذْلاَنِ يُوشِكُ أَنْ يَهْلَكَ إِلاَّ أَنْ تَتَدَارَكَهُ العِنَايَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَجَاوَزَ تِلْكَ الحُجُبَ الظُّلْمَانِيَّةَ وَالنُّورَانِيَّةَ مُتَمَسِّكًا بِشَرِيعَةِ الطَّرِيقِ وَمِنْهَاجِ التَّحْقِيقِ. وَالشَّرِيعَةُ لُغَةً هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى بِئْرِ المَاءِ. وَفِي مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ طَرِيقٌ وَمِنْهَاجٌ إِلَى الحَقِّ. وَمَاءُ البِئْرِ المَوْرُودُ هُوَ سِرُّ الوُجُودِ الكَامِنِ كُمُونَ المَاءِ فِي غَيْبِ السَّمَاءِ وَفِي بَاطِنِ الأَرْضِ وَالَّذِي بِهِ الحَيَاةُ الحَقُّ <<وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ>>30 الأنبياء. وَعَلَيْهِ فَكُلُّ طَرِيقٍ أَوْ مَسْلَكٍ لاَ يُؤَدِّي إِلَى مَاءِ بِئْرٍ مَوْرُودٍ لاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ شَرِيعَةً. وَكُلُّ شَرِيعَةٍ لاَ تُؤَدِّي إِلَى سِرِّ حَقِيقَةِ الوُجُودِ فَإِنَّمَا هِيَ ضَلاَلَةٌ.
وَحَيْثُ أَنَّ الذَّاتَ ، لُغَةً ، هِيَ ظَاهِرُ عَيْنِ الشَّيْءِ مُقَابِلَ بَاطِنِهِ وَمَعْنَاهُ. مِثَالُ ذَلِكَ كُلُّ كَائِنٍ حَيٍّ. فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الجَسَدُ ذَاتٌ حِسِّيَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَمِنْ حَيْثُ الرُّوحُ سِرٌّ غَيْبِيٌّ بَاطِنٌ. وَبِاعْتِبَارِ عِلْمِ النَّحْوِ فَإِنَّ "اسْمَ الذَّاتِ" مَا يَقَعُ عَلَى ذَاتٍ كَالرَّجُلِ وَالأَسَدِ. وَإِنَّ "اسْمَ المَعْنَى" مَا يَقَعُ عَلَى مَعْنَوِيٍّ كَالعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالكَرَمِ. وَحَيْثُ أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَحْمَدُ زَرُّوق فِي قَوَاعِدِهِ ، هِيَ <<مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَتُهُ>> فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كُلِّيَتُهُ المُحَصَّلَةُ جَمْعًا ، غَيْبًا وَشَهَادَةً ، وَوَحْدَةً قَائِمَةً مَوْجُودَةً مَشْهُودَةً مِنْ حَيْثُ مَدْلُولاَتُ اسْمَيْهِ "الظَّاهِرُ" وَ"البَاطِنُ". وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الذَّاتَ الإِلَهِيَّةَ مَوْجُودَةٌ مَشْهُودَةٌ لاَ يَحْجِبُهَا شَيْءٌ : <<قُلَ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*>> 19الأنعام. وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ ، دَعَا الشَّيْخُ اللَّهَ فَقَالَ: <<وَسَيِّرْنِي فِي مِنْهَاجِ شَرِيعَتِكَ الأَقْوَمِ>> وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ سَيْرَهُ مُؤَدِّيًا رَأْسًا إِلَى التَّحَقُّقِ بِسِرِّ تَوْحِيدِ اللَّهِ الحَيِّ الكَامِنِ فِي بَاطِنِ كُلِّ الوُجُودِ ، وَالقَيُّومِ الظَّاهِرِ بِجَمِيعِ أَنْوَارِ وَصِفَاتِ الشُّهُودِ.
وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ تُسْقَى جَمِيعُهَا بِمَاءٍ واحِدٍ هُوَ مَاءُ الحَيَاةِ الدَّافِقِ مِنْ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الأُكْلِ ، فَإِنَّ ذَاتَ الوُجُودِ المَعْنِيَّةَ بِاسْمِ اللَّهِ "الظَّاهِرُ" تَسْقِي جَمِيعَ صِفَاتِهَا المَعْنَوِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ فِي المَخْلُوقَاتِ بِسِرٍّ وَاحِدٍ وَهْوَ المُتَمَثِّلُ فِي الرُّوحِ الَّذِي نَفَخَهُ اللَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ مِنْ رُوحِهِ وَسِرِّ وُجُودِهِ فِي طِينَةِ ظُهُورِهِ وَشُهُودِهِ بِحَيْثُ أَبْدَى غَيْبَ ذَاتِهِ بِشُهُودِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي كَسَاهَا حُلَلَ أَنْوَارِ أَفْعَالِهِ وَصَفَاتِهِ <<كُنْتُ كَنْزًا خَفِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَبِي عَرَفُونِي>>حديث قدسي.
وَحَيْثُ أَنَّ مِنَ الصِّفَاتِ ظُلْمَانِيَّةٌ كَافِرَةٌ تَجْحَدُ اللَّهَ ، وَأُخْرَى نُورَانِيَّةٌ مُؤْمِنَةٌ مُحْسِنَةٌ تَشْهَدُ وَتُشْهِدُ اللَّهَ، عَلَى غِرَارِ آيَتَيْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، سَأَلَ الشَّيْخُ اللَّهَ أَنْ يَكْسُوَهُ أَنْوَرَ وَأَقْدَسَ حُلَلِ شُهُودِهِ الصِّفَاتِيِّ فَقَالَ: <<وَأَلْبِسْنِي أَعْظَمَ حُلَّةٍ مِنْ نُورِكَ الأَعَزِّ الأَعْظَمِ >>. حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ الجَمْعِ قَائِمًا للَّهِ فِي اللَّهِ دَالاًّ عَلَيْهِ بِهِ. وَلِهَذَا طَلَبَ التَّمْكِينَ. وَكُلُّ مُمَكَّنٍ يَتَطَلَّبُ مَكَانًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ أَيْ مُسْتَقَرٌّ يُهَيْمِنُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وُجُودًا وَلاَ شُهُودًا. فَقَالَ الشَّيْخُ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَطَلَبَ الثَّبَاتَ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ فِيهَا بِهَا وَشُهُودٌ مِنْهَا لَهَا حَتَّى لاَ يَنْحَجِبَ عَنْ حَقِيقَةِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ حَقِيقَتِهِ وَبَدُّهُ اللاَّزِمُ مُوَافَقَةً لِابْنِ سَبْعِينَ. وَالحُجُبُ ثَلاَثَةٌ : - حُجُبٌ نَفِسِيَّةٌ. وَحُجُبٌ كَوْنِيَّةٌ. وَحُجُبٌ إِلَهِيَّةٌ. وَلاَ يُمْكِنُ خَرْقُ الحُجُبِ الكَوْنِيَّةِ ثُمَّ الإِلَهِيَّةِ إِلاَّ بِخَرْقِ الحُجُبِ النَّفْسِيَّةِ بِإِرْجَاعِ النَّفْسِ ، حِسًّا وَمَغْنًى ، إِلَى نَفْسِ اللَّهِ القَائِلِ: <<يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَّنِسَاءَ>>1 النّساء. وَالقَائِلُ: <<وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه وَإِلَيْهِ المَصِيرُ>>28 آل عمران. ثُمَّ بِإِرْجَاعِهَا رُوحًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَى اللَّهِ الَّذِي نَفَخَهَا مِنْ رُوحِهِ فِي طِينَةِ التَّكْوِينِ وَالتَّلْوِينِ. وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ ذَوْقًا وَحَقًّا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: <<إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاتِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرْءَانِ وَمَنَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ >>111 التَّوْبَة. وَإِنْجَازُ هَذِهِ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ مَوْتَ النَّفْسِ بِالكُلِّيَّةِ. فَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: <<أَعْدَى أَعْدَائِكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ>> وَلَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَبَّهُ: <<كَيْفَ الوُصُولُ إِلَيْكَ يَا رَبِّ؟>> اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَوْتَ النَّفْسِ فَقَالَ: <<أُتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ>>. فَقَوْلُ الشَّيْخِ: <<وَمَكِّنِّي فِي تَلْوِينِ تَجَلِّيَاتِ الأََسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> طَلَبَ بِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَبِذَاتِ اللَّهِ ثَابِتًا مُمَكَّنًا فِيهَا وَبِهَا لاَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ مُتَحَوِّلَةً مُتَبَدِّلَةً خَاصَّةً وَأَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مَخَلُوقَةٌ لاَ حَيَاةَ لَهَا وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالذَّاتِ ، لاَ تَشْفَعُ عِنْدَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا. فَهْيَ لاَ تُبْدِيءُ وَلاَ تُعِيدُ. حَتَّى إِذَا اسْتُجِيبَ لَهُ كَانَ مِنَ الذَّاتِ فِي الذَاتِ فَسَأَلَ: << حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>> فَانْقَشَعَ عَنَهُ حِجَابُ الصِّفَاتِ فَأَدْرَكَ وُجُودَ الذَّاتِ حَقِيقَةً وَأَبْصَرَهَا خَلِيقَةً حَيْثُ <<لاَ يَرَى اللَّهَ إِلاَّ اللَّهُ>> وَ<<الطُّيُورُ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ>> فَمَاتَتِ النَّفْسُ عَنْ نَفْسِهَا لِقَوْلِهِ: <<وَغَيِّبْنِي فِيهَا بِكَ عَنِّي>> غِيَابًا كَامِلاً دَائِمًا فِي سِرِّ قُدْسِهَا القَدِيمِ بِغِيَابِ ظِلِّ الكَوْنِ العَدِيمِ ، وَامِّحَاءِ حَيِّزِ وَحُدُودِ الأَيْنِ ، وَاحْتِرَاقِ حِجَابِ الغَيْنِ ، فَتُشْرِقُ أَرْضُ ["أَنَا" حَاضِرِ الشُّهُودِ المُشْرِقْ] بِنُورِ رَبِّهَا [سِرِّ "إِنِّي" غَيْبِ الوُجُودِ المُطْلَقِ] فَلاَ يَحِقَّ وَلاَ يَتَحَقَّقَ إِلاَّ اللَّهُ [<<إِنَّنِي أنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا>>14 طه.] فَتَنْبَعِثَ النَّفْسُ عِنْدَئِذٍ بِسِرِّ قُدْسِهَا وَأَنْوَارِ وَصِفَاتِ أُنْسِهَا. وَلِذَلِكَ طَلَبَ إِدَامَةَ هَذِهِ الحَالِ وَجَعْلَهَا مَقَامًا ثَابِتًا وَشَأْنًا ذَاتِيًّا إِلَهِيًّا كَامِلاً فَقَالَ: <<وَتَوَلَّنِي مِنْكَ بِالحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّمْكِينِ>>. فَإِذَا هُوَ مِنَ الذَّاتِ [مِنْكَ] فِي الذَّاتِ غَيْرَ مُحَيَّزٍ فِيهَا ، تَشْمَلُهُ الذَّاتُ بِرِعَايَةٍ مِنْهَا [مِنْكَ] مِنْ حَيْثُ حَيَاةُ الذَّاتِ وَقَيُّومِيَّتُهَا. وفي هَذَا المَقَامِ يَكُونُ نَظَرُ الصِّفَةِ/المَخْلُوقِ بِنُورِ الذَّاتِ/اللَّهِ ، فَتَرَى العَيْنُ عَيْنَهَا بِالبَصَرِ نُورًا وَبِالقَلْبِ حُضُورًا وَبِبَصِيرَةِ الرُّوحِ سِرًّا مَسْتُورًا. وَذَلِكَ مَطْمَحُ قَوْلِهِ: <<حَتَّى لاَ تَقَعَ عَيْنِي إِلاَّ عَلَى ذَاتِ الذَّاتِ>>. فَإِنَّ صَيْرُورَةَ الذَّاكِرِ صَيْرُورَةٌ ذَاتِيَّةٌ يُنْجِزُهَا تَحَوُّلاً عَبْرَ مَسِيرَةِ السَّيْرِ بِالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالمُذَاكَرَةِ حَتَّى يَصِيرَ اللَّهُ [عَيْنَهُ الَّتِي بِهَا يَرَى وَأُذْنَهُ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيَدَهُ الَّتِي بِهَا يَبْطُشُ وَرِجْلَهُ الَّتِي بِهَا يَسْعَى] الحَدِيثُ القُدُسِيُّ المَشْهُورُ.
