بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
من مذاكرات سيدي محمّد المنوّر المداني رضي الله عنه ..
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
من مذاكرات سيدي محمّد المنوّر المداني رضي الله عنه ..
الشّوقُ مَرْكَبِي
الشّيخ سيّدي محمّد المنوّر المدني
بسم الله الرّحمان الرّحيم
الشّوق الى الله من أعلى المقامات القلبية وأغلاها. وهو الحال الكاشف عن حقيقة الايمان والدَّال على مقدار المحبَّة الربانية. وبمناسبة أختام القرآن التي تليت في ذكرى الشيخ سيدي محمد المدني رحمه الله في 29 أوت 2009، يَستَعرضُ شَيخُنَا سيِّدي مُحمَّد الـمُنوّر المدني، أطال الله بَقَاءَه، مَفهومَ عِشق اللهِ، وَدَلائلَهُ وَطُرُقَ تَقْوِيتِهِ.
الـلّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَاركْ عَلَى سيّدنَا وَمولانَا مُحمّدٍ، سَيّدِ الـمُشتَاقِينَ وَنُورِ أَبصارِهِم، عُمدَةِ العَارفِينَ وَمَعدَنِ أَسرَارِهم، تَاجِ الأَولياءِ وَبَهجَةِ فَخَارِهِم، مَنْ اهتَاجَت الأَشوَاقُ الرَبَّانيّةُ بِقلبِهِ الشَّريفِ، فَكانَ صَفوةَ الأَنبياء وَخِيارَ خِيارِهِم، وَعَلَى آلِه وَصَحَابَتِه وَكُلِّ مَنْ استَمَدَّ مِن بِحَارِهِم وَسَارَ عَلَى نَهْجِهم وَاقتَدَى بِأَنْوارِهِم .(تبارك الله إنّها لصلاة متنزّل من أعلى الصّفاء القدسيّ ) ..
الشّوقُ إلى الله مِن أَعظَم الـمَقَامَات التِي يَتَكَرّمُ اللهُ بِهَا عَلَى مَن اختَصَّ مِن عِبَادِه الذّاكرينَ، وَحقيقةُ الشّوقِ شدّةُ الرَّجَاءِ في لِقَاءِ اللهِ شدّةً تَهزُّ أَعطافَ القُلُوب، وَبِقَدر الشّوقِ يَكونُ القُربُ مِنَ الله. فَالشّوقُ يَتَوَلَّدُ مِن صَادِق الـمَحَبَّةِ وَفَرطِهَا، وَلكِن مَهْمَا اشتَاقُ العَبدُ إلَى رَبّهِ كَانَ شَوقُ اللهِ إليهِ أَكبَرَ.
وَالشّوقُ إلَى اللهِ مَقَامٌ قُرآنيّ كَريمٌ، شَهِدَت لَه الآياتُ مِنَ الذكرِ الـحَكِيم، وَنَطقَت به أَدِلّةُ التَنزِيل القَويمِ، فَقَالَ اللهُ فِي مُحكَمِ الكلاَم القَديم: “مَن كَانَ يَرجُو لقاءَ اللهِ فَإنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهو السّميع العَليم”. (الآية 5 من سورة العنكبوت). وَقَالَ فِي آخِرِ آيةٍ مِن سُورَةِ الانشراح: “وَإلَى رَبِّكَ فَارغَبْ”، صَدَقَ اللهُ العَظيم.
أَمّا سيّد الـمُشتَاقِينَ وَإمَامُهُم وَصَفوةُ الرَّاجينَ للقَاءِ الله وَهُمَامُهُم، فَقد كَانَ يدعو ربّه وَيناجِيهِ حَتّى يُخفّفَ عنه ما كانَ مِن لَواعِجِ الأَشوَاق الطّاهرة يعتريهِ، فَقَد جَاء في الحديث الذي رَوَاه القَاضي عِياض فِي الشِّفَاء -وَأَعْظِمْ بِه حُجَّةً –: “أَنّ عَليّا رَضي الله عنه قَال سألت رسولَ الله صلّى الله عليه وَسلّم عَن سُنّتِهِ فَقَالَ :”الـمَعرفةُ رأسُ مَالِي، وَالعَقلُ أَصْلُ دِينِي، وَالشّوقُ مَرْكَبِي وَذِكرُ اللهِ أَنِيسي، وَالثِّقَة كَنزي، وَالعلم سِلاحِي، وَالصَّبر ردائي، والرِّضَاء غَنيمتِي، وَالعجزُ فَخري، وَالزُّهدُ حِرفَتِي(أَيْ عَادَتِي وَشَأنِي) وَالصدق شَفيعي، وَالطَّاعة حُبّي، وَقُرّة عَينِي فِي الصّلاة.
وَجَاءَ في حديث آخرَ عَنه، صلَّى الله عليه وسلّم، :“وَثَمرةُ فُؤادي في ذِكرهِ، وَغَمِّي لِأَجلِ أُمَّتِي وَشَوقي إلى رَبّي عَزَّ وَجَلّ”.
فَالشّوقُ إلَى الله مَقَامٌ مُحَمّدي ثابتٌ وهُوَ أَفضلُ مَن نَالَه فَتَرَقَّى به في أَعلى مراتب كمالاَتِهِ.
