بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
مناجاة قلب كسير - الإمام البوطي
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
مناجاة قلب كسير - الإمام البوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مناجاة قلب كسير
بقلم العلامة الدكتور محمد سعيد
رمضان البوطي
في ليلة طويلة ظلماء، ساقني الكرب إلى أعتاب الخالق جل جلاله،وهناك لقيت من الأنس أضعاف ما أملته من دنيا الناس وشؤونهم،فغمرتني نشوة الذل لقيّوم السماوات والأرض، وفاض القلب بهذه النجوى. وكيف يكون كسيرا وأنت النور الذي يشعّ في حناياه والأمل الذي يخفق به ويعيش عليه!..
بل كيف لا يكون كسيرا وقد ذلّ لعظيم سلطانك، ودان لسابق حكمِك وقضائك!.. بلائي به محض العبودية لك، والتجاؤه إليك، محض رعاية وتوفيق منك،فلأيّهما أدين بالشكر، وعلى أيهما أبذل التحمّل والصبر، وأقسى ما في كلّ منهما نعمة منك لا أستحقّها، ويد جميلة لا قبَل لي بأداء شكرها.
مولاي..... لئن نسيتْني أفراحُ الدنيا، فإن عزائي بما فاتني منها عظيم ما ألقاه من الأنس بذاتك، والأملِ في رحمتك. ولئن أبكتْني صروف الليالي والأيام فإن عزائي معها بكائي على أعتاب لطفك وبين يدي ربوبيتك، وشتان بين دموع اعتصرتْها الآلام من العيون، ودموع استجابتْ لذلّ العبودية فانحدرت تبكي لمن خلق الوجد في القلوب، وأودع الحرقة في الدموع.
مولاي.....
أأشكرك على ما أوليتني من نعمة الصبر على البلاء، أم أشكرك على ما أوليتني بذلك من سعادة القرب إليك ولذّة المناجاة لك؟..
جلّت حكمتك يا سيدي، وصدق ما قاله الواصلون: "إنّ في كلّ جلال جمالا، وفي كل ابتلاء منّة ولطفا". وهل في اللطف ما هو أعظم من انصراف العبد إليك، وتحوله عن الأغيار إلى ملازمة بابك الكريم.
إلهي! أي شيء يوحشني من الدنيا فقْده بعد أن رأيتك أمامي، وأنست بك في سري وجهري؟!. بل أي منّة منك أعظم وأجلّ من أن تُزيح عني
حجابا كان قد شغلني عنك، فشُغلتُ بك عنه بما أكرمتَني من الاعتصام بك والتضرع إليك؟.... ليقتبس نارا، فعوّضتَه عن ذلك بالأجل
يا سيدي... لقد ذهب موسى بعظيم نجواك!.. نعم، إن القلب قد يتألم ولكن ما ألذَّ الألَم الذي يذيق صاحبه طعم العبودية لك، وحلاوة
الرضا بحُكمك!.. ولكني يا مولاي، أجدني قد تطاولتُ بهذا القول إلى مكانة ليس لي شرف الدنوّ إليها،وما أنا -وحقك- في المزلة ممن يَحسُن بهم أن يقولوا: "عذِّبْ بما شئتَ، غيرِ البُعد عنك"..
إنني يا مولاي عبد إحسانك وفضلك، أفرّ من كل ضائقة إلى ظلال رحمتك، وأرتمي هاربًا من كل بلاء أمام أعتاب جودك،حسبي أن أتعلق في الخوف من كل كرب بنجوى أحبِّ خلقك إليك: "ولكن عافيتك أوسع لي". وبدعاء نبيك الكليم: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(القصص:24)،
وبنداء رسولك الصابر الأواب لربِّه أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء:83).
وكيف لا أتعلق بفضلك وأطمع بعافيتك، وأنت الذي لم تُقصِني عن مائدة إحسانك في يوم من حياتي، ولم تقطع عني وابل رحمتك في لحظة من عمري؟!.. أم كيف أَركن إلى البؤس والضيق، وأنت الذي عوّدتَني العطاء، ونشّأتني في ظلال الرخاء؟!.
