محاولة لإيضاح معنى حديث الأمعاء.

بسم الله الرّحمان الرّحيم

اللهمّ صلّ على سيّدنا محمّد

وعلى آله و صحبه و سلّم

روى الإمامان البخاري ومسلم من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد".

ذكر رسول الله صلّى الله عليه و سلّـم هذا الحديث بعد أن استضاف كافرا، فشرب حلاب سبع شياه ، ثمّ أسلم من الغد، فشرب حِلاب شاة و لم يتمّ حِلاب الثّـانيةّ.

فهذا الشّخص لم يتغيّر بدنيّا، ولكن تغيّرت عقيدته من الكفر إلى الإيمان . ما الذي حصل له؟. ما الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّـم إيضاحه بقوله:"المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء".

[rtl] إذا نظرنا للحديث من جهة التّركيبة البدنيّة للإنسان ، فلا اختلاف بين جسم الكافر وجسم المؤمن، كلاهما له مِعىً واحد. و لكن إذا أخذنا في الاعتبار عقيدة العبد و ما يترتّب عليها من أعمال سيختلف الأمر. يقول الله تبارك و تعالى:[ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يستويان مَثَلاً الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.]الزّمر.29.[/rtl]

[rtl]ــــ إنّ الكافر يعيش لنفسه. ولكن أيّ نفس ؟ فالإنسان بصفة عامّة شخص واحد في ظاهره ولكنّه في باطنه مجموعة أشخاص، ومع كلّ شأن يصعد الشّخص الغالب على هؤلاء ليتكلّم باسم المجموعة. وبطبيعة العقيدة الدّنيويّة المادّيّة لهؤلاء الأشخاص، فليست لهم مرجعيّة يحتكمون إليها سوى ما يرضي نفوسهم أو ما يرضي من حولهم ظاهرا، ويسمّون هذه المعاملة بالتّعامل الحضاري وهي في الواقع المداهنة والنّفاق. فترى العديد من الوجوه للنّفس الواحدة حسبما تقتضيه الظّروف، مع محاولة الظّهور بالانسجام التامّ ضمن محيطهم. لكنّ هذا الانسجام الظّاهر كثيرا ما ينخرم بالظّهور المفاجئ لأحد الأشخاص الموجودين في النّفس دون سابق إنذار. فيُبدل ذلك الشّخص "الوديع" بحيوان مفترس لا يتقيّد بمسمّى التّعامل الحضاري. و لو افترضنا ظهور شخص أشرس منه في الطّرف المقابل، فقد يخرج من المجموعة المختفية جبان يريد الانسحاب و يحاول الظّهور بمظهر العاقل حتّى ينسحب بأقلّ الأضرار.[...رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ...]فهو في حكم نفسه المظلمة وما يتناوب على منبرها من عديد الأشخاص أصحاب الأهواء المختلفة والمتناقضة و إلى هذا المعنى قد تكون إشارة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله "الكافر يأكل في سبعة أمعاء" وهو الحدّ الأدنى لعدد الأشخاص الذّين يمكن تناوبهم على منبر نفسه وهم في عهدته من حيث التّغذيّة وكلّ مستلزمات الحياة من علوم و رعاية في هذه الدّنيا التّي فيها كلّ آمالهم، على حدّ قوله جلّ وعلا: [وَالّذينَ كَفرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَ النّارُ مَثْوًى لَهُمْ.].محمد.12. مع الإشارة إلى أنّ قوله تعالى ــ يَأكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ــ أي: تأكل بغرائزها الحيوانيّة المتمثّلة في ملء بطونها، وكذلك الكافر يأكل بغرائز عديدة من بينها الأكل والشّرب وله كذلك من جملة الغرائز غريزة حبّ الإطّلاع وما يترتّب عليها من علوم دنيويّة وما يسمّونه بالثّقافة الاجتماعية وما ورائها من سائر المعاملات وهذه كلّها أغذيّة يتناولها ولعلّ الغذاء الحسّي هو لمعى من الأمعاء السّبعة وبقيّة الأمعاء أواني للأغذية المعنويّة. وهي كلّها داخلة في نطاق قوله تعالى ــ يأكلون كما تأكل الأنعام ــ أي:يأكل بغرائزه. فليس من المعقول أن نحشر حديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في مجرّد الأكل والشّرب الحسّي، خاصّة ونحن نرى الكفّار متبحّرين في سائر المجالات الدّنيويّة التّي هي مبتغاهم و مبلغ علمهم. صحيح أنّ المثال الذّي أمامنا متعلّقه شخص أكول شرب لبان سبعة شياه ملأ بها امعاءه السّبع، ومعنى ذلك أنّ همّته نزلت كلّيا بأمعائها الحسّية والمعنويّة للأكل الذّي أمامه. وهو ليس مثالا للتّعميم من النّاحيّة الحسّية للأكل ، فإذا أردنا التّعميم وجب النّظر إلى سائر مجالات الأكل المعنوي كما تمّت الإشارة إليها. أمّا قولنا أنّ الأكل في سبعة أمعاء هو الحدّ الأدنى لعدد الأشخاص الذّين يمكن تناوبهم على منبر نفسه، فهو مستنبط من أنّ هذا الشّخص هو أقرب أهل الكفر للإيمان، وذلك بسبب بحثه في أمر رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ومجيئه إليه في نفر من قومه مستفسرا عن هذا الدّين الجديد. و غيره من الكفّار إمّا معرضا عنه أو لا يهمّه هذا الأمر تماما.[/rtl]