وَقَد وَرِثَ كبارُ الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه النّفحات القلبية الشّائقةَ والأحوال النّورانية الرائقةَ، فَنَـقَلُـوهَا وَتَـداولوها، وَفِي صَلَواتِهـم أَعادُوهَا. فَقَد وَرَدَ عَن عطاء بن السّائب عَن أبيه قال:
“صَلَّى بنا عمّار بن ياسر صلاةً فأوجزَ فيهَا فَقـلت :”خَفَّفتَ أبَا اليقظان (كُنية عمار بن ياسر). فَقَالَ: “مَا عَلَيَّ من ذلكَ، لَقد دَعوتُ اللهَ بدعَواتٍ سَمعتها مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فَلَمَّا قَامَ تَبعه رجلٌ منَ القوم فَسَأَلَه عَن الدّعوات فقال :”اللّهم بِعلمكَ الغيبَ وَقدرتكَ عَلَى الـخَلقِ، أَحْيِنِي مَا علمتَ الحياةَ خيرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا علمتَ الوفاةَ خيرًا لِي، اللّهم إنِّي أسألكَ خشيتَكَ فِي الغيبِ والشَّهادةِ، وَأسألكَ كلمةَ الـحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَـضـب وأسألك القَصدَ (أي الاعتدالَ ) في الغِنَى والفَقر وأسألك نعيمًا لاَ يبيد وَقرّةَ عينٍ لاَ تَنقَطِع، وَأسألك الرّضَا بَعدَ القَضَاء وبَردَ العَيشِ ( أَي رَغدَ العَيش والمقصود هنا الجنّة ) بَعدَ الـمَوتِ، وَأسألكَ النَّظَرَ إلَى وَجهِكَ الكَريمِ، وَشَوقًا إلى لقائكَ، فِي غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهمَّ زيِّنَا بِزينَة الإيمان، اللهمَّ اجعلنَا هُداةً مَهدين".
وَعلَى هَذا النهج النبويّ القويم، سَارَ كِبارُ العَارفين بالله، حَتّى قَال أحد العلماء العاملين: “قُلوبُ الـمشتاَقين مُنوّرةٌ بِنور الله تعالى، فَإذَا تَحرّكَ اشتياقهم أضاء النّورُ مَا بينَ السماءِ وَالأرض، فَيعرضُهم الله تَعَالَى عَلَى الـمَلاَئكة فَيقول:”هؤلاء الـمُشتَاقونَ إلَيَّ، أُشهدكُمْ أَنِّي إَليهم أشوقُ".
وَكَأَنَّ هَذه الأشواقَ لاَ يَحصرُهَا زمانٌ وَلاَ مكانٌ فَتَغَنَّى بِها كلُّ من اختصّه الله بصفاء الجَنَان وَنَقَاء الوِجدان، حَتَّى أَنَّهُ يُروَى: “أَنَّ سيّدنَا دَاودَ عَليه السّلامُ خَرَجَ يومًا إلَى بَعض الصَّحَاري مُنفَرِدًا، فَأَوحى الله تعالى إليه:”مَالِي أَراكَ يَا داود وَحدَانيّا (أَيْ مُنفَرِدًا) فَقَالَ: “إلَهِي استأثَرَ الشّوقُ إلَى لقَائِكَ عَلَى قَلبِي، فَحَالَ بَيني وَبينَ صُحبَةِ الـخَلــقِ”. فَأَوحَى الله تَعالى إليه: "ارْجِعْ إلَيهم، فإنّكَ إنْ أَتَيتَنِي بعَبدٍ آبِقٍ (غَيرَ تَائبٍ) أَثبتُّكَ فِي اللَّوح الـمَحفوظِ جَهْبَذًا(من أَكابر العبّاد الـمُقَرَّبينَ).
كَمَا أَوحَى الله إلى داود عليـه السّلام: "قُـلْ لِشـبَّانِ بَنـي اسـرَائـيل لِمَ تَـشغَـلُـونَ أنفُـسَكُـم بِغَيرِي، وَأَنَا مُشتَاقٌ إليكُم، مَا هَذَا الـجَفَاءُ ؟
وَفِي نَفس السِّيَاقِ، يُروَى:“أنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ أَوحَى إلى دَاودَ عَليه السلام:”لَو يَعلَمِ الـمُدْبِرونَ عَنَّي كَيفَ انتظَاري لَهُم وَرفْقِي بِهم لَأَتوْا شَوقًا إليَّ، وانقَطَعَت أَوصَالُهُم مِن مَحَبَّتِي، يَا دَاود هَذه إرَادَتِي فِي الـمُدبِرينَ عَنِّي، فَكيفَ إرَادَتِي فِي الـمُقْبِلِينَ إَلَيَّ".
وَبِمنَاسَبَةِ الحَديثِ عَن أَشْوَاق الأَنبياء وَالـمُرسَلين يُروى: “أنَّ سَيِّدَنَا شعيبًا بَكَى حَتَّى عَمِيَ فَرَدَّ الله عزّ وجلّ بصره، ثمّ بَكَى حَتّى عَميَ، فَأوحى الله تعالى إليه :”إنْ كَانَ هَذَا البُكَاءُ لِأَجل الجنّة فقد أبَحتُهَا لَكَ، وإن كَانَ لأجل النّار فقد أَجرتُكَ منها. فَقَالَ: “لاَ بَل شوقًا إلَيكَ،” فَأَوحَى الله عزّ وجلّ إليه: لِأَجْلِ ذَلك أَخدَمْتُكَ نَبِييّ وَكَلِيمي (يَعني سيدَنَا موسى عليه السلام) عَشرَ سنينَ.
وَمِـن رَقائـق مَا يُروَى عَـن أَشواق العَــارفيــن بربّهـم أَنَّ عَجــوزًا قَدم بَعض أقاربِهَا مِنَ السفر، فَأَظهَرَ القَومُ السرورَ وَالعَجوزُ تَبكي، فَقيلَ :“لَهَا مَا يُبكيكَ؟ فَقَالَت:”ذَكَّرَنِي قُدومُ هَذَا الفَتَى يَومَ القُدومِ عَلَى الله تَعَالَى".