أعوذ برحمتك التي غمرتَ بها وجودي كله، من أن تبدّل بها شدة لا قبل لي بها، أو بلاء لا صبر لي عليه.
إلهي.... سألوني عن وجودك، فقلتُ لهم:
"متى عرفتم أنفسكم رأيتموه، ولولا ضلالكم عن كَينونتكم لَما افتقدتموه".
إن الذي ينظر إلى العالم ذاهلا من وراء منظار، جدير به أن يفتقد منظاره ولا يراه، ومهما أدار عينيه فيما حوله فإنه لن يعثر عليه، حتى يهتدي إلى ذاته ويتحسس المنظار القائم أمام عينيه.
وسألوني عن أقدس سرّ من أسرارك، فقلت لهم: "إنه القلب!".. يخفق ويحسّ، ويحنّ ويئنّ، في عالم لا تطوله فيه يدُ المال والمتاع، ولا الصَّنعة والخداع، ولا الدنيا وزخرفها، أو المادة وقيمها!.. عروش الدنيا وممالكها، وبطشها وسلطنتها..
كل ذلك أقلّ من أن يقاوم خفقة من خفقات قلب محبّ!..
ونعيم الدنيا وأفراحها، ولهوها ولذائذها.. كل ذلك أقلّ من أن يخلق لمعةَ فرحٍ في قلب حزين!.. يمضي الناس في معالجة مدَنياتهم وحضاراتهم، ويتسابقون إلى دنياهم وملاذهم، وتبقى هذه القلوب الخفاقة فوق ذلك كله، لا تطوّرها يد الحضارة ولا تغيرها آثار المدنية.
فهل في أسرار ما صنَعه الخالق شيء أقدس وأعجب من القلب.
البقية تتبع
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مناجاة قلب كسير
بقلم العلامة الدكتور محمد سعيد
رمضان البوطي
في ليلة طويلة ظلماء، ساقني الكرب إلى أعتاب الخالق جل جلاله،وهناك لقيت من الأنس أضعاف ما أملته من دنيا الناس وشؤونهم،فغمرتني نشوة الذل لقيّوم السماوات والأرض، وفاض القلب بهذه النجوى. وكيف يكون كسيرا وأنت النور الذي يشعّ في حناياه والأمل الذي يخفق به ويعيش عليه!..
بل كيف لا يكون كسيرا وقد ذلّ لعظيم سلطانك، ودان لسابق حكمِك وقضائك!.. بلائي به محض العبودية لك، والتجاؤه إليك، محض رعاية وتوفيق منك،فلأيّهما أدين بالشكر، وعلى أيهما أبذل التحمّل والصبر، وأقسى ما في كلّ منهما نعمة منك لا أستحقّها، ويد جميلة لا قبَل لي بأداء شكرها.
مولاي..... لئن نسيتْني أفراحُ الدنيا، فإن عزائي بما فاتني منها عظيم ما ألقاه من الأنس بذاتك، والأملِ في رحمتك. ولئن أبكتْني صروف الليالي والأيام فإن عزائي معها بكائي على أعتاب لطفك وبين يدي ربوبيتك، وشتان بين دموع اعتصرتْها الآلام من العيون، ودموع استجابتْ لذلّ العبودية فانحدرت تبكي لمن خلق الوجد في القلوب، وأودع الحرقة في الدموع.
مولاي.....
أأشكرك على ما أوليتني من نعمة الصبر على البلاء، أم أشكرك على ما أوليتني بذلك من سعادة القرب إليك ولذّة المناجاة لك؟..
جلّت حكمتك يا سيدي، وصدق ما قاله الواصلون: "إنّ في كلّ جلال جمالا، وفي كل ابتلاء منّة ولطفا". وهل في اللطف ما هو أعظم من انصراف العبد إليك، وتحوله عن الأغيار إلى ملازمة بابك الكريم.