[rtl] ــــ أمّا المؤمن الحقّ فهو يعيش لربّه بربّه ، و يسعى لمرضاته. مجموع الهمّة ،موحّد المقصد [رَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ]. وجوده في حكم ربّه العليّ القدير وإمامة رسوله السّراج المنير. وبحكم حقيقة عقيدة التّوحيد الرّبّانيّة لدستور وجوده بين يدي ربّه ، فهو يأكل في مِعًى واحد.[/rtl]

[rtl]وهذا هو الحدّ الأقصى في ميادين القرب. وهي منزلة إيمان الرّسل والأنبياء وأكابر الصّالحين. أمّا سائر المؤمنين فهم مخاطبون بقوله جلّ وعلا:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] الأنفال.24. ونتفاوت هنا في درجات الإيمان بحسب استجابتنا لله وللرّسول. عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي،ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ؛ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى".البخاري. فانظر يا أخي إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم كيف يحذّرنا من أنفسنا التّي قد تجعلنا نتشبّه بالكفّار،و ذلك لأنّ الحرص على الدنيا و التّعلّق بجمع حطامها على حساب علاقتنا بالله، يخرجنا من دائرة التّوحيد الخالص إلى دائرة أصحاب الهمم السّفليّة فتتعدّد مربوبيّتنا لغير الله مع اعتقادنا بأنّنا مؤمنون بالله. ومجالات الاستجابة لله و للرّسول لا تتوقّف عند حدود الفرائض، بل تشمل كلّ مناحي الحياة. فلنأخذ مثالا بسيطا لهذا الأمر و بالمثال يتّضح الحال: خرجت من بيتي يتجاذبني شخصان فيّ، أحدهما يريد الذّهاب إلى أخ لنا حلّاق بنيّة ملا قات بعض الإخوان والتّذاكر معهم. والثّاني يرغب في البقاء بالبيت والاشتغال بذكر الله. ماذا أفعل؟ الجواب:أوّلا يجب أن أعلم أنّني مثل سائر الخلق يسكن في نفسي العديد من الأشخاص وأنّ المؤمن يأكل أيضا في أمعاء عديدة ويقع تحت طائلة.[...رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ...] ولكن يخرج من دائرة الكفر باحتكامه إلى مرجعيّته وإيمانه بالله ورسوله على عكس ما عليه الكافر الذي يحتكم إلى أهوائه و أحكام الخلق. قال الله تعالى:[ ...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.] النساء. 56 .[/rtl]

[rtl]فكان الاحتكام إلى الله و إلى الرّسول، وتبيّن أنّ الشّخص الأوّل يريد اللّهو واتّخذ التّذاكر مع الإخوان ذريعة لبلوغ مقصده، وقد عرف هذا من تجارب سابقة. فإذا تكرّر لجوؤنا واحتكامنا إلى الله و رسوله فيما يقع في نفوسنا من نزاعات باستمرار. يولد فينا مولود جديد ربّانيّ النّسبة محمّديّ الأخلاق. و ممّا ينسب لسيّدنا عيسى عليه السّلام في هذا المجال قوله:"ليس منّا من لم يولد مرّتين".فالولادة الأولى من أرحام أمّهاتنا الحسّية، أمّا الولادة الثّانية فهي من طيّات نفوسنا أمّهاتنا المعنويّة. وذلك نتيجة لمجاهداتنا فيها بتوفيق من الله وفضل منه.[/rtl]

[rtl]هنا تظهر أهمّية مقام الإحسان وتزكيّة النّفس. فاستجابتنا لله وللرّسول هي التّي تخرجنا من الغفلة المنجرّة عن كثرة الأشخاص المعنويّين المتداخلين في أنفسنا والتّقليص من عددهم بالمجاهدة في النّفس بإذن الله. و هنالك معادلة لا بدّ من أخذها في الاعتبار: فعلى قدر قربنا من أنفسنا واستئناسنا بها على قدر بعدنا عن الله. وعلى قدر قربنا من الرّسول صلّى الله عليه و سلّم واستئناسنا به على قدر قربنا من الله جلّ جلاله.[/rtl]

[rtl]و من الحكم المشهورة:"إرضاء الخلق غاية لا تدرك ومرضاة الحقّ مقصد لا يترك".[/rtl]

[rtl]والله و رسوله أعلم.[/rtl]

أه

جزاكم الله كل خير

الغياث الغياث، الرحمة الرحمة، العناية العناية، صل على عبدك ونبيك سيدنا محمد وآله والطف بي في أموري كلها والمسلمين.اللهم احفظ أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارحم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم فرج عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى ال سيدنا ومولانا محمد باب الفرج الذي من تعلق بأذ يله في كل ضيق وهم منهما خرج..

الأحد	الإثنين	الثلاثاء	الأربعاء	الخميس	الجمعة	السبت
	1	2	3	4	5	6
7	8	9	10	11	12	13
14	15	16	17	18	19	20
21	22	23	24	25	26	27
28	29	30

محاولة لإيضاح معنى حديث الأمعاء.

محاولة لإيضاح معنى حديث الأمعاء.

رد: محاولة لإيضاح معنى حديث الأمعاء.