يَقول الشّاعر :
وَأَعظَـمُ مَا يَكـون الشّوقُ يومًا *** إذَا دَنَــتِ الـخِيَــامُ مِنَ الِخيَــام
وَعَن غمرة الأشواق التي تَملأُ كلَّ القُلوب، قَالَ أحدهم : “مَن اشتاقَ إلى الله اشتاق إليهِ كُلُّ شيءٍ”.
وَأَفضَلُ مَا نَختم به هذه العجالَةَ قَولُ الله تعالى:“فَمَنْ كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صًالِـحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” (سورة الكهف الآية 110 ).
ولا يَسَــعُـنَا إلاَّ التَّوجُّــهُ إلَى اللهِ بقُــلـوبٍ خَاشعَــةٍ وأفــئدَة ضَارعةٍ مُتَوسِّلينَ بِجاه سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وسلّم:اللَّهم أَنِلْنَا من صَادِقِ الأَشواقِ مَا بِه تُنيـرُ قُلوبَنَا، وَمِن رقيقِ الأَذْوَاقِ مَا به تَشفي كُروبَنَا، وَمِن لَطيف الأَفهام مَا بِه تُطَهِّر عُيوبَنَا، وَمِن خَفِيّ الأَلطاف ما به تَغفر ذُنوبَنَا، وَمِن جَلِيّ الإكرام مَا به تُضَاعِفُ حَسَنَاتِنَا، آمِين.
الشّيخ سيّدي محمّد المنوّر المدني
بسم الله الرّحمان الرّحيم
الشّوق الى الله من أعلى المقامات القلبية وأغلاها. وهو الحال الكاشف عن حقيقة الايمان والدَّال على مقدار المحبَّة الربانية. وبمناسبة أختام القرآن التي تليت في ذكرى الشيخ سيدي محمد المدني رحمه الله في 29 أوت 2009، يَستَعرضُ شَيخُنَا سيِّدي مُحمَّد الـمُنوّر المدني، أطال الله بَقَاءَه، مَفهومَ عِشق اللهِ، وَدَلائلَهُ وَطُرُقَ تَقْوِيتِهِ.
الـلّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَاركْ عَلَى سيّدنَا وَمولانَا مُحمّدٍ، سَيّدِ الـمُشتَاقِينَ وَنُورِ أَبصارِهِم، عُمدَةِ العَارفِينَ وَمَعدَنِ أَسرَارِهم، تَاجِ الأَولياءِ وَبَهجَةِ فَخَارِهِم، مَنْ اهتَاجَت الأَشوَاقُ الرَبَّانيّةُ بِقلبِهِ الشَّريفِ، فَكانَ صَفوةَ الأَنبياء وَخِيارَ خِيارِهِم، وَعَلَى آلِه وَصَحَابَتِه وَكُلِّ مَنْ استَمَدَّ مِن بِحَارِهِم وَسَارَ عَلَى نَهْجِهم وَاقتَدَى بِأَنْوارِهِم .(تبارك الله إنّها لصلاة متنزّل من أعلى الصّفاء القدسيّ ) ..
الشّوقُ إلى الله مِن أَعظَم الـمَقَامَات التِي يَتَكَرّمُ اللهُ بِهَا عَلَى مَن اختَصَّ مِن عِبَادِه الذّاكرينَ، وَحقيقةُ الشّوقِ شدّةُ الرَّجَاءِ في لِقَاءِ اللهِ شدّةً تَهزُّ أَعطافَ القُلُوب، وَبِقَدر الشّوقِ يَكونُ القُربُ مِنَ الله. فَالشّوقُ يَتَوَلَّدُ مِن صَادِق الـمَحَبَّةِ وَفَرطِهَا، وَلكِن مَهْمَا اشتَاقُ العَبدُ إلَى رَبّهِ كَانَ شَوقُ اللهِ إليهِ أَكبَرَ.
وَالشّوقُ إلَى اللهِ مَقَامٌ قُرآنيّ كَريمٌ، شَهِدَت لَه الآياتُ مِنَ الذكرِ الـحَكِيم، وَنَطقَت به أَدِلّةُ التَنزِيل القَويمِ، فَقَالَ اللهُ فِي مُحكَمِ الكلاَم القَديم: “مَن كَانَ يَرجُو لقاءَ اللهِ فَإنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهو السّميع العَليم”. (الآية 5 من سورة العنكبوت). وَقَالَ فِي آخِرِ آيةٍ مِن سُورَةِ الانشراح: “وَإلَى رَبِّكَ فَارغَبْ”، صَدَقَ اللهُ العَظيم.
أَمّا سيّد الـمُشتَاقِينَ وَإمَامُهُم وَصَفوةُ الرَّاجينَ للقَاءِ الله وَهُمَامُهُم، فَقد كَانَ يدعو ربّه وَيناجِيهِ حَتّى يُخفّفَ عنه ما كانَ مِن لَواعِجِ الأَشوَاق الطّاهرة يعتريهِ، فَقَد جَاء في الحديث الذي رَوَاه القَاضي عِياض فِي الشِّفَاء -وَأَعْظِمْ بِه حُجَّةً –: “أَنّ عَليّا رَضي الله عنه قَال سألت رسولَ الله صلّى الله عليه وَسلّم عَن سُنّتِهِ فَقَالَ :”الـمَعرفةُ رأسُ مَالِي، وَالعَقلُ أَصْلُ دِينِي، وَالشّوقُ مَرْكَبِي وَذِكرُ اللهِ أَنِيسي، وَالثِّقَة كَنزي، وَالعلم سِلاحِي، وَالصَّبر ردائي، والرِّضَاء غَنيمتِي، وَالعجزُ فَخري، وَالزُّهدُ حِرفَتِي(أَيْ عَادَتِي وَشَأنِي) وَالصدق شَفيعي، وَالطَّاعة حُبّي، وَقُرّة عَينِي فِي الصّلاة.