إلهي! أي شيء يوحشني من الدنيا فقْده بعد أن رأيتك أمامي، وأنست بك في سري وجهري؟!. بل أي منّة منك أعظم وأجلّ من أن تُزيح عني
حجابا كان قد شغلني عنك، فشُغلتُ بك عنه بما أكرمتَني من الاعتصام بك والتضرع إليك؟.... ليقتبس نارا، فعوّضتَه عن ذلك بالأجل
يا سيدي... لقد ذهب موسى بعظيم نجواك!.. نعم، إن القلب قد يتألم ولكن ما ألذَّ الألَم الذي يذيق صاحبه طعم العبودية لك، وحلاوة
الرضا بحُكمك!.. ولكني يا مولاي، أجدني قد تطاولتُ بهذا القول إلى مكانة ليس لي شرف الدنوّ إليها،وما أنا -وحقك- في المزلة ممن يَحسُن بهم أن يقولوا: "عذِّبْ بما شئتَ، غيرِ البُعد عنك"..
إنني يا مولاي عبد إحسانك وفضلك، أفرّ من كل ضائقة إلى ظلال رحمتك، وأرتمي هاربًا من كل بلاء أمام أعتاب جودك،حسبي أن أتعلق في الخوف من كل كرب بنجوى أحبِّ خلقك إليك: "ولكن عافيتك أوسع لي". وبدعاء نبيك الكليم: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(القصص:24)،
وبنداء رسولك الصابر الأواب لربِّه أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء:83).
وكيف لا أتعلق بفضلك وأطمع بعافيتك، وأنت الذي لم تُقصِني عن مائدة إحسانك في يوم من حياتي، ولم تقطع عني وابل رحمتك في لحظة من عمري؟!.. أم كيف أَركن إلى البؤس والضيق، وأنت الذي عوّدتَني العطاء، ونشّأتني في ظلال الرخاء؟!.
أعوذ برحمتك التي غمرتَ بها وجودي كله، من أن تبدّل بها شدة لا قبل لي بها، أو بلاء لا صبر لي عليه.
إلهي.... سألوني عن وجودك، فقلتُ لهم:
"متى عرفتم أنفسكم رأيتموه، ولولا ضلالكم عن كَينونتكم لَما افتقدتموه".
إن الذي ينظر إلى العالم ذاهلا من وراء منظار، جدير به أن يفتقد منظاره ولا يراه، ومهما أدار عينيه فيما حوله فإنه لن يعثر عليه، حتى يهتدي إلى ذاته ويتحسس المنظار القائم أمام عينيه.
وسألوني عن أقدس سرّ من أسرارك، فقلت لهم: "إنه القلب!".. يخفق ويحسّ، ويحنّ ويئنّ، في عالم لا تطوله فيه يدُ المال والمتاع، ولا الصَّنعة والخداع، ولا الدنيا وزخرفها، أو المادة وقيمها!.. عروش الدنيا وممالكها، وبطشها وسلطنتها..
كل ذلك أقلّ من أن يقاوم خفقة من خفقات قلب محبّ!..
ونعيم الدنيا وأفراحها، ولهوها ولذائذها.. كل ذلك أقلّ من أن يخلق لمعةَ فرحٍ في قلب حزين!.. يمضي الناس في معالجة مدَنياتهم وحضاراتهم، ويتسابقون إلى دنياهم وملاذهم، وتبقى هذه القلوب الخفاقة فوق ذلك كله، لا تطوّرها يد الحضارة ولا تغيرها آثار المدنية.
فهل في أسرار ما صنَعه الخالق شيء أقدس وأعجب من القلب.
البقية تتبع
عادل- عدد الرسائل : 102
العمر : 52
تاريخ التسجيل : 25/01/2009
رد: مناجاة قلب كسير - الإمام البوطي
تابع
وسألوني يا مولاي عن أبدع مخلوقاتك وأجمل آثارك، فخرجت بهم أجتلي مغاني الربيع!.. ولما توسطنا السفوح الخضر، وهي ترتجّ وتموج بما انبسط فوقها من أفانين الخضرة الفاتنة، والرياحين العطرة، والأزاهير التي تذوب وراء جمالها العين، ناديت بأعلى صوتي: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(الروم:50)!..