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 70
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
بوركت يا سري....
و..... لازال أسماعيل ينفق...
محمد- عدد الرسائل : 657
العمر : 60
المزاج : إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففـــــــي وجـه مـن تـهـوى جـمـيـع الـمـحـاســـــــــن
تاريخ التسجيل : 10/02/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
أخي الكريم أبا عماد ،،
شكرا على مرورك اللّطيف .. وبارك الله فيك ..
أسأل الله لي ولك ولكلّ أهل النّسبة مزيدا من نوره وسرّه ..
وجازى الله عنّا شيّخنا إسماعيل أكرم الجزاء ..
وما التّوفيق إلاّ باللّه ، عليه توكّلتُ وإليه أنيب ...
شكرا على مرورك اللّطيف .. وبارك الله فيك ..
أسأل الله لي ولك ولكلّ أهل النّسبة مزيدا من نوره وسرّه ..
وجازى الله عنّا شيّخنا إسماعيل أكرم الجزاء ..
وما التّوفيق إلاّ باللّه ، عليه توكّلتُ وإليه أنيب ...
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 70
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
جازاك الله خيرا سيدي الغالي سرّي خماري على الشرح المستفيض
وأما بنعمة ربك فحدث أي حدّث مما آتاك الله تعالى
وأما بنعمة ربك فحدث أي حدّث مما آتاك الله تعالى
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
الأخ الكريم سيّدي : علي ..
شكرا على مصافحتك اللّطيفة ..
إنّي أقرأ باهتمام كبير كلّ ما يفيض به علينا قلبك في هذا المنتدى ..
وأنت المبحر دائما تخرج لنا من بحر الوجود لؤلؤ ومرجان الشّهود ..
أسأل الله لك كلّ التّوفيق .. وأن ينفعك وينفع بك أهل الطّريق ... آمين...
شكرا على مصافحتك اللّطيفة ..
إنّي أقرأ باهتمام كبير كلّ ما يفيض به علينا قلبك في هذا المنتدى ..
وأنت المبحر دائما تخرج لنا من بحر الوجود لؤلؤ ومرجان الشّهود ..
أسأل الله لك كلّ التّوفيق .. وأن ينفعك وينفع بك أهل الطّريق ... آمين...
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 70
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
رد استرواح حول مراة الداكرين
بسم الله والحمد لله وصلى الله على رسول الله
تحية وسلاما دائمين بدوام ملك الله هده فيوضات وامداد ربانية مهدات باشراقة نور الشمس حيثما ما بزغت واضاءة العوالم بنورها الوهاج*قال تعالى واشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب*نعم سيدي سادتي الكرام شيء والله عظيم ومدده مستديم وهده علامة كبيرة واضحة جلية لعلو مرتبة قطب الوقت واتساع مدده بالعطاء لاتباعه ومريديه اكمل اخي هدا وارد نابع من قلب صافي مستنيروالزم الانتباه لبعض الكلمات اللفضية /الفقرة التي يقول فيها *وغيبني فيها بك عنها-- وليست بك عني* والى اللقاء في مشاركة قادمة ان شاء الله
والسلام مع تحبات ابو اسامة *ودمتم في رعاية الله وحفظه
تحية وسلاما دائمين بدوام ملك الله هده فيوضات وامداد ربانية مهدات باشراقة نور الشمس حيثما ما بزغت واضاءة العوالم بنورها الوهاج*قال تعالى واشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب*نعم سيدي سادتي الكرام شيء والله عظيم ومدده مستديم وهده علامة كبيرة واضحة جلية لعلو مرتبة قطب الوقت واتساع مدده بالعطاء لاتباعه ومريديه اكمل اخي هدا وارد نابع من قلب صافي مستنيروالزم الانتباه لبعض الكلمات اللفضية /الفقرة التي يقول فيها *وغيبني فيها بك عنها-- وليست بك عني* والى اللقاء في مشاركة قادمة ان شاء الله
والسلام مع تحبات ابو اسامة *ودمتم في رعاية الله وحفظه
ابو اسامة- عدد الرسائل : 522
العمر : 74
الموقع : الرّديف
العمل/الترفيه : متقاعد cpg
المزاج : عادي
تاريخ التسجيل : 21/02/2009
رد: اسْتِرْوَاحٌ حَوْلَ مِرْآةِ الذَّاكِرِينَ
أتابع بكل لهفة وشغف ما تكتبون إخوتي المحترمين
وأنتم المبحرون دائما تخرجون لنا من بحر الوجود لؤلؤا ومرجان الشّهود
وأنتم المبحرون دائما تخرجون لنا من بحر الوجود لؤلؤا ومرجان الشّهود
أمة الله- عدد الرسائل : 92
العمر : 51
تاريخ التسجيل : 23/04/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 25 مارس 2024 - 9:27 من طرف أبو أويس
» المدد
الأحد 24 مارس 2024 - 19:40 من طرف أبو أويس
» جنبوا هذا المنتدى المساهمات الدعائية
الأربعاء 20 مارس 2024 - 19:24 من طرف أبو أويس
» حقيقة الاستواء عند الأشعري في الإبانة
السبت 16 مارس 2024 - 19:35 من طرف أبو أويس
» أمة جحر الضب حق عليها العذاب
السبت 9 مارس 2024 - 2:52 من طرف علي
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
الثلاثاء 5 مارس 2024 - 14:12 من طرف الطالب
» إستفسار عمن يتنقل بين الطرق
الثلاثاء 5 مارس 2024 - 9:22 من طرف أبو أويس
» لماذا نتخذ الشيخ مرشدا ؟
الإثنين 4 مارس 2024 - 20:57 من طرف رضوان
» مسح العينين بباطن أنملتي السبابتين بعد تقبيلهما
الجمعة 23 فبراير 2024 - 15:21 من طرف أبو أويس
» مسح العينين بباطن أنملتي السبابتين بعد تقبيلهما
الجمعة 23 فبراير 2024 - 15:20 من طرف أبو أويس
» ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا تنفع.
الثلاثاء 13 فبراير 2024 - 20:26 من طرف أبو أويس
» ما هى أسباب عدم الفتح على كثير من السالكين فى هذا الزمان ؟
الثلاثاء 13 فبراير 2024 - 20:19 من طرف أبو أويس
» من وصايا الشّيخ أحمد العلاوي للشّيخ محمّد المدني رضي الله عنها
الثلاثاء 13 فبراير 2024 - 20:16 من طرف أبو أويس
» لماذا وقع الإمام الجنيد مغشيا عليه
الثلاثاء 13 فبراير 2024 - 20:14 من طرف أبو أويس
» من كرامات الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه وقدس سره
الثلاثاء 13 فبراير 2024 - 20:11 من طرف أبو أويس