وَجَاءَ في حديث آخرَ عَنه، صلَّى الله عليه وسلّم، :“وَثَمرةُ فُؤادي في ذِكرهِ، وَغَمِّي لِأَجلِ أُمَّتِي وَشَوقي إلى رَبّي عَزَّ وَجَلّ”.
فَالشّوقُ إلَى الله مَقَامٌ مُحَمّدي ثابتٌ وهُوَ أَفضلُ مَن نَالَه فَتَرَقَّى به في أَعلى مراتب كمالاَتِهِ.
وَقَد وَرِثَ كبارُ الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه النّفحات القلبية الشّائقةَ والأحوال النّورانية الرائقةَ، فَنَـقَلُـوهَا وَتَـداولوها، وَفِي صَلَواتِهـم أَعادُوهَا. فَقَد وَرَدَ عَن عطاء بن السّائب عَن أبيه قال:
“صَلَّى بنا عمّار بن ياسر صلاةً فأوجزَ فيهَا فَقـلت :”خَفَّفتَ أبَا اليقظان (كُنية عمار بن ياسر). فَقَالَ: “مَا عَلَيَّ من ذلكَ، لَقد دَعوتُ اللهَ بدعَواتٍ سَمعتها مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فَلَمَّا قَامَ تَبعه رجلٌ منَ القوم فَسَأَلَه عَن الدّعوات فقال :”اللّهم بِعلمكَ الغيبَ وَقدرتكَ عَلَى الـخَلقِ، أَحْيِنِي مَا علمتَ الحياةَ خيرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا علمتَ الوفاةَ خيرًا لِي، اللّهم إنِّي أسألكَ خشيتَكَ فِي الغيبِ والشَّهادةِ، وَأسألكَ كلمةَ الـحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَـضـب وأسألك القَصدَ (أي الاعتدالَ ) في الغِنَى والفَقر وأسألك نعيمًا لاَ يبيد وَقرّةَ عينٍ لاَ تَنقَطِع، وَأسألك الرّضَا بَعدَ القَضَاء وبَردَ العَيشِ ( أَي رَغدَ العَيش والمقصود هنا الجنّة ) بَعدَ الـمَوتِ، وَأسألكَ النَّظَرَ إلَى وَجهِكَ الكَريمِ، وَشَوقًا إلى لقائكَ، فِي غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهمَّ زيِّنَا بِزينَة الإيمان، اللهمَّ اجعلنَا هُداةً مَهدين".
وَعلَى هَذا النهج النبويّ القويم، سَارَ كِبارُ العَارفين بالله، حَتّى قَال أحد العلماء العاملين: “قُلوبُ الـمشتاَقين مُنوّرةٌ بِنور الله تعالى، فَإذَا تَحرّكَ اشتياقهم أضاء النّورُ مَا بينَ السماءِ وَالأرض، فَيعرضُهم الله تَعَالَى عَلَى الـمَلاَئكة فَيقول:”هؤلاء الـمُشتَاقونَ إلَيَّ، أُشهدكُمْ أَنِّي إَليهم أشوقُ".
وَكَأَنَّ هَذه الأشواقَ لاَ يَحصرُهَا زمانٌ وَلاَ مكانٌ فَتَغَنَّى بِها كلُّ من اختصّه الله بصفاء الجَنَان وَنَقَاء الوِجدان، حَتَّى أَنَّهُ يُروَى: “أَنَّ سيّدنَا دَاودَ عَليه السّلامُ خَرَجَ يومًا إلَى بَعض الصَّحَاري مُنفَرِدًا، فَأَوحى الله تعالى إليه:”مَالِي أَراكَ يَا داود وَحدَانيّا (أَيْ مُنفَرِدًا) فَقَالَ: “إلَهِي استأثَرَ الشّوقُ إلَى لقَائِكَ عَلَى قَلبِي، فَحَالَ بَيني وَبينَ صُحبَةِ الـخَلــقِ”. فَأَوحَى الله تَعالى إليه: "ارْجِعْ إلَيهم، فإنّكَ إنْ أَتَيتَنِي بعَبدٍ آبِقٍ (غَيرَ تَائبٍ) أَثبتُّكَ فِي اللَّوح الـمَحفوظِ جَهْبَذًا(من أَكابر العبّاد الـمُقَرَّبينَ).
كَمَا أَوحَى الله إلى داود عليـه السّلام: "قُـلْ لِشـبَّانِ بَنـي اسـرَائـيل لِمَ تَـشغَـلُـونَ أنفُـسَكُـم بِغَيرِي، وَأَنَا مُشتَاقٌ إليكُم، مَا هَذَا الـجَفَاءُ ؟
وَفِي نَفس السِّيَاقِ، يُروَى:“أنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ أَوحَى إلى دَاودَ عَليه السلام:”لَو يَعلَمِ الـمُدْبِرونَ عَنَّي كَيفَ انتظَاري لَهُم وَرفْقِي بِهم لَأَتوْا شَوقًا إليَّ، وانقَطَعَت أَوصَالُهُم مِن مَحَبَّتِي، يَا دَاود هَذه إرَادَتِي فِي الـمُدبِرينَ عَنِّي، فَكيفَ إرَادَتِي فِي الـمُقْبِلِينَ إَلَيَّ".
وَبِمنَاسَبَةِ الحَديثِ عَن أَشْوَاق الأَنبياء وَالـمُرسَلين يُروى: “أنَّ سَيِّدَنَا شعيبًا بَكَى حَتَّى عَمِيَ فَرَدَّ الله عزّ وجلّ بصره، ثمّ بَكَى حَتّى عَميَ، فَأوحى الله تعالى إليه :”إنْ كَانَ هَذَا البُكَاءُ لِأَجل الجنّة فقد أبَحتُهَا لَكَ، وإن كَانَ لأجل النّار فقد أَجرتُكَ منها. فَقَالَ: “لاَ بَل شوقًا إلَيكَ،” فَأَوحَى الله عزّ وجلّ إليه: لِأَجْلِ ذَلك أَخدَمْتُكَ نَبِييّ وَكَلِيمي (يَعني سيدَنَا موسى عليه السلام) عَشرَ سنينَ.
وَمِـن رَقائـق مَا يُروَى عَـن أَشواق العَــارفيــن بربّهـم أَنَّ عَجــوزًا قَدم بَعض أقاربِهَا مِنَ السفر، فَأَظهَرَ القَومُ السرورَ وَالعَجوزُ تَبكي، فَقيلَ :“لَهَا مَا يُبكيكَ؟ فَقَالَت:”ذَكَّرَنِي قُدومُ هَذَا الفَتَى يَومَ القُدومِ عَلَى الله تَعَالَى".
يَقول الشّاعر :
وَأَعظَـمُ مَا يَكـون الشّوقُ يومًا *** إذَا دَنَــتِ الـخِيَــامُ مِنَ الِخيَــام
وَعَن غمرة الأشواق التي تَملأُ كلَّ القُلوب، قَالَ أحدهم : “مَن اشتاقَ إلى الله اشتاق إليهِ كُلُّ شيءٍ”.
وَأَفضَلُ مَا نَختم به هذه العجالَةَ قَولُ الله تعالى:“فَمَنْ كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صًالِـحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” (سورة الكهف الآية 110 ).
ولا يَسَــعُـنَا إلاَّ التَّوجُّــهُ إلَى اللهِ بقُــلـوبٍ خَاشعَــةٍ وأفــئدَة ضَارعةٍ مُتَوسِّلينَ بِجاه سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وسلّم:اللَّهم أَنِلْنَا من صَادِقِ الأَشواقِ مَا بِه تُنيـرُ قُلوبَنَا، وَمِن رقيقِ الأَذْوَاقِ مَا به تَشفي كُروبَنَا، وَمِن لَطيف الأَفهام مَا بِه تُطَهِّر عُيوبَنَا، وَمِن خَفِيّ الأَلطاف ما به تَغفر ذُنوبَنَا، وَمِن جَلِيّ الإكرام مَا به تُضَاعِفُ حَسَنَاتِنَا، آمِين.
عبد السّميع المدني- عدد الرسائل : 92
العمر : 44
تاريخ التسجيل : 29/03/2010
رد: من مذاكرات سيدي محمّد المنوّر المداني رضي الله عنه ..
الشّوقُ مَرْكَبِي
محمد- عدد الرسائل : 657
العمر : 60
المزاج : إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففـــــــي وجـه مـن تـهـوى جـمـيـع الـمـحـاســـــــــن
تاريخ التسجيل : 10/02/2009
رد: من مذاكرات سيدي محمّد المنوّر المداني رضي الله عنه ..
...فَقَد جَاء في الحديث الذي رَوَاه القَاضي عِياض فِي الشِّفَاء -وَأَعْظِمْ بِه حُجَّةً –: “أَنّ عَليّا رَضي الله عنه قَال سألت رسولَ الله صلّى الله عليه وَسلّم عَن سُنّتِهِ فَقَالَ :”الـمَعرفةُ رأسُ مَالِي، وَالعَقلُ أَصْلُ دِينِي، وَالشّوقُ مَرْكَبِي، وَذِكرُ اللهِ أَنِيسي، وَالثِّقَة كَنزي، وَالعلم سِلاحِي، وَالصَّبر ردائي، والرِّضَاء غَنيمتِي، وَالعجزُ فَخري، وَالزُّهدُ حِرفَتِي(أَيْ عَادَتِي وَشَأنِي) وَالصدق شَفيعي، وَالطَّاعة حُبّي، وَقُرّة عَينِي فِي الصّلاة.
بارك الله فيك سيدي عبد السميع.
في إحدى الجلسات المسائية من شهر رمضان كنا في درس الشفاء مع الإمام رضي الله عنه ولما تعرّضنا لهذا الحديث قال لي: أنسخ لنا هذا الحديث العظيم فهو شعار كل فقير صادق. ثم بدأ رحمه الله بالكلام فيه وأعطى كل صفة ما تستحقّه من البيان، وحريّ بنا اليوم التّأمّل والإعتبار من هذا الحديث العظيم الشأن...
أبو أويس- عدد الرسائل : 1572
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: من مذاكرات سيدي محمّد المنوّر المداني رضي الله عنه ..
أبو أويس كتب:
...فَقَد جَاء في الحديث الذي رَوَاه القَاضي عِياض فِي الشِّفَاء -وَأَعْظِمْ بِه حُجَّةً –: “أَنّ عَليّا رَضي الله عنه قَال سألت رسولَ الله صلّى الله عليه وَسلّم عَن سُنّتِهِ فَقَالَ :”الـمَعرفةُ رأسُ مَالِي، وَالعَقلُ أَصْلُ دِينِي، وَالشّوقُ مَرْكَبِي، وَذِكرُ اللهِ أَنِيسي، وَالثِّقَة كَنزي، وَالعلم سِلاحِي، وَالصَّبر ردائي، والرِّضَاء غَنيمتِي، وَالعجزُ فَخري، وَالزُّهدُ حِرفَتِي(أَيْ عَادَتِي وَشَأنِي) وَالصدق شَفيعي، وَالطَّاعة حُبّي، وَقُرّة عَينِي فِي الصّلاة.
بارك الله فيك سيدي عبد السميع.
في إحدى الجلسات المسائية من شهر رمضان كنا في درس الشفاء مع الإمام رضي الله عنه ولما تعرّضنا لهذا الحديث قال لي: أنسخ لنا هذا الحديث العظيم فهو شعار كل فقير صادق. ثم بدأ رحمه الله بالكلام فيه وأعطى كل صفة ما تستحقّه من البيان، وحريّ بنا اليوم التّأمّل والإعتبار من هذا الحديث العظيم الشأن...
اه يا ابا اويس اصلح لكم الله اويس و اخوته .. لو تكرمتم سيدي بالجود علينا مما بينه سيدنا من استحقاق الصفات الانفة
محمد- عدد الرسائل : 657
العمر : 60
المزاج : إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففـــــــي وجـه مـن تـهـوى جـمـيـع الـمـحـاســـــــــن
تاريخ التسجيل : 10/02/2009
رد: من مذاكرات سيدي محمّد المنوّر المداني رضي الله عنه ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيدي الفاضل محمد استجابة لرغبتك عمّا بيّنه مولانا الإمام رضي الله عنه أتأسف جدا عن عدم تسجيل المذاكرة حرفيا غير أني أسوق لكم بعض ما وجدناه من تفسير هذا الحديث لأحد المشائخ الصوفية رضي الله عنهم ولا يخفى عليكم أنهم من مشكاة واحدة يغترفون وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم:
الشرح
المعرفة رأس مالى
هو أن يعرف الله عز وجل، هو الأول فليس قبله شىء، والآخر فليس بعده شىء، والظاهر فليس فوقه شىء، والباطن فليس دونه شىء، وهذا الحد هو الذى حد الله تعالى به نفسه كما جاء عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم : كان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم ( أنت الأول فليس قبلك شىء، وأنت الآخر فليس بعدك شىء) إلى آخر الحديث.
فالمعرفة : أن يمحوا الكون جملة واحدة من نظره، ولا يكون وجهه إلا لله عز وجل( فأينما تولوا فثم وجه الله) فهو رأس المال، وبه تحصل التجليات.
والعقل أصل دينى
العقل رأس كل خير، وما أنعم الله على عبد بنعمة أكبر من العقل، به يفرق بين الحق والباطل والإيمان والكفر، وبه يميز الحلال والحرام، وبه يعقل الأمور التى ترضى الله عز وجل، والأمور التى تغضبه، فهو رأس كل نعمة، والمعرفة التى هى أساس الإيمان لا تعرف إلا به، لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر، فلما عقل الإمتثال وعقل الأمر والنهى سمى عقلا مأخوذ من عقال البعير، فهو الذى يعقل الناس على ما يحبه الله ويرضاه.
والحب أساسى
الحب أساس المعرفة، ورد فى الحديث ( ألا لا إيمان لمن لا محبة له)
أى لله، وحقيقة الحب : الميل، فمن لم يمل بكليتيه انتفى منه الحب.
وأفضله أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) فإذا اتبعه وفعل الأمور التى يحبها الله عز وجل أحبه الله.
والمراد أن يتبع رسول الله صلى عليه وآله وسلم فى أوامره ونواهيه، فإذا أحبه الله أقبل العبد عليه لا محالة، كان من دعاء داوود عليه الصلاة والسلام ( الهم إنى أسألك حبك وحب من يحبك، وأسألك العمل الذى يبلغنى إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسى وأهلى ومن الماء البارد) نص على الأمور المذكورة، لأنها تأخذ القلب وتشغل عن الله عز وجل، فإن لم يشتغل بالله عز وجل واشتغل بتلك الأشياء، خيف عليه الجحد لنعم الله، والعياذ بالله تعالى.
والشوق مركبى ( والشوق مركبى) الذات الإنسانية مركب، والروح والشوق ريح ذلك المركب، فما دام التعلق حاصلا بالله عز وجل فالمركب سائرة، والشوق فوق الحب، والحب : الميل إلى الله عز وجل، والشوق: الإسراع بغير وقوف، فقد يوجد الميل ولا يوجد الشوق، وإنما إذا وجد الشوق فالميل موجود لا محالة.
وذكر الله أنيسى
ورد فى الحديث :
( اللهم أنت الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل) والمسافر لا يأنس فى سفره إلا بالمصاحب، وورد فى الحديث : ( ما من نفس يتنفسه الإنسان إلا وقد خطا به خطوة إلى الآخرة) فالأنفاس هى السفر، فإذا كان ذكر الله هو الأنيس فى ذلك السفر، فنعم الصاحب فى السفر، ونعم ما استأنس به من ذكر الله تعالى فى سفره.
والثقة كنزى
ورد فى الحديث :
( لايؤمن أحدكم حتى يكون بما فى يد الله أوثق منه بما فى يده) وورد فى الحديث :
(كنز المؤمن ربه) وورد : ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت) فما بقى مع العبد إلا الوثوق بالله عز وجل، إذا لم يعطنا الله مما فى أيدينا أو مما فى أيدى غيرنا لم نقدر أن نأخذ شيئا.
والحزن رفيقى
ورد فى الحديث :
(من أسف على آخره فاتته تقرب من الجنة مسيرة ألف عام، ومن أسف على ديننا فاتته تقرب من النار مسيرة ألف عام) فالحزن يعظم على قدر عظمة المحزون عليه، والحزن والأسف على ما فات، فإذا كان الأسف على ما فات من التجليات الإلهية فنعم الأسف.
والعلم سلاحى
العلم أساس المعرفة، وأساس كل خير، وبه الوصول إلى عظمة الله فى القلب بحسن التفكر، كما قال تعالى : (فاعتبروا يا أولى الأبصار) ولا يكون ذلك إلا بالعلم.
والصبر زادى
العبد مسافر فى أنفاسه ولحظاته، وزاده فى سفره اتباع الأوامر والنواهى، ولا يتم له ذلك إلا بالصبر، وإن لم يصبر مشت به نفسه إلى ما يغضب الله عز وجل.
والرضا غنيمتى
الغنيمة الكبرى الرضا بقسمة الله عز وجل، ورد فى المناجاة : (يا موسى إذا رضيت عنى فقد رضيت عنك، وإذا سخطت ولم ترض بقضائى استوجبت سخطى).
والعجز فخرى
العجز هو الإعتراف بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، قال صلى الله عليه وآله وسلم ( الفقر فخرى وبه أفتخر)
والفقر فقد الأشياء من القلب، وامتلاء مكانها بالحب لله عز وجل، وهذا الفقر هو الذى افتخر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفقر من حيث كونه فقرا لله عز وجل بالقلب فهو فقر محمود ومفتخر به، وأما الفقر المستعاذ منه الذى قرنه – صلى الله عليه وآله وسلم _ بالكفر فقال : ( اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر)
وقال – صلى الله عليه وآله وسلم : ( كاد الفقر أن يكون كفرا) فهو فقد الحق من القلب، وتعلق القلب بالأشياء التى تصده عن الله عز وجل، فإذا انعدمت هذه الأشياء من القلب وامتلأ القلب بالتعلق بالله عز وجل فهو الفقر الذى افتخر به رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم.
والزهد حرفتى
والزهد رتبة عالية شريفة، وهو أن لا يتعلق القلب بشىء من الأشياء، بل يعرض عنها جملة واحدة، ويزهد فيها، ولا يأخذ منها إلا ما يقربه من سيده ومولاه، وأن يكون واثقا بالله عز وجل، ولا يدخل فى قلبه إلا مولاه، فقد ورد فى الحديث : ( كنز المؤمن ربه) وهذا هو الجنة المعجلة، ومن كان هذا وصفه فمطمعه أحسن المطاعم وملبسه أحسن الملابس، والمشتغل بغير مولاه دائما فى عذابه.
فمن أقبل على الله تعالى بكليته وزهد فى الدنيا جعلها الله تعالى خادمة له، فقد ورد فى الحديث القدسى : ( يا دنيا اخدمى من خدمنى واستخدمى من خدمك).
قيل لبعض الأولياء : لم زهدت الدنيا؟
قال : لزهدها فى.
وقال بعض الملوك لبعض الأولياء : ما أزهدك يا فلان! قال أنت أزهد منى، قال : وكيف؟ قال : أنت زهدت فى الحور والقصور وما بقى، وأنا زهدت فيما يفنى من هذه الأمور الدنيوية، فانظر إلى هذه الموعظة التى وعظ بها الصوفى هذا الملك.
واليقين قوتى
اليقين شهود الحق، قال عز وجل : ( والذين هم بشهاداتهم قائمون) وقرىء ( بشهادتهم ) فشهود الحق هو قوتهم، فهم دائما قائمون بشهودهم شهودا بعد شهود.
والصدق شفيعى
الصدق نعم الشفيع عند الله عز وجل ( ومن أصدق من الله حديثا ) فمن أعطاه الله الصدق فقد أعطاه وصفه وخلقه بأخلاقه، فمن صدق فى توجهه إلى سيده ومولاه فلا شفاعة أعظم من ذلك، وأصل الطريق إلى الله عز وجل الصدق، والعلم بأن مولاه إنما خلقه لعبادته، فلا يزال العبد متوجها إلى الله فى عبادته صادقا فيها ( فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) فيصدق العبد فى طلب العلم، ويعلم لأى شىء خلقه ربه، ويتوجه بكليته إليه قلبا وقالبا، فالصدق سيف لا ينبو، وجواد لا يكبو، وإنما كان القرآن معجزا لكونه صدقا، وقال بعض الأولياء – وهو سيدى محيى الدين بن العربى : قيل لى : أتدرى بم صار القرآن معجزا ؟! قلت : لا، قيل لى : لكونه صدقا.
أصدق يكن كلامك معجزا .
فعليك بالصدق فى مصاحبة الحق والخلق، فلا تصاحب الحق إلا بالصدق، ولا تصحب الخلق إلا بالصدق.
وحقيقة الصدق التوجه إلى الله تعالى بالكلية، قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) والتحرى هو أن ينظر فى ذلك الأمر الذى سيقدم عايه عن كان صادقا فعله وإلا تركه، لأن الحالف يظن أن ذلك يقرب الرزق وهو عين تبعيد الرزق عنه، وورد فى الحديث : ( ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل إزاره، والمان الذى لا يعطى إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ) فإنه يغضب الله عز وجل ويكون سببا لذهاب الرزق لذهاب الرزق، وعليك بالصدق فى معاملة الحق والخلق، فإنه يأتيك إن شاء الله تعالى الخير الكثير.
الطاعة حسبى
أى : شرفى وكفايتى، فإنه من أطاع الله كفاه كل شرورهم، وورد فى الحديث : ( تنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها أى شرفها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) أى : مسكت تراب الجنة ولصقت به، وهذه الكلمة دعوة صالحة من النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وورد فى حديث آخر : ( من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقيرا، ومن تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا، ومن تزوج امرأة لدينها كان سكان له منها وكان لها منه )
والجهاد خلقى
الجهاد جهادان : جهاد الكفار أى : الدعوة إلى الله عز وجل، وجهاد النفس لدعوتها لصدق الإقبال إلى الله عز وجل قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( لكل نبى حرفة وحرفتى الفقر والجهاد ) والفقر خلو القلب من الأشياء وامتلاؤه بالله عز وجل، وإنما اختار صلى الله عليه وآله وسلم الفقر لأن رياحه زعازع لا يثبت فيه إلا الكمل من الرجال. فإن بعض الناس أعطى بعض الأولياء شيئا من المال وضعه فى حجرة وهو جالس، فقال أردت بصدقتك هذه أن أكتب فى ديوان الأغنياء وتدعنى خمسمائة عام واقفا فى العرق والفقراء فى الجنة ؟! مالى إليها من حاجة. فقام فتساقطت فى موضعه قال : فما رأيت أعز منه حين تركها وقام، ولا أذل منى حين صرت أتتبعها، فأهل الله يخافون على زوال غناهم، قال الله عز وجل : ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) وقال الله عز وجل : ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ) فالتزم صلى الله عليه وآله وسلم فقره الذى سماه الله به، فإن المراد بالناس هو لأنه أصلهم _ إذ الكل من القبضة التى هى نوره حتى لقى الله عز وجل، ولم يرد أن يشارك مولاه فى صفة الغنى صلى الله عليه وآله وسلم.
وقرة عينى فى الصلاة
ولم يقل بالصلاة، لأنه غائب عن أفعاله بقرة عينه، والمراد بقرة عينه شهوده محبوبه عز وجل فى صلاته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لبلال : ( أرحنا بها يا بلال ) يريد الصلاة، لأن فيها شهود الحق.
وهمى لأجل أمتى
الإهتمام بأمور المسلمين من الحقوق الأكيدة، فقد ورد فى الحديث : ( من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم )، وقال الله عز وجل : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) وهى كثرة الهموم والغموم، فقد ورد فى الحديث : ( إنى لآخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتفحمون فيها كما يتفحم الفراش فى المصباح ) فهم يغلبونه، أى : يخالفونه ويلقون أنفسهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة وأمة الإجابة، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، قال الله عز وجل : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ).
وشوقى إلى ربى
قال الله عز وجل : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) وإذا كان كذلك فكيف يكون الإشتياق؟ ولكن ذلك من باب قول القائل :
ومن عجب أنى أحن إليهم*** وأسأل عنهم دائما وهم معى
وتبكيهم عينى وهم فى سوادها*** ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى
وهذا الشوق كل ينال منه على قدره، فإذا تمكن صار عشقا وشغفا، فإذا صار عشقا وشغفا غاب فى وعشوقه كمجنون ليلى، قال لها : إليك عنى فقد شغلنى حبك عنك، وهذا من ضلال المحبة أغناه عشقه بها عنها، وهو مقام الفناء، وحقيقة الفناء : ( فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ) الحديث، كما يليق به عز وجل، وليس المراد ما يتوهمه من لا بصيرة له مما ينزه مولانا جل وعلا عنه، فذلك كفر وضلال فما يتهمونه ويقولون عنه الإتحاد الذى يذكره أهل الله رضى الله تعالى عنهم أمر ذوقى لا يمكن التعبير عنه، فهو من علوم الأذواق لا من علوم الأوراق.
فلم تهونى ما لم تكن فى فانيا
ولم تفن ما لم تجتلى فيك صورتى
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
أبو أويس- عدد الرسائل : 1572
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
مواضيع مماثلة
» محاورة صوفيّة مع سيدي محمّد المنوّر المدني
» مؤلفات سيدي محمد المداني رضي الله عنه
» الوقائِعَ الأخيرة التي سَبَقت انتقالَ سيدي محمد المداني رضي الله عنه
» اجازة سيدي احمد العلاوي لسيدى محمد المداني رحمهما الله
» من رسائل سيدي احمد العلاوي الى سيدي محمّد المدني
» مؤلفات سيدي محمد المداني رضي الله عنه
» الوقائِعَ الأخيرة التي سَبَقت انتقالَ سيدي محمد المداني رضي الله عنه
» اجازة سيدي احمد العلاوي لسيدى محمد المداني رحمهما الله
» من رسائل سيدي احمد العلاوي الى سيدي محمّد المدني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
الأحد 22 سبتمبر 2024 - 1:08 من طرف الطالب
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس
» هل تطرأ الخواطر على العارف ؟
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:59 من طرف أبو أويس
» رسالة من شيخنا الى أحد مريديه رضي الله عنهما
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:49 من طرف أبو أويس
» مقام الجمع
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:40 من طرف أبو أويس
» تقييمات وإحصائيات في المنتدى
الثلاثاء 30 يوليو 2024 - 6:36 من طرف أبو أويس
» جنبوا هذا المنتدى المساهمات الدعائية
الإثنين 29 يوليو 2024 - 23:50 من طرف علي
» *** الأحديث القدسيّة ***
الإثنين 24 يونيو 2024 - 22:26 من طرف ابو اسامة
» ((معلومة قيِّمة وهامَّة))
الأربعاء 12 يونيو 2024 - 23:57 من طرف ابو اسامة
» من عجائب المخلوقات (( النحل ))
الجمعة 24 مايو 2024 - 23:02 من طرف ابو اسامة