انظر إلى آثار رحمة الله، كيف بدّلت وحشةَ الأرض أُنسًا، وحوَّلت جدبها اخضرارًا، وأخرجت من قسوتها رقة تثمل بها النفس، وفتنةً ينتشي بها القلب!.. بالأمس كنتَ تنظر إلى هذه الأرض وهي بلقع تلفّها وحشة اليأس، واليوم تبعث العينَ فيها وإذا هي تفيض حياة ونضارًا، وتزدان برونق الأمل!.. بالأمس كان يُبصر فيها العاشق الملتاع صدى لوحشته وعذابه، واليوم يجلس إليها ليتّخذ منها نجيّ أشواقه، وسمير آلامه ومبعث آماله. أجل.. (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الروم:50).
مولاي....
هل كان فيما أبدعه صُنعكَ هذا -ما بين شتاء وربيع- إلاّ صورة رائعة أبرزتَ فيها -بعظيم إبداعك- كيف يتحول اليأس المحرق إلى أمل خافق منعش، وكيف
تُنشَّأ الحياة المضيئة من جوف ظلام ميت!..
جلّت حكمتك وعظمت رحمتك يا مولاي...
متّعتَ أعين العشاق بالورود الحمراء، وأنطقتَها لهم بلغة من الجمال تتقاصر عنها لغة الكلام، حتى يكون لهم من ذلك عزاء عن الجمال الذي افتقدوه، وسلوًى عن
الأمل الذي خسروه!..
أنعشتَ نفوسَهم بعبق الرياحين وعطر الزهور، حتى يغسلوا أفئدتهم بها من غبار الكآبة وألم الهجران!..
أقمتَ لهم من مرأى الخمائل بكل ما زيّنتَها به من فتنة وجمال نديمًا يسامرهم وجليسا يؤنسهم ونجيا يتأثُر لأنّاتهم ويتمايل لآهاتهم!.. وأبدعتَ لهم ذلك كله -يا مولاي- من جوف أمِّهم الأرض!.. ألا بوركتِ أيتها الأرض، مصدر سلوى لأبنائك الذين لا تزال الحياة تحرّكهم على ظهرك ولْيزدك الله رحمة بنا وحنانًا، يوم يعيدنا الردى منك إلى الأعماق.
ورأيتُ يا مولاي، أشتاتا من الناس يسرحون ويمرحون خلال تلك الآثار كما تسرح الدوابّ والأنعام!.. وقد اتخذوا من دونك حجابا، وجعلوا من نعمائك شغلا لهم عنك، ومن عطائك سببا لكفرانهم بك!..
ورأيتُهم يسجدون للمرآة التي يسطع فيها خيال الشمس، وهم عن وجود الشمس وحقيقتها غافلون!.. ورأيتهم قد فُتنوا بعبق الرياحين وصور الورد والزهر والياسمين؛ ولكنهم عموا أو تعاموا عمن أبدع الرائحة في العطر، وخلق النشوة في الخمر، وأخرج الورود من أكمامها، وفجّر الخضرة من جذورها!.. ورأيتُكَ يا مولاي، تشملهم جميعا بالمنّة والعطاء، وتوليهم جميعا الرحمة والنَّعماء. تلك هي رحمتك بمن قد نسيَك وتاه عنك. فكم هي رحمتك -ترى- بمن عاش يرقب فضلك ويستمطر جودك وإحسانَك؟!..
أيتها الرياض النّضرة!.. أيتها الورود الناعمة الضاحكة!.. أيتها الروائح المسكرة العبقة!.. لَشدَّ مَا يطربني وينعشني أن أجدني غريقا فيما بينكم، ملفوفا بتَحنانكم، ولكني ما انتعشت منكم بشيء أكثر من الأمل!..
الأمل!.. أقرؤه في تماوج العشب مع الرياح السارية، وأجده في انبعاث روائح منعشة شتى من تلك الورود النضرة، وأسمعه من حفيف الأغصان وتصفيق أوراقها الرقيقة الخضرة. أجل.. إنه الأمل الذي صورتْه يد الخلاّق، إذ أنبَتَكم من طوايا أرض مظلمةٍ جامدة؛ أبدع حياة الأرض من موتها، وأخرج زينة الدنيا من كآبتها، وأظهر أرقّ ما في الكون من قسوته وصلابته!..
يا من استوى في خلقه الأملُ واليأس، وتلاقى في تقديره الموت مع الحياة!..
يا مُنشئ النور من الظلام، ومبدع الفرح من الأحزان!..
يا من هذا سرّ لطفك وطعم إحسانك وحنانك؟..
يا إلهي.....
كيف أيأس إذاً وأنت ربّي، أم كيف لا يُنعشني الأمل وأنت حسبي؟!..
...................
بقلم العلامة الدكتور محمد سعيد
رمضان البوطي
وسألوني يا مولاي عن أبدع مخلوقاتك وأجمل آثارك، فخرجت بهم أجتلي مغاني الربيع!.. ولما توسطنا السفوح الخضر، وهي ترتجّ وتموج بما انبسط فوقها من أفانين الخضرة الفاتنة، والرياحين العطرة، والأزاهير التي تذوب وراء جمالها العين، ناديت بأعلى صوتي: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(الروم:50)!..
انظر إلى آثار رحمة الله، كيف بدّلت وحشةَ الأرض أُنسًا، وحوَّلت جدبها اخضرارًا، وأخرجت من قسوتها رقة تثمل بها النفس، وفتنةً ينتشي بها القلب!.. بالأمس كنتَ تنظر إلى هذه الأرض وهي بلقع تلفّها وحشة اليأس، واليوم تبعث العينَ فيها وإذا هي تفيض حياة ونضارًا، وتزدان برونق الأمل!.. بالأمس كان يُبصر فيها العاشق الملتاع صدى لوحشته وعذابه، واليوم يجلس إليها ليتّخذ منها نجيّ أشواقه، وسمير آلامه ومبعث آماله. أجل.. (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الروم:50).
مولاي....
هل كان فيما أبدعه صُنعكَ هذا -ما بين شتاء وربيع- إلاّ صورة رائعة أبرزتَ فيها -بعظيم إبداعك- كيف يتحول اليأس المحرق إلى أمل خافق منعش، وكيف
تُنشَّأ الحياة المضيئة من جوف ظلام ميت!..
جلّت حكمتك وعظمت رحمتك يا مولاي...
متّعتَ أعين العشاق بالورود الحمراء، وأنطقتَها لهم بلغة من الجمال تتقاصر عنها لغة الكلام، حتى يكون لهم من ذلك عزاء عن الجمال الذي افتقدوه، وسلوًى عن
الأمل الذي خسروه!..
أنعشتَ نفوسَهم بعبق الرياحين وعطر الزهور، حتى يغسلوا أفئدتهم بها من غبار الكآبة وألم الهجران!..
أقمتَ لهم من مرأى الخمائل بكل ما زيّنتَها به من فتنة وجمال نديمًا يسامرهم وجليسا يؤنسهم ونجيا يتأثُر لأنّاتهم ويتمايل لآهاتهم!.. وأبدعتَ لهم ذلك كله -يا مولاي- من جوف أمِّهم الأرض!.. ألا بوركتِ أيتها الأرض، مصدر سلوى لأبنائك الذين لا تزال الحياة تحرّكهم على ظهرك ولْيزدك الله رحمة بنا وحنانًا، يوم يعيدنا الردى منك إلى الأعماق.
ورأيتُ يا مولاي، أشتاتا من الناس يسرحون ويمرحون خلال تلك الآثار كما تسرح الدوابّ والأنعام!.. وقد اتخذوا من دونك حجابا، وجعلوا من نعمائك شغلا لهم عنك، ومن عطائك سببا لكفرانهم بك!..
ورأيتُهم يسجدون للمرآة التي يسطع فيها خيال الشمس، وهم عن وجود الشمس وحقيقتها غافلون!.. ورأيتهم قد فُتنوا بعبق الرياحين وصور الورد والزهر والياسمين؛ ولكنهم عموا أو تعاموا عمن أبدع الرائحة في العطر، وخلق النشوة في الخمر، وأخرج الورود من أكمامها، وفجّر الخضرة من جذورها!.. ورأيتُكَ يا مولاي، تشملهم جميعا بالمنّة والعطاء، وتوليهم جميعا الرحمة والنَّعماء. تلك هي رحمتك بمن قد نسيَك وتاه عنك. فكم هي رحمتك -ترى- بمن عاش يرقب فضلك ويستمطر جودك وإحسانَك؟!..
أيتها الرياض النّضرة!.. أيتها الورود الناعمة الضاحكة!.. أيتها الروائح المسكرة العبقة!.. لَشدَّ مَا يطربني وينعشني أن أجدني غريقا فيما بينكم، ملفوفا بتَحنانكم، ولكني ما انتعشت منكم بشيء أكثر من الأمل!..
الأمل!.. أقرؤه في تماوج العشب مع الرياح السارية، وأجده في انبعاث روائح منعشة شتى من تلك الورود النضرة، وأسمعه من حفيف الأغصان وتصفيق أوراقها الرقيقة الخضرة. أجل.. إنه الأمل الذي صورتْه يد الخلاّق، إذ أنبَتَكم من طوايا أرض مظلمةٍ جامدة؛ أبدع حياة الأرض من موتها، وأخرج زينة الدنيا من كآبتها، وأظهر أرقّ ما في الكون من قسوته وصلابته!..
يا من استوى في خلقه الأملُ واليأس، وتلاقى في تقديره الموت مع الحياة!..
يا مُنشئ النور من الظلام، ومبدع الفرح من الأحزان!..
يا من هذا سرّ لطفك وطعم إحسانك وحنانك؟..
يا إلهي.....
كيف أيأس إذاً وأنت ربّي، أم كيف لا يُنعشني الأمل وأنت حسبي؟!..
...................
بقلم العلامة الدكتور محمد سعيد
رمضان البوطي
عادل- عدد الرسائل : 102
العمر : 52
تاريخ التسجيل : 25/01/2009
رد: مناجاة قلب كسير - الإمام البوطي
الذكرى السنوية الأولى لإغتيال الشيخ والعلامة شهيد المحراب السعيد "محمد سعيد رمضان البوطي " رحمه الله
------------------------------------------------
قصيدة في رثاء العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي لـــ "الكاتب: عبد الله ضراب من الجزائر" بعنوان : "في رثاء شيخ المحراب"
أشفقْ على كبِدي المَطْحونِ يا قلَمِي
خفِّف بِحشرجةِ الأشعارِ من ألَمِي
رَوِّح بِنزْفـــــــــــكَ عن قلـــبٍ تَــــــــعـــــــــــاورهُ
حقدُ اليهودِ وغدرِ الأهــــلِ والرَّحِمِ
آهٍ فقد عبثـــــــت أيدي الـــبغــــــــاةِ بنـــــا
والأرضُ تشكو من الأغلال واللُّجمِ
آهٍ فقــــــــد دفـــــــنَ الأعــــرابُ أمَّــــتنـــــــــــا
في القهــــرِ والزُّورِ والأنكـــــادِ والجــــرم
آهٍ وتلتهـــــــــــب الآهـــــــات من حَمَدٍ
ذاكَ العــــــــــــدوُّ لديـــــــــنِ الله والقيَـــــــــــمِ
ذاك العميل لأعـــــــداء الهدى علنا
كالذَّيلِ يتبعهــــــــــمْ، كالنَّعــــــــلِ للقــدَمِ
والذَيـــــــلُ يتبعــــــــــهُ ذيـــلٌ يرَى علمــــا
قاد الشَّبــــــاب إلى الأرزاء والـــــــظُّلَمِ
ذيلٌ ويدعَى لدى الأغرارِ عالممَنا
لكي يُلــــــــوِّث ديـــــــــــن الله بالتُّهَــــــمِ
لكي يســــــخِّرَ نور الحقِّ في طمعٍ
لأمَّــــــــــــة تئدُ الأخـــــلاقَ في الأمَـــــــــمِ
ذيلٌ يطاردُ بالفتـــــوى أفـــاضلَنــــــا
لتخلــــوَ الأرض للأوباش والـــــصنَـمِ
أردى بخستهِ شيخ الهدى فبكت
كل الخلائق من عــرب ومن عجم
أردى بخسته نجمــــــا سمـــــا وعـــــــــــلا
فوق الشموس وفوق الكون والسدم
نجم السلام على أرض مضرجة
فيض المحبــــــــــــــــة والإخلاصِ والكــــــــرم
دعــــــا إلى الله والإيمان منذ وعى
نور الحقيقـــــــة بالآيــــــــات والنُّجُـــــــــــم
بشرى لشيـــخ يد الدجالِ تقتله
في مجلس العلـــــم والإرشاد والقلــــم
سمـــــــا إلى الله مصحوبا بمجلسه
ليكملــــوا جلسة الإيمان في القمم
أكرم به علما دلَّ الوجود على
أنوار أحمد شمـــــــــس الحــــــقِّ والقيــــــــم
شهـم قنوع فما أغــــــــــرته فانية
وما تهاوى كذاك الطامـــــع النهــــــم
يا عالم الشام إنا شاهدون هنا
يا طاهر القلب والأخلاق والشيم
وقفتَ سدًّا منيعًا ضدَّ شانئِنا
وضدَّ من شوَّهوا الإسلام بالنقم
وقفت بالخلق الراقي تناوؤهمْ
كما وقفت بنور الفكر والكلم
لقد دعوتَ كما يدعو النَّبيُّ إلى
نورِ العقيدةِ بالأخلاقِ والحِكَــــمِ
الله نجَّاكَ من عصْرِ النِّفاقِ فعِشْ
في جنَّةِ الخلدِ في عِزٍّ وفي نِعَــــــــــمِ
ودَعْ شيوخاً يبيعونَ الهدى طمَعاً
ويتبعـــــــونَ يهودَ الغدرِ كالغَنَــــــــــــــمِ
سيُدفنونَ ولو عاشوا القرونَ هنا
تحتَ المَخازي وثِقلِ الإثمِ والرَّدَمِ
إسكندر- عدد الرسائل : 5
العمر : 46
تاريخ التسجيل : 09/03/2014
رد: مناجاة قلب كسير - الإمام البوطي
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وسلم
جزاكم الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
جزاكم الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
فراج يعقوب- عدد الرسائل : 184
العمر : 65
تاريخ التسجيل : 22/02/2011
مواضيع مماثلة
» موقع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
» مناجاة المحبين لله رب العالمين
» مناجاة تحقيق الفقر
» مناجاة السلف لله الواحد الاحد
» من مناجاة ابن عطاء الله السكندري
» مناجاة المحبين لله رب العالمين
» مناجاة تحقيق الفقر
» مناجاة السلف لله الواحد الاحد
» من مناجاة ابن عطاء الله السكندري
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 14:18 من طرف ابن الطريقة
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
السبت 23 نوفمبر 2024 - 13:27 من طرف الطالب
» شيخ التربية
السبت 23 نوفمبر 2024 - 8:33 من طرف ابن الطريقة
» رسالة من مولانا وسيدنا إسماعيل الهادفي رضي الله عنه إلى إخوان الرقاب
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:13 من طرف ابن الطريقة
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:06 من طرف ابن الطريقة
» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 8:36 من طرف أبو أويس
» يا هو الهويه
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس