بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على قرّن العين الحبيب الأعظم وآله وصحبه أجمعين
هذه أسئلة جديرة بالإهتمام كان طرحها على العبد الضعيف سيدي الأستاذ الفاضل , الصوفي الصادق , حبيبنا وسيّدنا : فارس النور
فأجبته عليها بما أحسنته من المذاكرة التي نفسي أولى بها فأردت أن أنقلها هنا وإن كنت بدأت في صفحة أخرى بنقلها ولكن أفردت لها هذه الصفحة لأنّ أحد الإخوان وهو سيدي يوسف بدوي الفاضل قام بجمعها وترتيبها بحذقه وجماله جمّله الله تعالى في يوم العرس المحمّدي :
فأنقل متن السؤال وتحته متن الجواب والله الموفّق لا ربّ غيره
والصلاة والسلام على قرّن العين الحبيب الأعظم وآله وصحبه أجمعين
هذه أسئلة جديرة بالإهتمام كان طرحها على العبد الضعيف سيدي الأستاذ الفاضل , الصوفي الصادق , حبيبنا وسيّدنا : فارس النور
فأجبته عليها بما أحسنته من المذاكرة التي نفسي أولى بها فأردت أن أنقلها هنا وإن كنت بدأت في صفحة أخرى بنقلها ولكن أفردت لها هذه الصفحة لأنّ أحد الإخوان وهو سيدي يوسف بدوي الفاضل قام بجمعها وترتيبها بحذقه وجماله جمّله الله تعالى في يوم العرس المحمّدي :
فأنقل متن السؤال وتحته متن الجواب والله الموفّق لا ربّ غيره
عدل سابقا من قبل علي في الجمعة 17 سبتمبر 2010 - 9:43 عدل 1 مرات
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الأول:
ما الفرق سيدي بين الذوق العقلي والقلبي فقد ورد علي هذا المصطلح سابقا فان صح ارجو التفرقة بينهم ؟
بسم الله الرحمان الرحيم
أشكرك سيدي الكريم فارس النور على حسن ظنّك بالعبد الفقير وعلى طرحك لتلك الأسئلة المفيدة , هذا وليعلم بأن في هذا المنتدى وغيره من هم أولى منّي بالإجابة لوفرة علمهم وكمال سيرهم وتحقيقهم في المقامات والأحوال
ولكن قال عليه الصلاة والسلام ( إذا دعاك أخوك فأجب ) وما هي إلا دعوة منك إلى موائد علمك ومحبّتك
بالنسبة للسؤال الأوّل : الذي تقول في متنه :
( ما الفرق سيدي بين الذوق العقلي والقلبي فقد ورد علي هذا المصطلح سابقا فان صح ارجو التفرقة بينهم ؟ )
فالجواب بحسب ما إرتأيته والله أعلم :
هذا المصطلح الذي ورد على مسامعك فقد ورد أيضا على مسامعي لكنّه ليس بنفس الكلام , فما سمعته هو قولهم : التصوّف العقلي والتصوّف الذوقي
فالله أعلم
نقول : لا بدّ من تعريف الذوق حتى تعلم المسائل :
فالذوق هو حالة وجدانية شعورية قلبية يجدها المؤمن في قلبه فينتعش بها إيمانه وتسمو معانيه إلى عوالم الصفاء والرقّة والمحبّة والجمال وكلّ ما كان من هذا المعنى
قال عليه الصلاة والسلام : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا ورسولا )
والإيمان كما تعلم محلّه القلب وليس العقل وعليه فلا يكون الذوق حقيقة إلا بالقلب فهو محلّه
وإنما قلنا بأن الذوق هو الإحساس والشعور لأنّ متعلّقه اللذّة والألم كالفرح والحزن والقبظ والبسط ..إلخ
لذا فلو تلاحظ في قوله تعالى في الكفار في النار : ذق إنّك أنت العزيز الكريم
فما يذوقه من العذاب هو ما يحسّه ويشعر به ويتألّم به
فالعقل في مجمله لا يعطي الذوق بل يعطي الفكر الرياضي والمقاييس والدليل والبرهان والمنطق ..وما كان من هذا القبيل
وإنّما يقصدون بالذوق العقلي هو فهم مقامات السير والسلوك من أحوال ومقامات فهما عقليّا لا معنى قلبي يعضده كما نراه عند طوائف من العلماء كإبن تيمية رحمه الله وغيره فإنّه تكلّم في التصوّف العقلي والذوق العقلي مجردا عن الحقائق التي لا تنال بمجرّد الفكر أو تصوّر المسألة عقليا بل لا بدّ فيها من إدراك وتحلّي صفاتي بها لذا قيل في علمنا : ليس بعلم أوراق بل هو علم أذواق وليس بعلم مكسوب بل هو علم موهوب من خزائن الفضل فلا كسب فيه بل هو مجرّد وهب يهبه الله تعالى للقلوب الصافية وإنما غاية إكتسابه أن يباشر المريد المجاهدة لتخلية القلب من الرذائل وتحليته بأنواع الفضائل والإستقامة على شرع الله تعالى ظاهرا وباطنا قدر المستطاع ثمّ يبقى ينتظر كرم الله تعالى المتمثّل في الفيض الأقدس والنور والأسرار وهذه كلّها معاني ذوقية شعورية يدركها الشعور والإحساس إدراكا ذاتيا ووصفا حاليا
وعليه : فلا معنى لقولنا : الذوق العقلي بل نقول غاية ذلك الفهم العقلي للذوق وهو بعيد عن إدراك حقيقة الذوق كقول ساداتنا في العسل لا يعرف طعمه إلا من ذاقه فقد يصف العقل حلاوته لكنّه يستبعد إدراك حقيقته لأنها لا تحصل إلا بالذوق
ثمّ إن الذوق نتيجة من نتائج السلوك يدركها الفقير في سيره إلى الله تعالى لذا قالوا :
العلم ثمّ العمل المتقن الذي ينتج الحال وبعد الحال يأتي الذوق كقطرة ثمّ ينهمر كغيث إلى أن يسكر الإنسان في ذوقه لذا قالوا بأن بعده السكر ثمّ بعده كما قالوا يأتي الصحو ..ألخ مقامات أهل الكمال
فالذوق مرحلة سير تتلوّن بحسب المقام فليس ذوق المريدين كذوق العارفين وليس ذوق أهل الإيمان كذوق أهل الإحسان وهكذا
وحقيقة الذوق هو ذوق الروح لمقامات الجمال والصفاء والعلم لأن الذوق في حقيقته هو محبّة أو تقول بداية المحبّة الذوق ثمّ يأتي العشق ويكون البكاء والنحيب وتأتي المحبّة بأحكامها حتى قيل في الحكاية بأنه كان مريد من المريدين أخذته المحبّة غاية فيبقى الليالي والأيام وهو لا يحسّ بشيء من حوله وقد أشار إلى ذلك الحبيب عليه الصلاة والسلام ( لي وقت لا يسعني فيه غير ربّي )
وهناك أمور لا بدّ من فهمها : بالنسبة للأحوال أي الحال عندما يأخذ بصاحبه يرفع عنه مشقّة العبادة جملة وتفصيلا والذوق الذي يأتي من بعده يهذّب له تلك العبادات لذا قيل : عبادات العارفين كالتاج على رأس الملك
ثمّ إن الذوق يختلف من عارف إلى آخر فالماء واحد والزهر ألوان
أما القائل بذوق العقل فهو دليل على عدم فهمه لحقيقة الذوق التي هي حالة وجدانية شعورية لا يحسن الإنسان وصفها وهل يحسن أحد وصف طعم العسل فهذا لا يدرك إلا بالذوق وكذلك الذوق لا يدرك إلا بالذوق
السؤال الثاني :
لو ان شخصا اكرمه الله بان نال بيعة الطريق من شيخ كامل ثم شاءت الصدفة ان ينالها من شيخ اخر فبذالك هو مع من فيهم ؟
يتبع ان شاء الله....
ما الفرق سيدي بين الذوق العقلي والقلبي فقد ورد علي هذا المصطلح سابقا فان صح ارجو التفرقة بينهم ؟
بسم الله الرحمان الرحيم
أشكرك سيدي الكريم فارس النور على حسن ظنّك بالعبد الفقير وعلى طرحك لتلك الأسئلة المفيدة , هذا وليعلم بأن في هذا المنتدى وغيره من هم أولى منّي بالإجابة لوفرة علمهم وكمال سيرهم وتحقيقهم في المقامات والأحوال
ولكن قال عليه الصلاة والسلام ( إذا دعاك أخوك فأجب ) وما هي إلا دعوة منك إلى موائد علمك ومحبّتك
بالنسبة للسؤال الأوّل : الذي تقول في متنه :
( ما الفرق سيدي بين الذوق العقلي والقلبي فقد ورد علي هذا المصطلح سابقا فان صح ارجو التفرقة بينهم ؟ )
فالجواب بحسب ما إرتأيته والله أعلم :
هذا المصطلح الذي ورد على مسامعك فقد ورد أيضا على مسامعي لكنّه ليس بنفس الكلام , فما سمعته هو قولهم : التصوّف العقلي والتصوّف الذوقي
فالله أعلم
نقول : لا بدّ من تعريف الذوق حتى تعلم المسائل :
فالذوق هو حالة وجدانية شعورية قلبية يجدها المؤمن في قلبه فينتعش بها إيمانه وتسمو معانيه إلى عوالم الصفاء والرقّة والمحبّة والجمال وكلّ ما كان من هذا المعنى
قال عليه الصلاة والسلام : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا ورسولا )
والإيمان كما تعلم محلّه القلب وليس العقل وعليه فلا يكون الذوق حقيقة إلا بالقلب فهو محلّه
وإنما قلنا بأن الذوق هو الإحساس والشعور لأنّ متعلّقه اللذّة والألم كالفرح والحزن والقبظ والبسط ..إلخ
لذا فلو تلاحظ في قوله تعالى في الكفار في النار : ذق إنّك أنت العزيز الكريم
فما يذوقه من العذاب هو ما يحسّه ويشعر به ويتألّم به
فالعقل في مجمله لا يعطي الذوق بل يعطي الفكر الرياضي والمقاييس والدليل والبرهان والمنطق ..وما كان من هذا القبيل
وإنّما يقصدون بالذوق العقلي هو فهم مقامات السير والسلوك من أحوال ومقامات فهما عقليّا لا معنى قلبي يعضده كما نراه عند طوائف من العلماء كإبن تيمية رحمه الله وغيره فإنّه تكلّم في التصوّف العقلي والذوق العقلي مجردا عن الحقائق التي لا تنال بمجرّد الفكر أو تصوّر المسألة عقليا بل لا بدّ فيها من إدراك وتحلّي صفاتي بها لذا قيل في علمنا : ليس بعلم أوراق بل هو علم أذواق وليس بعلم مكسوب بل هو علم موهوب من خزائن الفضل فلا كسب فيه بل هو مجرّد وهب يهبه الله تعالى للقلوب الصافية وإنما غاية إكتسابه أن يباشر المريد المجاهدة لتخلية القلب من الرذائل وتحليته بأنواع الفضائل والإستقامة على شرع الله تعالى ظاهرا وباطنا قدر المستطاع ثمّ يبقى ينتظر كرم الله تعالى المتمثّل في الفيض الأقدس والنور والأسرار وهذه كلّها معاني ذوقية شعورية يدركها الشعور والإحساس إدراكا ذاتيا ووصفا حاليا
وعليه : فلا معنى لقولنا : الذوق العقلي بل نقول غاية ذلك الفهم العقلي للذوق وهو بعيد عن إدراك حقيقة الذوق كقول ساداتنا في العسل لا يعرف طعمه إلا من ذاقه فقد يصف العقل حلاوته لكنّه يستبعد إدراك حقيقته لأنها لا تحصل إلا بالذوق
ثمّ إن الذوق نتيجة من نتائج السلوك يدركها الفقير في سيره إلى الله تعالى لذا قالوا :
العلم ثمّ العمل المتقن الذي ينتج الحال وبعد الحال يأتي الذوق كقطرة ثمّ ينهمر كغيث إلى أن يسكر الإنسان في ذوقه لذا قالوا بأن بعده السكر ثمّ بعده كما قالوا يأتي الصحو ..ألخ مقامات أهل الكمال
فالذوق مرحلة سير تتلوّن بحسب المقام فليس ذوق المريدين كذوق العارفين وليس ذوق أهل الإيمان كذوق أهل الإحسان وهكذا
وحقيقة الذوق هو ذوق الروح لمقامات الجمال والصفاء والعلم لأن الذوق في حقيقته هو محبّة أو تقول بداية المحبّة الذوق ثمّ يأتي العشق ويكون البكاء والنحيب وتأتي المحبّة بأحكامها حتى قيل في الحكاية بأنه كان مريد من المريدين أخذته المحبّة غاية فيبقى الليالي والأيام وهو لا يحسّ بشيء من حوله وقد أشار إلى ذلك الحبيب عليه الصلاة والسلام ( لي وقت لا يسعني فيه غير ربّي )
وهناك أمور لا بدّ من فهمها : بالنسبة للأحوال أي الحال عندما يأخذ بصاحبه يرفع عنه مشقّة العبادة جملة وتفصيلا والذوق الذي يأتي من بعده يهذّب له تلك العبادات لذا قيل : عبادات العارفين كالتاج على رأس الملك
ثمّ إن الذوق يختلف من عارف إلى آخر فالماء واحد والزهر ألوان
أما القائل بذوق العقل فهو دليل على عدم فهمه لحقيقة الذوق التي هي حالة وجدانية شعورية لا يحسن الإنسان وصفها وهل يحسن أحد وصف طعم العسل فهذا لا يدرك إلا بالذوق وكذلك الذوق لا يدرك إلا بالذوق
السؤال الثاني :
لو ان شخصا اكرمه الله بان نال بيعة الطريق من شيخ كامل ثم شاءت الصدفة ان ينالها من شيخ اخر فبذالك هو مع من فيهم ؟
يتبع ان شاء الله....
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الثاني :
لو ان شخصا اكرمه الله بان نال بيعة الطريق من شيخ كامل ثم شاءت الصدفة ان ينالها من شيخ اخر فبذالك هو مع من فيهم ؟
الجواب والله أعلم :
هذا السؤال عدّه ساداتنا في مبحث الوارث المحمدي الكامل الذي هو شيخ التربية في كلّ بلاد وعصر
ومعلوم بأن للمشيخة شروط وكذلك للإرادة شروط , فإن الأرض لا تخلو من داعي إلى الله بحقّ , ولا تخلو من طالب لله بحقّ , وهذا من جنس هذا فلا بدّ أن يجتمعا والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
قال الشيخ سيدي أحمد زروّق الفاسي رضي الله عنه : شروط الشيخ أربعة :
- أن يكون ذا علم صحيح
- أن يكون ذا ذوق صريح
- أن يكون ذا حالة مُرضية
- أن يكون ذا همّة عالية
وقد جمعها غيره : الشرط الأوّل : أن يكون عالما بشريعة الإسلام ولا يشترط معرفته بالفروع
وأن يكون عاملا بعلمه , لأن الثمرة نتيجة العمل بالعلم
والثالث : أن يكون سالكا , سلك الطريق على يد من له الإذن فيها من بدايتها إلى نهايتها فهو سالك كامل أي عارف بالله كامل
الرابع : وهو الأهمّ بالنسبة للمريدين : أن يكون مأذونا , أي له الإذن الصحيح بالتسلسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فمتى وجد شيخا بهذه الصفات وكان على بيّنة من أمره وأمر المتّبع فليلقي إليه قيادة ويطرح أمامه نفسه كالميّت بين يدي مغسّله
كما قال صاحب العينية رضي الله عنه :
إن ساعد المقدور أو ساقك القضا = إلى شيخ حق فى الحقيقة بارع
فقم فى رضاه واتبع لمراوة = و دع كلما من قبل كنت تسارع
و كن عنده كالميت عند مغسل = يقلبه ما شاء وهو مطاوع
و لا تعترض فيما جهلت فى أمره =عليه فإن الاعتراض تنازع
وسلم له فيما تراه ولو يكن = على غيره مشروع فثم مخادع
ففى قصة الخضر كفاية = تقتل غلام والكليم يدافع
فمن وصل إلى الشيخ المربّي فلا بدّ أن يصلّي على نفسه صلاة الجنازة لأنّها أمّارة بالسوء فلا يجوز له الإلتفات يمنة ولا يسرة بل الشيخ هو الطريق إلى الله تعالى فهو الأستاذ الموصل فيه والداعي إلى الله بإذنه
وقد إشترطوا آدابا ظاهرة وباطنة مع الشيوخ :
ومن الآداب الباطنة : قولهم : ولا يجوز لمن بايع شيخا كاملا الإنتقال منه إلى غيره فقد عدّوا هذا أقبح من كلّ قبيح وأشنع من كلّ شنيع وقال أحدهم : هذا يعدّ من كفران النعم وعدّوها : خيانة
وإنّما أعني شيخ السلوك فهذا لا يجوز أصلا الإنتقال عنه إلى غيره فهو سوء أدب مع الله ورسوله ويخاف على صاحبه السلب والطرد واللعن
أمّا أن يأخذ المريد عهودا من المشائخ للتبرّك فهذا جائز مع أنّه فيه ما فيه أما عهد السلوك فلا
لذا قالوا : أثبت تنبت , وقالوا : الإنتقال عن الشيخ تسويس لبذرة الإرادة
وقد رأينا جماعة ممن خلطوا في الطرق والأذكار وأخذوا الطريق على شيوخ كثر فوالله ما أفلح منهم أحد بل سقطت حرمة المشائخ وتعظيمهم من قلوبهم فباؤوا بخسران مبين
فليس شيخك الذي أخذت عنه : بل شيخك الذي فتح الله لك على يديه
وقد نصح ساداتنا بملازمة ذكرا واحدا وشيخا واحدا وطريقا واحدا من الطرق معوّلا عليه وقد سألتني سيدي بقولك :
نعم قد نقل عن بعض السادات أنّه إنتقل عن شيخه ولكن هذا ليس هكذا بل ما كان إلا بالإذن الإلهي الذي لا غبار عليه وبالإذن النبوي الذي لا لبس فيه فصاحبه محفوظ إن شاء الله تعالى
فغاية المريد هي الوصول إلى معرفة الله تعالى وهذه الغاية المنشودة والضالة المفقودة تحصل إن شاء الله تعالى من أي شيخ كامل
فمن صاحب شيخا كاملا وأخذ عليه العهد فلا ينتقل عنه إلا بموت( إن العهد كان مسؤولا )أو بإشارة ربانية واضحة صريحة
فمن رفضه قلب شيخه الكامل فإنّه ترفضه قلوب مشائخ أهل الأرض ( كلّهم من رسول الله ملتمس )فالأمر مربوط ببعضه البعض كالبنيان المرصوص والحبل المتين وهذا معنى السند الحقيقي والسلسلة ..إلخ
فلا توجد صدفة في الإنتقال عن شيخ كامل أخذنا عليه العهد والذكر فأين الصدفة في الدين , بل يجب تحرير القصد وفهم الطريق وفهم شروط المريد وآداب الطريق وشروط الشيخ والمصاحبة التسبّب والتجرّد وهذه كلّها من مبادىء علم طريق التصوّف فليست بحكر على أحد بل يجب الجميع علمها وفهما ليكون الفقير الصادق على بيّنة من أمره وعلى بيّنة من أمر المتّبع
فإن العلاقة بين المريد والشيخ هي علاقة محبّة في الأصل والمحبّة لا تقبل الشريك وكلّ من أشرك في محبّته فقد ضلّ سواء السبيل
والله أعلم ورسوله
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الثالث :
لو ان مريدا اخذ البيعة واعطيا الورد العام لها لكنه ترك الورد العام واخذ بذكر ورد اخر من طريقة اخرى فهل يستفيد في سلوكه ام انه لا حظ له ؟
الجواب والله أعلم :
مدد كل طريقة في وردها , ومدد الشيخ في ورده الذي أعطاه للمريد , وبحسب الورد يكون الوارد , فإنّه لا وارد إلا بورد
فمن ترك وردا أخذه بالبيعة على يد شيخ كامل أو ممن أذن له الشيخ في إعطاء البيعة وتلقين الإذكار العامّة أو العامّة والخاصّة فقد خرج من الطريق لأنّ البيعة هي عهد والعهد وقع بين المتعاهدين على الورد فمن تركه فقد نقض العهد
والله تعالى يقول : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون )
أمّا من تركه تكاسلا وتهاونا فهو أهون أمرا ممّن تركه متعمّدا مدبرا عنه إلى غيره
ثمّ إن الذكر بالورد العام متى ما حصلت فيه البيعة فهو يعتبر ذكرا خاصّا من هذه الناحية لأنّها علامة بداية السلوك وهي التخلية وتحلية القلب بنور ذلك الذكر الذي هو الورد حتى يتوجّه القلب ويشوّر إلى طلب مولاه , فالذكر بالورد إنّما جعل لغاية وهي تخلية القلب من الميل إلى ما سوى الله تعالى فمتى شوّر القلب إلى مولاه لقّن المريد ذكر السير في المقامات وهو ذكر الإسم المفرد فيكتب إسم الجلالة على الكون بأسره ليرتسم في قلبه وتنتقش حروفه في المخيّلة وتنبسط أنواره علويّا وسفليّا حتى يقع له الفناء فيه أي الفناء في الإسم الذي لا يدلّ إلا على عين المسمّى وهو الذات الإلهي
وهذه الإذكار أخي التي هي أذكار الأذون بالبيعة في طريق الله تعالى تلقّن للمريد مع وجود نورها الذي يحميه الله به من دخول الشيطان والنفس عليه فيكون في سيره محميّا بإذن الله تعالى لأنّه أخذ الذكر بإذن وببيعة من شيخ كامل
أمّا أن يترك هذا كلّه ويختار أن يذكر أذكارا أخرى لم يأخذها بالإذن ولم يأخذ فيها البيعة من شيخ كامل فهو كمن ترك ميراث أبيه وذهب إلى عمّه ليورثه ...فافهم
نعم قد يذكر الذكر العام في طريقة أخرى ولا يحصل منه إلا الأجر مثله مثل أيّ ذكر آخر ورد في السنّة أمّا أن يسلك به ويسير به في المقامات ويكابد منه الأحوال فهذا بعيد لأنّ هذه الأمور تستوجب الإذن والبيعة
وقدّ نصّ ساداتنا الأولياء بأنّ على الفقير أن يلازم ذكرا واحدا وطريقا واحدا وشيخا واحدا حتّى لا يتشتّت تفكيره وتنهار عزائمه ويدخل في دوامة النفس والخواطر الشيطانية فإنّه من دخل هذه المداخل صار لديه هوس كبير ووساوس لا يحسد عليها وإكتئاب وتتوارد عليه الخواطر بأجناسها وتلويناتها فلا يميّز سقيمها من صحيحها وهي دوامة كبيرة لذا حذّر الأولياء من التخليط في الأذكار وتخليط الطرق
فمن كانت غايته الله تعالى أسرع إليه وهاجر إليه من أقرب طريق
أمّا الذي يبحث عن جميع الطرق ويريد أن يسير فيها كلّها ويحصّل جميع أسرارها فهو طالب رئاسة ولم يكن قطّ طلبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم
وقد حدثت قصّة شاهدتها أمامي :
كان لنا أخا في الطريقة وكان شاذليا وخلط بين ورده وورد السادة القادرية فحصل له كشف ظلماني في قالب كشف نوراني فإلتبس عليه الأمر إلتباسا كبيرا وبدأ الخاطر يكلّمه بأمور مهولة وهي من الشيطان فردّه مقدّمنا رضي الله عنه ورحمه الله تعالى وأرسله إلى الشيخ فساعفه الشيخ باللين وحذّره من التخليط بين أذكار الطرق
فيا سيدي : إن لكلّ طريقة أسرار عظام وبحور جسام ودوائر كبرى ولكلّ زاوية حرّاسها ولكلّ مريد عين تراه وهي عين الشيخ أمّا عين الله تعالى فهي ترعى الجميع الشيخ والمريد
فمن كان تحت نظر شيخه فهو محفوظ إن شاء الله تعالى
فلا قائل بتبديل الشيوخ ولا بتخليط الأذكار ولا بتعديد الطرق بل الأمر يتعلّق فقط بالسير والسلوك إلى محبّة ملك الملوك
أمّا من رام الوصول إلى غير ذلك فأقول له : يا سيدي لقد أخطأت الطريق من أوّل قدم فهذا طريق الله تعالى وطريق رسوله ومن كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله
وكم حدّثتني نفسي من مرّة أن أغيّر شيخي وأذهب إلى شيخ آخر بل إنّها تحدّثني حديث الصبيان فتقول لي : يا هذا إنّك أعلم منه وأشمل إحاطة منه ..إلى نهاية خزعبلاتها
فأقول لها : يا نفس : ( سأعيش وأسمع منك الغرائب والعجائب ) فإزداد لها كرها وعليها مقتا وفيها مجاهدة لأنّها تدرك تماما دواء الشيخ لها فتريد أن تهرب منه
ووالله الذي لا يحلف بغيره عندما تأتيني فاجعة أو واجعة تقول لي نفسي : لماذا لا تتصل بالشيخ وتشكو له حالك _ فأقول لها : الآن فقط تعترفين أنّه شيخ أما عندما تكونين في كبريائك وعظمتك وتجبّرك تحتقرينه ( أهذا الذي بعث الله رسولا )
وكان شيخي يعلم كلّ ذلك منّي فلا يكلّمني فيه البتّة حتى قتلني صمته وأحرقني سكوته فما يزيد أن يقول لي : هناك فلان أريد أن أقول له : يا هذا إتّق الله تعالى وحافظ على صلواتك في مواعيدها فإن الحسنات يذهبن السيّئات
ويكفي من الإنتساب إلى الشيوخ محبّتنا لهم ومحبّتهم لنا فقد قال لنا شيخنا يوما :
( يوم القيامة عندما يأتي كلّ شيخ حاملا رايته يكون كلّ مريديه معه الأعمى والبصير والعارف والجاهل فالكلّ تحت رايته فالحمد لله على نعمة الشيوخ
وإنّما أطيل في الإجابة محبّة في الإفادة لا غير والنصح الذي نفسي أولى به
فأوّل الشيوخ الذي دلّك الله عليه علينا أن نلتزم قادوسه لنشرب منه فما دلّنا الله عليه إلا لحكمة جليلة , والحمد لله فالمشائخ كثر تعجّ بهم الكرة الأرضية فرحمة الله واسعة وخير الله كثير
والسلام
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الرابع :
( ما السر الكامن باللمسة الروحية ( البيعة ) ما المقصد بها وما اسرارها وهل تبقا لمن حظي بها ام انها من الممكن ان تنقض او تزول بفعل الذنوب والمعاصي والتقصير ؟ )
الجواب على هذا السؤال والله أعلم :
اولاً : قبل الجواب لا بدّ من طرح تمهيد لا غنية عنه ليفهم ما بعده
إنّما إشترط القوم من أهل الله تعالى التأكّد من أحقيّة الشيخ المتصدّر للتربية والإرشاد والإمامة في طريق الله لذا فلا يصل إلى الله تعالى أحد من العباد غالبا إلا على يد الشيخ الحقيقي في كلّ مصر وعصر لذا حذّر المشائخ من الدعاة الكذّابين على الله ورسوله من الذين جمعوا الناس على طعامهم وشرابهم وليس لهم من الإذن شيء ومعرفة الشيخ الحقيقي لا تتحقّق إلا بمعرفة شروط المشيخة وأركانها وقد أوضحناها أعلاه بما ورد عن أئمّة القوم في ذلك فإنّ كلامهم عليه المعتمد لأنّه إجماع منهم وهي القاعدة العامّة الشاملة التي أجمع عليها القوم من المشائخ أهل التربية والإرشاد في كلّ عصر قال الجنيد : من لم يحفظ كتاب الله ولم يكتب حديث رسول الله لا يقتدى به في طريق القوم
وأهمّ شرط من شروط المشيخة الذي لا يمكن أن يوجد بغير الشروط الأخرى فهو آخر الشروط وأهمّها بالنسبة للمريدين ألا وهو شرط : الإذن أي أن يكون الشيخ مأذونا من شيخه إذنا شفويّا بصريح العبارة ويعضد ذلك إذنا كتابيّا متى سنحت الظروف
وهي المعبّر عنها بالإجازة
فبهذا الشرط وهو شرط الإذن يوصل الشيخ مريده إلى الإتّصال الحقيقي بسند النسبة القلبي الربّاني أو تقول يوصله إلى النسبة الروحية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم
ففاقد هذا الشرط لا يمكنه وصل مريده بسلسلة القوم باطنيّا لأنّ صاحب الإذن هو الحامل فقط لسرّ النسبة المحمديّة الإلهية أمّا غيره فليس له هذه المزيّة ولو كان هذا الغير عارفا بالله تعالى فإنّه قد لا يكون مأذونا بالتربية والإرشاد أي ليس له إذن الدعوة الخاصّ فقد تجد عند الشيخ جملة من العارفين وتجد المأذونين بالإرشاد واحد منهم أو نفر منهم قليل
هذا أوّلا :لنعلم السرّ في الإتّصال بالمأذون وأخذ العهد ( البيعة ) عليه أي ليوصلك بالحضرة المحمديّة النبويّة إتّصالا حقيقيّا معنويّا قلبيّا باطنيّا ربانيّا
بمعنى أنّه بالبيعة من المأذون يسري يتحقّق إتّصالنا بتصوّف النبيّ صلى الله عليه وسلّم أو تقول برواية إحسانه أو تقول الإتّصال بنسب روحه الشريف صلى الله عليه وسلّم أي مقام الحال القلبي النبوي الشريف
والأمر بهذا التفصيل :
هناك : أقوال النبيّ صلى الله عليه وسلّم
: وهناك أفعاله
: وهناك تقريراته
: وهناك أوصافه
والأمر الخامس :
هو حاله , وطريق الإسناد فيه هو ما تراه من الإذن من بيعة وإرشاد وذكر خاصّ وغيره عند مشائخ الصوفية
فرواية الحال الباطني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم هو ما نسمّيه اليوم ( تصوّف )
فالبيعة هي إتّصال السند به في هذا الأمر الخامس لذا قيل من لا شيخ له أي لا إذن له ولا رابطة ولا حفظ فشيخه الشيطان , لأنّ طريق الأحوال والمقامات لا يمكن السير فيه إلا بدليل إمّا أن يكون هذا الدليل شيخا عارفا مرشدا وأمّا يكون شيطانا مريدا
فإنّ أقواله صلى الله عليه وسلّم وأفعاله وتقريراته ما خرجت في الحقيقة إلا من باطنه أي من تحقّق حاله مع الله تعالى في جميع المراتب والنسب
أمّا العلماء اليوم أقصد علماء الظاهر فلا سند لهم في الأمر الخامس أي نسبتهم وسندهم من باطن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسانيدهم منقطعة , فإنقطعوا عن باطن حال رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع ربّه فرأوا محمدا الظاهر كرسول وإنقطعوا عن محمد الباطن كنبيّ لذا لم تكن لهم واردات ولا إلهامات ولا معارف ولا دقائق ولا حقائق بل هم علماء الرسوم فكانت أسانيدهم في الرسوم الظاهرة هي المعتمدة عندهم أمّا سندهم الباطني فليس عندهم , ومن إنقطع باطنه عن ظاهره فقد وقع في حجاب الغفلة عن عالم النور والأسرار فهو لقيط لا أب له أي في طريق السلوك والعروج ومعرفة المولى سبحانه
وفي هذا الأمر الخامس الذي غفل عنه العلماء فضلا عن العوام وأختصّ به ساداتنا الصوفية قال الله تعالى : ( إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله )
وهي المبايعة الخاصّة لذا قال : ( يد الله فوق أيديهم )فخفي هنا المجاز وظهرت الحقيقة , وهذه الحقيقة أنّ المبايعة هي الإتّصال بالنسبة الربانية الإلهية الخالصة بمعنى أنّك في بيعتك للشيخ لم تبايع حقيقة إلا رسول الله ومنه أنّك لم تبايع في الحقيقة الحقّة إلا الله تعالى وما بايعك الله تعالى إلا ليأخذ بيدك إليه ليدخلك حضرته ويتحفك بمحبّته
متى إتّصلت يدك بيد رسول الله المتمثّلة في يد الشيخ الكامل بحكم التسلسل في سند البيعة إلى رسول الله فما بايعت حقيقة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذا لتعلم جلالة الأمر ( وما هو بالهزل )وطريقنا هذا كلّه جدّ لا هزل فيه ( يمزح ولا يقول إلا حقّا ) صلى الله عليه وسلم
هذا لتعلم فخامة الإنتساب وشرفه العظيم وأنّك من المختارين عند الله تعالى وأنّ الله تعالى قبلك عنده وفتح لك باب الرجاء فيه على مصراعيه
والإشارة إلى مبايعة الله تعالى أي مبايعته على ذكره الذي هو سبب عظيم يفضي بك إلى محبّته التي هي الغاية المنشودة
فسرّ المبايعة لتحقيق الإنتساب إلى جنابه فيقال لك أنت ( فقير ) و ( مريد ) نسبة حقيقية وقعت لك بالمبايعة الحقيقية , أمّا الذكر فهو السير إليه المتمثّل في الأوراد العامّة والخاصّة التي أذنك فيها الشيخ المربي بحسب نظره فيك وإطّلاعه على احوال نفسك في مراتبها
فالمبايعة هي الإذن في السير أي فتح الباب لك لمعرفة الله تعالى , أمّا الذكر فهو زاد المسافر وهو السير والسلوك إلى معرفة ملك الملوك فهما متلازمان فالمبايعة قبول ودخول وإتّصال بالنسب الروحي النبوي الرباني ( ونفخت فيه من روحي ) فافهم
أمّا الذكر فللإلتزام ووالثبات لأنّه الزاد والسلاح الذي تقاتل به قطّاع الطريق وخاصّة قاطع طريقك الذي أخبرك عنه المولى بقوله : ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )وهو هذا الطريق فأعطاك الله الذكر الذي يقصمه وهو الذكر المأخوذ بالإذن لأنّ فيه النفس الإلهي ولذا كان ذكر المأذونين شأنه عظيم
قال لي أحد ساداتنا العارفين رضي الله عنه سنة 1986 : البارحة يا إخواني ذكر الله معي سيدي فلان ( وكان من كبار العارفين بالله ) ذكر بإسم ما سمعته قطّ بحياتي حتى خفت كثيرا وأنا بجانبه أذكر الإسم المفرد فأحسست عندما يلفظ ذكره بذلك الإسم وكأنّ الأرض كلّها تزلزل من تحتي ...إلخ
فالمبايعة أمرها عظيم عند الله وعهدها كان مسؤولا فهو أهمّ وأخطر عهد عقدناه بحياتنا كلّها لأنّه عهدا حقيقيّا ( يد الله فوق أيديهم ) وقوله يد الله فوق أيديهم أي ذكر بعد المبايعة مقام العجز عجز العبد عن كلّ شيء وهي بداية الفناء في الأفعال فلا فاعل إلا الله تعالى إلى غير ذلك من أسرار الآية
وإنّما أكثرنا من ذكر الشيخ المأذون لأنه أساس السير وهو بابه قال حكيم السادة الصوفية إبن عطاء الله السكندري رضي الله عنه :
( سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه )
فمن أخذ شيخه بهذه الجديّة وعلى هذا المحمل العظيم نجح وفاز وفتح عليه ونال ثواب الدنيا والآخرة
فالمأذون هو الوليّ الذي أشار إليه سيدي إبن عطاء الله السكندري
أما أن البيعة تنقض فنعم فمتى لم يعتن بها المريد وأهملها فلا محالة أنّها تنقض لذا أوصانا الله تعالى بالمحافظة عليها
( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )فأنظر قوله
( ولا تنقضوا )فمن عاهد ربّه على الورد اليومي وعلى الذكر وو...إلخ ثمّ أهمل ذلك وتركه فعليه أن يتوب ويجدّد العهد حتى يسير في الطريق ويذوق من معانيها شيئا فعندها يقول الله تعالى له ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )لأنّهم ذاقوا وساروا
أمّا الذنوب والمعاصي فلا دخل لها فيها هنا قيل للجنيد ( أيزني العارف )فأجاب ( وكان أمر الله قدرا مقدورا )فما على الإنسان إلا التوبة النصوح ولو رجع إلى الذنب في اليوم مائة مرّة بشرط أن لا يكون يتعمّده أو يصرّ عليه أو يحبّه ويميل إليه وقد يبتلى المريد بجملة من الذنوب بل ومن الكبائر لكنّه سريعا ما يتوب منها بشروط التوبة ويستغفر ربّه وقد قيل ( ربّ معصية أورثت ذلاّ وإنكسارا خير من طاعة أورثت عزّا وإستكبارا )وربّ ذنب أسعد صاحبه وأدخله الجنّة كما ورد في الحديث وذلك أنّه يتمّ فارّا منه هاربا عنه
فالذنوب لا تنقض البيعة ولا العهد بل الذي ينقض العهد هو إبطاله فلا ورد ولا ذكر ولا إستقامة ولا محبّة للشيخ ولا لإخوانه ولا نفقة ولا خدمة ولا حضور ..إلخ
فهذا الذي يخرج الفرد من نسبة أهل الله
والمحبّة في طريق الله هي الركن الأساس فمن عدمت محبّته خرج من الطريق ولو كان ملازما ظلّ الشيخ , أمّا المحبّ الشائق العاشق فهو معهم ولو لم يكن منهم
ورحمة الله بخلقه أوسع بكثير مما نتصوّر ومن لم يرى رحمة الله فيه فليشاهدها في غيره كي لا يقنط منها ورحمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم معلومة
قال عليه الصلاة والسلام : ( إنّما أنا رحمة مهداة )وهكذا الشيوخ بحكم النسبة والوراثة فهم أيضا رحمة من الله مهداة ( وكلّهم من رسول الله ملتمس )
فرحمة المشائخ بنا من رحمة الله بهم وبنا
فلنشكر الله تعالى على نعمة الطريق فهي نعمة عظيمة ليس لها في الأثمان قيمة وكذلك نعمة الإخوان فهي من أجلّ النعم ( كونوا عباد الله إخوانا )( إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم )
فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) ( صراط الذين أنعمت عليهم )
( ما السر الكامن باللمسة الروحية ( البيعة ) ما المقصد بها وما اسرارها وهل تبقا لمن حظي بها ام انها من الممكن ان تنقض او تزول بفعل الذنوب والمعاصي والتقصير ؟ )
الجواب على هذا السؤال والله أعلم :
اولاً : قبل الجواب لا بدّ من طرح تمهيد لا غنية عنه ليفهم ما بعده
إنّما إشترط القوم من أهل الله تعالى التأكّد من أحقيّة الشيخ المتصدّر للتربية والإرشاد والإمامة في طريق الله لذا فلا يصل إلى الله تعالى أحد من العباد غالبا إلا على يد الشيخ الحقيقي في كلّ مصر وعصر لذا حذّر المشائخ من الدعاة الكذّابين على الله ورسوله من الذين جمعوا الناس على طعامهم وشرابهم وليس لهم من الإذن شيء ومعرفة الشيخ الحقيقي لا تتحقّق إلا بمعرفة شروط المشيخة وأركانها وقد أوضحناها أعلاه بما ورد عن أئمّة القوم في ذلك فإنّ كلامهم عليه المعتمد لأنّه إجماع منهم وهي القاعدة العامّة الشاملة التي أجمع عليها القوم من المشائخ أهل التربية والإرشاد في كلّ عصر قال الجنيد : من لم يحفظ كتاب الله ولم يكتب حديث رسول الله لا يقتدى به في طريق القوم
وأهمّ شرط من شروط المشيخة الذي لا يمكن أن يوجد بغير الشروط الأخرى فهو آخر الشروط وأهمّها بالنسبة للمريدين ألا وهو شرط : الإذن أي أن يكون الشيخ مأذونا من شيخه إذنا شفويّا بصريح العبارة ويعضد ذلك إذنا كتابيّا متى سنحت الظروف
وهي المعبّر عنها بالإجازة
فبهذا الشرط وهو شرط الإذن يوصل الشيخ مريده إلى الإتّصال الحقيقي بسند النسبة القلبي الربّاني أو تقول يوصله إلى النسبة الروحية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم
ففاقد هذا الشرط لا يمكنه وصل مريده بسلسلة القوم باطنيّا لأنّ صاحب الإذن هو الحامل فقط لسرّ النسبة المحمديّة الإلهية أمّا غيره فليس له هذه المزيّة ولو كان هذا الغير عارفا بالله تعالى فإنّه قد لا يكون مأذونا بالتربية والإرشاد أي ليس له إذن الدعوة الخاصّ فقد تجد عند الشيخ جملة من العارفين وتجد المأذونين بالإرشاد واحد منهم أو نفر منهم قليل
هذا أوّلا :لنعلم السرّ في الإتّصال بالمأذون وأخذ العهد ( البيعة ) عليه أي ليوصلك بالحضرة المحمديّة النبويّة إتّصالا حقيقيّا معنويّا قلبيّا باطنيّا ربانيّا
بمعنى أنّه بالبيعة من المأذون يسري يتحقّق إتّصالنا بتصوّف النبيّ صلى الله عليه وسلّم أو تقول برواية إحسانه أو تقول الإتّصال بنسب روحه الشريف صلى الله عليه وسلّم أي مقام الحال القلبي النبوي الشريف
والأمر بهذا التفصيل :
هناك : أقوال النبيّ صلى الله عليه وسلّم
: وهناك أفعاله
: وهناك تقريراته
: وهناك أوصافه
والأمر الخامس :
هو حاله , وطريق الإسناد فيه هو ما تراه من الإذن من بيعة وإرشاد وذكر خاصّ وغيره عند مشائخ الصوفية
فرواية الحال الباطني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم هو ما نسمّيه اليوم ( تصوّف )
فالبيعة هي إتّصال السند به في هذا الأمر الخامس لذا قيل من لا شيخ له أي لا إذن له ولا رابطة ولا حفظ فشيخه الشيطان , لأنّ طريق الأحوال والمقامات لا يمكن السير فيه إلا بدليل إمّا أن يكون هذا الدليل شيخا عارفا مرشدا وأمّا يكون شيطانا مريدا
فإنّ أقواله صلى الله عليه وسلّم وأفعاله وتقريراته ما خرجت في الحقيقة إلا من باطنه أي من تحقّق حاله مع الله تعالى في جميع المراتب والنسب
أمّا العلماء اليوم أقصد علماء الظاهر فلا سند لهم في الأمر الخامس أي نسبتهم وسندهم من باطن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسانيدهم منقطعة , فإنقطعوا عن باطن حال رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع ربّه فرأوا محمدا الظاهر كرسول وإنقطعوا عن محمد الباطن كنبيّ لذا لم تكن لهم واردات ولا إلهامات ولا معارف ولا دقائق ولا حقائق بل هم علماء الرسوم فكانت أسانيدهم في الرسوم الظاهرة هي المعتمدة عندهم أمّا سندهم الباطني فليس عندهم , ومن إنقطع باطنه عن ظاهره فقد وقع في حجاب الغفلة عن عالم النور والأسرار فهو لقيط لا أب له أي في طريق السلوك والعروج ومعرفة المولى سبحانه
وفي هذا الأمر الخامس الذي غفل عنه العلماء فضلا عن العوام وأختصّ به ساداتنا الصوفية قال الله تعالى : ( إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله )
وهي المبايعة الخاصّة لذا قال : ( يد الله فوق أيديهم )فخفي هنا المجاز وظهرت الحقيقة , وهذه الحقيقة أنّ المبايعة هي الإتّصال بالنسبة الربانية الإلهية الخالصة بمعنى أنّك في بيعتك للشيخ لم تبايع حقيقة إلا رسول الله ومنه أنّك لم تبايع في الحقيقة الحقّة إلا الله تعالى وما بايعك الله تعالى إلا ليأخذ بيدك إليه ليدخلك حضرته ويتحفك بمحبّته
متى إتّصلت يدك بيد رسول الله المتمثّلة في يد الشيخ الكامل بحكم التسلسل في سند البيعة إلى رسول الله فما بايعت حقيقة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذا لتعلم جلالة الأمر ( وما هو بالهزل )وطريقنا هذا كلّه جدّ لا هزل فيه ( يمزح ولا يقول إلا حقّا ) صلى الله عليه وسلم
هذا لتعلم فخامة الإنتساب وشرفه العظيم وأنّك من المختارين عند الله تعالى وأنّ الله تعالى قبلك عنده وفتح لك باب الرجاء فيه على مصراعيه
والإشارة إلى مبايعة الله تعالى أي مبايعته على ذكره الذي هو سبب عظيم يفضي بك إلى محبّته التي هي الغاية المنشودة
فسرّ المبايعة لتحقيق الإنتساب إلى جنابه فيقال لك أنت ( فقير ) و ( مريد ) نسبة حقيقية وقعت لك بالمبايعة الحقيقية , أمّا الذكر فهو السير إليه المتمثّل في الأوراد العامّة والخاصّة التي أذنك فيها الشيخ المربي بحسب نظره فيك وإطّلاعه على احوال نفسك في مراتبها
فالمبايعة هي الإذن في السير أي فتح الباب لك لمعرفة الله تعالى , أمّا الذكر فهو زاد المسافر وهو السير والسلوك إلى معرفة ملك الملوك فهما متلازمان فالمبايعة قبول ودخول وإتّصال بالنسب الروحي النبوي الرباني ( ونفخت فيه من روحي ) فافهم
أمّا الذكر فللإلتزام ووالثبات لأنّه الزاد والسلاح الذي تقاتل به قطّاع الطريق وخاصّة قاطع طريقك الذي أخبرك عنه المولى بقوله : ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )وهو هذا الطريق فأعطاك الله الذكر الذي يقصمه وهو الذكر المأخوذ بالإذن لأنّ فيه النفس الإلهي ولذا كان ذكر المأذونين شأنه عظيم
قال لي أحد ساداتنا العارفين رضي الله عنه سنة 1986 : البارحة يا إخواني ذكر الله معي سيدي فلان ( وكان من كبار العارفين بالله ) ذكر بإسم ما سمعته قطّ بحياتي حتى خفت كثيرا وأنا بجانبه أذكر الإسم المفرد فأحسست عندما يلفظ ذكره بذلك الإسم وكأنّ الأرض كلّها تزلزل من تحتي ...إلخ
فالمبايعة أمرها عظيم عند الله وعهدها كان مسؤولا فهو أهمّ وأخطر عهد عقدناه بحياتنا كلّها لأنّه عهدا حقيقيّا ( يد الله فوق أيديهم ) وقوله يد الله فوق أيديهم أي ذكر بعد المبايعة مقام العجز عجز العبد عن كلّ شيء وهي بداية الفناء في الأفعال فلا فاعل إلا الله تعالى إلى غير ذلك من أسرار الآية
وإنّما أكثرنا من ذكر الشيخ المأذون لأنه أساس السير وهو بابه قال حكيم السادة الصوفية إبن عطاء الله السكندري رضي الله عنه :
( سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه )
فمن أخذ شيخه بهذه الجديّة وعلى هذا المحمل العظيم نجح وفاز وفتح عليه ونال ثواب الدنيا والآخرة
فالمأذون هو الوليّ الذي أشار إليه سيدي إبن عطاء الله السكندري
أما أن البيعة تنقض فنعم فمتى لم يعتن بها المريد وأهملها فلا محالة أنّها تنقض لذا أوصانا الله تعالى بالمحافظة عليها
( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )فأنظر قوله
( ولا تنقضوا )فمن عاهد ربّه على الورد اليومي وعلى الذكر وو...إلخ ثمّ أهمل ذلك وتركه فعليه أن يتوب ويجدّد العهد حتى يسير في الطريق ويذوق من معانيها شيئا فعندها يقول الله تعالى له ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )لأنّهم ذاقوا وساروا
أمّا الذنوب والمعاصي فلا دخل لها فيها هنا قيل للجنيد ( أيزني العارف )فأجاب ( وكان أمر الله قدرا مقدورا )فما على الإنسان إلا التوبة النصوح ولو رجع إلى الذنب في اليوم مائة مرّة بشرط أن لا يكون يتعمّده أو يصرّ عليه أو يحبّه ويميل إليه وقد يبتلى المريد بجملة من الذنوب بل ومن الكبائر لكنّه سريعا ما يتوب منها بشروط التوبة ويستغفر ربّه وقد قيل ( ربّ معصية أورثت ذلاّ وإنكسارا خير من طاعة أورثت عزّا وإستكبارا )وربّ ذنب أسعد صاحبه وأدخله الجنّة كما ورد في الحديث وذلك أنّه يتمّ فارّا منه هاربا عنه
فالذنوب لا تنقض البيعة ولا العهد بل الذي ينقض العهد هو إبطاله فلا ورد ولا ذكر ولا إستقامة ولا محبّة للشيخ ولا لإخوانه ولا نفقة ولا خدمة ولا حضور ..إلخ
فهذا الذي يخرج الفرد من نسبة أهل الله
والمحبّة في طريق الله هي الركن الأساس فمن عدمت محبّته خرج من الطريق ولو كان ملازما ظلّ الشيخ , أمّا المحبّ الشائق العاشق فهو معهم ولو لم يكن منهم
ورحمة الله بخلقه أوسع بكثير مما نتصوّر ومن لم يرى رحمة الله فيه فليشاهدها في غيره كي لا يقنط منها ورحمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم معلومة
قال عليه الصلاة والسلام : ( إنّما أنا رحمة مهداة )وهكذا الشيوخ بحكم النسبة والوراثة فهم أيضا رحمة من الله مهداة ( وكلّهم من رسول الله ملتمس )
فرحمة المشائخ بنا من رحمة الله بهم وبنا
فلنشكر الله تعالى على نعمة الطريق فهي نعمة عظيمة ليس لها في الأثمان قيمة وكذلك نعمة الإخوان فهي من أجلّ النعم ( كونوا عباد الله إخوانا )( إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم )
فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) ( صراط الذين أنعمت عليهم )
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الخامس :
( كثير ما نسمع عن مريدين تخبطوا من كثرة جهلهم فسقطوا واضاعوا دينهم ودنياهم فلا هم انتفعوا بذكرهم وبيعتهم ولا هم اصابوا من الدنيا وعملوا لاجلها وقد قلت سيدي فيما سبق من رفضه وكرهه ولفظه قلب كامل فما قبلته قلوب شيوخ الارض كلهم
في هذه الحال هل حكم على هذا الضائع بالهلاك والتيه ؟)
الجواب والله أعلم:
نعم هذا صحيح فمن رفضه قلب شيخه فيصعب جبرهكثيرا لأنّ قلب الشيخ بيد الله تعالى وإنّما يقع رفض قلب الشيخ للمريد متى أساء المريد الأدب إساءة بالغة فهذا تكون نهايته في الأغلب سيّئة , وإنّا نعرف في تونس أحدهم كان صوفيّا إسمه (التّيجاني السماوي) وكان ينتسب إلى طريقة الصوفية فذهب يوما إلى شيخنا المرحوم الإمام العارف سيدي إسماعيل الهادفي رضي الله عنه فأساء الأدب في حضرته وإتّهم الشيخ إسماعيل بالكذب وأساء له إساءة بالغة , المهمّ ذهب هذا التيجاني في سياحة زار خلالها أرض العراق وفي رحلته تعرّف على شيعي فما رجع هذا التيجاني إلى تونس بعد رحلته إلا وهو شيعيّا خالصا فألّف الكتب التي تدعو إلى التشيّع منها كتابه ( ثمّ إهتديت ) وكتابه مع (الصادقين) ..إلخ وشتم هناك الصحابة كناية وتصريحا وأضحى يدعو في تونس إلى التشيّع وأضلّ بعض الناس فتشيّعوا ثمّ زار إيران ومنها قم وأضحى عند الشيعة إسمه ( الدكتور التيجاني ) فطبعوا كتبه وجعلوه من خيرة المستبصرين بزعمهم ثمّ ذهب إلى أوروبا وأمريكا ودخل في مداخل الله يعافينا والمسلمين منها كما أنه تعرّض إلى حادث سير كبير , المهمّ حدث له كلّ هذا بسبب سوء أدبه مع الشيخ والإخوان
فإساءة الأدب مع الحضرة هي التي توجب المقت والطرد والسلب والعياذ بالله تعالى وقد أساء الأدب مع شيخنا أحد كمّل العارفين بالله تعالى ممّن فتح الله عليهم بالفتح الكبير فقال فيه الشيخ : ( سيأتيه يوما يتمنّى أن يصلّي فيه ركعتين ولا يستطيع )
نعم من أساء الأدب وتاب وأصلح وبيّن فإنّ الله يتوب عليه بصريح النصوص والله غفور تواب رحيم
إساءة الأدب هو ما حصل لإبليس لعنه الله تعالى فإنّه لم تنفعه عبادته ولا ذكره ولا مكوثه الأزمان الطويلة في صورته النوارنية , بل بمجرّد إساءة الأدب لعن وطرد وسلب وغضب الله عليه غضبا سرمديا
وكذلك وقع لليهود فقال الله فيهم : ( فباؤوا بغضب على غضب ولهم عذاب مهين )
لذا قال ساداتنا : ( من أساء الأدب وقع في العطب ) وقالوا : من أساء الأدب في حضرة الأحباب طرد إلى الباب , ومن أساء الأدب في الباب أرجع إلى سياسة الدواب )
أمّا التصوّف فكلّه آداب , فمن زاد عليك في الأدب زاد عليك في التصوّف
نعم قد يحكم على الفقير بالطرد والسلب متى أساء الأدب إساءة عظيمة
ويكفينا شهادة قول الله تعالى في الحديث القدسي ( من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب )
ثمّ إن رفض قلوب المشائخ للمريد ليس مردّه إلى النفس بل هو طرد الحضرة القدسية له متى ما أساء معها الأدب
فأنت تعامل الشيخ لله وتعامل إخوانك لله وهكذا جميع المؤمنين ومن ثمّ بقية الخلق أجمعين
فإنّما تراعي شيخك وتحبّه وتتأدّب معه من أجل الله تعالى لا من أجل الشيخ فالشيخ عبد فقير لا ينفع ولا يضرّ ولكنّه وليّ من أولياء الله لا يجوز معه ولا يكون غير الأدب
قال تعالى ( إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز )
فالأمر كلّ الأمر هو التحقّق بمقامات العبودية وتراقب الله تعالى في السرّاء والضرّاء وفي العسر واليسر وفي الظاهر والباطن فيتوجّه القلب كلّه مجموعا إلى مراقبة الله تعالى التي هي بداية المعرفة , فإنّ المعرفة قسمان : مراقبة ومشاهدة أي شريعة وحقيقة فبقدر مراقبتك لله تكون مشاهدتك له , ومراقبتنا لله تعالى تكون في ذاته وأنّه العظمة المطلقة والتنزيه المطلق فكلّ من سواه عبد له كان من كان هذا السوى ثمّ مراقبته في صفاته التي هي عوالم الأنوار مثل الإنبياء والرسل فهم من أنوار الصفات ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا )فهذا أدب مع الصفات وهكذا بالنسبة للأدب مع الشيوخ والأدب مع المريدين فهو أدب مع الصفات النورانية لأنّهم أهل النور الوارد فيهم ( فإذا أحببته كنت بصره ...ألخ الحديث )بمعنى الصفات كالبصر والسمع واليد والرجل
ثمّ مراقبة الله تعالى في أسمائه وأفعاله فتنظر بعين الشريعة فتعطيها أحكامها وتنظر بعين الحقيقة فتعطيها أحكامها ( بينهما برزخ لا يبغيان )
فالعبرة كلّ العبرة بالنسبة للمريد مراقبة الله تعالى والخوف كلّ الخوف من الله تعالى وليس من الشيخ أو المريد وماذا يستطيع أن يفعل الشيخ أو المريد بل إن قلوبهم بيد الله فهي تحبّ بالله وتبغض بالله وتكره لله وتحبّ لله فمتى وجدنا شيخا أغلق قلبه ناحيتنا وأبغضنا حقيقة فما ذلك إلا إعلانا من الله أنّنا في خطر ولفاهم العارف يعرف إساءة أدبه حتى في خلق دابته معه فما بالك كيف لا يعرفه في عارف بالله تعالى
يقول لنا شيخنا دائما : لا تجعلوني شيخكم بل ضعوني كأخيكم في الطريق
كلّ هذا حرصا علينا لأنّنا لا نعرف مرتبة الولاية وباطنها حقيقة فكان يتنزّل إلى مستوانا خوفا علينا
أمّا الفقير الذي يريد أن ينال من الطريق فما عليه إلا بالصدق أوّلا وبالتصديق ثانيا وبالمحبّة ثالثا فهذه أركان الطريق
أما الصدق فهو أكبر باب للمسارعة في الطلب والحرص على الوصول وهو سيف قاطع ما وضع على شيء إلا قصمه قال تعالى ( إتّقوا الله وكونوا مع الصادقين )والصادقين والصادقات
والتصديق هو الفتح في فهم ( إتّق الله ترى العجب )
أمّا المحبّة فهي تجلّي بصر الروح على الجمال القدسي ( إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه )كما ورد في الحديث
أمّا أن يستشعر الفقير بأنّه كذا وكذا وأنّه صاحب فضل ومزيّة في طريق الله فيصبح يمنّ على الله تعالى إيمانه فهو لا شيء يرجى منه بل الله تعالى يمنّ عليه أن هداه للإيمان لذا فلا حرج أن يطرد ويسلب متى كان مدّعيا متأليّا متكبّرا على الله تعالى
فإن طريق لصوفية هو طريق العبودية ولا شيء غيرها أما من رام الوصول إلى أي مأرب من مآربه فقد أخطأ باب الحصول على ذلك
ووالله ما رأيت قطّ بابا يفتح من الأبواب إلا بملازمة العبودية ودوام المحبّة لله ورسوله ولأهل النسبة خاصّة وأهل الإيمان عامّة
فمن رفضه قلب شيخه فا عليه إلا التوبة والرجوع من قريب قبل أن يستدرج من حيث لا يشعر ويمكر به من حيث لا يدري
( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )
( كثير ما نسمع عن مريدين تخبطوا من كثرة جهلهم فسقطوا واضاعوا دينهم ودنياهم فلا هم انتفعوا بذكرهم وبيعتهم ولا هم اصابوا من الدنيا وعملوا لاجلها وقد قلت سيدي فيما سبق من رفضه وكرهه ولفظه قلب كامل فما قبلته قلوب شيوخ الارض كلهم
في هذه الحال هل حكم على هذا الضائع بالهلاك والتيه ؟)
الجواب والله أعلم:
نعم هذا صحيح فمن رفضه قلب شيخه فيصعب جبرهكثيرا لأنّ قلب الشيخ بيد الله تعالى وإنّما يقع رفض قلب الشيخ للمريد متى أساء المريد الأدب إساءة بالغة فهذا تكون نهايته في الأغلب سيّئة , وإنّا نعرف في تونس أحدهم كان صوفيّا إسمه (التّيجاني السماوي) وكان ينتسب إلى طريقة الصوفية فذهب يوما إلى شيخنا المرحوم الإمام العارف سيدي إسماعيل الهادفي رضي الله عنه فأساء الأدب في حضرته وإتّهم الشيخ إسماعيل بالكذب وأساء له إساءة بالغة , المهمّ ذهب هذا التيجاني في سياحة زار خلالها أرض العراق وفي رحلته تعرّف على شيعي فما رجع هذا التيجاني إلى تونس بعد رحلته إلا وهو شيعيّا خالصا فألّف الكتب التي تدعو إلى التشيّع منها كتابه ( ثمّ إهتديت ) وكتابه مع (الصادقين) ..إلخ وشتم هناك الصحابة كناية وتصريحا وأضحى يدعو في تونس إلى التشيّع وأضلّ بعض الناس فتشيّعوا ثمّ زار إيران ومنها قم وأضحى عند الشيعة إسمه ( الدكتور التيجاني ) فطبعوا كتبه وجعلوه من خيرة المستبصرين بزعمهم ثمّ ذهب إلى أوروبا وأمريكا ودخل في مداخل الله يعافينا والمسلمين منها كما أنه تعرّض إلى حادث سير كبير , المهمّ حدث له كلّ هذا بسبب سوء أدبه مع الشيخ والإخوان
فإساءة الأدب مع الحضرة هي التي توجب المقت والطرد والسلب والعياذ بالله تعالى وقد أساء الأدب مع شيخنا أحد كمّل العارفين بالله تعالى ممّن فتح الله عليهم بالفتح الكبير فقال فيه الشيخ : ( سيأتيه يوما يتمنّى أن يصلّي فيه ركعتين ولا يستطيع )
نعم من أساء الأدب وتاب وأصلح وبيّن فإنّ الله يتوب عليه بصريح النصوص والله غفور تواب رحيم
إساءة الأدب هو ما حصل لإبليس لعنه الله تعالى فإنّه لم تنفعه عبادته ولا ذكره ولا مكوثه الأزمان الطويلة في صورته النوارنية , بل بمجرّد إساءة الأدب لعن وطرد وسلب وغضب الله عليه غضبا سرمديا
وكذلك وقع لليهود فقال الله فيهم : ( فباؤوا بغضب على غضب ولهم عذاب مهين )
لذا قال ساداتنا : ( من أساء الأدب وقع في العطب ) وقالوا : من أساء الأدب في حضرة الأحباب طرد إلى الباب , ومن أساء الأدب في الباب أرجع إلى سياسة الدواب )
أمّا التصوّف فكلّه آداب , فمن زاد عليك في الأدب زاد عليك في التصوّف
نعم قد يحكم على الفقير بالطرد والسلب متى أساء الأدب إساءة عظيمة
ويكفينا شهادة قول الله تعالى في الحديث القدسي ( من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب )
ثمّ إن رفض قلوب المشائخ للمريد ليس مردّه إلى النفس بل هو طرد الحضرة القدسية له متى ما أساء معها الأدب
فأنت تعامل الشيخ لله وتعامل إخوانك لله وهكذا جميع المؤمنين ومن ثمّ بقية الخلق أجمعين
فإنّما تراعي شيخك وتحبّه وتتأدّب معه من أجل الله تعالى لا من أجل الشيخ فالشيخ عبد فقير لا ينفع ولا يضرّ ولكنّه وليّ من أولياء الله لا يجوز معه ولا يكون غير الأدب
قال تعالى ( إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز )
فالأمر كلّ الأمر هو التحقّق بمقامات العبودية وتراقب الله تعالى في السرّاء والضرّاء وفي العسر واليسر وفي الظاهر والباطن فيتوجّه القلب كلّه مجموعا إلى مراقبة الله تعالى التي هي بداية المعرفة , فإنّ المعرفة قسمان : مراقبة ومشاهدة أي شريعة وحقيقة فبقدر مراقبتك لله تكون مشاهدتك له , ومراقبتنا لله تعالى تكون في ذاته وأنّه العظمة المطلقة والتنزيه المطلق فكلّ من سواه عبد له كان من كان هذا السوى ثمّ مراقبته في صفاته التي هي عوالم الأنوار مثل الإنبياء والرسل فهم من أنوار الصفات ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا )فهذا أدب مع الصفات وهكذا بالنسبة للأدب مع الشيوخ والأدب مع المريدين فهو أدب مع الصفات النورانية لأنّهم أهل النور الوارد فيهم ( فإذا أحببته كنت بصره ...ألخ الحديث )بمعنى الصفات كالبصر والسمع واليد والرجل
ثمّ مراقبة الله تعالى في أسمائه وأفعاله فتنظر بعين الشريعة فتعطيها أحكامها وتنظر بعين الحقيقة فتعطيها أحكامها ( بينهما برزخ لا يبغيان )
فالعبرة كلّ العبرة بالنسبة للمريد مراقبة الله تعالى والخوف كلّ الخوف من الله تعالى وليس من الشيخ أو المريد وماذا يستطيع أن يفعل الشيخ أو المريد بل إن قلوبهم بيد الله فهي تحبّ بالله وتبغض بالله وتكره لله وتحبّ لله فمتى وجدنا شيخا أغلق قلبه ناحيتنا وأبغضنا حقيقة فما ذلك إلا إعلانا من الله أنّنا في خطر ولفاهم العارف يعرف إساءة أدبه حتى في خلق دابته معه فما بالك كيف لا يعرفه في عارف بالله تعالى
يقول لنا شيخنا دائما : لا تجعلوني شيخكم بل ضعوني كأخيكم في الطريق
كلّ هذا حرصا علينا لأنّنا لا نعرف مرتبة الولاية وباطنها حقيقة فكان يتنزّل إلى مستوانا خوفا علينا
أمّا الفقير الذي يريد أن ينال من الطريق فما عليه إلا بالصدق أوّلا وبالتصديق ثانيا وبالمحبّة ثالثا فهذه أركان الطريق
أما الصدق فهو أكبر باب للمسارعة في الطلب والحرص على الوصول وهو سيف قاطع ما وضع على شيء إلا قصمه قال تعالى ( إتّقوا الله وكونوا مع الصادقين )والصادقين والصادقات
والتصديق هو الفتح في فهم ( إتّق الله ترى العجب )
أمّا المحبّة فهي تجلّي بصر الروح على الجمال القدسي ( إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه )كما ورد في الحديث
أمّا أن يستشعر الفقير بأنّه كذا وكذا وأنّه صاحب فضل ومزيّة في طريق الله فيصبح يمنّ على الله تعالى إيمانه فهو لا شيء يرجى منه بل الله تعالى يمنّ عليه أن هداه للإيمان لذا فلا حرج أن يطرد ويسلب متى كان مدّعيا متأليّا متكبّرا على الله تعالى
فإن طريق لصوفية هو طريق العبودية ولا شيء غيرها أما من رام الوصول إلى أي مأرب من مآربه فقد أخطأ باب الحصول على ذلك
ووالله ما رأيت قطّ بابا يفتح من الأبواب إلا بملازمة العبودية ودوام المحبّة لله ورسوله ولأهل النسبة خاصّة وأهل الإيمان عامّة
فمن رفضه قلب شيخه فا عليه إلا التوبة والرجوع من قريب قبل أن يستدرج من حيث لا يشعر ويمكر به من حيث لا يدري
( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال السادس :
ما الذي ينبغي ان يكون بالانسان من صفات ليكون مريد وذلك قبل ان يبدأ السلوك ؟
هذا السؤال سيدي غاية في الإفادة ولا يسأله إلا من أراد السلوك ومعرفة الله تعالى ( ربّ أرني أنظر إليك )
وقد طرح هذا السؤال على الشيخ سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه في مضمون السؤال عن المريد الصادق والشيخ العارف فأجاب ما نصّه رضي الله عنه ( بإختصار )
الجواب :
فالذي يجب على المريد قبل لقاء الشيخ أن يلازم الذكر والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم بشدّة حضور القلب في تأمّل المعاني حسب الطاقة مع إعتقاده أنّه جالس بين يديه صلى الله عليه وسلّم مع دوام الإعراض عن كل ما يقدر عليه من هوى النفس وأغراضها والسعي في كلّ ما يحبّبه إلى الله تعالى من نوافل الخيرات وهي معروفة في الأوقات كوقت الضحى وقبل الظهر وبعده وقبل العصر وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد النهوض من النوم وفي آخر الليل , وليقلّل من ذلك ويجعل إهتمامه بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم أكثر من النوافل فإن الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم مفتاح أبواب الخير مع العزلة في وقت الذكر وتقليل الطعام والماء وإستعمال شيء من الصيام والصمت إلى غير ذلك ممّا هو مسطّر عند أهل الطريق والحذر الحذر من كثرة التخليط في الأذكار وكثرة تشعيب الفكر بين أقاويل المتصوّفون فإنه ما إتبع ذلك أحد وأفلح قطّ ولكن يجعل لنفسه ذكرا واحدا يهتمّ به ووجهة واحدة يهتمّ بها وأصلا ثابتا يعوّل عليه من الطرق هذا سلوكه وتربيته قبل لقاء الشيخ ثمّ يسعى في طلب الشيخ الكامل
قال رضي الله عنه:
أمّا الأمور التي تكون سببا لطرد المريد عن الشيخ منها الأغراض ومنها الإعتراض بالقلب واللسان ومنها كزازة المريد من ظهور بشرية الشيخ بأمر لا يطابق المعرفة ومنها سقوط حرمته من القلب, فأمّا الأغراض سواء كانت دنيوية أو أخروية وذلك أن الشيخ لا يصحب ولا يعرف إلا لله عزّ وجلّ لا لشيء وهي في أمرين يعني الصحبة : فإمّا أن يواليه لله عزّ وجلّ بأن يقول هذا وليّ الله وأنا أواليه وسرّ ذلك في قوله صلى الله عليه وسلّم مخبرا عن الله ( من عادى لي وليّا فقد آذنته بحرب ) وفي طيّه : من والى لي وليّا من أجل أنّه وليّ إصطفيته وإتخذته وليّا , وهذا هو السرّ الأكبر الجاذب للمريد لحضرة الله , والأمر الثاني أن يعلم أنّ الشيخ من عبيد الحضرة ويعلم ما يجب للحضرة من الأدب وما يفسد المرء فيه من الأوطار والأرب , فإذا علم هذا يصحبه ليدلّه على الله تعالى وعلى ما يقرّبه إليه
والصحبة في هذين الأمرين لا غير ومن صحب لغيرهما خسر الدنيا والآخرة فإذا عرفت هذا فاعرف أنّ الربّ سبحانه وتعالى يعبد لا لغرض بل لتجلبه مولاته إلى الله تعالى ولذا أمرت الشيوخ بقمع المريدين وزجرهم عن متابعة الهوى في أقلّ قليل لأن المريد في وقت متابعة الهوى كافرا بالله تعالى صريحا لا تلويحا لكونه نصب نفسه إلها وعصى أمر الله خالقه فهو يعبد غير الله على الحقيقة ليس من الله في شيء وإن قال لا إله إلا الله في هذا الحال قال له لسان الحال كذبت بل أنت مشرك ومن هذا القبيل خرج قوله صلى الله عليه وسلّم ( كتب جواهر المعاني صفحة 114 ) موضوع ( حقيقة المريد الصادق والشيخ الكامل ) فليرجع إليه فإنّه مفيد جدّا في بابه
( ما تحت قبّة السماء إله يعبد من دون الله أعظم من هوى متبع فإذا عرف المريد هذا فلا يغضب على الشيخ ولا يتغيّر إذا لم يوافق هواه في غرضه فإن الشيخ أعرف بالمصالح وأدرى بوجوه المضار والتلميذ جاهل بذلك فإذا طلب منه غرضا من أي فنّ كان ولم يساعفه الشيخ عليه فليعلم أن الشيخ منعه منه لأجل مصلحته ودفع مفسدته فإذا عوّد نفسه التغيّر على الشيخ في مثل هذا طرد عن حضرة الله وإنقطع عن الشيخ فإذا غضب المريد على الشيخ بعد تغيّره إنقطع إنقطاعا كليّا لا رجوع له أصلا وأما الإعتراض بالقلب أو اللسان فإنه سيف صارم يقطع الحبل بين الشيخ ومريده ...ألخ كتب جواهر المعاني صفحة 114 ) موضوع ( حقيقة المريد الصادق والشيخ الكامل ) فليرجع إليه فإنّه مفيد جدّا في بابه
هذا وليعلم أيّها السادة أنّه في الآونة الأخيرة جهلت أغلب الناس حقيقة التصوّف وحقيقة المريد الصادق والشيخ الكامل فإنّك تجد مريدا لا يدري عن السلوك شيئا بل يكون فهمه للطريق والسلوك عبارة عن كرامات ومراتب إختصاصية علم الغيب ...إلخ
فقلّ فهم الناس للطريق فجعلوه طريق تبرّك لا أكثر ولا أقلّ لذا خفي الأولياء في زماننا وتستّروا عن الناس خلاف ما كان عليه الزمن السالف
فلا بدّ لنا من تجديد تفهيم التصوّف الحقيقي للناس فإنهم وقعوا في خرافات وأوهام وخزعبلات كثيرة وجعلوا طريق الله تعالى مصيدة للدنيا فكذبوا على الله تعالى
ولا حول ولا قوّة إلا بالله
ما الذي ينبغي ان يكون بالانسان من صفات ليكون مريد وذلك قبل ان يبدأ السلوك ؟
هذا السؤال سيدي غاية في الإفادة ولا يسأله إلا من أراد السلوك ومعرفة الله تعالى ( ربّ أرني أنظر إليك )
وقد طرح هذا السؤال على الشيخ سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه في مضمون السؤال عن المريد الصادق والشيخ العارف فأجاب ما نصّه رضي الله عنه ( بإختصار )
الجواب :
فالذي يجب على المريد قبل لقاء الشيخ أن يلازم الذكر والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم بشدّة حضور القلب في تأمّل المعاني حسب الطاقة مع إعتقاده أنّه جالس بين يديه صلى الله عليه وسلّم مع دوام الإعراض عن كل ما يقدر عليه من هوى النفس وأغراضها والسعي في كلّ ما يحبّبه إلى الله تعالى من نوافل الخيرات وهي معروفة في الأوقات كوقت الضحى وقبل الظهر وبعده وقبل العصر وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد النهوض من النوم وفي آخر الليل , وليقلّل من ذلك ويجعل إهتمامه بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم أكثر من النوافل فإن الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم مفتاح أبواب الخير مع العزلة في وقت الذكر وتقليل الطعام والماء وإستعمال شيء من الصيام والصمت إلى غير ذلك ممّا هو مسطّر عند أهل الطريق والحذر الحذر من كثرة التخليط في الأذكار وكثرة تشعيب الفكر بين أقاويل المتصوّفون فإنه ما إتبع ذلك أحد وأفلح قطّ ولكن يجعل لنفسه ذكرا واحدا يهتمّ به ووجهة واحدة يهتمّ بها وأصلا ثابتا يعوّل عليه من الطرق هذا سلوكه وتربيته قبل لقاء الشيخ ثمّ يسعى في طلب الشيخ الكامل
قال رضي الله عنه:
أمّا الأمور التي تكون سببا لطرد المريد عن الشيخ منها الأغراض ومنها الإعتراض بالقلب واللسان ومنها كزازة المريد من ظهور بشرية الشيخ بأمر لا يطابق المعرفة ومنها سقوط حرمته من القلب, فأمّا الأغراض سواء كانت دنيوية أو أخروية وذلك أن الشيخ لا يصحب ولا يعرف إلا لله عزّ وجلّ لا لشيء وهي في أمرين يعني الصحبة : فإمّا أن يواليه لله عزّ وجلّ بأن يقول هذا وليّ الله وأنا أواليه وسرّ ذلك في قوله صلى الله عليه وسلّم مخبرا عن الله ( من عادى لي وليّا فقد آذنته بحرب ) وفي طيّه : من والى لي وليّا من أجل أنّه وليّ إصطفيته وإتخذته وليّا , وهذا هو السرّ الأكبر الجاذب للمريد لحضرة الله , والأمر الثاني أن يعلم أنّ الشيخ من عبيد الحضرة ويعلم ما يجب للحضرة من الأدب وما يفسد المرء فيه من الأوطار والأرب , فإذا علم هذا يصحبه ليدلّه على الله تعالى وعلى ما يقرّبه إليه
والصحبة في هذين الأمرين لا غير ومن صحب لغيرهما خسر الدنيا والآخرة فإذا عرفت هذا فاعرف أنّ الربّ سبحانه وتعالى يعبد لا لغرض بل لتجلبه مولاته إلى الله تعالى ولذا أمرت الشيوخ بقمع المريدين وزجرهم عن متابعة الهوى في أقلّ قليل لأن المريد في وقت متابعة الهوى كافرا بالله تعالى صريحا لا تلويحا لكونه نصب نفسه إلها وعصى أمر الله خالقه فهو يعبد غير الله على الحقيقة ليس من الله في شيء وإن قال لا إله إلا الله في هذا الحال قال له لسان الحال كذبت بل أنت مشرك ومن هذا القبيل خرج قوله صلى الله عليه وسلّم ( كتب جواهر المعاني صفحة 114 ) موضوع ( حقيقة المريد الصادق والشيخ الكامل ) فليرجع إليه فإنّه مفيد جدّا في بابه
( ما تحت قبّة السماء إله يعبد من دون الله أعظم من هوى متبع فإذا عرف المريد هذا فلا يغضب على الشيخ ولا يتغيّر إذا لم يوافق هواه في غرضه فإن الشيخ أعرف بالمصالح وأدرى بوجوه المضار والتلميذ جاهل بذلك فإذا طلب منه غرضا من أي فنّ كان ولم يساعفه الشيخ عليه فليعلم أن الشيخ منعه منه لأجل مصلحته ودفع مفسدته فإذا عوّد نفسه التغيّر على الشيخ في مثل هذا طرد عن حضرة الله وإنقطع عن الشيخ فإذا غضب المريد على الشيخ بعد تغيّره إنقطع إنقطاعا كليّا لا رجوع له أصلا وأما الإعتراض بالقلب أو اللسان فإنه سيف صارم يقطع الحبل بين الشيخ ومريده ...ألخ كتب جواهر المعاني صفحة 114 ) موضوع ( حقيقة المريد الصادق والشيخ الكامل ) فليرجع إليه فإنّه مفيد جدّا في بابه
هذا وليعلم أيّها السادة أنّه في الآونة الأخيرة جهلت أغلب الناس حقيقة التصوّف وحقيقة المريد الصادق والشيخ الكامل فإنّك تجد مريدا لا يدري عن السلوك شيئا بل يكون فهمه للطريق والسلوك عبارة عن كرامات ومراتب إختصاصية علم الغيب ...إلخ
فقلّ فهم الناس للطريق فجعلوه طريق تبرّك لا أكثر ولا أقلّ لذا خفي الأولياء في زماننا وتستّروا عن الناس خلاف ما كان عليه الزمن السالف
فلا بدّ لنا من تجديد تفهيم التصوّف الحقيقي للناس فإنهم وقعوا في خرافات وأوهام وخزعبلات كثيرة وجعلوا طريق الله تعالى مصيدة للدنيا فكذبوا على الله تعالى
ولا حول ولا قوّة إلا بالله
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال السابع :
ان طال صمت الشيخ الكامل عن مريده فلا هو عنفه عن تقصير ولا زجره وقسى عليه من ذنب ارتكبه وطال الامر فلا هو اطلعه على عيوبه ولا كلمه في حاله فهل هذا اشارة منه بان لا ثمرة ترجى منه ؟
الجواب والله تعالى أعلم ورسوله :
أشكرك سيدي فارس النور الفاضل على أسئلتك النيّرة التي هي أسئلة طالبي السلوك إلى حضرة ملك الملوك ( عند مليك مقتدر )
قلت :
صمت الشيوخ في حقيقته كلام نافع صادر من حضرات أنوار تربيتهم , فالصمت عند أهل الإرشاد هو كلام تربوي لمن فهم عنهم وربّما كان الصمت أبلغ علاج من الكلام اللساني , وصمت الشيخ لا يعني عدم كلامه , بل قد يكلّمك كلّ يوم من الصبح إلى المساء وقلب الفقير لا يسمع , وإنّما جاءهم هذا الحال في التربية متخلّقين بأخلاق مولاهم فإن الله تعالى في تربيته لعبيده ما عيّن أسماءهم بالإسم واللقب والبلد والجنسية رغم علمه كافة بهم : كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم )
فهو سبحانه عند هذا القول وقبله وبعده يعلم بكلّ ذات بشرية مرادة بهذا القول ظاهرا وباطنا فهو يريد أعيانا موجودة حاضرة وأخرى كانت في الماضي وأخرى ما تزال في طي غيب المستقبل فخاطب كلّ واحد منهم بعينه في هذه الآية وهذه الآية وغيرها من أحكام التربية , لأنّ علم التربية وشؤونه يعطي الكلام العام والصمت الخاصّ فتظنّ بأن الشيخ ما كلّمك وهو في الحقيقة يكلّمك من غير كلام لأنّ الكلام فيه وحشة ويفسد التربية قال سيدي أبو الحسن الشاذلي : ( نحن نربّي أولادنا بالنظر كما تربّي الدجاجة أولادها بالنظر )أي لا نربّيهم بالكلام بل بمجرّد النظر لأنّهم أهل نظرة
أمّا أنّ الشيخ لا يكلّم المريد في عيوبه ؟ فالأمر حاصل بأن المريد عارف بمعاصيه الظاهرة والباطنة في الأغلب ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره )
فلماذا يريد من الشيخ أن يكلّمه فيها وهو يعلم أغلبها , ثمّ إن الشيخ لا يربّي بكشف عيوب وعورات مريديه بل يربّيهم بسترها كي لا تقع وحشة بين المريد والشيخ فتفسد تربيته ويهلك مع الهالكين بل إنّ الشيخ يقرّبه ويدنيه منه ومن ثمّ يشرع في علاجه ومداواته والشيخ يضحك معه ولا يظهر له عيبا
ومثال ذلك كالطبيب متى قدم عليه مريض وعاين خطورة مرضه فإنّه لا يكاشفه به بل يضحك معه ويهوّن عليه من مرضه ويرفع له من معنوياته حتى يصبح ذلك الفعل نصف العلاج ...إلخ
وكذلك فلاحظ كيف أن الإنسان وقبل أن تجرى له عملية جراحية كيف يلاطفه الطبيب أو الممرّض حتى يبنّجه من حيث لا يشعر المريض , ولا تجد في وجه الطبيب غير إبتسامته المعهودة مع المريض ولو كان هذا المريض على عتبات الآخرة
فالأحرى بمشائخ التربية أن يكونوا حكماء زمانهم وأطبّاء وقتهم بخصوص أمراض النفس والقلب والعقل والروح
أمّا المريد الذي يريد أن يتكلّم معه شيخه ويحيطه علما بعيوبه وو..إلخ فهو في هذه الحالة أصبح الشيخ وجعل في المقابل شيخه مريدا وكأنّه يأمره وينهاه وذلك بأن يجبره بقلبه على الكلام معه والحديث في خصوصياته ...إلخ
فهذا لا يستقيم مع التربية وشؤونه والناظر في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه يرى جميع مناهج التربية ونظريّات مشائخ التصوّف فيها فإن لكلّ شيخ نظريّة في التربية تختلف بإختلاف المكان والزمان لأنّ أمراض كلّ زمان وكلّ مكان لا تكون مثل ما مرّ ومضى من الأمراض رغم أنّها كلّها أمراض قال تعالى ( تشابهت قلوبهم )فهي تشابهت فقط وبقي إختلاف المرض بحسب القلّة والكثرة والنوع والكيف
وعلوم التربية علوم عظيمة كبيرة طويلة دقيقة ومن كلّفه الله تعالى بهذه الوظيفة لا يجوز عليه قطعا الإعتراض عليه لا ظاهرا ولا باطنا وهذا شرط لذبح النفس وموتها
فليس فرضا أن يكون الفقير لا يرجى منه شيء بمجرّد أنّ شيخه لم يكلّمه في عيوبه وذنوبه وصمت معه صمتا طويلا فهذه مقاييس عقلية ما أبعد تفكير الشيخ عنها
بل الواجب في حقّ المريد الإنقياد لشيخه ظاهرا وباطنا
وكم إعترضت بقلبي على شيخي رضي الله عنه وأسأت الأدب معه ظاهرا وباطنا حتى أنّه قال لي مرّة ( يا سيدي أتريد أن تتدخّل في علوم تربيتي للمريدين فتعال إعمل لنا شيخا وخلّصنا )كلام هذا معناه
ومرّة قلت له قولا يخصّ المعرفة فقال لي [color="rgb(255, 140, 0)"]( هذا الذي تقول يا سيدي خاطر شيطاني )فسكتّ حتى خجلت لأن الشيخ يعرف حضرات الكلام
ومرّة قال لي :( المريدون في كفّ الشيخ مثل حبّا قمح في كفّ صاحبها )
ومرّة قلت له يا سيدي أخبرني في حالي فقد سئمت فأجابني بقوله ( إصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس )
والحمد لله تعالى فما وافقني شيخنا يوما على أمر بل لا يفعل إلا خلاف ما قصدت لأنّه كان يعلم خبث نفسي وتلوّن داهياتها فكان رضي الله عنه لها بالمرصاد فالحمد لله
فعزمت أن لا أعترض على شيخي رضي الله عنه وأكتفي بنظره عن نظري وبعلمه عن علمي وما أنا إلا منتسب إلى فقرائه وأرجو أن تشملني معهم الرحمة
ومن عرف الشيوخ بكى دما على تواضعهم في قلوبهم وكثرة رحمتهم بالمريدين وشدّة عنايتهم بهم أما عن كرمهم معهم فحدّث ولا حرج فهم أهل الجود والكرم الظاهري والباطني
فالحمد لله على محبّتنا لشيوخنا وإخواننا فإنّها منّة من الله عظيمة
يتبع إن شاء الله
ان طال صمت الشيخ الكامل عن مريده فلا هو عنفه عن تقصير ولا زجره وقسى عليه من ذنب ارتكبه وطال الامر فلا هو اطلعه على عيوبه ولا كلمه في حاله فهل هذا اشارة منه بان لا ثمرة ترجى منه ؟
الجواب والله تعالى أعلم ورسوله :
أشكرك سيدي فارس النور الفاضل على أسئلتك النيّرة التي هي أسئلة طالبي السلوك إلى حضرة ملك الملوك ( عند مليك مقتدر )
قلت :
صمت الشيوخ في حقيقته كلام نافع صادر من حضرات أنوار تربيتهم , فالصمت عند أهل الإرشاد هو كلام تربوي لمن فهم عنهم وربّما كان الصمت أبلغ علاج من الكلام اللساني , وصمت الشيخ لا يعني عدم كلامه , بل قد يكلّمك كلّ يوم من الصبح إلى المساء وقلب الفقير لا يسمع , وإنّما جاءهم هذا الحال في التربية متخلّقين بأخلاق مولاهم فإن الله تعالى في تربيته لعبيده ما عيّن أسماءهم بالإسم واللقب والبلد والجنسية رغم علمه كافة بهم : كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم )
فهو سبحانه عند هذا القول وقبله وبعده يعلم بكلّ ذات بشرية مرادة بهذا القول ظاهرا وباطنا فهو يريد أعيانا موجودة حاضرة وأخرى كانت في الماضي وأخرى ما تزال في طي غيب المستقبل فخاطب كلّ واحد منهم بعينه في هذه الآية وهذه الآية وغيرها من أحكام التربية , لأنّ علم التربية وشؤونه يعطي الكلام العام والصمت الخاصّ فتظنّ بأن الشيخ ما كلّمك وهو في الحقيقة يكلّمك من غير كلام لأنّ الكلام فيه وحشة ويفسد التربية قال سيدي أبو الحسن الشاذلي : ( نحن نربّي أولادنا بالنظر كما تربّي الدجاجة أولادها بالنظر )أي لا نربّيهم بالكلام بل بمجرّد النظر لأنّهم أهل نظرة
أمّا أنّ الشيخ لا يكلّم المريد في عيوبه ؟ فالأمر حاصل بأن المريد عارف بمعاصيه الظاهرة والباطنة في الأغلب ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره )
فلماذا يريد من الشيخ أن يكلّمه فيها وهو يعلم أغلبها , ثمّ إن الشيخ لا يربّي بكشف عيوب وعورات مريديه بل يربّيهم بسترها كي لا تقع وحشة بين المريد والشيخ فتفسد تربيته ويهلك مع الهالكين بل إنّ الشيخ يقرّبه ويدنيه منه ومن ثمّ يشرع في علاجه ومداواته والشيخ يضحك معه ولا يظهر له عيبا
ومثال ذلك كالطبيب متى قدم عليه مريض وعاين خطورة مرضه فإنّه لا يكاشفه به بل يضحك معه ويهوّن عليه من مرضه ويرفع له من معنوياته حتى يصبح ذلك الفعل نصف العلاج ...إلخ
وكذلك فلاحظ كيف أن الإنسان وقبل أن تجرى له عملية جراحية كيف يلاطفه الطبيب أو الممرّض حتى يبنّجه من حيث لا يشعر المريض , ولا تجد في وجه الطبيب غير إبتسامته المعهودة مع المريض ولو كان هذا المريض على عتبات الآخرة
فالأحرى بمشائخ التربية أن يكونوا حكماء زمانهم وأطبّاء وقتهم بخصوص أمراض النفس والقلب والعقل والروح
أمّا المريد الذي يريد أن يتكلّم معه شيخه ويحيطه علما بعيوبه وو..إلخ فهو في هذه الحالة أصبح الشيخ وجعل في المقابل شيخه مريدا وكأنّه يأمره وينهاه وذلك بأن يجبره بقلبه على الكلام معه والحديث في خصوصياته ...إلخ
فهذا لا يستقيم مع التربية وشؤونه والناظر في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه يرى جميع مناهج التربية ونظريّات مشائخ التصوّف فيها فإن لكلّ شيخ نظريّة في التربية تختلف بإختلاف المكان والزمان لأنّ أمراض كلّ زمان وكلّ مكان لا تكون مثل ما مرّ ومضى من الأمراض رغم أنّها كلّها أمراض قال تعالى ( تشابهت قلوبهم )فهي تشابهت فقط وبقي إختلاف المرض بحسب القلّة والكثرة والنوع والكيف
وعلوم التربية علوم عظيمة كبيرة طويلة دقيقة ومن كلّفه الله تعالى بهذه الوظيفة لا يجوز عليه قطعا الإعتراض عليه لا ظاهرا ولا باطنا وهذا شرط لذبح النفس وموتها
فليس فرضا أن يكون الفقير لا يرجى منه شيء بمجرّد أنّ شيخه لم يكلّمه في عيوبه وذنوبه وصمت معه صمتا طويلا فهذه مقاييس عقلية ما أبعد تفكير الشيخ عنها
بل الواجب في حقّ المريد الإنقياد لشيخه ظاهرا وباطنا
وكم إعترضت بقلبي على شيخي رضي الله عنه وأسأت الأدب معه ظاهرا وباطنا حتى أنّه قال لي مرّة ( يا سيدي أتريد أن تتدخّل في علوم تربيتي للمريدين فتعال إعمل لنا شيخا وخلّصنا )كلام هذا معناه
ومرّة قلت له قولا يخصّ المعرفة فقال لي [color="rgb(255, 140, 0)"]( هذا الذي تقول يا سيدي خاطر شيطاني )فسكتّ حتى خجلت لأن الشيخ يعرف حضرات الكلام
ومرّة قال لي :( المريدون في كفّ الشيخ مثل حبّا قمح في كفّ صاحبها )
ومرّة قلت له يا سيدي أخبرني في حالي فقد سئمت فأجابني بقوله ( إصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس )
والحمد لله تعالى فما وافقني شيخنا يوما على أمر بل لا يفعل إلا خلاف ما قصدت لأنّه كان يعلم خبث نفسي وتلوّن داهياتها فكان رضي الله عنه لها بالمرصاد فالحمد لله
فعزمت أن لا أعترض على شيخي رضي الله عنه وأكتفي بنظره عن نظري وبعلمه عن علمي وما أنا إلا منتسب إلى فقرائه وأرجو أن تشملني معهم الرحمة
ومن عرف الشيوخ بكى دما على تواضعهم في قلوبهم وكثرة رحمتهم بالمريدين وشدّة عنايتهم بهم أما عن كرمهم معهم فحدّث ولا حرج فهم أهل الجود والكرم الظاهري والباطني
فالحمد لله على محبّتنا لشيوخنا وإخواننا فإنّها منّة من الله عظيمة
يتبع إن شاء الله
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الثامن :
( سيدي ما مقصد المربي الكامل من تبشير مريده بالاستقطاب او الفتح او الفرج العظيم مع العلم ان اغلب المريدين عندما يحدث ويذكر المربي لهم شيئا بالتبشير تعلو نفوسهم ويبدؤون بالتصرف وكانهم نفوس كاملة يرمون الناس بالجهل وينصحون بتعالي وان خالفهم احد يغضبون ؟ )
الجواب والله ورسوله أعلم :
إعلم سيدي فارس النور علّمني الله وإيّاك من علمه وأفاض عليك وعليّ من خزائن فضله : أنّ التبشير بالخير , والتحذير من الشرّ , من أحكام التربية وشؤونها فمتى كملت التربية وإستوت على الجودي سفينة مقامات الإنسان على جبل الإيمان فتهبّ عليها من كلّ ناحية نسائم الإحسان ولواقح الإيقان , فعندئذ تستوي في حقّه المقامات فيتنزّه عنها لتجرّده منها غاية التجرّد , فتضحى المقامات تطلبه وهو فار منها تمام الفرار ولهذا ورد عن العارفين بأنّهم ما تقدّموا حتّى هدّدوا بالسلب وأوّل العارفين عليه الصلاة والسلام لمّا قيل له ( إقرأ )قال : ( ما أنا بقارىء )فأشفق من المقام وهرب منه إليه سبحانه وتعالى
قلت : بالنسبة للتبشير وأعني تبشير المؤمن بالخير كيفما كان هذا الخير آجلا أو عاجلا , حسّا أو معنى , ظاهرا أو باطنا , يعدّ من أحكام التربية لأنّ النفس تربّى بالجلال والجمال , أي بالخوف والرجاء , وبالحزن والفرح , لأنّ كلّ هذا من أحكام التجليات , والتجلّيات نوعان عليهما مدار التربية هما الجلال والجمال ومن هنا إختلفت الشيوخ في التربية فهناك من يربّون بالجمال وهو الغالب عليهم وهؤلاء أهل التبشير , وهناك من يربّي بالجلال أي أنّه الغالب عليه وهؤلاء أهل التحذير غالبا تجدهم هكذا , وطبعا فالنفس تميل طبعا إلى صاحب الجمال لما عنده من الراحة والسعادة وهذا المقام نازل عن مقام التربية بالجلال
اقول :شيخ التربية مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلّم في أقواله وأفعاله وأحواله فله حكم الوراثة النبوية والعلماء ورثة الأنبياء
والناظر في القرآن والسنّة يجد آيات التبشير للمؤمنين واضحة مثل الشمس وكذلك في السنّة فأحاديث تبشير الصحابة بالخير والسبق والجنّة والمقامات والأحوال ظاهر لا خفاء فيه وعليه فإنّ تبشير الشيخ الكامل مريده بخصوصية ما فهذا جائز معمول به عند السلف والخلف ويكفي الأدلّة في ذلك من الكتاب والسنّة التي يطول بسردها الجواب
قلت : الشيخ الكامل أعلم بحال مريده من المريد بحال نفسه فهناك من المريدين من إذا بشّرته زاد إيمانه وإنشرح إيقانه وتهذّب إحسانه ( إنّ من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته لكفر )هكذا ورد في الحديث
فالشيخ عندما يبشّر مريده بخصوصية من الخصوصيات فإنّما بشّره بصريح الوارد ولحكمة من ورائها جليلة , والفطن من ينظر إلى تلك الحكمة الجليلة وماهيتها ومن هنا تقع غربلة الأمور فلا تبقى غير الحقائق
هذا الذي ذكرته هو العنوان العام للسؤال وفيه من الأسرار الله أعلم بها ومن بعد رسوله صلى الله عليه وسلّم .
قلت : التبشير الحقيقي الذي عليه المعوّل هو تبشير الفقير وهو في مرتبة النفس المطمئنّة أي أنّ الفقير يبشّر وهو في مرتبة الإيمان الكامل بمعنى أنّه مبشّر ونفسه في هذه الحالة ميّتة , وهذا المقام في التبشير هو الذي عليه المعوّل لأنّ الفقير متى بشّر في هذه المرتبة من الإيمان فلا يزيده هذا التبشير إلا خوفا من الله سبحانه ورهبا وحيطة ويدرك عندها بأنّه في خطر عظيم رغم إيقانه الجازم بأنّه مبشّر بلسان الكامل والحقّ الشامل فلا يمكن أن يتخلّف هذا التبشير وإنّما فقط يقف خوفا من هذا التبشير : هل هو باطن أو ظاهر وهل هو من لوح الإثبات أو أنّه من لوح المحو , فتراه لا يقرّ له قرار ولا تجد له عند نفسه والعالم أخبار , وفي هذا النوع من التبشير قال عمر إبن الخطاب رضي الله عنه أو أحد غيره من الصحابة والشكّ منّي ( والله لو وضعت رجلي اليمنى في الجنّه والأخرى خارجها ما آمنت مكر الله أن لا يدخلني النار )وقال : لو نودي في المحشر أن هناك عبد من العباد سيدخل النار ما تشكّكت لحظة في أنّني ذلك العبد , وهكذا من هذه الفهوم والأحوال والمقامات والعلوم الإلهية والمعارف الربانية
هذا بالرغم من أنّ البشرى بالجنّة وردت في الكتاب والسنّة لسيدنا عمر ولبعض الصحابة الآخرين بل ورد فيهم قوله تعالى بما معناه ( رضي الله عن المهاجرين والأنصار )
ورغم هذا قالوا ما قالوا والسؤال لماذا قالوا هذا يا ترى وهم المبشّرون بالجنّة وبكلّ خير
قال سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه : بشّرني أحد الصالحين بدخول الجنّة فليس لي شكّ في دخولها ولكنّي لا أعلم هل أدخل النار أم لا ) هذا معنى كلامه , فأنظر كيف وفّق بين المقامين وأعطى أحكام المرتبتين لغزارة علمه وفهمه عن الله قال تعالى في حقّ الأنبياء وحقّ سيّد البشر ( لا أدري ما يفعل بي ولا بكم )
هذه مرتبة أولى لها أحكامها وعلومها وأسرارها ومعارفها ولو لا خوف السآمة لفصّلنا مراتبها ودرجات مناصبها
القسم الثاني : وهو تبشير المريد وهو لا يزال في مرتبة النفس الأمّارة أو اللوّامة فهذا التبشير من الشيوخ في تلك المرتبة يرعب الجبال ويخيفها فضلا عن أضعف المخلوقات وخلق الإنسان ضعيفا
فمن بشّره شيخه وهو في مرتبة النفس الأمّارة بالسوء وبالأحرى من كانت نفسه حيّة تسعى فلا ينبغي أن يلتفت إلى ذلك التبشير أصلا بلازم حاله فيقول : كيف يمكنني أن أكون قطبا أو عارفا وأنا مازلت أعصي ربّي ليلا ونهارا فيستبعد ما أخبره عنه الشيخ ويحمل كلام الشيخ على محامل أنّ الشيخ يتمنّى له ذلك لأنّ الشيخ يتمنّى لكلّ مريديه القطبانية بل إنّه يتمنّى أن يكونوا كلّهم خير منه ( أمّتي أمّتي )فما قال نفسي نفسي صلى الله عليه وسلّم لأنّه غائب عنها
وقد يقول قائل : كلام الشيوخ صدق من الله لا يتخلّف الوعد فيه : وأجيبه : من قال لك بأّن ذلك الكلام خرج بحسب ما هو مسطور في اللوح المحفوظ , فلم لا تقول إنّما هو من لوح المحو والإثبات وهي كلّها ألواح محفوظة ( فإنّه في عرفنا لا يعلم الغيب )إي في أمّ الكتاب الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر إلا الله تعالى فقد يخبر الوليّ بكشفه الصحيح ثمّ لا يقع ذلك الكشف كما رآه الشيخ فيخبر الشيخ بالصدق ولا يقع هذا الصدق حسبما رآه الشيخ وذلك إنّما أخفاه الله تعالى عن الشيخ لحكمة جليلة إمّا ليهلك المريد بذلك التبشير مادام في مرتبة النفس الأمارة فيتكبّر على الناس وعلى إخوانه ( أنا خير منه ) وتتعاظم نفسه فيستدرج من حيث لا يشعر ويمكر به غاية المكر وهو لا يدري بل إنّه يقول : لقد صدق شيخي في قوله ولو فعلت ما فعلت فلن يتغيّر ما أخبرني عنه شيخي وهذا جهل منه بالله تعالى وبرسوله وسوء أدب كبير مع الله تعالى بل الواجب عليه أن يقول كما قال الشيخ الأكبر ( أنا عندي يقين أن أدخل الجنّة ولكنّي لا أدري أادخل النار أم لا )
وكذلك على الفقير أن يقول : أنا عندي يقين أن أصل إلى درجة القطبانية ولكنّي لا أدري أأسلب أم لا ) نعم كلام الشيوخ صدق من الله تعالى إن شاء الله ولكنّه حمّال وجوه فقد يكون من لوح المحو والإثبات وقد يكون تربية وترقية وقد يكون إستدراجا ومكرا بمعنى أنّه يكون مثلا قطبا ويعلم الشيخ أنه سيسلب منها فيخبره عنها ويبشّره بها ومراد الله تعالى أن يسيء المريد الإدب بإخبار الشيخ له فيتنطّع ويتكبّر وهذا هو المراد منه بذلك الإخبار , المجال أوسع من أن يدرك , فما على المريد إلأ بإلتزام أرض العبودية التامّة
فالعبد الفقير لو قال لي شيخي : أنت يا سيدي فلان ستبلغ درجة القطبانية , لقت : هذا أمر لا يعنيني لا هو لي ولا أنا أهل له ولكن وحتى أنّ الله تعالى أراد أن يكرمني بتلك الخصوصية فأقول : ما مثلي ومثل هذا : إلا كملك أو رئيس نصّبوه رئيسا ويوجد في الملّة من هو أولى بها منّي ألف مرّة فأقول : لقد حكموا عليّ بذلك فأرضى لحكمهم وأسألهم الإقالة ممّا هو ليس لي ولست أهلا له بالمرّة
وقد ورد أن مريد قال لشيخه : يا سيدي أنت قطب , فقال له : نزّه شيخك عن القطبية , فقال له : أنت غوث إذن : فأجابه : نزّه شيخك عن الغوثية
فما قال هذا القول إلا لأن العبودية إستهلكته فهو عبد محض والعبودية المحضة مجرّدة عن الخصوصيات
فالقطبانية ليست هي العبودية بل هي مرتبة تشريف وعطاء أو تقول فضل
فهل نقول بأنّ الجنّة عبودية بل هي خصوصية معطاة فما دخلها في العبودية
لذا قال عمر : لو ....لما آمنت مكر الله أن لا أدخل النار )
فتجاوز الخصوصيات رضي الله عنه وعلومها وتوجّه إلى المعرفة بالله تعالى وإطلاقات ذاته وصفاته فوقف معها متأدّبا لأنّها الأصل أما الخصوصيات ( كلّ يوم هو في شأن )
وكان إبليس قطبا في العبادة ورئيسا في الزهادة فسلب وطرد وأخل آدم الجنّة فأخرج منها وأنزل إلى الأرض وقد توعّد الله أهل العناية بالعذاب الشديد بل توعّد حتى الأنبياء في قوله ( خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين )وقال لنوح عليه السلام ( فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين )فالله الله ساداتي ليس ثمّ إلا الله تعالى فحذار من أن تدخلوا في ذكر الخصوصيات بل علينا جميعا الإلتزام بالعبودية التي هي الأصل ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون )فالله هو الغاية المنشودة أمّا المقامات والخصوصيات فهي بيد الله تعالى وكما قال صاحب الإبريز ( الناس كلّهم يظنّون بأنّ صاحب السرّ مغبوط وهو في خطر عظيم ) هذا ما معناه لطول العهد به
وكذلك الذي بشّره الأولياء أو بشّره الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم فهو لا يدري خاتمته فيستأنس بذلك التبشير ويفرح به لكن يجب أن لا يعتمد عليه البتّة لأن الله تعالى يقول ( كلّ يوم هو في شأن ) ( وبدا لهم من الله ما لا يحتسبون )فالعلم الإلهي واسع لا حدّ له وكلّ من أساء الأدب وقع في العطب
فيلزم الفقير حدوده ولا يشغل باله إلا بما كلّفه به ربّه سبحانه وتعالى وإنّ للنفس دسائس بحسب المقام وبحسب الحال لذا وجب ملاحظتها دائما ( قال عليه السلام : نعوذ بالله من شرور أنفسنا )مع ما عليه عليه الصلاة والسلام من معارف وتقوى وقرب لكن تبقى الحقيقة المطلقة التي من أجلها خلق الكون وهي حقيقتة العبودية فليس يوجد مقاما في الكون أعلى من مقام العبودية ( سبحان الذي أسرى بعبده )
إعلموا أيّها السادة : أنّ مهمّة الشيخ هي التربية والترقية إلى درجات كمال العبودية ومهمّته الأمر والنهي ظاهرا وباطنا بحسب ما ورد في الشريعة وفي الطريقة وفي الحقيقة فمهمّته هي كيف يوصلك إلى الله تعالى وكيف يربّي لك نفسك ويبني لك شخصيتك المسلمة المثالية فتكون عارفا بالله داعيا إليه محبّا تقيّا صالحا فهذه أصول التربية
أمّا الإخبار بالمغيبات وجريان الكرامات فليست من التربية في شيء وليست الشيخ مهمّته الإخبار بالغيب ولا بإعطاء المقامات ولا الأحوال ولا الخصوصيات بل مهمّته ووظيفته التربية والترقية فقف مع حقيقة المشيخة ولا تقف مع خصوصياتها
( من وقف مع الخصوصية سلب مراتب العبودية )
( من وقف مع الفضل عوقب بالعدل )
( من صاحب الشيخ لنفسه الأمّارة بالسوء عوقب بالإستدراج منه )
( من أحبّ الشيخ فقط في التبشير , عوقب ببغضه عند ورود طامات التحذير )
( التبشير من مذاكرات التشويق , والتحذير من مذاكرات مخافة التعويق )
( الخصوصية مقام الثواب , والعبودية الوصال بربّ الأرباب )
( القطب إنّما كان قطبا بإنفراد سرّه في تعاريف العبودية وبحار التحقيق )
( من مال بقلبه إلى سواه , حرم من مقام ( إعبد الله كأنّك تراه )
( الخصوصية مرتبة تخصيص متى فهمتها عنه في نسب التعريف )
( متى أسرعت روحك في طلبه , جرت المقامات في طلبك , وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون )
( النفس تريد مقامات الظهور فكلّما جاهدتها أبدلت شهوتها بمقامات البطون , فكلّما منعت الظاهر ’ طلبت الباطن , لتظهر فيه , )
( التبشير بالمقامات , لرفع همّتك عن عالم الأغيار والشهوات )
( أفرحك بالتبشير ليريك جمال صفاته , أخافك بالتحذير ليوقفك عند حدود جلاله , ومتى غيّبك عنهما فحتى لا يقع تظرك إلا على ذاته )
( الخصوصية لا تأخذها إلا بيمينك ( خذ الكتاب بقوّة ) وذلك لا يكون إلا بالرجوع من حضرة الفناء في الذات إلى البقاء بأنوار الأسماء والصفات ) ( يا يحيى خذ الكتاب بقوّة )
( البشرى حالة قلبية مشهودة , وصفة ذاتية موجودة , توجب طلب المزيد( فَقَالَ رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير ) )
( الخصوصية تابعة للعبودية فحيثما وصلت عبوديتك لحقت بها خصوصيتك , فتلوّنت بمعناها , وتكيّفت بمبناها )
( حقيقة الخصوصية , رضاك بقضائه وقدره فيك , وذلك أن تستشعر جريان حكمه قبل كونك عليك )
( لا تنتظر تباشير الخصوصية , بل إنهض إليها مسرعا على جواد العبودية )
( طلبك للخصوصية قد يكون بالسؤال , وقد يكون بالقلب , وقد يكون بالحال , وقد يكون بالنور , إلا أنّه محال أن يكون بالسرّ , فكلّ من صفا سرّه , لم يكن له تعلّق إلا بربّه )
( الخصوصية مقام صفاتي , والعبودية مقام ذاتي ’ فحسبما كانت العبودية , إقتدت بها الخصوصية )
( العبد المحض الحرّ فوق جميع المقامات في فضاء الحريّة , فوقعت له المقامات ساجدة )
( سيدي ما مقصد المربي الكامل من تبشير مريده بالاستقطاب او الفتح او الفرج العظيم مع العلم ان اغلب المريدين عندما يحدث ويذكر المربي لهم شيئا بالتبشير تعلو نفوسهم ويبدؤون بالتصرف وكانهم نفوس كاملة يرمون الناس بالجهل وينصحون بتعالي وان خالفهم احد يغضبون ؟ )
الجواب والله ورسوله أعلم :
إعلم سيدي فارس النور علّمني الله وإيّاك من علمه وأفاض عليك وعليّ من خزائن فضله : أنّ التبشير بالخير , والتحذير من الشرّ , من أحكام التربية وشؤونها فمتى كملت التربية وإستوت على الجودي سفينة مقامات الإنسان على جبل الإيمان فتهبّ عليها من كلّ ناحية نسائم الإحسان ولواقح الإيقان , فعندئذ تستوي في حقّه المقامات فيتنزّه عنها لتجرّده منها غاية التجرّد , فتضحى المقامات تطلبه وهو فار منها تمام الفرار ولهذا ورد عن العارفين بأنّهم ما تقدّموا حتّى هدّدوا بالسلب وأوّل العارفين عليه الصلاة والسلام لمّا قيل له ( إقرأ )قال : ( ما أنا بقارىء )فأشفق من المقام وهرب منه إليه سبحانه وتعالى
قلت : بالنسبة للتبشير وأعني تبشير المؤمن بالخير كيفما كان هذا الخير آجلا أو عاجلا , حسّا أو معنى , ظاهرا أو باطنا , يعدّ من أحكام التربية لأنّ النفس تربّى بالجلال والجمال , أي بالخوف والرجاء , وبالحزن والفرح , لأنّ كلّ هذا من أحكام التجليات , والتجلّيات نوعان عليهما مدار التربية هما الجلال والجمال ومن هنا إختلفت الشيوخ في التربية فهناك من يربّون بالجمال وهو الغالب عليهم وهؤلاء أهل التبشير , وهناك من يربّي بالجلال أي أنّه الغالب عليه وهؤلاء أهل التحذير غالبا تجدهم هكذا , وطبعا فالنفس تميل طبعا إلى صاحب الجمال لما عنده من الراحة والسعادة وهذا المقام نازل عن مقام التربية بالجلال
اقول :شيخ التربية مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلّم في أقواله وأفعاله وأحواله فله حكم الوراثة النبوية والعلماء ورثة الأنبياء
والناظر في القرآن والسنّة يجد آيات التبشير للمؤمنين واضحة مثل الشمس وكذلك في السنّة فأحاديث تبشير الصحابة بالخير والسبق والجنّة والمقامات والأحوال ظاهر لا خفاء فيه وعليه فإنّ تبشير الشيخ الكامل مريده بخصوصية ما فهذا جائز معمول به عند السلف والخلف ويكفي الأدلّة في ذلك من الكتاب والسنّة التي يطول بسردها الجواب
قلت : الشيخ الكامل أعلم بحال مريده من المريد بحال نفسه فهناك من المريدين من إذا بشّرته زاد إيمانه وإنشرح إيقانه وتهذّب إحسانه ( إنّ من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته لكفر )هكذا ورد في الحديث
فالشيخ عندما يبشّر مريده بخصوصية من الخصوصيات فإنّما بشّره بصريح الوارد ولحكمة من ورائها جليلة , والفطن من ينظر إلى تلك الحكمة الجليلة وماهيتها ومن هنا تقع غربلة الأمور فلا تبقى غير الحقائق
هذا الذي ذكرته هو العنوان العام للسؤال وفيه من الأسرار الله أعلم بها ومن بعد رسوله صلى الله عليه وسلّم .
قلت : التبشير الحقيقي الذي عليه المعوّل هو تبشير الفقير وهو في مرتبة النفس المطمئنّة أي أنّ الفقير يبشّر وهو في مرتبة الإيمان الكامل بمعنى أنّه مبشّر ونفسه في هذه الحالة ميّتة , وهذا المقام في التبشير هو الذي عليه المعوّل لأنّ الفقير متى بشّر في هذه المرتبة من الإيمان فلا يزيده هذا التبشير إلا خوفا من الله سبحانه ورهبا وحيطة ويدرك عندها بأنّه في خطر عظيم رغم إيقانه الجازم بأنّه مبشّر بلسان الكامل والحقّ الشامل فلا يمكن أن يتخلّف هذا التبشير وإنّما فقط يقف خوفا من هذا التبشير : هل هو باطن أو ظاهر وهل هو من لوح الإثبات أو أنّه من لوح المحو , فتراه لا يقرّ له قرار ولا تجد له عند نفسه والعالم أخبار , وفي هذا النوع من التبشير قال عمر إبن الخطاب رضي الله عنه أو أحد غيره من الصحابة والشكّ منّي ( والله لو وضعت رجلي اليمنى في الجنّه والأخرى خارجها ما آمنت مكر الله أن لا يدخلني النار )وقال : لو نودي في المحشر أن هناك عبد من العباد سيدخل النار ما تشكّكت لحظة في أنّني ذلك العبد , وهكذا من هذه الفهوم والأحوال والمقامات والعلوم الإلهية والمعارف الربانية
هذا بالرغم من أنّ البشرى بالجنّة وردت في الكتاب والسنّة لسيدنا عمر ولبعض الصحابة الآخرين بل ورد فيهم قوله تعالى بما معناه ( رضي الله عن المهاجرين والأنصار )
ورغم هذا قالوا ما قالوا والسؤال لماذا قالوا هذا يا ترى وهم المبشّرون بالجنّة وبكلّ خير
قال سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه : بشّرني أحد الصالحين بدخول الجنّة فليس لي شكّ في دخولها ولكنّي لا أعلم هل أدخل النار أم لا ) هذا معنى كلامه , فأنظر كيف وفّق بين المقامين وأعطى أحكام المرتبتين لغزارة علمه وفهمه عن الله قال تعالى في حقّ الأنبياء وحقّ سيّد البشر ( لا أدري ما يفعل بي ولا بكم )
هذه مرتبة أولى لها أحكامها وعلومها وأسرارها ومعارفها ولو لا خوف السآمة لفصّلنا مراتبها ودرجات مناصبها
القسم الثاني : وهو تبشير المريد وهو لا يزال في مرتبة النفس الأمّارة أو اللوّامة فهذا التبشير من الشيوخ في تلك المرتبة يرعب الجبال ويخيفها فضلا عن أضعف المخلوقات وخلق الإنسان ضعيفا
فمن بشّره شيخه وهو في مرتبة النفس الأمّارة بالسوء وبالأحرى من كانت نفسه حيّة تسعى فلا ينبغي أن يلتفت إلى ذلك التبشير أصلا بلازم حاله فيقول : كيف يمكنني أن أكون قطبا أو عارفا وأنا مازلت أعصي ربّي ليلا ونهارا فيستبعد ما أخبره عنه الشيخ ويحمل كلام الشيخ على محامل أنّ الشيخ يتمنّى له ذلك لأنّ الشيخ يتمنّى لكلّ مريديه القطبانية بل إنّه يتمنّى أن يكونوا كلّهم خير منه ( أمّتي أمّتي )فما قال نفسي نفسي صلى الله عليه وسلّم لأنّه غائب عنها
وقد يقول قائل : كلام الشيوخ صدق من الله لا يتخلّف الوعد فيه : وأجيبه : من قال لك بأّن ذلك الكلام خرج بحسب ما هو مسطور في اللوح المحفوظ , فلم لا تقول إنّما هو من لوح المحو والإثبات وهي كلّها ألواح محفوظة ( فإنّه في عرفنا لا يعلم الغيب )إي في أمّ الكتاب الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر إلا الله تعالى فقد يخبر الوليّ بكشفه الصحيح ثمّ لا يقع ذلك الكشف كما رآه الشيخ فيخبر الشيخ بالصدق ولا يقع هذا الصدق حسبما رآه الشيخ وذلك إنّما أخفاه الله تعالى عن الشيخ لحكمة جليلة إمّا ليهلك المريد بذلك التبشير مادام في مرتبة النفس الأمارة فيتكبّر على الناس وعلى إخوانه ( أنا خير منه ) وتتعاظم نفسه فيستدرج من حيث لا يشعر ويمكر به غاية المكر وهو لا يدري بل إنّه يقول : لقد صدق شيخي في قوله ولو فعلت ما فعلت فلن يتغيّر ما أخبرني عنه شيخي وهذا جهل منه بالله تعالى وبرسوله وسوء أدب كبير مع الله تعالى بل الواجب عليه أن يقول كما قال الشيخ الأكبر ( أنا عندي يقين أن أدخل الجنّة ولكنّي لا أدري أادخل النار أم لا )
وكذلك على الفقير أن يقول : أنا عندي يقين أن أصل إلى درجة القطبانية ولكنّي لا أدري أأسلب أم لا ) نعم كلام الشيوخ صدق من الله تعالى إن شاء الله ولكنّه حمّال وجوه فقد يكون من لوح المحو والإثبات وقد يكون تربية وترقية وقد يكون إستدراجا ومكرا بمعنى أنّه يكون مثلا قطبا ويعلم الشيخ أنه سيسلب منها فيخبره عنها ويبشّره بها ومراد الله تعالى أن يسيء المريد الإدب بإخبار الشيخ له فيتنطّع ويتكبّر وهذا هو المراد منه بذلك الإخبار , المجال أوسع من أن يدرك , فما على المريد إلأ بإلتزام أرض العبودية التامّة
فالعبد الفقير لو قال لي شيخي : أنت يا سيدي فلان ستبلغ درجة القطبانية , لقت : هذا أمر لا يعنيني لا هو لي ولا أنا أهل له ولكن وحتى أنّ الله تعالى أراد أن يكرمني بتلك الخصوصية فأقول : ما مثلي ومثل هذا : إلا كملك أو رئيس نصّبوه رئيسا ويوجد في الملّة من هو أولى بها منّي ألف مرّة فأقول : لقد حكموا عليّ بذلك فأرضى لحكمهم وأسألهم الإقالة ممّا هو ليس لي ولست أهلا له بالمرّة
وقد ورد أن مريد قال لشيخه : يا سيدي أنت قطب , فقال له : نزّه شيخك عن القطبية , فقال له : أنت غوث إذن : فأجابه : نزّه شيخك عن الغوثية
فما قال هذا القول إلا لأن العبودية إستهلكته فهو عبد محض والعبودية المحضة مجرّدة عن الخصوصيات
فالقطبانية ليست هي العبودية بل هي مرتبة تشريف وعطاء أو تقول فضل
فهل نقول بأنّ الجنّة عبودية بل هي خصوصية معطاة فما دخلها في العبودية
لذا قال عمر : لو ....لما آمنت مكر الله أن لا أدخل النار )
فتجاوز الخصوصيات رضي الله عنه وعلومها وتوجّه إلى المعرفة بالله تعالى وإطلاقات ذاته وصفاته فوقف معها متأدّبا لأنّها الأصل أما الخصوصيات ( كلّ يوم هو في شأن )
وكان إبليس قطبا في العبادة ورئيسا في الزهادة فسلب وطرد وأخل آدم الجنّة فأخرج منها وأنزل إلى الأرض وقد توعّد الله أهل العناية بالعذاب الشديد بل توعّد حتى الأنبياء في قوله ( خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين )وقال لنوح عليه السلام ( فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين )فالله الله ساداتي ليس ثمّ إلا الله تعالى فحذار من أن تدخلوا في ذكر الخصوصيات بل علينا جميعا الإلتزام بالعبودية التي هي الأصل ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون )فالله هو الغاية المنشودة أمّا المقامات والخصوصيات فهي بيد الله تعالى وكما قال صاحب الإبريز ( الناس كلّهم يظنّون بأنّ صاحب السرّ مغبوط وهو في خطر عظيم ) هذا ما معناه لطول العهد به
وكذلك الذي بشّره الأولياء أو بشّره الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم فهو لا يدري خاتمته فيستأنس بذلك التبشير ويفرح به لكن يجب أن لا يعتمد عليه البتّة لأن الله تعالى يقول ( كلّ يوم هو في شأن ) ( وبدا لهم من الله ما لا يحتسبون )فالعلم الإلهي واسع لا حدّ له وكلّ من أساء الأدب وقع في العطب
فيلزم الفقير حدوده ولا يشغل باله إلا بما كلّفه به ربّه سبحانه وتعالى وإنّ للنفس دسائس بحسب المقام وبحسب الحال لذا وجب ملاحظتها دائما ( قال عليه السلام : نعوذ بالله من شرور أنفسنا )مع ما عليه عليه الصلاة والسلام من معارف وتقوى وقرب لكن تبقى الحقيقة المطلقة التي من أجلها خلق الكون وهي حقيقتة العبودية فليس يوجد مقاما في الكون أعلى من مقام العبودية ( سبحان الذي أسرى بعبده )
إعلموا أيّها السادة : أنّ مهمّة الشيخ هي التربية والترقية إلى درجات كمال العبودية ومهمّته الأمر والنهي ظاهرا وباطنا بحسب ما ورد في الشريعة وفي الطريقة وفي الحقيقة فمهمّته هي كيف يوصلك إلى الله تعالى وكيف يربّي لك نفسك ويبني لك شخصيتك المسلمة المثالية فتكون عارفا بالله داعيا إليه محبّا تقيّا صالحا فهذه أصول التربية
أمّا الإخبار بالمغيبات وجريان الكرامات فليست من التربية في شيء وليست الشيخ مهمّته الإخبار بالغيب ولا بإعطاء المقامات ولا الأحوال ولا الخصوصيات بل مهمّته ووظيفته التربية والترقية فقف مع حقيقة المشيخة ولا تقف مع خصوصياتها
( من وقف مع الخصوصية سلب مراتب العبودية )
( من وقف مع الفضل عوقب بالعدل )
( من صاحب الشيخ لنفسه الأمّارة بالسوء عوقب بالإستدراج منه )
( من أحبّ الشيخ فقط في التبشير , عوقب ببغضه عند ورود طامات التحذير )
( التبشير من مذاكرات التشويق , والتحذير من مذاكرات مخافة التعويق )
( الخصوصية مقام الثواب , والعبودية الوصال بربّ الأرباب )
( القطب إنّما كان قطبا بإنفراد سرّه في تعاريف العبودية وبحار التحقيق )
( من مال بقلبه إلى سواه , حرم من مقام ( إعبد الله كأنّك تراه )
( الخصوصية مرتبة تخصيص متى فهمتها عنه في نسب التعريف )
( متى أسرعت روحك في طلبه , جرت المقامات في طلبك , وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون )
( النفس تريد مقامات الظهور فكلّما جاهدتها أبدلت شهوتها بمقامات البطون , فكلّما منعت الظاهر ’ طلبت الباطن , لتظهر فيه , )
( التبشير بالمقامات , لرفع همّتك عن عالم الأغيار والشهوات )
( أفرحك بالتبشير ليريك جمال صفاته , أخافك بالتحذير ليوقفك عند حدود جلاله , ومتى غيّبك عنهما فحتى لا يقع تظرك إلا على ذاته )
( الخصوصية لا تأخذها إلا بيمينك ( خذ الكتاب بقوّة ) وذلك لا يكون إلا بالرجوع من حضرة الفناء في الذات إلى البقاء بأنوار الأسماء والصفات ) ( يا يحيى خذ الكتاب بقوّة )
( البشرى حالة قلبية مشهودة , وصفة ذاتية موجودة , توجب طلب المزيد( فَقَالَ رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير ) )
( الخصوصية تابعة للعبودية فحيثما وصلت عبوديتك لحقت بها خصوصيتك , فتلوّنت بمعناها , وتكيّفت بمبناها )
( حقيقة الخصوصية , رضاك بقضائه وقدره فيك , وذلك أن تستشعر جريان حكمه قبل كونك عليك )
( لا تنتظر تباشير الخصوصية , بل إنهض إليها مسرعا على جواد العبودية )
( طلبك للخصوصية قد يكون بالسؤال , وقد يكون بالقلب , وقد يكون بالحال , وقد يكون بالنور , إلا أنّه محال أن يكون بالسرّ , فكلّ من صفا سرّه , لم يكن له تعلّق إلا بربّه )
( الخصوصية مقام صفاتي , والعبودية مقام ذاتي ’ فحسبما كانت العبودية , إقتدت بها الخصوصية )
( العبد المحض الحرّ فوق جميع المقامات في فضاء الحريّة , فوقعت له المقامات ساجدة )
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال التاسع :
ذكرت سابقا سيدي الفاضل ان تعدد الاوراد وعدم الثبات على ورد وذكر واحد يؤدي الى التشتت وان الاولياء حذرو من التخليط في الاذكار , وسؤالي : ما هو تعريف الخاطر ؟ وما هو السبب في ان تعدد الاذكار يسبب انهيار العزائم والتشتت ودخول دوامة الخواطر الشيطانية ؟ وما الرابط بين تعدد الاذكار ودخول الخواطر الشيطانية على هذا الصنف من الذاكرين خصوصا ان هذا يحصل كثيرا ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
إعلم سيدي العزيز أن الذكر المقصود هو الذكر الخاصّ المأذون فيه أي ذكر السلوك في الطريقة وليس الذكر العام المأذون فيه لجميع الأمّة الوارد في الكتاب والسنّة فهذا الفرق فلا بد من إعتباره وإنّما نصحوا بلزوم ذكرا واحدا لأنّ الذكر الواحد لا يدلّ إلا على الوجهة الواحدة بمعنى ذكر الجمع على الله تعالى لأنّ للأذكار خواص وكلّ ذكر يعطي خاصيته , وهذه الخاصيّة لكلّ ذكر تشتّت فكر الفقير وقلبه لأنّ كلّ ذكر يطلب عالمه النوري وحضرته فتعدّد الحضرات يفضي إلى التشتّت القلبي في عوالم الأنوار لذا نصحوا بملازمة ذكرا واحدا وأعني بالذكر الواحد أي الذكر الذي أذن فيه الشيخ فقط لأنّه الذي به يربّي ويسلّك وسرّ الله فيه وكذلك مدده فيه فيضحى صاحب هذه المنزلة متوجّه إلى الذات من غير إلتفات منه في سلوكه إلى غير ذلك
والتجانس وقع في أمور منها : هل يعقل أن يتّخذ الفقير شيخين مسلّكين في آن واحد فالجواب أنّه لا يعقل هذا ولا يتصوّر في البال وكذلك الأمر فهل يعقل أن يتّخذ الفقير طريقتين يسلك فيهما في وقت واحد في نفس الأمر فهذا أيضا لا يعقل وكذلك فهل يعقل بأن يخلط المريد في الأذكار بين الذكر المأذون والذكر الغير مأذون فهذا لا يعقل وإنّما وقع التجانس في الأمر من حيث أنّ الله تعالى واحد فلا بدّ لمن أراد أن يوصل إليه أن يتّخذ شيخا واحدا وطريقة واحدة وذكرا واحدا أذنه فيه الشيخ لأنّه سيكون في هذا في حضرة واحدة فلا تتجاذبه الحضرات قال تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )لأنّ السبيل إليه واحد ( إهدنا الصراط المستقيم )وأنت تعلم بأن الشيطان سلطانه قويّ في عالم الكثرة لذا وضّح هذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا خطّ خطوطا في الأرض وأوضح بأنّ طريق الله واحد وطرق الشيطان كثيرة , فكلّ ما دلّك على الكثرة فهو شيطاني وكلّ ما دلّك على الجمع على الله فهو ربّاني أما السؤال : كيف يعقل هذا فكيف يكون ذكر الله يشتّت القلب والفكر والجواب : هل كلّ من ذكر الله تعالى فهو على حقّ وهل كلّ من طلب الوصول إليه بهوى النفس وصل فماذا نقول فيما نشاهده اليوم وقبل اليوم في قوله عليه الصلاة والسلام في قوم يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصومهم إلى صومهم ...الحديث فليس كلّ ذاكر شاكر ولا كلّ مأذون واصل لأنّ عقبات الطريق كثيرة ومداخل الشيطان والنفس أكثر وإنّما قلنا هذا لنبيّن بأنّ الذكر ليس مقصود بكثرته العدديّة وإنّما بكثرته التوجّهية ( وركعتان من زاهد في الدنيا خير من ألف ركعة من راغب )فليس المراد بالكثرة ما نراه في الظاهر بل الكثرة هي الجمع في الباطن قال تعالى ( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها )فجعل النعم كلّها مجموعة في النعمة وهي حضرتها ومن حضرتها المطلقة لأنّها صفة ( المنعم )وهي مطلقة وحضرة الإطلاق توجب عدم الحصر وعدم الإحصاء ( لا نفاد لكلمات الله )وكذلك قوله تعالى : ( وأذكروا الله ذكرا كثيرا )فقال : أذكروا الله أي الإسم الجامع أي توجّهوا إلى الإسم الجامع بلفظ واحد وهو قولنا ( الله )فالذكر لا يتعدّد متى كان التوجّه إلى الذات القدسية وإنّما قال (كثيرا)أي تيهو في ذاتي التي لا حدّ لها ولا نهاية لكمالها وعظمتها وجمالها فمهما ذكرت فإنّه لا حدّ ولا غاية لهذا الذكر فهو حتما لا يكون إلا كثيرا رغم أنّه ذكر واحد بلفظ واحد أي في ذكر السلوك وهو ذكر الجمع على الله تعالى فهذا هو سيف المريد الذي يقاتل به أعداءه
ثمّ إنّ الذكر إنّما شرّع حقيقة في السلوك لنفي الخواطر وفنائها فمتى فنت الخواطر فعندها تشرق أنوار الواردات الصافية فلا يبقى للنفس خاطر ولا للشيطان خاطر فتكون الخواطر الربانية والخواطر الملائكيّة فيضحى الفقير بين أنوار الذات وأنوار الصفات ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال )فيصبح يمشي في الأرض بنور الواردات أي الإلهام الصحيح ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ )وفناء الخواطر الظلمانية لا يكون إلا بذكر واحد فإنّك لا تحسن أن تقاتل عدوّك إلا بسيف قاطع واحد ( ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه )
نعم قد يؤذن للمريد في الأذكار كلّها ولكن بعد تمام سلوكه وبعد معرفته كمن أذنه شيخه في ذكر الله بالأسماء الحسنى كلّها وهذا الأمر بعد السلوك غالبا وكلّ شيخ له مدده وسرّه فهو أعلم بما يأخذ وما يعطي
وإنّما قصدنا بالذكر الواحد أي الذكر المأذون فقط ويترك غيره ممّا لم يؤذن فيه وقد يكون الذكر المأذون عدّة أذكار وإنّما قصدنا تحديدا ذكر التوجّه بالذات لذا إختار ساداتنا لفظة الجلالة أو الكلمة الطيّبة ولهم مذاهب في ذلك معلومة فالذكر ليس بغاية في نفسه وإنّما هو وسيلة من وسائل السير والقرب والسلوك فمتى حصلت الغاية كانت العبادة على رؤوس العارفين كالتاج على رأس الملك لذا يخفى كثيرا ذكر لسانهم والعارف يعرف من نطقه فضلا عن حاله ومقاله
قلت : الشيطان خبير بطرق السير والسلوك قال تعالى حاكيا عن إبليس : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتقيم )فنسب الغواية إلى الله لعنه الله فأساء الأدب في حضرة القدس فطرد منها فلمّا طرد منها قعد في طريقها فهو عالم بطريق السلوك خبير بعلله فلا يمرّ أحد إلا إذا تجاوزه لأنّه قاعد هناك فمن كان له دليلا عرف كيف يسلك به عند موقع الشيطان ومن كان بلا دليل أخذ الشيطان بيده في صورة شيخ عارف وقور فأضلّه على علم ...إلخ حتى لا نخرج عن الموضوع
فخاطر الشيطان يلقيه والفقير في طريق السلوك وقد إعترض طريق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم لمّا عرج به كما في خبر السيرة فحذّره منه جبريل لأنّه كان دليله في ذلك الطريق وهذه ذكرى للذاكرين
قلت : هناك من الأذكار متى ذكرتها بغير إذن دخل الفقير بها حضرة الشيطان وتكشّف على عالم الشياطين عامّة وعالم الجنّ بأسره فيدخل عالم الظلام برمّته ولا يخرجه من ذلك إلا الله تعالى لذا قيل في بعض علماء الظاهر كإبن الجوزي قيل فيه لمّا ألّف كتابه تلبيس إبليس : بل هو الذي لبّس عليه الشيطان فيه قال هذا الكلام كبار العارفين وقد ذكر هذا الإمام الشعراني رضي الله عنه
ثمّ إنّ الذكر متى لم يكن متلفّظا به تلفّظا صحيحا أدخل صاحبه في متاهات وربّما أوصله إلى الدروشة فيترك عمله فيصير مثل المجنون وهو على باطل عظيم لأنّ طريق الصوفية قيل فيه بأنه أحد من السيف وأدقّ من الشعرة وصفه كوصف الصراط وهو الجسر الذي فوق نار جهنّم أعاذنا الله منها بمنّه والمسلمين
ومن رحمة الله بالمسلمين أنّه ستر أذكار الإذن وحجبها عن غير أهلها وستر علوم الحقيقة والخصوصية كلّ هذا رحمة بالضعفاء من المسلمين فجعل لهم ذكر عامّا يرتعون في رياضه كيفما شاؤوا وجعل للخاصة ذكرا خاصّا لا يتجاوزونه إلا بعد سلوكهم
والدعوة إلى الله تعالى لا تكون إلا من شيخ عارف بالله مأذونا بالإرشاد كامل في حاله ومقاله فهذا الوارث الذي تلقى الأنفس إليه فيعالجها ويخرجها الله به من الظلمات إلى النور
أمّا الخاطر الشيطاني الذي يكون في طريق السلوك يسمّى بالنفث والنفخ وهو شبيه بالإلهام ولا يميّز بينه وبين الإلهام إلا صاحب فرقان وقد وقع جملة من الصوفية ممن سلكوا الطريق من غير شيخ أو خلطوا في الأذكار من هذا الباب
أرجو أن أكون قد وفّقت في الإجابة
ذكرت سابقا سيدي الفاضل ان تعدد الاوراد وعدم الثبات على ورد وذكر واحد يؤدي الى التشتت وان الاولياء حذرو من التخليط في الاذكار , وسؤالي : ما هو تعريف الخاطر ؟ وما هو السبب في ان تعدد الاذكار يسبب انهيار العزائم والتشتت ودخول دوامة الخواطر الشيطانية ؟ وما الرابط بين تعدد الاذكار ودخول الخواطر الشيطانية على هذا الصنف من الذاكرين خصوصا ان هذا يحصل كثيرا ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
إعلم سيدي العزيز أن الذكر المقصود هو الذكر الخاصّ المأذون فيه أي ذكر السلوك في الطريقة وليس الذكر العام المأذون فيه لجميع الأمّة الوارد في الكتاب والسنّة فهذا الفرق فلا بد من إعتباره وإنّما نصحوا بلزوم ذكرا واحدا لأنّ الذكر الواحد لا يدلّ إلا على الوجهة الواحدة بمعنى ذكر الجمع على الله تعالى لأنّ للأذكار خواص وكلّ ذكر يعطي خاصيته , وهذه الخاصيّة لكلّ ذكر تشتّت فكر الفقير وقلبه لأنّ كلّ ذكر يطلب عالمه النوري وحضرته فتعدّد الحضرات يفضي إلى التشتّت القلبي في عوالم الأنوار لذا نصحوا بملازمة ذكرا واحدا وأعني بالذكر الواحد أي الذكر الذي أذن فيه الشيخ فقط لأنّه الذي به يربّي ويسلّك وسرّ الله فيه وكذلك مدده فيه فيضحى صاحب هذه المنزلة متوجّه إلى الذات من غير إلتفات منه في سلوكه إلى غير ذلك
والتجانس وقع في أمور منها : هل يعقل أن يتّخذ الفقير شيخين مسلّكين في آن واحد فالجواب أنّه لا يعقل هذا ولا يتصوّر في البال وكذلك الأمر فهل يعقل أن يتّخذ الفقير طريقتين يسلك فيهما في وقت واحد في نفس الأمر فهذا أيضا لا يعقل وكذلك فهل يعقل بأن يخلط المريد في الأذكار بين الذكر المأذون والذكر الغير مأذون فهذا لا يعقل وإنّما وقع التجانس في الأمر من حيث أنّ الله تعالى واحد فلا بدّ لمن أراد أن يوصل إليه أن يتّخذ شيخا واحدا وطريقة واحدة وذكرا واحدا أذنه فيه الشيخ لأنّه سيكون في هذا في حضرة واحدة فلا تتجاذبه الحضرات قال تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )لأنّ السبيل إليه واحد ( إهدنا الصراط المستقيم )وأنت تعلم بأن الشيطان سلطانه قويّ في عالم الكثرة لذا وضّح هذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا خطّ خطوطا في الأرض وأوضح بأنّ طريق الله واحد وطرق الشيطان كثيرة , فكلّ ما دلّك على الكثرة فهو شيطاني وكلّ ما دلّك على الجمع على الله فهو ربّاني أما السؤال : كيف يعقل هذا فكيف يكون ذكر الله يشتّت القلب والفكر والجواب : هل كلّ من ذكر الله تعالى فهو على حقّ وهل كلّ من طلب الوصول إليه بهوى النفس وصل فماذا نقول فيما نشاهده اليوم وقبل اليوم في قوله عليه الصلاة والسلام في قوم يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصومهم إلى صومهم ...الحديث فليس كلّ ذاكر شاكر ولا كلّ مأذون واصل لأنّ عقبات الطريق كثيرة ومداخل الشيطان والنفس أكثر وإنّما قلنا هذا لنبيّن بأنّ الذكر ليس مقصود بكثرته العدديّة وإنّما بكثرته التوجّهية ( وركعتان من زاهد في الدنيا خير من ألف ركعة من راغب )فليس المراد بالكثرة ما نراه في الظاهر بل الكثرة هي الجمع في الباطن قال تعالى ( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها )فجعل النعم كلّها مجموعة في النعمة وهي حضرتها ومن حضرتها المطلقة لأنّها صفة ( المنعم )وهي مطلقة وحضرة الإطلاق توجب عدم الحصر وعدم الإحصاء ( لا نفاد لكلمات الله )وكذلك قوله تعالى : ( وأذكروا الله ذكرا كثيرا )فقال : أذكروا الله أي الإسم الجامع أي توجّهوا إلى الإسم الجامع بلفظ واحد وهو قولنا ( الله )فالذكر لا يتعدّد متى كان التوجّه إلى الذات القدسية وإنّما قال (كثيرا)أي تيهو في ذاتي التي لا حدّ لها ولا نهاية لكمالها وعظمتها وجمالها فمهما ذكرت فإنّه لا حدّ ولا غاية لهذا الذكر فهو حتما لا يكون إلا كثيرا رغم أنّه ذكر واحد بلفظ واحد أي في ذكر السلوك وهو ذكر الجمع على الله تعالى فهذا هو سيف المريد الذي يقاتل به أعداءه
ثمّ إنّ الذكر إنّما شرّع حقيقة في السلوك لنفي الخواطر وفنائها فمتى فنت الخواطر فعندها تشرق أنوار الواردات الصافية فلا يبقى للنفس خاطر ولا للشيطان خاطر فتكون الخواطر الربانية والخواطر الملائكيّة فيضحى الفقير بين أنوار الذات وأنوار الصفات ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال )فيصبح يمشي في الأرض بنور الواردات أي الإلهام الصحيح ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ )وفناء الخواطر الظلمانية لا يكون إلا بذكر واحد فإنّك لا تحسن أن تقاتل عدوّك إلا بسيف قاطع واحد ( ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه )
نعم قد يؤذن للمريد في الأذكار كلّها ولكن بعد تمام سلوكه وبعد معرفته كمن أذنه شيخه في ذكر الله بالأسماء الحسنى كلّها وهذا الأمر بعد السلوك غالبا وكلّ شيخ له مدده وسرّه فهو أعلم بما يأخذ وما يعطي
وإنّما قصدنا بالذكر الواحد أي الذكر المأذون فقط ويترك غيره ممّا لم يؤذن فيه وقد يكون الذكر المأذون عدّة أذكار وإنّما قصدنا تحديدا ذكر التوجّه بالذات لذا إختار ساداتنا لفظة الجلالة أو الكلمة الطيّبة ولهم مذاهب في ذلك معلومة فالذكر ليس بغاية في نفسه وإنّما هو وسيلة من وسائل السير والقرب والسلوك فمتى حصلت الغاية كانت العبادة على رؤوس العارفين كالتاج على رأس الملك لذا يخفى كثيرا ذكر لسانهم والعارف يعرف من نطقه فضلا عن حاله ومقاله
قلت : الشيطان خبير بطرق السير والسلوك قال تعالى حاكيا عن إبليس : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتقيم )فنسب الغواية إلى الله لعنه الله فأساء الأدب في حضرة القدس فطرد منها فلمّا طرد منها قعد في طريقها فهو عالم بطريق السلوك خبير بعلله فلا يمرّ أحد إلا إذا تجاوزه لأنّه قاعد هناك فمن كان له دليلا عرف كيف يسلك به عند موقع الشيطان ومن كان بلا دليل أخذ الشيطان بيده في صورة شيخ عارف وقور فأضلّه على علم ...إلخ حتى لا نخرج عن الموضوع
فخاطر الشيطان يلقيه والفقير في طريق السلوك وقد إعترض طريق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم لمّا عرج به كما في خبر السيرة فحذّره منه جبريل لأنّه كان دليله في ذلك الطريق وهذه ذكرى للذاكرين
قلت : هناك من الأذكار متى ذكرتها بغير إذن دخل الفقير بها حضرة الشيطان وتكشّف على عالم الشياطين عامّة وعالم الجنّ بأسره فيدخل عالم الظلام برمّته ولا يخرجه من ذلك إلا الله تعالى لذا قيل في بعض علماء الظاهر كإبن الجوزي قيل فيه لمّا ألّف كتابه تلبيس إبليس : بل هو الذي لبّس عليه الشيطان فيه قال هذا الكلام كبار العارفين وقد ذكر هذا الإمام الشعراني رضي الله عنه
ثمّ إنّ الذكر متى لم يكن متلفّظا به تلفّظا صحيحا أدخل صاحبه في متاهات وربّما أوصله إلى الدروشة فيترك عمله فيصير مثل المجنون وهو على باطل عظيم لأنّ طريق الصوفية قيل فيه بأنه أحد من السيف وأدقّ من الشعرة وصفه كوصف الصراط وهو الجسر الذي فوق نار جهنّم أعاذنا الله منها بمنّه والمسلمين
ومن رحمة الله بالمسلمين أنّه ستر أذكار الإذن وحجبها عن غير أهلها وستر علوم الحقيقة والخصوصية كلّ هذا رحمة بالضعفاء من المسلمين فجعل لهم ذكر عامّا يرتعون في رياضه كيفما شاؤوا وجعل للخاصة ذكرا خاصّا لا يتجاوزونه إلا بعد سلوكهم
والدعوة إلى الله تعالى لا تكون إلا من شيخ عارف بالله مأذونا بالإرشاد كامل في حاله ومقاله فهذا الوارث الذي تلقى الأنفس إليه فيعالجها ويخرجها الله به من الظلمات إلى النور
أمّا الخاطر الشيطاني الذي يكون في طريق السلوك يسمّى بالنفث والنفخ وهو شبيه بالإلهام ولا يميّز بينه وبين الإلهام إلا صاحب فرقان وقد وقع جملة من الصوفية ممن سلكوا الطريق من غير شيخ أو خلطوا في الأذكار من هذا الباب
أرجو أن أكون قد وفّقت في الإجابة
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال العاشر :
قلت سيدي فيما سبق (طريق الأحوال والمقامات لا يمكن السير فيه إلا بدليل إمّا أن يكون هذا الدليل شيخا عارفا مرشدا وأمّا يكون شيطانا مريدا ) والسؤال هو : ما المخاطر االمحتملة لشخص سلك بغير مرشد ودليل ؟
هذا سؤال جدير بكلّ إهتمام
فالجواب والله أعلم :
السير في طريق الله مثاله تماما في عالم الحسّ كالسير في السفر من موطن إلى موطن ومن بلاد إلى بلاد فإنّ المرء متى جهل طريقه تاه في الصحراء وربّما خرج عليه قطّاع الطرق أو الحيوانات المفترسة والسّامّة فسلب ماله وهدّدت حياته وهذا معروف بالحسّ ومشاهد بالعين ولا ينكره أحد
فإذا كان الأمر هكذا في هذا العالم وهو عالم الأرض فما بالك بعالم السماء ( وأنّ إلى ربّك المنتهى )فهو طريق أخطر وأعسر وأشدّ فتحتّم وجود الدليل وهذا الدليل لا بدّ أن يكون من جنس هذا العالم وكذلك فكلّ دليل لا بدّ أن يكون من جنس عالمه وقد إتّخذ صلى الله عليه وسلّم جبريل دليلا في معراجه في السماء وإتّخذ ذلك الإعرابي دليله في الهجرة من مكّة إلى المدينة في الأرض وقد قيل الرفيق قبل الطريق والزاد قبل السفر والتخلية قبل التحلية والفناء قبل البقاء والسكر قبل الصحو ..إلى غير ذلك من الأمور المعقوله ( قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون )
قلت :
المخاطر التي تعترض السائر أو تقول المريد السالك من غير دليل وهو الشيخ المربي كثيرة وقد أوضح منها سيدي عبد العزيز الدبّاغ جملة شافية وفسّر كيفيّة دخول الظلام على ذات الإنسان وكيف أنّ شفافيّة روحه تميل مع كلّ ريح لذا قال ( يخاف على المفتوح عليه ما دام لم تجتمع روحه مع النبي صلى الله عليه وسلّم )فهذا حال المفتوح عليه فكيف بمن كان محجوبا فهو أولى بالعناية والرعاية وقال ( قد يتهوّد المفتوح عليه أو يتنصّر في يوم متى مرّ بروحه على الحضرات لأنّ روحه شفّافة تستغرقها وتستذجبها الحضرات ( هذا معنى كلامه بتصرّف )
أمّا المخاطر فكثيرة :
- منها الدعوى ( أنا خير منه )
- ومنها : الإحتجاج بالباطل في صورة الحقّ ( فبما أغويتني )فنسب الغواية إلى الله تعالى زعما أنّه محقّق وأن الله كتب عليه الغواية في اللوح المحفوظ فشتّته الحقائق الناقصة ففهمها فهما معكوسا وهذا علم كبير وفيه مرامي مقاييس العقول ومغاليطها وأمراض القلوب وأمراض الروح وفيه علم معرفة الأدب في حضرة الحقائق وما توجبه من فهم الحضرات ووزنها بالقسطاس المستقيم وهذا علم جليل قلّ من يدريه اليوم
- ومنها : الوهم وهو مجال الشيطان في عالم الخيال
- ومنها : التكبّر على الأمر فيفسخ عقود الشريعة وهذا عنوان الزندقة وكلّ من سار بغير شيخ أو سار مع شيخ ناقص مردّه إلى الزندقة لا محالة وهذا ينجم من فهم الحقيقة بالصورة الإبليسية أو تقول يرى الباطل في صورة الحقّ ويرى الحقّ في صورة الباطل
- ومنها : إضطراب الواردات فلا يميّز صحيحها من سقيمها فيلقى إليه الباطل في صورة الحقّ فتنة وإستدراجا ومكرا ( كذب المنجّمون ولو صدقوا )وكثير من الصوفية أصبحوا منجّمين ومشعوذين وهذا واضح وأصبحوا يبحثون عن الكنوز ويخالطون مردة الجنّ والشياطين
- ومنها : إطالة الطريق والإستئناس بغير الله فيقف مع ما يفتح الله به عليه فيستغرقه ويستهلكه فيصبح عبدا له فيدّعي ما ليس له ( لأغوينّهم أجمعين )فهو نسب الغواية إلى الله تعالى لمّا تعلّق الأمر بنفسه دفاعا عنها ونسب الغواية لنفسه متى تعلّق الأمر ببني الإنسان فجهل المقامات ووقع في الجهل ونطق بالحقيقة في نفس الوقت لكنّا حقيقة عليه وليست له , فبرّأ بني الإنسان من نسبة الغواية إليهم وبرّأ الله تعالى من نسبة الغواية لبني الإنسان إليه فحمل أوزار الأوّلين والآخرين فكان أوّل الكافرين وزعيم المشركين فهلك من حيث لا يدري ونطق بالكفر من حيث لا يدري فغالطته الحقائق في علم الإستدراج وهذا العلم خطير يخاف منه الأولون والآخرون
- ومنها : أخذ الحقائق معكوسة كصورة الدجّال فهي صورة عيسى المعكوسة فافهم
- ومنها : يخاف عليه من خطر النفس لأنّها حضرة الشيطان وهي أمّه ( فأمّه هاوية ) فلا تهوى به إلا في الظلمات ليس بخارج عنها
- ومنها : كثرة العلل النفسية التي يغذّيها الشيطان ( إنّي لكما من الناصحين )وهذا يقع بالوسوسة وهي قد تخفى عن أكابر الحذّاق إلا عن العارفين الكمّل فإن الشيطان يخاف منهم لأنّهم أنوار الصفات ( وجعلناها رجوما للشياطين )
- ومنها : يقع في مخاطر طلب الأعواض وهذا ينشأ من قلّة الإخلاص شيئا فشيئا حتى يفنى الإخلاص ويظهر الرياء الخفي على سطح القلب
- ومنها : مخاطر إعتقاد السوء في جانب الباري جلّ وعلا كمن جسّد الله تعالى أو شبّهه بخلقه أو إعتقد فيه إتّحادا أو حلولا ...إلخ وهذا ما يخاف منه الشيوخ الأكابر
- ومنها : وخاصّة منها إعتقاد الحلول كما وقع للنصارى فإنّ الشيطان عرف كيف يدخل عليهم منها وكذلك بعض الصوفية من الذين نسبوا للمشائخ الربوبية والألوهية والقدرة على كلّ شيء وكلّ هذا باطل شريعة وحقيقة وقد حرّق الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعضهم بالنار فقالوا له ( لا يعذّب بالنار إلا الله تعالى )فمازادنا تعذيبك إلا إعتقادا فيك وفي ربوبيتك وهذا إعتقاد باطل في الإمام عليّ وقد تبرّأ شيخنا إسماعيل من بعض الفقراء في ذلك ونهرهم ووصفهم بالخروج من الملّة كما تبرّا المشائخ من قبله وقد تبرّأ عيسى من قبل في كلّ هذا وكلّ هذا من مخاطر السير من غير شريعة ولا طريقة وعدم الإعتقاد في تربية الشيخ وصحبته للأغراض والأعواض
- ومنها : مؤازرة الشياطين لبني آدم في إخبارهم ببعض الأمور وقعت أو ستقع فيلبس الشيطان السالك من غير شيخ فتظهر عليه خوارق عادات وهي سحر شيطاني فعلها الشيطان فيتّبعه الناس وهو شيطان وقد ورد في بعض الأحاديث هذا في علامات آخر الزمان فيكون الشيطان على المنبر في صورة شيخ خطيب وهذا واقع في هذه الآونة
- ومنها : إيحاء الشيطان بالوسوسة فيوقع الفتنة بين أهل النسبة وهذا مردّه إلى الشكّ وهو أكذب الحديث *
والمخاطر كثيره
وبالجملة والخلاصة فكلّ حقيقة لها صورة من الباطل فما هنالك في الكون حقيقة وإلا وكانت صورة باطلة تقابلها فيخاف على المريد من هذه الصورة الباطلة التي في ظاهرها توحي بأنها حقّ
ومن هنا فرّق ساداتنا بين أنواع الخواطر فقالوا هناك خاطر يسمّى الخاطر الشيطاني والنفسي وحذّروا منه
وذكروا الكشوفات وأوضحوا الفرق بين الكشف الظلماني والكشف الرباني وبين الكشف الخيالي والكشف الحقيقي
وفرّقوا بين الحقيقة والدعوى وبين المأذون وعدمه وبين النور والظلمة
وحذّروا من النفس ومداخلها وخاصّة بأن النفس ترتقي مع السالك في كلّ مقام فتتلوّن بلونه وتبقى لها دسائس فيه ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا )والنفس تبقى نفس ولو كالنت عارفة بالله تعالى وهذا علم جليل
لذا نصحوا بإتّخاذ الشيخ المربي والدليل في الطريق فيكون المريد في حفظ الله تعالى ثمّ في حفظ شيخه الوارث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالتسلسل والسند الباطني الحقيقي وهو المدد النوراني من حضرة القدس بلا إنقطاع ولا تحوّل ولا تبدّل
ومن فقد الشيخ إنفرد به الشيطان لا محالة ومن إنفرد به الشيطان كان قرينه فبئس القرين
ثمّ إن لكلّ حقيقة صورة باطلة وهي صورة في نفس الإنسان لذا كان لا بد من الفناء عنها ومن لم يفنى عن نفسه فليس له بقاء بربّه فلا يمكن أن يكون الدليل إلا وهو في مقام البقاء
والحمد لله
والله أعلم والسلام
قلت سيدي فيما سبق (طريق الأحوال والمقامات لا يمكن السير فيه إلا بدليل إمّا أن يكون هذا الدليل شيخا عارفا مرشدا وأمّا يكون شيطانا مريدا ) والسؤال هو : ما المخاطر االمحتملة لشخص سلك بغير مرشد ودليل ؟
هذا سؤال جدير بكلّ إهتمام
فالجواب والله أعلم :
السير في طريق الله مثاله تماما في عالم الحسّ كالسير في السفر من موطن إلى موطن ومن بلاد إلى بلاد فإنّ المرء متى جهل طريقه تاه في الصحراء وربّما خرج عليه قطّاع الطرق أو الحيوانات المفترسة والسّامّة فسلب ماله وهدّدت حياته وهذا معروف بالحسّ ومشاهد بالعين ولا ينكره أحد
فإذا كان الأمر هكذا في هذا العالم وهو عالم الأرض فما بالك بعالم السماء ( وأنّ إلى ربّك المنتهى )فهو طريق أخطر وأعسر وأشدّ فتحتّم وجود الدليل وهذا الدليل لا بدّ أن يكون من جنس هذا العالم وكذلك فكلّ دليل لا بدّ أن يكون من جنس عالمه وقد إتّخذ صلى الله عليه وسلّم جبريل دليلا في معراجه في السماء وإتّخذ ذلك الإعرابي دليله في الهجرة من مكّة إلى المدينة في الأرض وقد قيل الرفيق قبل الطريق والزاد قبل السفر والتخلية قبل التحلية والفناء قبل البقاء والسكر قبل الصحو ..إلى غير ذلك من الأمور المعقوله ( قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون )
قلت :
المخاطر التي تعترض السائر أو تقول المريد السالك من غير دليل وهو الشيخ المربي كثيرة وقد أوضح منها سيدي عبد العزيز الدبّاغ جملة شافية وفسّر كيفيّة دخول الظلام على ذات الإنسان وكيف أنّ شفافيّة روحه تميل مع كلّ ريح لذا قال ( يخاف على المفتوح عليه ما دام لم تجتمع روحه مع النبي صلى الله عليه وسلّم )فهذا حال المفتوح عليه فكيف بمن كان محجوبا فهو أولى بالعناية والرعاية وقال ( قد يتهوّد المفتوح عليه أو يتنصّر في يوم متى مرّ بروحه على الحضرات لأنّ روحه شفّافة تستغرقها وتستذجبها الحضرات ( هذا معنى كلامه بتصرّف )
أمّا المخاطر فكثيرة :
- منها الدعوى ( أنا خير منه )
- ومنها : الإحتجاج بالباطل في صورة الحقّ ( فبما أغويتني )فنسب الغواية إلى الله تعالى زعما أنّه محقّق وأن الله كتب عليه الغواية في اللوح المحفوظ فشتّته الحقائق الناقصة ففهمها فهما معكوسا وهذا علم كبير وفيه مرامي مقاييس العقول ومغاليطها وأمراض القلوب وأمراض الروح وفيه علم معرفة الأدب في حضرة الحقائق وما توجبه من فهم الحضرات ووزنها بالقسطاس المستقيم وهذا علم جليل قلّ من يدريه اليوم
- ومنها : الوهم وهو مجال الشيطان في عالم الخيال
- ومنها : التكبّر على الأمر فيفسخ عقود الشريعة وهذا عنوان الزندقة وكلّ من سار بغير شيخ أو سار مع شيخ ناقص مردّه إلى الزندقة لا محالة وهذا ينجم من فهم الحقيقة بالصورة الإبليسية أو تقول يرى الباطل في صورة الحقّ ويرى الحقّ في صورة الباطل
- ومنها : إضطراب الواردات فلا يميّز صحيحها من سقيمها فيلقى إليه الباطل في صورة الحقّ فتنة وإستدراجا ومكرا ( كذب المنجّمون ولو صدقوا )وكثير من الصوفية أصبحوا منجّمين ومشعوذين وهذا واضح وأصبحوا يبحثون عن الكنوز ويخالطون مردة الجنّ والشياطين
- ومنها : إطالة الطريق والإستئناس بغير الله فيقف مع ما يفتح الله به عليه فيستغرقه ويستهلكه فيصبح عبدا له فيدّعي ما ليس له ( لأغوينّهم أجمعين )فهو نسب الغواية إلى الله تعالى لمّا تعلّق الأمر بنفسه دفاعا عنها ونسب الغواية لنفسه متى تعلّق الأمر ببني الإنسان فجهل المقامات ووقع في الجهل ونطق بالحقيقة في نفس الوقت لكنّا حقيقة عليه وليست له , فبرّأ بني الإنسان من نسبة الغواية إليهم وبرّأ الله تعالى من نسبة الغواية لبني الإنسان إليه فحمل أوزار الأوّلين والآخرين فكان أوّل الكافرين وزعيم المشركين فهلك من حيث لا يدري ونطق بالكفر من حيث لا يدري فغالطته الحقائق في علم الإستدراج وهذا العلم خطير يخاف منه الأولون والآخرون
- ومنها : أخذ الحقائق معكوسة كصورة الدجّال فهي صورة عيسى المعكوسة فافهم
- ومنها : يخاف عليه من خطر النفس لأنّها حضرة الشيطان وهي أمّه ( فأمّه هاوية ) فلا تهوى به إلا في الظلمات ليس بخارج عنها
- ومنها : كثرة العلل النفسية التي يغذّيها الشيطان ( إنّي لكما من الناصحين )وهذا يقع بالوسوسة وهي قد تخفى عن أكابر الحذّاق إلا عن العارفين الكمّل فإن الشيطان يخاف منهم لأنّهم أنوار الصفات ( وجعلناها رجوما للشياطين )
- ومنها : يقع في مخاطر طلب الأعواض وهذا ينشأ من قلّة الإخلاص شيئا فشيئا حتى يفنى الإخلاص ويظهر الرياء الخفي على سطح القلب
- ومنها : مخاطر إعتقاد السوء في جانب الباري جلّ وعلا كمن جسّد الله تعالى أو شبّهه بخلقه أو إعتقد فيه إتّحادا أو حلولا ...إلخ وهذا ما يخاف منه الشيوخ الأكابر
- ومنها : وخاصّة منها إعتقاد الحلول كما وقع للنصارى فإنّ الشيطان عرف كيف يدخل عليهم منها وكذلك بعض الصوفية من الذين نسبوا للمشائخ الربوبية والألوهية والقدرة على كلّ شيء وكلّ هذا باطل شريعة وحقيقة وقد حرّق الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعضهم بالنار فقالوا له ( لا يعذّب بالنار إلا الله تعالى )فمازادنا تعذيبك إلا إعتقادا فيك وفي ربوبيتك وهذا إعتقاد باطل في الإمام عليّ وقد تبرّأ شيخنا إسماعيل من بعض الفقراء في ذلك ونهرهم ووصفهم بالخروج من الملّة كما تبرّا المشائخ من قبله وقد تبرّأ عيسى من قبل في كلّ هذا وكلّ هذا من مخاطر السير من غير شريعة ولا طريقة وعدم الإعتقاد في تربية الشيخ وصحبته للأغراض والأعواض
- ومنها : مؤازرة الشياطين لبني آدم في إخبارهم ببعض الأمور وقعت أو ستقع فيلبس الشيطان السالك من غير شيخ فتظهر عليه خوارق عادات وهي سحر شيطاني فعلها الشيطان فيتّبعه الناس وهو شيطان وقد ورد في بعض الأحاديث هذا في علامات آخر الزمان فيكون الشيطان على المنبر في صورة شيخ خطيب وهذا واقع في هذه الآونة
- ومنها : إيحاء الشيطان بالوسوسة فيوقع الفتنة بين أهل النسبة وهذا مردّه إلى الشكّ وهو أكذب الحديث *
والمخاطر كثيره
وبالجملة والخلاصة فكلّ حقيقة لها صورة من الباطل فما هنالك في الكون حقيقة وإلا وكانت صورة باطلة تقابلها فيخاف على المريد من هذه الصورة الباطلة التي في ظاهرها توحي بأنها حقّ
ومن هنا فرّق ساداتنا بين أنواع الخواطر فقالوا هناك خاطر يسمّى الخاطر الشيطاني والنفسي وحذّروا منه
وذكروا الكشوفات وأوضحوا الفرق بين الكشف الظلماني والكشف الرباني وبين الكشف الخيالي والكشف الحقيقي
وفرّقوا بين الحقيقة والدعوى وبين المأذون وعدمه وبين النور والظلمة
وحذّروا من النفس ومداخلها وخاصّة بأن النفس ترتقي مع السالك في كلّ مقام فتتلوّن بلونه وتبقى لها دسائس فيه ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا )والنفس تبقى نفس ولو كالنت عارفة بالله تعالى وهذا علم جليل
لذا نصحوا بإتّخاذ الشيخ المربي والدليل في الطريق فيكون المريد في حفظ الله تعالى ثمّ في حفظ شيخه الوارث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالتسلسل والسند الباطني الحقيقي وهو المدد النوراني من حضرة القدس بلا إنقطاع ولا تحوّل ولا تبدّل
ومن فقد الشيخ إنفرد به الشيطان لا محالة ومن إنفرد به الشيطان كان قرينه فبئس القرين
ثمّ إن لكلّ حقيقة صورة باطلة وهي صورة في نفس الإنسان لذا كان لا بد من الفناء عنها ومن لم يفنى عن نفسه فليس له بقاء بربّه فلا يمكن أن يكون الدليل إلا وهو في مقام البقاء
والحمد لله
والله أعلم والسلام
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الحادي عشر :
من المعلوم سيدي ان هناك بواعث ودواعي تدفع الانسان نحو طريق الله , فاما الدواعي فهي : الخاطر ثم الارادة ثم العزم ثم الهمة ثم النية
واما البواعث فهي : رغبة أو رهبه أو تعظيم والسؤال هو :
ايهما أعظم واحب لله مريد يطلبه لرغبة أم مريد يطلبه لرهبه ؟
علما بان الرغبة هي الرغبة فيما عنده ورغبة في المعاينة والرهبه هي الرهبه من العذاب ورهبه من الحجاب
فالجواب والله ورسوله أعلم
سيدي الفاضل حباك الله بنوره : المعلوم من الشريعة التي هي عنوان الطريقة وطرائق الحقيقة أن الدواعي والبواعث التي ذكرتها فما هي إلا إجتباء وعناية من الله تعالى وهي المنعوتة في الذكر الحكيم ( بالهداية ) فكلّ من هداه الله تعالى إلى طريقه المستقيم وسبيله القويم أوقع في قلبه محبّة الطاعة وبغض المعصية وهذه لا تتحقّق إلا بالتوجيه الإلهي كالتوفيق منه وطلب الهداية والسير بالإقتداء بسيّد الرسل صلى الله عليه وسلّم فإنّ الدين كلّه لله تعالى يجتبي إليه من يشاء والعبد لا يستطيع أن يعبد الله إلا بإذنه سبحانه فمتى أراد الله هداية عبدا من العباد أوقع بقلبه مقتضياتها من الدوافع وهو المعبّر عنه بمدد التوفيق للطاعة والسير على منهاج أهل الله تعالى لذا قال تعال ( إهدنا الصراط المستقيم )وهذا معنى الهداية حقيقة ألا وهي الهداية إلى الطريق المستقيم أي بلا إعوجاج فيه والهداية إلى الطريق المستقيم هي في الحقيقة الإهتداء إلى ذلك الطريق المستقيم فالإهتداء إلى الطريق شيء والسير فيه شيء آخر لذا عطف بقوله سبحانه ( صراط الذين أنعمت عليهم )فدلّك على مكان ذلك الطريق المستقيم لتسير فيه فنسب الصراط للذين أنعم عليهم رغم أنّه صراطه هو سبحانه وطريقه . فعلامة إهتدائك إلى صراطه المستقيم هو ملاقاتك وإجتماعك بأهله وهم الذين أنعم عليهم في قوله تعالى ( صراط الذين أنعمت عليهم )وهذا هو سند الصراط المستقيم وهذه هي السلسلة التي لا إنقطاع فيها ( كلّ نسب منقطع إلا نسبي )كما قال عليه الصلاة والسلام لأنّه شيخ الوجود وكوكب السعود صلى الله عليه وسلّم , فهو صلى الله عليه وسلّم عنوان الطريق بمعنى أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم يمرّ عبر مراحل :
أوّلها: الإهتداء إلى دين الإسلام
وثانيها : الإهتداء إلى مقامات الإيمان
وثالثها : الإهتداء إلى مراتب الإحسان
فهذا هو الصراط المستقيم , لأنّ الصراط متى كان مستقيما لا إعوجاج فيه لم ينقطع السير فيه فمتى كان الإهتداء إلى الإسلام حقيقيّا أفضى منه إلى الإيمان الحقيقي ومتى كان الإيمان حقيقيا أفضى به إلى الإحسان ومتى كان الإحسان حقيقيّا أفضى به إلى الزيادة بلا نهاية ( وقل ربّ زدني علما )إلى أبد الآباد لأنّ الصراط مستقيما لا إعوجاج فيه
فالهداية تتجدّد سيدي بعد كلّ مقام لأنّك لا تدري طريق المقام الذي بعده لذا فلا بدّ من طلب الهداية إليه وهذا معنى ( تجديد الإيمان المذكور في الحديث )وأن الإيمان يخلق كما يخلق الثوب لذا فإنّ سؤال الهداية لا ينفكّ عنك في كلّ حال ومقام قال موسى ( كلاّ إنّ معي ربّي سيهدين )فطلب الهداية في تلك الحال وهذا معنى السير بالله والبقاء به
قال تعالى ( إيّاك نعبد )قال العلماء هذا شريعة وقال تعالى ( وإيّاك نستعين )قال العلماء هذه حقيقة أي إنّك لا تحسن أن تعبده إلا عندما يهديك إلى الصراط المستقيم وهذه شريعة ولا تحسن أن تدخل إلى فهم الحقيقة إلا عندما يهديك إلى صراط الذين أنعم عليهم ( فإيّاك نعبد )متعلّقها آية ( إهدنا الصراط المستقيم )فلا إستقامة للعبادة إلا بها , أمّا (وإيّاك نستعين )فمتعلّقها آية ( صراط الذين أنعمت عليهم )فهذه الهداية التامة هي التي تنجيك من أمرين الذين ذكرهما في آخر الآيات وهو قوله( غير المغضوب عليهم ) أي الذين عبدوه من غير أن يهتدوا إلى صراطه المستقيم , وقوله ( ولا الضالّين )وهم الذين لم يهتدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم , فأهل الغضب عبدوه للأغراض فإشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فكانت عبادتهم معلولة وهذا واقع في اليهود وفي هذه الأمّة أيضا كالفرق الضالّة كالخوارج كلاب أهل النار وغيرهم من الطوائف المنحرفة , أمّا أهل الضلال الذين زاغوا عن توحيده ووقعوا في الشرك والزندقة كالنصارى وكذلك بعض طوائف هذه الأمّة من الذين قالوا بالحلول والإتّحاد وإعتقدوه , فكان الغضب الإلهي سببه إنعدام العبادة وهي الأوامر والنواهي والإقتداء بالشريعة في أصولها وفروعها لأنّه الحجّة البالغة أمّا الضلال فسببه الزندقة لعدم الإهتداء إلى الإقتداء بأصحاب الصراط المستقيم ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )
فهذه الهداية هي تنير درب المؤمن من حيث إيمانه والمحسن من حيث إحسانه فمن فقدها فإمّا أن يكون من المغضوب عليهم أو من الضالين وليس هناك مرتبة أخرى ليكون فيها
فتتجدّد الهداية فيكون أوّلها خاطر يخطر بالنسبة لأهل الشريعة أمّا ما يقابله عند أهل الحقيقة فهي لوامع من النور تلمع , ثمّ يكون إرادة وما يقابلها عند السالكين تجرّد القلب ثمّ يكون حزم وهي مجاهدة ثمّ نيّة وعند القوم هي المعاينة
فإنّ الشريعة باب الحقيقة والإسم لا يدلّ إلا على المسمّى وما في الظاهر مصدره الباطن فهو بابه
وبما تقدّم يفهم كيف تكون العبادة لله تعالى
فالشريعه تعطي العبادة بالرغبة في الثواب والرهبة من العقاب , والحقيقه تعطي العبادة بالرغبة في النظر والمعاينة ( أعبد الله كأنّك تراه ) والرهبة من الحجاب , فالشريعة والحقيقة متّصلتان لا تنفصلان ولا ينفصل هذا عن هذا البتّة , فإنّ الثواب والجنّة من أنوار الصفات , والمعاينة والمشاهدة من أنوار الذات , والصفات لا تنفصل عن الذات , فعلى قدر المشاهدة يكون الثواب وعلى قدر الحجاب يكون العقاب لذا ما وقف القوم مع الآثار ولا مع عالم الأنوار وإنّما أغرقوا في عوالم الأسرار , فالواقف محجوب والقانع من فضل الله مطرود ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير )لأن الغنى لله تعالى والفقر صفة العبد فهذا مشهد العارف ولو أعطي مقام القطبانية في التصريف لأنّ مقام الحقيقة يستوجب هذا ومن أساء الأدب في حضرة الحقائق طرد وسلب كما وقع لإبليس لعنه الله تعالى
فلا بدّ من عبادة الله تعالى شريعة وحقيقة أي رغبة ورهبة فهما لا ينفصلان , والخوف والرجاء لا ينقطعان وقد أوضح هذا القرآن في قوله فيما يخصّ الرجاء ( قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
وفيما يخصّ الخوف قال تعالى ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )
فمن عبده لمجرّد الرغبة بنوعيها فمصيره أمن مكر الله , ومن عبده رهبة بنوعيها مجرّدة عن الرغبة فمصيره القنوط من رحمة الله
فلا نقول أيّهما أفضل فهما متلازمان لأنّ العبد بين صفات الجمال وصفات الجلال , وبين صفات الفضل وصفات العدل فكلّ صفة تراقبه وترصده ( وما يعلم جنود ربّك إلا هو )
نعم قد يغلب رجاء العبد خوفه أو قد يغلب خوفه رجاءه لكنّها حالة تلوين في السلوك أمّا التمكين الذي هو الأدب الحقيقي مع الله تعالى فتستوي فيه المقامات فلا يغلب خوفه رجاءه ولا رجاءه خوفه يراقب الله في الأنفاس و يزن الخواطر بالقسطاس
لذا جعلك بين شريعة وحقيقة ( بينهما برزخ لا يبغيان )فلا تتعارض شريعة مع حقيقة ولا حقيقة مع شريعة , والبغي هو الظلم والإعتداء بل على المريد أن تكون الشريعة المحمدية في ظاهره والحقيقة الإلهية في باطنه , فهو البرزخ الذي يمنع البحرين من أن يبغيان على بعضهما فكن برزخا لتزن بالقسطاس المستقيم ( وزنوا بالقسطاس المستقيم )قال تعالى : ( والسماء رفعها ووضع الميزان أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان )فهذا هو الكمال وهذا مقام الوارث المحمّدي الحقيقي الذي هو نائب عن الله تعالى ورسوله في بلاده وعباده وهو الذي تشدّ إليه الرحال لطلب لذّات الوصال وهوالإمام والقدوة والعارف والعالم
رضي الله عن جميع ساداتنا
هذا سيدي فارس النور وجازاك الله عنّا وعنك وعن كلّ من أفادته أسئلتك شيئا خيرا وجعل كلّ هذا وغيره كثير في ميزان حسناتك
وأسأل الله العظيم خاشعا أن أكون قد وفّيت في الإجابة وأن يجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم بجاه حرمة سيد المرسلين وأسأل الله أن ينفع بما كتبته كلّ من وقف عليه وأن يغفر لي ما وقع مني فيه من الغلط وسوء الفهم
آمين يا ربّ العالمين
تتبع بقية الأسئلة ..إن شاء الله
من المعلوم سيدي ان هناك بواعث ودواعي تدفع الانسان نحو طريق الله , فاما الدواعي فهي : الخاطر ثم الارادة ثم العزم ثم الهمة ثم النية
واما البواعث فهي : رغبة أو رهبه أو تعظيم والسؤال هو :
ايهما أعظم واحب لله مريد يطلبه لرغبة أم مريد يطلبه لرهبه ؟
علما بان الرغبة هي الرغبة فيما عنده ورغبة في المعاينة والرهبه هي الرهبه من العذاب ورهبه من الحجاب
فالجواب والله ورسوله أعلم
سيدي الفاضل حباك الله بنوره : المعلوم من الشريعة التي هي عنوان الطريقة وطرائق الحقيقة أن الدواعي والبواعث التي ذكرتها فما هي إلا إجتباء وعناية من الله تعالى وهي المنعوتة في الذكر الحكيم ( بالهداية ) فكلّ من هداه الله تعالى إلى طريقه المستقيم وسبيله القويم أوقع في قلبه محبّة الطاعة وبغض المعصية وهذه لا تتحقّق إلا بالتوجيه الإلهي كالتوفيق منه وطلب الهداية والسير بالإقتداء بسيّد الرسل صلى الله عليه وسلّم فإنّ الدين كلّه لله تعالى يجتبي إليه من يشاء والعبد لا يستطيع أن يعبد الله إلا بإذنه سبحانه فمتى أراد الله هداية عبدا من العباد أوقع بقلبه مقتضياتها من الدوافع وهو المعبّر عنه بمدد التوفيق للطاعة والسير على منهاج أهل الله تعالى لذا قال تعال ( إهدنا الصراط المستقيم )وهذا معنى الهداية حقيقة ألا وهي الهداية إلى الطريق المستقيم أي بلا إعوجاج فيه والهداية إلى الطريق المستقيم هي في الحقيقة الإهتداء إلى ذلك الطريق المستقيم فالإهتداء إلى الطريق شيء والسير فيه شيء آخر لذا عطف بقوله سبحانه ( صراط الذين أنعمت عليهم )فدلّك على مكان ذلك الطريق المستقيم لتسير فيه فنسب الصراط للذين أنعم عليهم رغم أنّه صراطه هو سبحانه وطريقه . فعلامة إهتدائك إلى صراطه المستقيم هو ملاقاتك وإجتماعك بأهله وهم الذين أنعم عليهم في قوله تعالى ( صراط الذين أنعمت عليهم )وهذا هو سند الصراط المستقيم وهذه هي السلسلة التي لا إنقطاع فيها ( كلّ نسب منقطع إلا نسبي )كما قال عليه الصلاة والسلام لأنّه شيخ الوجود وكوكب السعود صلى الله عليه وسلّم , فهو صلى الله عليه وسلّم عنوان الطريق بمعنى أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم يمرّ عبر مراحل :
أوّلها: الإهتداء إلى دين الإسلام
وثانيها : الإهتداء إلى مقامات الإيمان
وثالثها : الإهتداء إلى مراتب الإحسان
فهذا هو الصراط المستقيم , لأنّ الصراط متى كان مستقيما لا إعوجاج فيه لم ينقطع السير فيه فمتى كان الإهتداء إلى الإسلام حقيقيّا أفضى منه إلى الإيمان الحقيقي ومتى كان الإيمان حقيقيا أفضى به إلى الإحسان ومتى كان الإحسان حقيقيّا أفضى به إلى الزيادة بلا نهاية ( وقل ربّ زدني علما )إلى أبد الآباد لأنّ الصراط مستقيما لا إعوجاج فيه
فالهداية تتجدّد سيدي بعد كلّ مقام لأنّك لا تدري طريق المقام الذي بعده لذا فلا بدّ من طلب الهداية إليه وهذا معنى ( تجديد الإيمان المذكور في الحديث )وأن الإيمان يخلق كما يخلق الثوب لذا فإنّ سؤال الهداية لا ينفكّ عنك في كلّ حال ومقام قال موسى ( كلاّ إنّ معي ربّي سيهدين )فطلب الهداية في تلك الحال وهذا معنى السير بالله والبقاء به
قال تعالى ( إيّاك نعبد )قال العلماء هذا شريعة وقال تعالى ( وإيّاك نستعين )قال العلماء هذه حقيقة أي إنّك لا تحسن أن تعبده إلا عندما يهديك إلى الصراط المستقيم وهذه شريعة ولا تحسن أن تدخل إلى فهم الحقيقة إلا عندما يهديك إلى صراط الذين أنعم عليهم ( فإيّاك نعبد )متعلّقها آية ( إهدنا الصراط المستقيم )فلا إستقامة للعبادة إلا بها , أمّا (وإيّاك نستعين )فمتعلّقها آية ( صراط الذين أنعمت عليهم )فهذه الهداية التامة هي التي تنجيك من أمرين الذين ذكرهما في آخر الآيات وهو قوله( غير المغضوب عليهم ) أي الذين عبدوه من غير أن يهتدوا إلى صراطه المستقيم , وقوله ( ولا الضالّين )وهم الذين لم يهتدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم , فأهل الغضب عبدوه للأغراض فإشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فكانت عبادتهم معلولة وهذا واقع في اليهود وفي هذه الأمّة أيضا كالفرق الضالّة كالخوارج كلاب أهل النار وغيرهم من الطوائف المنحرفة , أمّا أهل الضلال الذين زاغوا عن توحيده ووقعوا في الشرك والزندقة كالنصارى وكذلك بعض طوائف هذه الأمّة من الذين قالوا بالحلول والإتّحاد وإعتقدوه , فكان الغضب الإلهي سببه إنعدام العبادة وهي الأوامر والنواهي والإقتداء بالشريعة في أصولها وفروعها لأنّه الحجّة البالغة أمّا الضلال فسببه الزندقة لعدم الإهتداء إلى الإقتداء بأصحاب الصراط المستقيم ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )
فهذه الهداية هي تنير درب المؤمن من حيث إيمانه والمحسن من حيث إحسانه فمن فقدها فإمّا أن يكون من المغضوب عليهم أو من الضالين وليس هناك مرتبة أخرى ليكون فيها
فتتجدّد الهداية فيكون أوّلها خاطر يخطر بالنسبة لأهل الشريعة أمّا ما يقابله عند أهل الحقيقة فهي لوامع من النور تلمع , ثمّ يكون إرادة وما يقابلها عند السالكين تجرّد القلب ثمّ يكون حزم وهي مجاهدة ثمّ نيّة وعند القوم هي المعاينة
فإنّ الشريعة باب الحقيقة والإسم لا يدلّ إلا على المسمّى وما في الظاهر مصدره الباطن فهو بابه
وبما تقدّم يفهم كيف تكون العبادة لله تعالى
فالشريعه تعطي العبادة بالرغبة في الثواب والرهبة من العقاب , والحقيقه تعطي العبادة بالرغبة في النظر والمعاينة ( أعبد الله كأنّك تراه ) والرهبة من الحجاب , فالشريعة والحقيقة متّصلتان لا تنفصلان ولا ينفصل هذا عن هذا البتّة , فإنّ الثواب والجنّة من أنوار الصفات , والمعاينة والمشاهدة من أنوار الذات , والصفات لا تنفصل عن الذات , فعلى قدر المشاهدة يكون الثواب وعلى قدر الحجاب يكون العقاب لذا ما وقف القوم مع الآثار ولا مع عالم الأنوار وإنّما أغرقوا في عوالم الأسرار , فالواقف محجوب والقانع من فضل الله مطرود ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير )لأن الغنى لله تعالى والفقر صفة العبد فهذا مشهد العارف ولو أعطي مقام القطبانية في التصريف لأنّ مقام الحقيقة يستوجب هذا ومن أساء الأدب في حضرة الحقائق طرد وسلب كما وقع لإبليس لعنه الله تعالى
فلا بدّ من عبادة الله تعالى شريعة وحقيقة أي رغبة ورهبة فهما لا ينفصلان , والخوف والرجاء لا ينقطعان وقد أوضح هذا القرآن في قوله فيما يخصّ الرجاء ( قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
وفيما يخصّ الخوف قال تعالى ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )
فمن عبده لمجرّد الرغبة بنوعيها فمصيره أمن مكر الله , ومن عبده رهبة بنوعيها مجرّدة عن الرغبة فمصيره القنوط من رحمة الله
فلا نقول أيّهما أفضل فهما متلازمان لأنّ العبد بين صفات الجمال وصفات الجلال , وبين صفات الفضل وصفات العدل فكلّ صفة تراقبه وترصده ( وما يعلم جنود ربّك إلا هو )
نعم قد يغلب رجاء العبد خوفه أو قد يغلب خوفه رجاءه لكنّها حالة تلوين في السلوك أمّا التمكين الذي هو الأدب الحقيقي مع الله تعالى فتستوي فيه المقامات فلا يغلب خوفه رجاءه ولا رجاءه خوفه يراقب الله في الأنفاس و يزن الخواطر بالقسطاس
لذا جعلك بين شريعة وحقيقة ( بينهما برزخ لا يبغيان )فلا تتعارض شريعة مع حقيقة ولا حقيقة مع شريعة , والبغي هو الظلم والإعتداء بل على المريد أن تكون الشريعة المحمدية في ظاهره والحقيقة الإلهية في باطنه , فهو البرزخ الذي يمنع البحرين من أن يبغيان على بعضهما فكن برزخا لتزن بالقسطاس المستقيم ( وزنوا بالقسطاس المستقيم )قال تعالى : ( والسماء رفعها ووضع الميزان أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان )فهذا هو الكمال وهذا مقام الوارث المحمّدي الحقيقي الذي هو نائب عن الله تعالى ورسوله في بلاده وعباده وهو الذي تشدّ إليه الرحال لطلب لذّات الوصال وهوالإمام والقدوة والعارف والعالم
رضي الله عن جميع ساداتنا
هذا سيدي فارس النور وجازاك الله عنّا وعنك وعن كلّ من أفادته أسئلتك شيئا خيرا وجعل كلّ هذا وغيره كثير في ميزان حسناتك
وأسأل الله العظيم خاشعا أن أكون قد وفّيت في الإجابة وأن يجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم بجاه حرمة سيد المرسلين وأسأل الله أن ينفع بما كتبته كلّ من وقف عليه وأن يغفر لي ما وقع مني فيه من الغلط وسوء الفهم
آمين يا ربّ العالمين
تتبع بقية الأسئلة ..إن شاء الله
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
يا ليت نشاطك سيدي علي في هذا المنتدى يحثّ باقي الفقراء للنسج على منوالك لنرى ونجد موسوعة إسماعيلية متكاملة فيها ما يثلج الفؤاد ويرضي ربّ العباد ويفرح شيخنا رحمه الله.
منصور- مساعد مشرف عام
- عدد الرسائل : 188
العمر : 56
تاريخ التسجيل : 02/12/2009
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
تعجز الكلمات عن وصف شعوري عندما أقرأ ما يكتب الأحباب وأجد نفسي في رياضهم أنعم وبالجمال الذي يتناثر هنا وهناك ليكوّن أجمل بصمات الأستاذ رضي الله عنه...
أبو أويس- عدد الرسائل : 1574
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الثاني عشر
قلت سيدي الغالي سابقا ( للأذكار خواص وكلّ ذكر يعطي خاصيته ) والسؤال هو :
كيف ذلك ؟
جازاك الله خيرا سيدي فارس النور :
فالجواب والله ورسوله أعلم :
نعم للأذكار خواص وهذا أمر معروف مشهور ولا أظنّه يخفى عليك , وإنّما قصدت أنّ لكلّ ذكر خاصيّة تميّزه عن الذكر الثاني وكلّ ذكر يطلب خاصيته
وقد أردت بقولي السابق في الجواب على السؤال بأنّ الفقير الذي يكثر من الخلط بين الأذكار فيذكر ما أذن فيه من شيخه ويذكر ما لم يؤذن فيه من شيخه فهذا لا ريب أنّه طالب خاصّيات الأذكار ولم تشوّر همّته بعد إلى الواحد القهّار , وخاصّيات الأذكار تعطى لا محالة لكلّ من ذكر بها وهذا الأغلب ولكن هناك فرق بين من ذكر بها طالبا بها وجه الله وكلّ ما يقرّبه إليه وبين من يذكر بها وليس مقصوده غير جلب المصالح النفسية ودفع المضار النفسية
وقد ألّف البوني وغيره في خواص الأذكار وإبن الحاج وما كتبوه يعدّ من علوم الحروف والسحر وما جرى مجرى هذا أي أن من فعل ذلك بغير إذن من شيخ كامل وقع في الشيطنةوالسحر وخرج عن الجادة المستقيمة كما وقع ( للطوخي عبد الفتاح المصري ) الذي يدعي إنتسابه للطريقة النقشبندية زورا وبهتانا وكتب الكتب في السحر والكفر
قلت : إنّما يتّخذ الشيخ الكامل لأسباب منها أنّه لا يأذن لمريده في ذكر إسم من الأسماء إلا بعدما يعلم يقينا أنّ مريده قد شوّر قلبه إلى الله تعالى فلو أذن الشيخ مريدا من مريديه بذكر الإسم مثلا ومازال قلبه لم يشوّر إلى الله تعالى فيخاف عليه من الشيطان أن بستهويه لأنّ قلبه في تلك الحالة ليس له توجّه إلى الله تعالى فبأي كشف يقع له في العالم الظلماني يضع اليد في اليد مع الشيطان فيصبح قائده وشيخه
فخواص الأذكار معناها أن يطلب المريد منها قضاء حاجاته فقط من غير إستشعار أنّه ذكر الله تعالى وهذا يوجب عليه شروطا كالحضور والخشوع والنور والغيبة عمّا سوى المذكور فتنمحي مراداته في مرادات ربّه ..وهكذا
فكلّ من خلّط في الذكر فهو طالب علل وأغراض وشهوات نفسية جليّة وخفيّة
والأمر كلّه متعلّق بوجهة المريد فمتى ذكر ذكرا صفاتي يخاف عليه من طلب خاصيّة ذلك الذكر فيحجب به عن ربّه
لذا إقتصروا في السلوك على ذكر إسم الذات لتفنى الشهوات وطلب العاجلات
هذا ما بدا لي
والله أعلم
قلت سيدي الغالي سابقا ( للأذكار خواص وكلّ ذكر يعطي خاصيته ) والسؤال هو :
كيف ذلك ؟
جازاك الله خيرا سيدي فارس النور :
فالجواب والله ورسوله أعلم :
نعم للأذكار خواص وهذا أمر معروف مشهور ولا أظنّه يخفى عليك , وإنّما قصدت أنّ لكلّ ذكر خاصيّة تميّزه عن الذكر الثاني وكلّ ذكر يطلب خاصيته
وقد أردت بقولي السابق في الجواب على السؤال بأنّ الفقير الذي يكثر من الخلط بين الأذكار فيذكر ما أذن فيه من شيخه ويذكر ما لم يؤذن فيه من شيخه فهذا لا ريب أنّه طالب خاصّيات الأذكار ولم تشوّر همّته بعد إلى الواحد القهّار , وخاصّيات الأذكار تعطى لا محالة لكلّ من ذكر بها وهذا الأغلب ولكن هناك فرق بين من ذكر بها طالبا بها وجه الله وكلّ ما يقرّبه إليه وبين من يذكر بها وليس مقصوده غير جلب المصالح النفسية ودفع المضار النفسية
وقد ألّف البوني وغيره في خواص الأذكار وإبن الحاج وما كتبوه يعدّ من علوم الحروف والسحر وما جرى مجرى هذا أي أن من فعل ذلك بغير إذن من شيخ كامل وقع في الشيطنةوالسحر وخرج عن الجادة المستقيمة كما وقع ( للطوخي عبد الفتاح المصري ) الذي يدعي إنتسابه للطريقة النقشبندية زورا وبهتانا وكتب الكتب في السحر والكفر
قلت : إنّما يتّخذ الشيخ الكامل لأسباب منها أنّه لا يأذن لمريده في ذكر إسم من الأسماء إلا بعدما يعلم يقينا أنّ مريده قد شوّر قلبه إلى الله تعالى فلو أذن الشيخ مريدا من مريديه بذكر الإسم مثلا ومازال قلبه لم يشوّر إلى الله تعالى فيخاف عليه من الشيطان أن بستهويه لأنّ قلبه في تلك الحالة ليس له توجّه إلى الله تعالى فبأي كشف يقع له في العالم الظلماني يضع اليد في اليد مع الشيطان فيصبح قائده وشيخه
فخواص الأذكار معناها أن يطلب المريد منها قضاء حاجاته فقط من غير إستشعار أنّه ذكر الله تعالى وهذا يوجب عليه شروطا كالحضور والخشوع والنور والغيبة عمّا سوى المذكور فتنمحي مراداته في مرادات ربّه ..وهكذا
فكلّ من خلّط في الذكر فهو طالب علل وأغراض وشهوات نفسية جليّة وخفيّة
والأمر كلّه متعلّق بوجهة المريد فمتى ذكر ذكرا صفاتي يخاف عليه من طلب خاصيّة ذلك الذكر فيحجب به عن ربّه
لذا إقتصروا في السلوك على ذكر إسم الذات لتفنى الشهوات وطلب العاجلات
هذا ما بدا لي
والله أعلم
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الثالث عشر :
قلت سيدي ( هناك من الأذكار متى ذكرتها بغير إذن دخل الفقير بها حضرة الشيطان ) والسؤال هو : ما هي حضرة الشيطان ؟ ولماذا هناك من الاذكار ما يدخل ذكرها بغير اذن عالم الشياطين وكيف ؟ ملاحظة قد قلتم هناك من الاذكار وليس كلها فهل هذا يعني وجود اذكار توصل صاحبها وتحميه وان كان بغير اذن ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
حضرة الشيطان هي حضرة الباطل الذي هو نقيض حضرة الحقّ أو تقول هي حضرة الظلمات التي هي نقيض حضرة النور أو تقول هي حضرة الجهل التي هي نقيض حضرة العلم أو تقول هي حضرة العناد التي هي نقيض حضرة التسليم أو تقول هي حضرة الكبر التي هي نقيض حضرة التواضع
وبالخلاصة الجامعة : حضرة الشيطان هي المناقضة بكلّ وجه أصولا وفروعا لحضرة الرحمان أو تقول هي حضرة الكفر والشرك والنفاق
فأصول حضرة الشيطان الكبرى هي : الكفر والشرك والنفاق وهي المقابلة لقولنا الإسلام والإيمان والإحسان
وكذلك فروع كلّ قسم .فافهم , فحضرة الحقّ لها ما يقابلها من الباطل من كلّ وجه وفي كلّ أصل وفي كلّ فرع , فكلّ حقيقة لها صورة من الباطل تقابلها
فمثلا النبي حقّ فله ما يقابله من الباطل وهو الذي يدّعي النبوّة , وكذلك الوليّ حقّ وله ما يقابله من الباطل وهو الزنديق
وكذلك في كلّ صنف من الأصناف وفي كلّ نوع من الأنواع في كلّ علم وفنّ , فتجد مثلا شيخ التربية الكامل وفي مقابلته من الباطل تجد مدّعي التربية والإرشاد
فحضرة الشيطان هي كلّ ما كان باطلا في كلّ نقيض من الحقّ
أمّا حضرة النفس فهي ليست كمثل حضرة الشيطان فمثلا عندما نرى هذا الوجود فنحكم ببطلانه من حيث ( ألا كلّ ما خلا الله باطل)كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم في إستشهاده بهذا البيت للشاعر ( لبيد ) فحضرة النفس هي حضرة الباطل أيضا لكن من حيث الوجود وعدمه فكلّ من أثبت وجودا مع وجوده أو شهودا مع شهوده فهو مازال في حضرة النفس لذا قام أهل الله طريقهم على محورين : الأوّل نفي الباطل ليتبيّن الحقّ فتفنى حضرة الشيطان , والأمر الثاني : نفي الباطل من حقائق الأعيان وذلك بالفناء في الواحد الديان فتفنى حضرة النفس ( من عرف نفسه عرف ربّه )
ومن هنا يتّضح الفرق بين الخاطر الشيطاني والخاطر النفسي وتتبيّن حقائق كلّ حضرة منهما ولتوضيح ذلك يلزم تفسير طويل دقيق
وعليه يتبيّن بأنّ الذكر الحقيقي هو نفي وإثبات أي نفي حضرة الشيطان , وإثبات حضرة الرحمان وهذا لا يتحقّق إلا بفناء حضرة النفس بعد حضرة الشيطان بمعنى أنه عند الإثبات تفنى حضرة النفس
فقد يذكر المريد أذكارا فتزجّ به في حضرة الشيطان كما نراه ممّن يدّعي المهدية أو القطبية أو الكرامات وغير ذلك مما لا يخفى على العباد لأنّ غرضه من الذكر طلب قضاء الأوطار النفسية والحاجات الدنيوية
فمثلا هناك من يذكر الله تعالى ونيّته أن يصبح قطبا وهناك من يذكر ويريد التميّز بالكرامات
وهذا يحدث أيضا حتى فيمن حفظ القرآن لغير الله فدخل النار وكذلك الذي أنفق جميع ماله فدخل النار والذي قتل في ساحات الجهاد , وإنّما دخلوا النار كما ورد في الحديث الشريف لأنّهم ما فعلوا ذلك إلا رياء وسمعة , الأوّل زجّ به القرآن في النار والثاني زجّ به الإنفاق في النار وهكذا لأن القرآن يتلوّن بلون نيّة صاحبه فافهم
فكذلك الذكر فمتى لم يكن مأذونا أو يكون بنيّة معلولة ولم يرد به وجه الله تعالى زجّ بصاحبه في عالم الباطل وعالم الشياطين فإنعكست لديه الحقائق
ويكفي دليلا من كتاب الله قوله تعالى ( يهدي به كثيرا ويضلّ به كثيرا )أي القرآن الذي يحتوي على جميع الأذكار والأسماء , فيضلّ الله به كما يهدي به وكذلك الأذكار فهناك من يهتدي بها متى وافقت شروطها وهناك من يضلّ بها متى ناقضت شروطها
وماذا نقول فيمن قال الله تعالى فيهم ( يشترون بآيات الله ثمنا قليلا )فيمكن أن نقول في حقّ معلول النيّة : إنّما أراد بذكره الذي هو من آيات الله ثمنا قليلا
فلا يستغرب من هذا
فهنا نعرف أهميّة تصحيح العقيدة والأعمال والنوايا لمن أراد الله تعالى والدار الآخرة
وقولي من الأذكار : أي الأذكار التي يراد بها غير وجه الله تعالى كمن يخلط بين أذكار الصوفية وأورادهم ونيّته أن يصبح له ولاية أو جاها أو منزلة أو قطبية وغير ذلك من العلل
ولذا قال تعالى : ( أعبدوا الله مخلصين له الدين )فهذا الذكر الذي يزجّ بصاحبه في عوالم النور في لمح البصر ويحميه من الشيطان والنفس
فكلّ من توجّه إلى الله بنيّته في جميع أعماله شعشع عليه نور التوحيد فكان محفوظا ظاهرا وباطنا من تسلّط الشياطين وخواطر النفس لذا أوضح هذا في قوله ( إلا عبادك منهم المخلصين )
لأنه قاعد في الطريق المستقيم فكلّ مارّ منه لا بدّ أن يكون له نيّة الإخلاص لله وإلا إستزلّه الشيطان
وقد وقعت هذه الحادثة لبعض أهل غزوة أحد لأنّهم أرادوا الغنائم فإستزلّهم الشيطان كما حكى القرآن عنهم ببعض ما كسبوا فكاد أن يفسد عليهم جهادهم بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وكذلك أهل الذكر فمنهم من إنقلب زنديقا كما حكى كتاب الإبريز عن بعض الأولياء ومنهم ومنهم...
لذا وجب في السلوك مصاحبة الشيخ الكامل والإئتمار بأوامره والإنتهاء بنواهيه
( إتّقوا الله وكونوا مع الصادقين )فمن كان معهم مع الوقت يصبح مثلهم لأنّ الطبع يسرق
والسلام
قلت سيدي ( هناك من الأذكار متى ذكرتها بغير إذن دخل الفقير بها حضرة الشيطان ) والسؤال هو : ما هي حضرة الشيطان ؟ ولماذا هناك من الاذكار ما يدخل ذكرها بغير اذن عالم الشياطين وكيف ؟ ملاحظة قد قلتم هناك من الاذكار وليس كلها فهل هذا يعني وجود اذكار توصل صاحبها وتحميه وان كان بغير اذن ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
حضرة الشيطان هي حضرة الباطل الذي هو نقيض حضرة الحقّ أو تقول هي حضرة الظلمات التي هي نقيض حضرة النور أو تقول هي حضرة الجهل التي هي نقيض حضرة العلم أو تقول هي حضرة العناد التي هي نقيض حضرة التسليم أو تقول هي حضرة الكبر التي هي نقيض حضرة التواضع
وبالخلاصة الجامعة : حضرة الشيطان هي المناقضة بكلّ وجه أصولا وفروعا لحضرة الرحمان أو تقول هي حضرة الكفر والشرك والنفاق
فأصول حضرة الشيطان الكبرى هي : الكفر والشرك والنفاق وهي المقابلة لقولنا الإسلام والإيمان والإحسان
وكذلك فروع كلّ قسم .فافهم , فحضرة الحقّ لها ما يقابلها من الباطل من كلّ وجه وفي كلّ أصل وفي كلّ فرع , فكلّ حقيقة لها صورة من الباطل تقابلها
فمثلا النبي حقّ فله ما يقابله من الباطل وهو الذي يدّعي النبوّة , وكذلك الوليّ حقّ وله ما يقابله من الباطل وهو الزنديق
وكذلك في كلّ صنف من الأصناف وفي كلّ نوع من الأنواع في كلّ علم وفنّ , فتجد مثلا شيخ التربية الكامل وفي مقابلته من الباطل تجد مدّعي التربية والإرشاد
فحضرة الشيطان هي كلّ ما كان باطلا في كلّ نقيض من الحقّ
أمّا حضرة النفس فهي ليست كمثل حضرة الشيطان فمثلا عندما نرى هذا الوجود فنحكم ببطلانه من حيث ( ألا كلّ ما خلا الله باطل)كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم في إستشهاده بهذا البيت للشاعر ( لبيد ) فحضرة النفس هي حضرة الباطل أيضا لكن من حيث الوجود وعدمه فكلّ من أثبت وجودا مع وجوده أو شهودا مع شهوده فهو مازال في حضرة النفس لذا قام أهل الله طريقهم على محورين : الأوّل نفي الباطل ليتبيّن الحقّ فتفنى حضرة الشيطان , والأمر الثاني : نفي الباطل من حقائق الأعيان وذلك بالفناء في الواحد الديان فتفنى حضرة النفس ( من عرف نفسه عرف ربّه )
ومن هنا يتّضح الفرق بين الخاطر الشيطاني والخاطر النفسي وتتبيّن حقائق كلّ حضرة منهما ولتوضيح ذلك يلزم تفسير طويل دقيق
وعليه يتبيّن بأنّ الذكر الحقيقي هو نفي وإثبات أي نفي حضرة الشيطان , وإثبات حضرة الرحمان وهذا لا يتحقّق إلا بفناء حضرة النفس بعد حضرة الشيطان بمعنى أنه عند الإثبات تفنى حضرة النفس
فقد يذكر المريد أذكارا فتزجّ به في حضرة الشيطان كما نراه ممّن يدّعي المهدية أو القطبية أو الكرامات وغير ذلك مما لا يخفى على العباد لأنّ غرضه من الذكر طلب قضاء الأوطار النفسية والحاجات الدنيوية
فمثلا هناك من يذكر الله تعالى ونيّته أن يصبح قطبا وهناك من يذكر ويريد التميّز بالكرامات
وهذا يحدث أيضا حتى فيمن حفظ القرآن لغير الله فدخل النار وكذلك الذي أنفق جميع ماله فدخل النار والذي قتل في ساحات الجهاد , وإنّما دخلوا النار كما ورد في الحديث الشريف لأنّهم ما فعلوا ذلك إلا رياء وسمعة , الأوّل زجّ به القرآن في النار والثاني زجّ به الإنفاق في النار وهكذا لأن القرآن يتلوّن بلون نيّة صاحبه فافهم
فكذلك الذكر فمتى لم يكن مأذونا أو يكون بنيّة معلولة ولم يرد به وجه الله تعالى زجّ بصاحبه في عالم الباطل وعالم الشياطين فإنعكست لديه الحقائق
ويكفي دليلا من كتاب الله قوله تعالى ( يهدي به كثيرا ويضلّ به كثيرا )أي القرآن الذي يحتوي على جميع الأذكار والأسماء , فيضلّ الله به كما يهدي به وكذلك الأذكار فهناك من يهتدي بها متى وافقت شروطها وهناك من يضلّ بها متى ناقضت شروطها
وماذا نقول فيمن قال الله تعالى فيهم ( يشترون بآيات الله ثمنا قليلا )فيمكن أن نقول في حقّ معلول النيّة : إنّما أراد بذكره الذي هو من آيات الله ثمنا قليلا
فلا يستغرب من هذا
فهنا نعرف أهميّة تصحيح العقيدة والأعمال والنوايا لمن أراد الله تعالى والدار الآخرة
وقولي من الأذكار : أي الأذكار التي يراد بها غير وجه الله تعالى كمن يخلط بين أذكار الصوفية وأورادهم ونيّته أن يصبح له ولاية أو جاها أو منزلة أو قطبية وغير ذلك من العلل
ولذا قال تعالى : ( أعبدوا الله مخلصين له الدين )فهذا الذكر الذي يزجّ بصاحبه في عوالم النور في لمح البصر ويحميه من الشيطان والنفس
فكلّ من توجّه إلى الله بنيّته في جميع أعماله شعشع عليه نور التوحيد فكان محفوظا ظاهرا وباطنا من تسلّط الشياطين وخواطر النفس لذا أوضح هذا في قوله ( إلا عبادك منهم المخلصين )
لأنه قاعد في الطريق المستقيم فكلّ مارّ منه لا بدّ أن يكون له نيّة الإخلاص لله وإلا إستزلّه الشيطان
وقد وقعت هذه الحادثة لبعض أهل غزوة أحد لأنّهم أرادوا الغنائم فإستزلّهم الشيطان كما حكى القرآن عنهم ببعض ما كسبوا فكاد أن يفسد عليهم جهادهم بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وكذلك أهل الذكر فمنهم من إنقلب زنديقا كما حكى كتاب الإبريز عن بعض الأولياء ومنهم ومنهم...
لذا وجب في السلوك مصاحبة الشيخ الكامل والإئتمار بأوامره والإنتهاء بنواهيه
( إتّقوا الله وكونوا مع الصادقين )فمن كان معهم مع الوقت يصبح مثلهم لأنّ الطبع يسرق
والسلام
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الرابع عشر :
قلت سيدي فيما سبق ( الوهم وهو مجال الشيطان في عالم الخيال ) والسؤال :
لو تكرمتم سيدي بشرح ذلك مع أمثلة ؟
الجواب والله ورسوله أعلم
سيدي العزيز : فارس النور
كما قدّمنا في الجواب السابق أنّ عالم الشيطان وحضرته هو عالم الباطل بأسره , وعالم الباطل هو العالم الذي يريد الشيطان أن يضاهي به عالم الحقّ ويضادده وهنا وقعت العداوة بين إبليس وآدم , فإبليس أعطي عالم الباطل وآدم أعطي عالم الحقّ فكان الصراع بينهما حربا ضروسا , فآدم أعطي كلّ ما هو حقّ ومن الحقيقة أي أنّه أعطي عوالم الأنوار كلّها أي عالم الصفات كلّها , فأعطي العقل ليرجّح به بين القبيح والمليح فيميّز به الحقّ من الباطل , وأعطي القلب ليكشف به المغالطات والمخادعات التي يظهر ظاهرها في حلية الحقّ وباطنها باطل أو باطنها حقّ ويظهر ظاهرها في صورة الباطل , فالقلب له المرتبة الثانية من التمييز بعد مرتبة العقل حتى يضحى هذا العقل تحت حكم وسلطان القلب في الترجيح فيقتدي به إماما كما قال أبو بكر في معراج النبي صلى الله عليه وسلّم ( أو قال ذلك ؟ فإن قاله فقد صدق )وأعطي الروح ليكشف به الخيالات الكونية والأوهام الوجودية وهي مرتبة أرقى من الثانية فيقتدي هنا القلب بالروح حتى يصبح القلب تحت سلطان الروح بعدما أصبح العقل تحت سلطان القلب , ثمّ أعطي السرّ وهذه نهاية المراتب وهي مرتبة أعلى من الروح فتصبح الروح تحت حكمه وكذلك العقل والقلب والروح وفي هذه المرتبة نحسن أن نتلو قول الله تعالى عن طريق فهم الإشارة ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون )
فهذا من أحكام السرّ , فالأرض كناية عن العقل , والسماوات كناية عن القلب والروح , ( واليمين ) هو السرّ ) والسرّ لا يعطي غير إثبات من لم يزل وفناء من لم يكن لذا قال ( سبحانه وتعالى عمّا يشركون )فما ذكر غير تنزيهه عن الشرك
فهذا الذي أعطيه آدم مع تفاصيله
أمّا الشيطان فإعطي ضدّ ذلك كلّه وهذا معنى قوله تعالى ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير )
أي عدوّا لكم في مرتبة العقل , وفي مرتبة القلب , وفي مرتبة الروح
أمّا مرتبة السرّ فالعداوة فيها للنفس وليس للشيطان
- ففي مرتبة العقل عداوة الشيطان لبني آدم تتمثّل مغاليطه ومقاييسه في العالم المادي المحسوس كقولهم : ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق )
وكقولهم : ( ما أنت إلا بشر مثلنا )
وكقول فرعون : ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى )ولذا قالوا بأنّ أوّل من قاس هو إبليس بقوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )وهذا النوع من الوسوسة مجاله التشكيك في وجود الله تعالى والتشكيك في وجود الرسل والتشكيك في وجود الولاية فقاسوا بعقولهم هذه الحقائق الثلاث فنفوها بعقولهم وأثبتوها بحسب عقولهم: كمن جعل الأله هو عين الكون وهو الدهر فقالوا ( وما يهلكنا إلا الدهر )أو جعلوا الكون طبيعة إنفجار وحدوث ذرّي صدفة , وكذلك الذين جعلوا الرسل عبارة عن مسّ جنّي أو سحر أو مجانين أو شعر أو كهانة , وكذلك الأمر في الولاية كمن ظنّها حفظ وإتقان أو مظاهر وأرزاق ففسّروها بحسب مقياس عقولهم وهكذا الحال في كلّ مرتبة عقل بمعنى أن تفسير النبوّة عند الكافر الجاحد كالفيلسوف وغيره ليست هي بنفس تفسير المؤمن العامي وكذلك بالنسبة للعارف فليس تفسيره لها مثل حدود المؤمن العامي وهكذا في جميع المراتب ( وفوق كلّ ذي علم عليم . فافهم
- وفي مرتبة القلب: عداوة الشيطان لبني آدم تتمثّل في ( لمّة الشيطان )في الجهة اليسرى من القلب لأنّه واضع منخره على قلب الإنسان كما ورد في الحديث فمتى غفل الإنسان عن ذكر ربّه وسوس الشيطان في القلب وهذه الوسوسة ليست مثل الوسوسة الأولى فهي أخفى منها وأدقّ وهذه الحضرة القلبية الشيطانية يقابلها الحضرة النورانية الملائكية في ( لمّة الملك )فالحرب بينهما سجال في قلب الإنسان لذا سمّي القلب قلبا لتقلّبه بين الواردات الملائكية والخواطر الشيطانية فلأيّهما كانت النصرة كان الحكم فيخرج ذلك الحكم بحسب تلوّنه بأيّ من المعنيين : كقوله تعالى : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون )وهذه الوسوسة لها علاقات مباشرة في العبادات والمعاملات كقوله صلى الله عليه وسلّم ( خصلتان ليست فوقهما خصلة في الحسن حسن الظنّ بالله وبعباد الله وخصلتان ليست دونهما خصلة في السوء سوء الظنّ بالله وبعباد الله )أو كما قال عليه الصلاة والسلام , أي في العبادة والمعاملة , فمن هنا يفسد إبليس العلاقة مع الخالق ومع المخلوق وهي مرتبة يعسر كشفها لأنّها أخفى من الأولى وأكثر تلبيسا
كقوله تعالى ( يظنّون بالله ظنّ الجاهلية )وكقول النبي صلى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ لمّا قال في بلال ما قال ( إن فيك بقيّة من الجاهلية )وهذا المجال مجاله إفساد التحقّق بالمقامات فتكون المقامات إمّا مدخولة أو معلولة وكذلك الأحوال
أمّا في مرتبة الروح: فعداوة الشيطان للإنسان تتمثّل في مجال الخصوصيّة وهو الأمر الذي ورد فيه السؤال من سيدي فارس النور وهذا الأمر له تعلّق كبير بعالم الخيال
والفرق بين الخيال والوهم أن الخيال مجرّد خواطر وأماني بعيدة تخطر على الإنسان قد تطول وقد تقصر
أمّا الوهم فهو إعتقاد تلك الخواطر الخيالية والعمل على أنّها واقع ملموس كمن يدّعي أنه المهدي المنتظر فيخرج للناس معتقدا ذلك بلا أدنى شكّ فيصل إلى حدّ أن يقتل ويصلب ولا يتراجع عنه رغم أنّه لا وجود له بأي حال من الأحوال
أمّا الخيال فهي مرتبة أدنى من الوهم لذا فالشيطان متى بدأ برسم التخيّلات للمريد السالك شيئا فشيئا حتى يصل إلى درجة يسهل على الشيطان أن يقنعه بل ويعقد قلبه على أنّ ما تخيّله هو حقيقة ثابتة فيعمل على إعتقادها وهذا في عدّة أمور منها الأمور الإعتقادية كقول الأولياء هناك : ( الكشف الخيالي )أي أنه من الشيطان , فيخرج على الناس بأنّه رأى كذا وكذا فيظنّ بنفسه الخصوصية والولاية والمعرفة وإنّما هو مقيم في عالم خياله لذا فمجال الشيطان في السلوك أي مرتبة الروح هو عالم الخيال والفرق بين الوهم والخيال أنّ المتخيّل للشيء قد لا يعتقد صحّته رغم أنّه تخيّل وهذا لا يكون إلا متى تمكّن السرّ من التوحيد الصرف وثبوت القدم في حضرة القدم , كما وقع لموسى عليه السلام في قوله تعالى : (
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى )فخيّل له فقط ولم يعتقدها أنّها تسعى حقيقة وأنّها حيّات وثعابين بل خيّل إليه وهذا الخيال ينجم عنه الخوف وهذا الخوف لا يثبت ولا يبقى عند المؤمن بل فقط يبقى عند أولياء الشيطان ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )
وكذلك خيّل إلى سيدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا سحر من قبل اليهود أنّه يفعل الشيء ولا يفعله كما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها
فمجال الخيال هو مجال شيطاني من حيث علوم السحر , وعلم السحر هو علم التلبيس أي تلبيس الحقّ بالباطل وهذا نهاية علم إبليس وهو علم السحر , فعلم السحر عبارة عن علم أسرار الحروف مقلوبة ومعكوسة كقولنا في المسيخ الدجّال فهو حقيقة عيسى مقلوبة لذا فإن عيسى ينزل ليقتله لأنّه صورته المعكوسة فلا يقتله إلا عيسى أما الشابّ الذي يقتله الدجال ويشقّه نصفين فهو على بصيرة من الدجال فلا يثنيه شيء عن حقيقته فيقول له : أنت الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما إزددت فيك إلا يقينا
وكذلك فما يقابل السحر هو التصريف الذي عند الأولياء فالشيطان يستعمل الأرواح السفلية الشيطانية في قضاء أغراضه والأولياء يستعملون الأرواح النورانية العلوية في قضاء حاجاتهم وهذا العلم عند الأولياء يسمّى علم الحروف , ولكن الشيطان أخذه مقلوبا لأنّه أخذ كلّ شيء بعد أن لعنه الله وطرده مقلوبا فكانت صورة إبليس هي صورة آدم مقلوبة وآدم خليفة الله في أرضه فافهم
وهذا نجم من حيث حقائق كبرى وعلوم عليا تتعلّق بعلوم الأسماء والصفات وبعلوم التجليات
وكذلك الرؤى المنامية فهي قد تكون مجالا للشيطان لذا ما عوّل عليها في الأحكام الشرعية إلا متى قرّرها الشارع بوحي من الله تعالى كما قرّر الآذان وإنّما جعلها رسول الله عليه الصلاة والسلام مبشّرة ولم يجعلها حكما ثمّ ذكر أنها من أجزاء النبوّة ولم يذكر أنّها من أجزاء الرسالة كي لا ينعقد بها حكما شرعيا لأنّ مجالها دقيق وليس بمحفوظ فيها غير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لأنّهم أهل عصمة أما الأولياء فهم محفوظون بحكم الوراثة للأنبياء فلا بدّ من مراعاة الفرق بين المرتبتين
لذا فقد وقع في الدواهي جملة من المريدين بسبب الرؤى فلعب بهم الشيطان من حيث لم يدروا فإعتمدوا رؤياهم كإخبارا من الله تعالى ولم يتّهموا أنفسهم ولا عرضوها على مشائخهم فأوّلوها لهم وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقصّون عليهم رؤياهم ويكفي قصّة ذلك الصحابي الذي رأى رأسه قطع وتدحرج فعاتبه رسول الله وقال له : ( إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يقصنّ عليّ رؤياه )أو ما في هذا المعنى
وقد قصّ يوسف على أبيه رؤياه فأمره بالكتم لأنّه عرف خطرها لذا ورد في الحديث ( لا تقصّ رؤياك إلا على عالم )وقد قال لي شيخنا : لا بدّ لمؤوّل الرؤيا أن يكون عالما بعلوم (وذكرها لي) وهي (11) علما .
والرؤى الشيطانية من عالم الخيال أيضا وفيها دواهي وفواجع
وإنّما عبّر القوم على البعض من حقائقهم بعالم الخيال فإنهم لا يقصدون ما حكينا فيه وإنّما بما أن الأمر المثالي في الجنان والأنوار يفوق عالم الخيال من حيث التصوّر كما قال عليه الصلاة والس ( ...ولا خطر على قلب بشر )أي بما في الجنّة
فقالوا مثلا : رأينا في عالم الخيال : أي في عالم يفوق التصوّر والخيال وليس المقصود به أنه لا حقيقة له ثابتة
فإن عالم الجنّة هو عالم خيالي من هذه الحيثية وهذا التفسير فيجب مراعاة فهم كلام أهل الله تعالى
لذا كان فعل خال في حقيقته من أخوات : ظنّ وحسب فهي كلّها من نفس أسرة معانيها وقد عبّر القرآن عن هذا الخيال في آيات كثيرة كقوله ( تظنّون بالله غير الحقّ ) وكذلك الشكّ والحسبان فهذه وغيرها من أسرة عالم الخيال العقلي والقلبي والروحي
والله أعلم
قلت سيدي فيما سبق ( الوهم وهو مجال الشيطان في عالم الخيال ) والسؤال :
لو تكرمتم سيدي بشرح ذلك مع أمثلة ؟
الجواب والله ورسوله أعلم
سيدي العزيز : فارس النور
كما قدّمنا في الجواب السابق أنّ عالم الشيطان وحضرته هو عالم الباطل بأسره , وعالم الباطل هو العالم الذي يريد الشيطان أن يضاهي به عالم الحقّ ويضادده وهنا وقعت العداوة بين إبليس وآدم , فإبليس أعطي عالم الباطل وآدم أعطي عالم الحقّ فكان الصراع بينهما حربا ضروسا , فآدم أعطي كلّ ما هو حقّ ومن الحقيقة أي أنّه أعطي عوالم الأنوار كلّها أي عالم الصفات كلّها , فأعطي العقل ليرجّح به بين القبيح والمليح فيميّز به الحقّ من الباطل , وأعطي القلب ليكشف به المغالطات والمخادعات التي يظهر ظاهرها في حلية الحقّ وباطنها باطل أو باطنها حقّ ويظهر ظاهرها في صورة الباطل , فالقلب له المرتبة الثانية من التمييز بعد مرتبة العقل حتى يضحى هذا العقل تحت حكم وسلطان القلب في الترجيح فيقتدي به إماما كما قال أبو بكر في معراج النبي صلى الله عليه وسلّم ( أو قال ذلك ؟ فإن قاله فقد صدق )وأعطي الروح ليكشف به الخيالات الكونية والأوهام الوجودية وهي مرتبة أرقى من الثانية فيقتدي هنا القلب بالروح حتى يصبح القلب تحت سلطان الروح بعدما أصبح العقل تحت سلطان القلب , ثمّ أعطي السرّ وهذه نهاية المراتب وهي مرتبة أعلى من الروح فتصبح الروح تحت حكمه وكذلك العقل والقلب والروح وفي هذه المرتبة نحسن أن نتلو قول الله تعالى عن طريق فهم الإشارة ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون )
فهذا من أحكام السرّ , فالأرض كناية عن العقل , والسماوات كناية عن القلب والروح , ( واليمين ) هو السرّ ) والسرّ لا يعطي غير إثبات من لم يزل وفناء من لم يكن لذا قال ( سبحانه وتعالى عمّا يشركون )فما ذكر غير تنزيهه عن الشرك
فهذا الذي أعطيه آدم مع تفاصيله
أمّا الشيطان فإعطي ضدّ ذلك كلّه وهذا معنى قوله تعالى ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير )
أي عدوّا لكم في مرتبة العقل , وفي مرتبة القلب , وفي مرتبة الروح
أمّا مرتبة السرّ فالعداوة فيها للنفس وليس للشيطان
- ففي مرتبة العقل عداوة الشيطان لبني آدم تتمثّل مغاليطه ومقاييسه في العالم المادي المحسوس كقولهم : ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق )
وكقولهم : ( ما أنت إلا بشر مثلنا )
وكقول فرعون : ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى )ولذا قالوا بأنّ أوّل من قاس هو إبليس بقوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )وهذا النوع من الوسوسة مجاله التشكيك في وجود الله تعالى والتشكيك في وجود الرسل والتشكيك في وجود الولاية فقاسوا بعقولهم هذه الحقائق الثلاث فنفوها بعقولهم وأثبتوها بحسب عقولهم: كمن جعل الأله هو عين الكون وهو الدهر فقالوا ( وما يهلكنا إلا الدهر )أو جعلوا الكون طبيعة إنفجار وحدوث ذرّي صدفة , وكذلك الذين جعلوا الرسل عبارة عن مسّ جنّي أو سحر أو مجانين أو شعر أو كهانة , وكذلك الأمر في الولاية كمن ظنّها حفظ وإتقان أو مظاهر وأرزاق ففسّروها بحسب مقياس عقولهم وهكذا الحال في كلّ مرتبة عقل بمعنى أن تفسير النبوّة عند الكافر الجاحد كالفيلسوف وغيره ليست هي بنفس تفسير المؤمن العامي وكذلك بالنسبة للعارف فليس تفسيره لها مثل حدود المؤمن العامي وهكذا في جميع المراتب ( وفوق كلّ ذي علم عليم . فافهم
- وفي مرتبة القلب: عداوة الشيطان لبني آدم تتمثّل في ( لمّة الشيطان )في الجهة اليسرى من القلب لأنّه واضع منخره على قلب الإنسان كما ورد في الحديث فمتى غفل الإنسان عن ذكر ربّه وسوس الشيطان في القلب وهذه الوسوسة ليست مثل الوسوسة الأولى فهي أخفى منها وأدقّ وهذه الحضرة القلبية الشيطانية يقابلها الحضرة النورانية الملائكية في ( لمّة الملك )فالحرب بينهما سجال في قلب الإنسان لذا سمّي القلب قلبا لتقلّبه بين الواردات الملائكية والخواطر الشيطانية فلأيّهما كانت النصرة كان الحكم فيخرج ذلك الحكم بحسب تلوّنه بأيّ من المعنيين : كقوله تعالى : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون )وهذه الوسوسة لها علاقات مباشرة في العبادات والمعاملات كقوله صلى الله عليه وسلّم ( خصلتان ليست فوقهما خصلة في الحسن حسن الظنّ بالله وبعباد الله وخصلتان ليست دونهما خصلة في السوء سوء الظنّ بالله وبعباد الله )أو كما قال عليه الصلاة والسلام , أي في العبادة والمعاملة , فمن هنا يفسد إبليس العلاقة مع الخالق ومع المخلوق وهي مرتبة يعسر كشفها لأنّها أخفى من الأولى وأكثر تلبيسا
كقوله تعالى ( يظنّون بالله ظنّ الجاهلية )وكقول النبي صلى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ لمّا قال في بلال ما قال ( إن فيك بقيّة من الجاهلية )وهذا المجال مجاله إفساد التحقّق بالمقامات فتكون المقامات إمّا مدخولة أو معلولة وكذلك الأحوال
أمّا في مرتبة الروح: فعداوة الشيطان للإنسان تتمثّل في مجال الخصوصيّة وهو الأمر الذي ورد فيه السؤال من سيدي فارس النور وهذا الأمر له تعلّق كبير بعالم الخيال
والفرق بين الخيال والوهم أن الخيال مجرّد خواطر وأماني بعيدة تخطر على الإنسان قد تطول وقد تقصر
أمّا الوهم فهو إعتقاد تلك الخواطر الخيالية والعمل على أنّها واقع ملموس كمن يدّعي أنه المهدي المنتظر فيخرج للناس معتقدا ذلك بلا أدنى شكّ فيصل إلى حدّ أن يقتل ويصلب ولا يتراجع عنه رغم أنّه لا وجود له بأي حال من الأحوال
أمّا الخيال فهي مرتبة أدنى من الوهم لذا فالشيطان متى بدأ برسم التخيّلات للمريد السالك شيئا فشيئا حتى يصل إلى درجة يسهل على الشيطان أن يقنعه بل ويعقد قلبه على أنّ ما تخيّله هو حقيقة ثابتة فيعمل على إعتقادها وهذا في عدّة أمور منها الأمور الإعتقادية كقول الأولياء هناك : ( الكشف الخيالي )أي أنه من الشيطان , فيخرج على الناس بأنّه رأى كذا وكذا فيظنّ بنفسه الخصوصية والولاية والمعرفة وإنّما هو مقيم في عالم خياله لذا فمجال الشيطان في السلوك أي مرتبة الروح هو عالم الخيال والفرق بين الوهم والخيال أنّ المتخيّل للشيء قد لا يعتقد صحّته رغم أنّه تخيّل وهذا لا يكون إلا متى تمكّن السرّ من التوحيد الصرف وثبوت القدم في حضرة القدم , كما وقع لموسى عليه السلام في قوله تعالى : (
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى )فخيّل له فقط ولم يعتقدها أنّها تسعى حقيقة وأنّها حيّات وثعابين بل خيّل إليه وهذا الخيال ينجم عنه الخوف وهذا الخوف لا يثبت ولا يبقى عند المؤمن بل فقط يبقى عند أولياء الشيطان ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )
وكذلك خيّل إلى سيدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا سحر من قبل اليهود أنّه يفعل الشيء ولا يفعله كما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها
فمجال الخيال هو مجال شيطاني من حيث علوم السحر , وعلم السحر هو علم التلبيس أي تلبيس الحقّ بالباطل وهذا نهاية علم إبليس وهو علم السحر , فعلم السحر عبارة عن علم أسرار الحروف مقلوبة ومعكوسة كقولنا في المسيخ الدجّال فهو حقيقة عيسى مقلوبة لذا فإن عيسى ينزل ليقتله لأنّه صورته المعكوسة فلا يقتله إلا عيسى أما الشابّ الذي يقتله الدجال ويشقّه نصفين فهو على بصيرة من الدجال فلا يثنيه شيء عن حقيقته فيقول له : أنت الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما إزددت فيك إلا يقينا
وكذلك فما يقابل السحر هو التصريف الذي عند الأولياء فالشيطان يستعمل الأرواح السفلية الشيطانية في قضاء أغراضه والأولياء يستعملون الأرواح النورانية العلوية في قضاء حاجاتهم وهذا العلم عند الأولياء يسمّى علم الحروف , ولكن الشيطان أخذه مقلوبا لأنّه أخذ كلّ شيء بعد أن لعنه الله وطرده مقلوبا فكانت صورة إبليس هي صورة آدم مقلوبة وآدم خليفة الله في أرضه فافهم
وهذا نجم من حيث حقائق كبرى وعلوم عليا تتعلّق بعلوم الأسماء والصفات وبعلوم التجليات
وكذلك الرؤى المنامية فهي قد تكون مجالا للشيطان لذا ما عوّل عليها في الأحكام الشرعية إلا متى قرّرها الشارع بوحي من الله تعالى كما قرّر الآذان وإنّما جعلها رسول الله عليه الصلاة والسلام مبشّرة ولم يجعلها حكما ثمّ ذكر أنها من أجزاء النبوّة ولم يذكر أنّها من أجزاء الرسالة كي لا ينعقد بها حكما شرعيا لأنّ مجالها دقيق وليس بمحفوظ فيها غير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لأنّهم أهل عصمة أما الأولياء فهم محفوظون بحكم الوراثة للأنبياء فلا بدّ من مراعاة الفرق بين المرتبتين
لذا فقد وقع في الدواهي جملة من المريدين بسبب الرؤى فلعب بهم الشيطان من حيث لم يدروا فإعتمدوا رؤياهم كإخبارا من الله تعالى ولم يتّهموا أنفسهم ولا عرضوها على مشائخهم فأوّلوها لهم وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقصّون عليهم رؤياهم ويكفي قصّة ذلك الصحابي الذي رأى رأسه قطع وتدحرج فعاتبه رسول الله وقال له : ( إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يقصنّ عليّ رؤياه )أو ما في هذا المعنى
وقد قصّ يوسف على أبيه رؤياه فأمره بالكتم لأنّه عرف خطرها لذا ورد في الحديث ( لا تقصّ رؤياك إلا على عالم )وقد قال لي شيخنا : لا بدّ لمؤوّل الرؤيا أن يكون عالما بعلوم (وذكرها لي) وهي (11) علما .
والرؤى الشيطانية من عالم الخيال أيضا وفيها دواهي وفواجع
وإنّما عبّر القوم على البعض من حقائقهم بعالم الخيال فإنهم لا يقصدون ما حكينا فيه وإنّما بما أن الأمر المثالي في الجنان والأنوار يفوق عالم الخيال من حيث التصوّر كما قال عليه الصلاة والس ( ...ولا خطر على قلب بشر )أي بما في الجنّة
فقالوا مثلا : رأينا في عالم الخيال : أي في عالم يفوق التصوّر والخيال وليس المقصود به أنه لا حقيقة له ثابتة
فإن عالم الجنّة هو عالم خيالي من هذه الحيثية وهذا التفسير فيجب مراعاة فهم كلام أهل الله تعالى
لذا كان فعل خال في حقيقته من أخوات : ظنّ وحسب فهي كلّها من نفس أسرة معانيها وقد عبّر القرآن عن هذا الخيال في آيات كثيرة كقوله ( تظنّون بالله غير الحقّ ) وكذلك الشكّ والحسبان فهذه وغيرها من أسرة عالم الخيال العقلي والقلبي والروحي
والله أعلم
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الخامس عشر :
قلت أخي الحبيب و سيدي الفاضل فيما سبق ( فأصول حضرة الشيطان الكبرى هي : الكفر والشرك والنفاق وهي المقابلة لقولنا الإسلام والإيمان والإحسان ) والسؤال هو :
ما الفرق بين كل من الكفر والشرك والنفاق ؟ وان كان ما يصل بين الايمان والاحسان هو طور الطريقة بما فيها من الاذكار والاوراد فما الذي يصل بالمقابل بين الشرك والنفاق ؟ بمعنى ان صح طرح السؤال كمان ان للقلب والروح منازل تسري فيها للوصول فهل العكس وارد ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
سيدي قد أشرنا منذ البداية بأنّ لكلّ حقيقة صورة من الباطل تضاددها وتريد غمطها ( يريدون ان يطفئوا نور الله )
وعليه فإنّ كلّ مرتبة من مراتب الإسلام لها ما يضاددها من الكفر وكذلك مرتبة الإيمان فلها ما يضاددها من الشرك وكذلك مرتبة الإحسان لها ما يضاددها من النفاق
وإنّ بين تلك الألفاظ عموم وخصوص كقولنا في ركن الفقه ( مقام الإسلام )فهذا الإسم الذي هو الإسلام ينطلق على كامل الدين عند عموم اللفظ الظاهري لأنّنا في عالم الأسماء الظاهرة فهو لفظ بين عموم وخصوص فلمّا نقول ( المسلم ) فأوّل ما يتبادر إلى الأذهان أنّه المؤمن وإن كان من الخاصّة أنّه المحسن وهكذا ...
وكذلك قولنا في لفظة ( الكفر )فلها عموم وخصوص فهذا الإسم يطلق على جميع أنواع الكفر : كالشرك والنفاق , فهذا من حيث عموم اللفظ أمّا من حيث خصوصه فلا ينطبق إلا على من إتّصف بمعناه الخاصّ , فمعنى الكفر شامل وفيه دركات فقد يطلق معنى الكفر على طائفة بعينها من حيث معناه الخاص وقد يطلق على كلّ من كفر بالله تعالى كالمشركين والمنافقين واليهود والنصارى وكلّ الملل والنحل كالهندوس والبوذيين والمجوس ..إلى غير ذلك
أمّا أصول حضرة الشيطان التي طرحت السؤال فيها فالمقصود منها معانيها الخاصّة لا معانيها العامّة لأنّ الأجوبة هنا في محلّ التفصيل والترتيب وهذا معنى البيان الذي هو تفصيل لمعاني القرآن
فالكافر والمشرك لا فرق بينهما من حيث أنّهما كافران وكذلك المنافق وإنّما الفرق فيما بينهم في نوعيّة الكفر وحضرته التي خطر منها وهذا من علوم التربية وهذا العلم أختصّ به الصوفية رضي الله عنهم أكثر من غيرهم لأنّهم يرون حضرة الشيطان من فوق أي بعد أن قال تعالى فيهم على لسان إبليس ( إلا عبادك منهم المخلصين )فهؤلاء النوع من العباد هم فقط الذين يرون الشيطان من حيث لا يراهم لأنّ بصرهم بالله تعالى وكذلك سمعهم أي أنّ الله تعالى يرى إبليس من حيث لا يراه إبليس لذا قال ( والله خير الماكرين )أمّا البقية فإنّه يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونه كما في الآية
والمكاشف بهذه الحضرات يعرف مداخل الشيطان على بني آدم وأوّل المكاشفين بهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلا يمكن أن يتحايل عليه الشيطان كما تحايل على آدم في صورة الناصح وكما جاء لأبي هريرة رضي الله عنه في صورة فقير معدوم كما في الحديث الذي كشف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حال مخاطب أبي هريرة في ثلاثة أيام فهذا من بصيرته عليه الصلاة والسلام وكذلك نوابه ووارثيه فليس للشيطان عليهم من سبيل فهم محفوظون
ومن هذا الباب كتب الله العصمة على الملائكة وكذلك الأنبياء أمّا غيرهم فلا فلمّا علم صلى الله عليه وسلّم ما علّمه ربّه من الفهم والتحقيق قال : ( كلّ أمّتي خطاؤون )لأنّه لا معصوم غير الأنبياء والرسل والملائكة أمّا أهل الله فليس للشيطان عليهم من سبيل ( عبادي ليس لك عليهم سلطان )فنسب عباده إليه سبحانه وتعالى أما من خرج عن هذه المرتبة وهي مرتبة كمال العبودية فإن للشيطان عليه سبيل مهما دقّ وخفي هذا السبيل وقد كاشف الكثير من العارفين الكمّل تلبيسات إبليس التي يلقيها في قلوب المريدين فيعتقدون صحّتها كالعارف الذي حضر مجلس سماع وكان ضريرا فرأى بعين بصيرته كيف نطح الشيطان أحد المريدين فغاب عن وعيه والجماعة يظنّونه في قمّة الفناء والجذب والبركة وهكذا ...( الحكاية )
أقول أوّلا : يجب معرفة أن الإنسان خلقه الله تعالى خليفة في الأرض أمّا إبليس فكان الخليفة المعكوس أي الصورة المقلوبة للخلافة لأنّه مسخ وطرد ولعن فكان صورة آدم مقلوبة أعني إبليس الكبير الذي أساء الأدب في الحضرة وكذلك كلّ عارف يسيء الأدب فيطرد من الحضرة ويسلب فيبقى له العالم الظلماني أي صورة معرفته معكوسة وقد إنقلب أحد الأولياء زنديقا في مصر في عهد قديم لذا قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في سكرات الموت ( لا بعد , لا بعد )وكان قد رأى الشيطان وهو في حالة الإحتضار يقول له ( لقد نجوت منّي يا أحمد بن حنبل )فكان الإمام يقول وهو في تلك الحالة ( لا بعد , لا بعد )أي حتى أقبض نهائيّا كي آمن شرّك فأنظر حرص الشيطان ومداخله في العلماء لذا هنا يحصل التلبيس كثيرا عند بعض العلماء فيمدّه إبليس بتلبيسات لا يمكنه هو ولا أتباعه الإهتداء إليها لأنّ بين الحقّ والباطل مثل الشعرة في بعض الأحيان
وعليه فنقول :هناك سيدي أئمّة في الدين كما أنّه هناك أئمّة في الكفر قال تعالى ( فقاتلوا أئمة الكفر )فذكر إمامتهم في الكفر , هنا ندرك بأن الإمامة في الكفر تستوجب دركات ومراتب وفتاوى وتستوجب أركان في الكفر التي هي الكفر والشرك والنفاق وتستوجب فقها ( أي جهلا )وتستوجب علما كما أنّ أئمّة الدين يستنبطون ويفتون ومنهم العارف والسابق والمسبوق وهكذا ما يضادده في حضرة إبليس وقد ورد بأنّ له عرش على الماء كما أن لله عرش . فافهم , لأنّه صورة الباطل والله هو الحقّ فهنا كانت المعركة شرسة بين أئمة الإسلام وأئمّة الكفر وهنا شرّع الجهاد بالسيف والقلم والدعوة والكلمة الطيّبة وو...لأنّها حرب ضدّ إبليس الذي توعّدنا في خطابه للباري جلّ وعلا( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) فهو يدري ما يقول , وقد حذّرنا الله منه غاية التحذير وأخبرنا بكلّ ما قاله قبل نزول آدم إلى الأرض لذا سمّى الله تعالى الكافرين بأولياء الشيطان وسمّى عباده الصالحين بأولياء الرحمان
وإنّ من علامات آخر الزمان يسهى الناس عن ذكر الشيطان وعن ذكر المسيخ الدجال فلا يتّهم أحد من الناس نفسه كلّما نزغه الشيطان ولا حول ولا قوّة إلا بالله
فالإمامة في الكفر لها ما يقابلها مضاددة وهي الإمامة في الدين والعبادة
سنفصّل ما بقي من السؤال إن شاء الله تعالى
إعلم سيدي الفاضل :أنّ الكفر والشرك والنفاق هي أركان الكفر وأصوله , أمّا الفرق بينها فهي في نوعية الكفر وحضرته
فالكفر بمعناه الخاصّ هو ستر حقائق مقام الإسلام اي الأسماء , والشرك ستر حقائق مقام الإيمان أي الصفات , والنفاق ستر حقائق مقام الإحسان أي مقام الذات ,
وتعرف الفارق بينهم من حيث قوّة الضلالة وضعفها في العقوبة المترتّبة عن كلّ واحدة منها , لذا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار فإنّهم أشدّ الناس عذابا ولا يصاحبهم في هذا الدرك من العذاب إلا من حصل منه الكفر أو الشرك في مقام الذات بمعنى أنّه تتطاول على الذات من حيث حقائقها المجرّدة ( كفرعون )لأنّه قال أنا ربّكم الأعلى ( فقوله الأعلى ) سوء أدب مع الذات مثله مثل المنافقين لذا سيدخل فرعون وآله يوم القيامة أشدّ العذاب وهناك فرق بين أشدّ العذاب وبين الدرك الأسفل من النّار وكما قلت فإنّ بينهم عموم وخصوص في ذلك فإنّ العذاب دركات كما أنّ الثواب درجات والنار هي صورة الجنّة معكوسة وهكذا ...فافهم
فالكافر الأصلي هو الذي لا يؤمن بالله أي لا يؤمن بالنسب والتجليات صفات الجمال والجلال فأثبت ستر حقائق التجليات ...فنفى وجود الله تعالى أي نفى الذات والصفات والأسماء ولكنّه ما فصل بينها فلو آمن بالذات الإلهي لآمن بأسمائه وصفاته سريعا فهو ستر الحقائق وأنكر الإعتراف جملة وتفصيلا وحالهم هذا هو بالضدّ المقابل من حال أهل الله تعالى في قولهم في حالة الفناء كما قال أبو يزيد
( سبحاني ما أعظم شأني ) فهذا أبو يزيد غاب في حضرة الحقّ فكانت سمعه وبصره أمّا الكافر فغاب في حضرة الباطل فكانت سمعه وبصره لذا إتّضح أنّ لكلّ باطل صورة من الحقّ تضادده فافهم
أمّا المشرك فهو الذي أثبت وجود الذات منفصلة عن الأسماء والصفات فظنّ أن الله واحد في ذاته ولكنّه ليس واحدا في صفاته وأفعاله ففصل الذات وجرّدها عن الأسماء والصفات لذا نسبوا لآلهتهم النفع والضرّ تحقيقا وإعتقادا فعبدوها إستقلالا لإعقاد النفع والضرّ فيها وهنا يدخل فيهم النصارى الذين ألّهوا عيسى كما يدخل في القسم الأوّل اليهود ولا بدّ لكلّ طائفة كافرة من الدخول تحت أصل من الأصول الثلاثة ّ
أمّا المنافق : فهو الذي يثبت الكذب على نفسه والكذب هو أوّل صورة من صور النفاق ( من علامات المنافق إذا حدّث كذب ...الحديث )لذا ما وصف الله تعالى المنافقين إلا بالكذب خاصّة ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ )والنفاق هو إرادة التلبيس لجعل الأسماء الإلهية نقيض الصفات فكان عالم الباطل بأسره محشورا في أصل النفاق لأنّ كل باطل هو كذب حقيقة ومن هنا تعلم أنّ كلّ متجاوز للحقّ فهو منافق أحبّ أم كره دري أو لم يدر كمن يدّعي النبوّة أو الإذن بالتربية أو المقامات والأحوال وهو خال منها فهو منافق لأنّه كاذب كما ترى في مقابلة النفاق مقام الإحسان فالدين كلّه إحسان في حقيقته وجميع المقامات تصبّ فيه أي للوصول إليه ( وأنّ إلى ربّك المنتهى )فكذلك جميع دركات الكفر تصبّ في دائرة النفاق لذا أوصانا الله ورسوله بالصدق ظاهرا وباطنا لأنّ درك النفاق خطير جدّا وأخطر ما يخاف منه الصدّيقون هو النفاق , فالمنافق جمع جميع أصول الكفر وفروعه وجميع الأخلاق الرذيلة لذا قال الله تعالى في النافقين : ( سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )فلا ينفعهم إستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم رغم علمك بماهية إستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فالمنافق أراد بنفاقه أن يفرّق بين الله ورسوله أي يفرّق بين الإسم والمسمّى وذلك بقطع طريق الصفات جملة وتفصيلا أي تدمير مقامات الإيمان وحقائق الإيقان وهذا هو التفريق بين الله ورسوله وهذا الأمر فيه من التلبيسات الشيطانية ما لا يعرفه إلا من فتح الله على عين بصيرته وجعل له فرقانا وأنت لو تلاحظ فإن علم المنافقين كان عند واحد من الصحابة وهو حذيفة فكان من هذا الوجه كأنّه علم مكتوم وهنا هناك أمواج من الحقائق تكلّ الأقلام عن شرحها والألسن عن ذكرها لأنّ علم النفاق لو أخرجه أهل الله تعالى للوجود لإستغلّه الكثير من العباد فهلكوا وأهلكوا وهو من هذه الناحية يشبه علم السحر
هذه لمحة وجيزة لتعرف أخي قول الله لك ولنا ( لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )وهم النخبة من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين
وهنا تعرف ما معنى شياطين الإنس وشياطين الجنّ وكيف يوحي بعضهم إلى بعض وهناك حقائق في الآيات والأحاديث غفل أغلب الخلق عنها
ثمّ إعلم بأنّ النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم لمّا كان في مكّة يدعو إلى التوحيد ويقرّره قام ضدّه من الباطل وهم المشركين لأنّ الصورة التي قام بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي قوله تعالى حاكيا عن المشركين ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب )فقام عليه الباطل الذي يمثّل الضدّ لهذه الحقيقة لأنّه كان يدعو إلى التوحيد توحيد الله تعالى أسماءا وصفاتا وأفعالا وذاتا فقام عليه الباطل المضادد لهذه الحقيقة لذا قالوا ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب )
ثمّ لمّا كان في المدينة يقرّر الأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وأحكام المعاملات وكلّ ما يخصّ الشريعة قام عليه المنافقون لأنّ المقام تغيّر أي المقام الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو لتكوين الدولة المسلمة والشرائع والأحكام وتثبيت أركان الدين وفقهه أصولا وفروعا أي مقامات الدين كلّها ظاهرا وباطنا
فكانت صورة المنافقين في المدينة هي المضاددة للصورة المحمّدية في المدينة لذا أشارت الآية في قوله : ( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ )فإنّه رمز إلى الحقيقة المحمّدية التي أرادوا أن ينفوها التي هي الطريق إلى الوصول إلى الله تعالى وليس هناك طريقا آخر ( سدّوا كلّ خوخة إلا خوخة أبي بكر )أي فيما يخصّ الخلافة والشرائع والأحكام لأنّه طريق واحد. فافهم.
فالصورة النبوية في المدينة هي الحقيقة المحمدية وصورة النبيّ صلى الله عليه وسلّم في مكّة هي الصورة الإلهية , فالصورة المكيّة يقابلها الشرك والصورة المدنية يقابلها النفاق فكان النفاق هو قطع الطريق بين الإسم والمسمّى وهذا الطريق يصدّ الكافر عن الإيمان بالله ويصدّ المشرك عن التوحيد ونفي الشريك لأنّ نفي الشريك والإيمان يمرّ عبر طريق النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم كما أنّ الزنديق الذي يدّعي الإحسان يصدّ الطريق عن الناس لبلوغ هذا المقام فيدخلهم في زندقة ومتاهات بحجّة الدين والإيمان والإسلام فالزندقة هي نفاق صرف لذا عاقبت الشريعة وليّ الله تعالى الحلاّج رضي الله عنه وعاقبت السهروردي رضي الله عنه حفاظا على الحقائق المحمّدية فإنّه ليس هناك هدي بعد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكلّ من تمسّك بهديه كان محفوظا مأمونا إن شاء الله تعالى ( إثنان إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي أو وعترتي )فهما شيء واحد
فالكافر جامد إنسان حجري لا ينفع معه في الأغلب لإيمانه إلا الأدلّة العقلية
والمشرك إنسان مصلحي نفسي وهمي لا ينفع معه إلا الجهاد بالسيف وتحطيم أصنامه
والمنافق إنسان ثعلبي داهية لا يعامل إلا بالمثل لذا كتم رسول اله صلى الله عليه وسلّم أسماء المنافقين عن الصحابة إلا أفراد منهم حتى يمكر بالمنافقين فهو يعاملهم بحسب حقائقهم
هذا وقد وردت سورة في الكافرين ( سورة الكافرون )وسورة في المنافقين ( سورة المافقون )
فالسورة الأولى تشير إلى المفارقة مفارقة المسلم للكافر في العبادة والتوجّه ولربّما في البلاد والمجتمع
والسورة الثانية تشير بأن المنافقين داخلون في المجتمع المسلم فلا ينفكّون عنه ولا يقتلون فلا يقام عليهم حدا ويصلّون معنا ويصومون ويحجّون وهذا أمر لا بدّ فيه من فرقان نوري كي يميّز الخبيث من الطيب ( إتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله )
ثمّ إن الكفر يزيد وينقص حتى يستهلك كلّ القلب فينطبع القلب به إنطباعا كاملا وهذا معنى ختم الله على قلوبهم لأنّه طبع عليها أي إنتهى أمرها مثل الوثيقة متى ختمت وتمّ إمضاءها من طرف المدير فهي سارية المفعول والقرار فيها صار حيز التنفيذ
وإن للقلب نزولا إلى دركات الكفر فالكفار ليسوا على درجة واحدة من الكفر
وكذلك المشركين وكذلك المنافقين
فالمؤمن العبد المحض من صفّاه الله تعالى من الكفر والشرك والنفاق أصولا وفروعا فأصبح عبدا محضا وصورة قدسية عليا وهذا الذي يتبرّك به ويلتثم العبد تراب نعليه لأنّه ذات مقدّسة طاهرة
هذا بإيجاز وهي نقاط تفتح أبوابا للفهم والتصوّر بوجود دليل وصحّة ضمير
والله أعلم
قلت أخي الحبيب و سيدي الفاضل فيما سبق ( فأصول حضرة الشيطان الكبرى هي : الكفر والشرك والنفاق وهي المقابلة لقولنا الإسلام والإيمان والإحسان ) والسؤال هو :
ما الفرق بين كل من الكفر والشرك والنفاق ؟ وان كان ما يصل بين الايمان والاحسان هو طور الطريقة بما فيها من الاذكار والاوراد فما الذي يصل بالمقابل بين الشرك والنفاق ؟ بمعنى ان صح طرح السؤال كمان ان للقلب والروح منازل تسري فيها للوصول فهل العكس وارد ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
سيدي قد أشرنا منذ البداية بأنّ لكلّ حقيقة صورة من الباطل تضاددها وتريد غمطها ( يريدون ان يطفئوا نور الله )
وعليه فإنّ كلّ مرتبة من مراتب الإسلام لها ما يضاددها من الكفر وكذلك مرتبة الإيمان فلها ما يضاددها من الشرك وكذلك مرتبة الإحسان لها ما يضاددها من النفاق
وإنّ بين تلك الألفاظ عموم وخصوص كقولنا في ركن الفقه ( مقام الإسلام )فهذا الإسم الذي هو الإسلام ينطلق على كامل الدين عند عموم اللفظ الظاهري لأنّنا في عالم الأسماء الظاهرة فهو لفظ بين عموم وخصوص فلمّا نقول ( المسلم ) فأوّل ما يتبادر إلى الأذهان أنّه المؤمن وإن كان من الخاصّة أنّه المحسن وهكذا ...
وكذلك قولنا في لفظة ( الكفر )فلها عموم وخصوص فهذا الإسم يطلق على جميع أنواع الكفر : كالشرك والنفاق , فهذا من حيث عموم اللفظ أمّا من حيث خصوصه فلا ينطبق إلا على من إتّصف بمعناه الخاصّ , فمعنى الكفر شامل وفيه دركات فقد يطلق معنى الكفر على طائفة بعينها من حيث معناه الخاص وقد يطلق على كلّ من كفر بالله تعالى كالمشركين والمنافقين واليهود والنصارى وكلّ الملل والنحل كالهندوس والبوذيين والمجوس ..إلى غير ذلك
أمّا أصول حضرة الشيطان التي طرحت السؤال فيها فالمقصود منها معانيها الخاصّة لا معانيها العامّة لأنّ الأجوبة هنا في محلّ التفصيل والترتيب وهذا معنى البيان الذي هو تفصيل لمعاني القرآن
فالكافر والمشرك لا فرق بينهما من حيث أنّهما كافران وكذلك المنافق وإنّما الفرق فيما بينهم في نوعيّة الكفر وحضرته التي خطر منها وهذا من علوم التربية وهذا العلم أختصّ به الصوفية رضي الله عنهم أكثر من غيرهم لأنّهم يرون حضرة الشيطان من فوق أي بعد أن قال تعالى فيهم على لسان إبليس ( إلا عبادك منهم المخلصين )فهؤلاء النوع من العباد هم فقط الذين يرون الشيطان من حيث لا يراهم لأنّ بصرهم بالله تعالى وكذلك سمعهم أي أنّ الله تعالى يرى إبليس من حيث لا يراه إبليس لذا قال ( والله خير الماكرين )أمّا البقية فإنّه يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونه كما في الآية
والمكاشف بهذه الحضرات يعرف مداخل الشيطان على بني آدم وأوّل المكاشفين بهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلا يمكن أن يتحايل عليه الشيطان كما تحايل على آدم في صورة الناصح وكما جاء لأبي هريرة رضي الله عنه في صورة فقير معدوم كما في الحديث الذي كشف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حال مخاطب أبي هريرة في ثلاثة أيام فهذا من بصيرته عليه الصلاة والسلام وكذلك نوابه ووارثيه فليس للشيطان عليهم من سبيل فهم محفوظون
ومن هذا الباب كتب الله العصمة على الملائكة وكذلك الأنبياء أمّا غيرهم فلا فلمّا علم صلى الله عليه وسلّم ما علّمه ربّه من الفهم والتحقيق قال : ( كلّ أمّتي خطاؤون )لأنّه لا معصوم غير الأنبياء والرسل والملائكة أمّا أهل الله فليس للشيطان عليهم من سبيل ( عبادي ليس لك عليهم سلطان )فنسب عباده إليه سبحانه وتعالى أما من خرج عن هذه المرتبة وهي مرتبة كمال العبودية فإن للشيطان عليه سبيل مهما دقّ وخفي هذا السبيل وقد كاشف الكثير من العارفين الكمّل تلبيسات إبليس التي يلقيها في قلوب المريدين فيعتقدون صحّتها كالعارف الذي حضر مجلس سماع وكان ضريرا فرأى بعين بصيرته كيف نطح الشيطان أحد المريدين فغاب عن وعيه والجماعة يظنّونه في قمّة الفناء والجذب والبركة وهكذا ...( الحكاية )
أقول أوّلا : يجب معرفة أن الإنسان خلقه الله تعالى خليفة في الأرض أمّا إبليس فكان الخليفة المعكوس أي الصورة المقلوبة للخلافة لأنّه مسخ وطرد ولعن فكان صورة آدم مقلوبة أعني إبليس الكبير الذي أساء الأدب في الحضرة وكذلك كلّ عارف يسيء الأدب فيطرد من الحضرة ويسلب فيبقى له العالم الظلماني أي صورة معرفته معكوسة وقد إنقلب أحد الأولياء زنديقا في مصر في عهد قديم لذا قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في سكرات الموت ( لا بعد , لا بعد )وكان قد رأى الشيطان وهو في حالة الإحتضار يقول له ( لقد نجوت منّي يا أحمد بن حنبل )فكان الإمام يقول وهو في تلك الحالة ( لا بعد , لا بعد )أي حتى أقبض نهائيّا كي آمن شرّك فأنظر حرص الشيطان ومداخله في العلماء لذا هنا يحصل التلبيس كثيرا عند بعض العلماء فيمدّه إبليس بتلبيسات لا يمكنه هو ولا أتباعه الإهتداء إليها لأنّ بين الحقّ والباطل مثل الشعرة في بعض الأحيان
وعليه فنقول :هناك سيدي أئمّة في الدين كما أنّه هناك أئمّة في الكفر قال تعالى ( فقاتلوا أئمة الكفر )فذكر إمامتهم في الكفر , هنا ندرك بأن الإمامة في الكفر تستوجب دركات ومراتب وفتاوى وتستوجب أركان في الكفر التي هي الكفر والشرك والنفاق وتستوجب فقها ( أي جهلا )وتستوجب علما كما أنّ أئمّة الدين يستنبطون ويفتون ومنهم العارف والسابق والمسبوق وهكذا ما يضادده في حضرة إبليس وقد ورد بأنّ له عرش على الماء كما أن لله عرش . فافهم , لأنّه صورة الباطل والله هو الحقّ فهنا كانت المعركة شرسة بين أئمة الإسلام وأئمّة الكفر وهنا شرّع الجهاد بالسيف والقلم والدعوة والكلمة الطيّبة وو...لأنّها حرب ضدّ إبليس الذي توعّدنا في خطابه للباري جلّ وعلا( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) فهو يدري ما يقول , وقد حذّرنا الله منه غاية التحذير وأخبرنا بكلّ ما قاله قبل نزول آدم إلى الأرض لذا سمّى الله تعالى الكافرين بأولياء الشيطان وسمّى عباده الصالحين بأولياء الرحمان
وإنّ من علامات آخر الزمان يسهى الناس عن ذكر الشيطان وعن ذكر المسيخ الدجال فلا يتّهم أحد من الناس نفسه كلّما نزغه الشيطان ولا حول ولا قوّة إلا بالله
فالإمامة في الكفر لها ما يقابلها مضاددة وهي الإمامة في الدين والعبادة
سنفصّل ما بقي من السؤال إن شاء الله تعالى
إعلم سيدي الفاضل :أنّ الكفر والشرك والنفاق هي أركان الكفر وأصوله , أمّا الفرق بينها فهي في نوعية الكفر وحضرته
فالكفر بمعناه الخاصّ هو ستر حقائق مقام الإسلام اي الأسماء , والشرك ستر حقائق مقام الإيمان أي الصفات , والنفاق ستر حقائق مقام الإحسان أي مقام الذات ,
وتعرف الفارق بينهم من حيث قوّة الضلالة وضعفها في العقوبة المترتّبة عن كلّ واحدة منها , لذا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار فإنّهم أشدّ الناس عذابا ولا يصاحبهم في هذا الدرك من العذاب إلا من حصل منه الكفر أو الشرك في مقام الذات بمعنى أنّه تتطاول على الذات من حيث حقائقها المجرّدة ( كفرعون )لأنّه قال أنا ربّكم الأعلى ( فقوله الأعلى ) سوء أدب مع الذات مثله مثل المنافقين لذا سيدخل فرعون وآله يوم القيامة أشدّ العذاب وهناك فرق بين أشدّ العذاب وبين الدرك الأسفل من النّار وكما قلت فإنّ بينهم عموم وخصوص في ذلك فإنّ العذاب دركات كما أنّ الثواب درجات والنار هي صورة الجنّة معكوسة وهكذا ...فافهم
فالكافر الأصلي هو الذي لا يؤمن بالله أي لا يؤمن بالنسب والتجليات صفات الجمال والجلال فأثبت ستر حقائق التجليات ...فنفى وجود الله تعالى أي نفى الذات والصفات والأسماء ولكنّه ما فصل بينها فلو آمن بالذات الإلهي لآمن بأسمائه وصفاته سريعا فهو ستر الحقائق وأنكر الإعتراف جملة وتفصيلا وحالهم هذا هو بالضدّ المقابل من حال أهل الله تعالى في قولهم في حالة الفناء كما قال أبو يزيد
( سبحاني ما أعظم شأني ) فهذا أبو يزيد غاب في حضرة الحقّ فكانت سمعه وبصره أمّا الكافر فغاب في حضرة الباطل فكانت سمعه وبصره لذا إتّضح أنّ لكلّ باطل صورة من الحقّ تضادده فافهم
أمّا المشرك فهو الذي أثبت وجود الذات منفصلة عن الأسماء والصفات فظنّ أن الله واحد في ذاته ولكنّه ليس واحدا في صفاته وأفعاله ففصل الذات وجرّدها عن الأسماء والصفات لذا نسبوا لآلهتهم النفع والضرّ تحقيقا وإعتقادا فعبدوها إستقلالا لإعقاد النفع والضرّ فيها وهنا يدخل فيهم النصارى الذين ألّهوا عيسى كما يدخل في القسم الأوّل اليهود ولا بدّ لكلّ طائفة كافرة من الدخول تحت أصل من الأصول الثلاثة ّ
أمّا المنافق : فهو الذي يثبت الكذب على نفسه والكذب هو أوّل صورة من صور النفاق ( من علامات المنافق إذا حدّث كذب ...الحديث )لذا ما وصف الله تعالى المنافقين إلا بالكذب خاصّة ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ )والنفاق هو إرادة التلبيس لجعل الأسماء الإلهية نقيض الصفات فكان عالم الباطل بأسره محشورا في أصل النفاق لأنّ كل باطل هو كذب حقيقة ومن هنا تعلم أنّ كلّ متجاوز للحقّ فهو منافق أحبّ أم كره دري أو لم يدر كمن يدّعي النبوّة أو الإذن بالتربية أو المقامات والأحوال وهو خال منها فهو منافق لأنّه كاذب كما ترى في مقابلة النفاق مقام الإحسان فالدين كلّه إحسان في حقيقته وجميع المقامات تصبّ فيه أي للوصول إليه ( وأنّ إلى ربّك المنتهى )فكذلك جميع دركات الكفر تصبّ في دائرة النفاق لذا أوصانا الله ورسوله بالصدق ظاهرا وباطنا لأنّ درك النفاق خطير جدّا وأخطر ما يخاف منه الصدّيقون هو النفاق , فالمنافق جمع جميع أصول الكفر وفروعه وجميع الأخلاق الرذيلة لذا قال الله تعالى في النافقين : ( سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )فلا ينفعهم إستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم رغم علمك بماهية إستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فالمنافق أراد بنفاقه أن يفرّق بين الله ورسوله أي يفرّق بين الإسم والمسمّى وذلك بقطع طريق الصفات جملة وتفصيلا أي تدمير مقامات الإيمان وحقائق الإيقان وهذا هو التفريق بين الله ورسوله وهذا الأمر فيه من التلبيسات الشيطانية ما لا يعرفه إلا من فتح الله على عين بصيرته وجعل له فرقانا وأنت لو تلاحظ فإن علم المنافقين كان عند واحد من الصحابة وهو حذيفة فكان من هذا الوجه كأنّه علم مكتوم وهنا هناك أمواج من الحقائق تكلّ الأقلام عن شرحها والألسن عن ذكرها لأنّ علم النفاق لو أخرجه أهل الله تعالى للوجود لإستغلّه الكثير من العباد فهلكوا وأهلكوا وهو من هذه الناحية يشبه علم السحر
هذه لمحة وجيزة لتعرف أخي قول الله لك ولنا ( لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )وهم النخبة من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين
وهنا تعرف ما معنى شياطين الإنس وشياطين الجنّ وكيف يوحي بعضهم إلى بعض وهناك حقائق في الآيات والأحاديث غفل أغلب الخلق عنها
ثمّ إعلم بأنّ النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم لمّا كان في مكّة يدعو إلى التوحيد ويقرّره قام ضدّه من الباطل وهم المشركين لأنّ الصورة التي قام بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي قوله تعالى حاكيا عن المشركين ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب )فقام عليه الباطل الذي يمثّل الضدّ لهذه الحقيقة لأنّه كان يدعو إلى التوحيد توحيد الله تعالى أسماءا وصفاتا وأفعالا وذاتا فقام عليه الباطل المضادد لهذه الحقيقة لذا قالوا ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب )
ثمّ لمّا كان في المدينة يقرّر الأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وأحكام المعاملات وكلّ ما يخصّ الشريعة قام عليه المنافقون لأنّ المقام تغيّر أي المقام الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو لتكوين الدولة المسلمة والشرائع والأحكام وتثبيت أركان الدين وفقهه أصولا وفروعا أي مقامات الدين كلّها ظاهرا وباطنا
فكانت صورة المنافقين في المدينة هي المضاددة للصورة المحمّدية في المدينة لذا أشارت الآية في قوله : ( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ )فإنّه رمز إلى الحقيقة المحمّدية التي أرادوا أن ينفوها التي هي الطريق إلى الوصول إلى الله تعالى وليس هناك طريقا آخر ( سدّوا كلّ خوخة إلا خوخة أبي بكر )أي فيما يخصّ الخلافة والشرائع والأحكام لأنّه طريق واحد. فافهم.
فالصورة النبوية في المدينة هي الحقيقة المحمدية وصورة النبيّ صلى الله عليه وسلّم في مكّة هي الصورة الإلهية , فالصورة المكيّة يقابلها الشرك والصورة المدنية يقابلها النفاق فكان النفاق هو قطع الطريق بين الإسم والمسمّى وهذا الطريق يصدّ الكافر عن الإيمان بالله ويصدّ المشرك عن التوحيد ونفي الشريك لأنّ نفي الشريك والإيمان يمرّ عبر طريق النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم كما أنّ الزنديق الذي يدّعي الإحسان يصدّ الطريق عن الناس لبلوغ هذا المقام فيدخلهم في زندقة ومتاهات بحجّة الدين والإيمان والإسلام فالزندقة هي نفاق صرف لذا عاقبت الشريعة وليّ الله تعالى الحلاّج رضي الله عنه وعاقبت السهروردي رضي الله عنه حفاظا على الحقائق المحمّدية فإنّه ليس هناك هدي بعد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكلّ من تمسّك بهديه كان محفوظا مأمونا إن شاء الله تعالى ( إثنان إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي أو وعترتي )فهما شيء واحد
فالكافر جامد إنسان حجري لا ينفع معه في الأغلب لإيمانه إلا الأدلّة العقلية
والمشرك إنسان مصلحي نفسي وهمي لا ينفع معه إلا الجهاد بالسيف وتحطيم أصنامه
والمنافق إنسان ثعلبي داهية لا يعامل إلا بالمثل لذا كتم رسول اله صلى الله عليه وسلّم أسماء المنافقين عن الصحابة إلا أفراد منهم حتى يمكر بالمنافقين فهو يعاملهم بحسب حقائقهم
هذا وقد وردت سورة في الكافرين ( سورة الكافرون )وسورة في المنافقين ( سورة المافقون )
فالسورة الأولى تشير إلى المفارقة مفارقة المسلم للكافر في العبادة والتوجّه ولربّما في البلاد والمجتمع
والسورة الثانية تشير بأن المنافقين داخلون في المجتمع المسلم فلا ينفكّون عنه ولا يقتلون فلا يقام عليهم حدا ويصلّون معنا ويصومون ويحجّون وهذا أمر لا بدّ فيه من فرقان نوري كي يميّز الخبيث من الطيب ( إتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله )
ثمّ إن الكفر يزيد وينقص حتى يستهلك كلّ القلب فينطبع القلب به إنطباعا كاملا وهذا معنى ختم الله على قلوبهم لأنّه طبع عليها أي إنتهى أمرها مثل الوثيقة متى ختمت وتمّ إمضاءها من طرف المدير فهي سارية المفعول والقرار فيها صار حيز التنفيذ
وإن للقلب نزولا إلى دركات الكفر فالكفار ليسوا على درجة واحدة من الكفر
وكذلك المشركين وكذلك المنافقين
فالمؤمن العبد المحض من صفّاه الله تعالى من الكفر والشرك والنفاق أصولا وفروعا فأصبح عبدا محضا وصورة قدسية عليا وهذا الذي يتبرّك به ويلتثم العبد تراب نعليه لأنّه ذات مقدّسة طاهرة
هذا بإيجاز وهي نقاط تفتح أبوابا للفهم والتصوّر بوجود دليل وصحّة ضمير
والله أعلم
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال السادس عشر :
قلت سيدي فيما سبق ( فكذلك الذكر فمتى لم يكن مأذونا أو يكون بنيّة معلولة ولم يرد به وجه الله تعالى زجّ بصاحبه في عالم الباطل وعالم الشياطين فإنعكست لديه الحقائق ) والسؤال هو :
الا يشعر صاحب هذه الحال بانه زل ووقع وانحرف وان الحقائق معكوسة عنده , وما السبب اصلا انه مُكِرَ به ؟
الجواب والله اعلم
حباك الله سيدي فارس النور وجازاك خيرا :
إعلم أيها الفتى الحبيب , والأديب النجيب : أن الذكر متى لم يكن مأذونا فهو لا يدلّ على الله تعالى بمعنى أنّه لا يؤذن له في القبول كقولنا : في راعي من الرعيّة أراد أن يزور السلطان من غير إذن السلطان فإنّه حتما لا تفتح له أبواب القبول في قصر السلطان بل يطرد ويهان في الأغلب
فإنّ الذكر الذي يوصل إلى الحضرة أي المعرفة الكبرى فلا بدّ فيه من الإذن
فالأذكار نوعان :
النوع الأوّل :أذكار توصل إلى عوالم النور أي توصل إلى الفناء في الصفات وبالأحرى توصل إلى الجنّة أو تقول أنوار الحقيقة المحمدية فهذه هي أذكار السنّة التي ورد فيها الإذن من الشارع لكلّ أحد من المسلمين فهم فيها درجات وهذه الأنوار يحوز منها العلماء نصيب كبير لذا فأغلب علماء الشريعة من أهل السنّة والجماعة هم من أهل الكشف ومن أهل النور وهذه الأذكار يجب فيها إعتبار الإذن المحمّدي السنّي بلا زيادة ولا نقصان وهي توصل إلى النور وإلى دخول الجنّة في الآخرة ومعاينة أنوارها في الدنيا وأكثر الأذكار التي توصل إلى هذا بعد الإستقامة والتوبة والإستغفار هي ذكر الله تعالى بصيغة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم
فإنّ السلوك مناهج ومدارس :
منها السلوك بالصلاة المفروضة والنوافل ومنهم من كان سلوكه بالأذكار والعزلة ومنهم من يكون سلوكه بالإنفاق والصدقة لأنّ هذا يميت النفس موتا كبيرا ..إلخ وغير ذلك كالجهاد وكنشر العلم
وكلّ هذه الأنواع من السلوك يكون في الأغلب حدّها ونهايتها الفناء في الحقيقة المحمدية أي عالم الأنوار فلا يتجاوزون ذلك وأغلب علوم الشريعة والعلوم المحمدية من هذا القادوس تنشر وقد كانت مرتبة الشيخ يوسف النبهاني ومقامه رضي الله عنه الفناء في الحقيقة المحمدية فكان ثابت القدم فيها وعلى هذا أغلب مشائخ أرض الشام لذا قال سيدي أحمد العلاوي في حقّ سيدي يوسف النبهاني رضي الله عنها لمّا زار الشام في الثلاثينيات : ( أردت أن أعرج بيوسف النبهاني إلى الحضرة القدسية فوجدته متشبّثا في الحضرة المحمدية فثبّته فيها )لذا كانت أغلب علوم سيدي النبهاني في خصوص الحضرة المحمدية وهذا تراه في كتبه وقصائده
ثمّ إن الإذن بالمشيخة أعني الإذن بالإرشاد ينقسم إلى ثلاثة أذون :
فقد يكون الشيخ مأذونا فقط بتلقين الأوراد العامّة - والأوراد العامّة -أي الأوراد التي يكتسب منها المريد أحوالا فيشوّر قلبه نحو الله تعالى
وقد يكون الشيخ مأذونا بتلقين الأذكار الخاصّة التي يكتسب منها الفقير مقامات فيرسخ فيها كالصدق والتصديق والمحبة والعفو والرحمة واليقين والتواضع ..إلخ
وقد يكون الشيخ مأذونا بتلقين أذكار الفناء والبقاء فهذا هو الشيخ الكامل والوارث المحمدي الشامل وهذه المرتبة هي التي ينطلق عليها إسم ( الوارث المحمدي الكامل ) وهذاهو الشيخ صاحب السرّ الرباني
ثمّ إن الأذكار قد تكون هي نفس الأذكار فلا تتعدّد وإنّما يتعدّد السرّ الذي فيها لأنّ الذكر يكون بحسب سرّ الشيخ فيه وقت تلقينه أي حالته مع ربّه لذا أذن صلى الله عليه وسلّم أمّته في جميع أذكار السنّة في مقام القلب وإختصّ الذكر الخاص لأهل مقام الروح وهم أهل نسبة الله تعالى وخاصّة آل بيته الكرام لأنّ الذي ورث هذا العلم على تمامه هو سيّدنا علي رضي الله عنه أعني ورثه ليبثّه في الأمّة بخلاف غيره من الصحابة فهو وإن ورثه فهو غير متعدّي إلى غيره لأنّ هذا العلم أختصّ به أل البيت إلا في حالات كمن ورث الصدّيق الأكبر رضي الله عنه وإنّما أعني أكابر الصحابة وهم كثر فإنّك لا تجد لهم طرائق تربوية ترجع في إسنادها إليهم غير أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وقال البعض وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أمّا بقيّة الصحابة فلا رغم قدر الصحابة العظيم ومقامهم الفخيم لذا فلو تراجع أغلب الطرق الصوفية تجد مشائخها من أل البيت ثمّ أن الخلاف الذي يقول في القطبانية التي لا ينالها إلا أل البيت فقد خلط الأمور وإنّما القطبانية التي لا ينالها إلا أل البيت هي قطبانية التربية وليست قطبانية التصريف أعني قوله عليه ال
صلاة والسلام ( إثنان إن تمسّكتم بها فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي وفي رواية وعترتي )أي طريق الهداية والتربية والمقامات والأحوال وليس المراد قطبانية التصريف التي ورثها أكثر من واحد ممّن ينتسبون لغير أل البيت كسيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه وغيره
فالذكر الذي قصد به الوصول إلى الحضرة الإلهية في أصل النيّة وجب أن يكون صادرا عن إذن وإلا زجّ بصاحبه فيما لا تحمد عقباه وشاهد هذا كمن تقدّم للتربية والإرشاد من غير إذن قال العارفون ومنهم سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه : ( يخشى أن يموت على سوء الخاتمة إذا لم يتب )
فكذلك أمر الذكر متى قصد به الوصول إلى المشاهدة أي ذكره من أجل أن يصل إلى مقام الفناء وما تلقّى ذكره بإذن فإنه يدخله إلى عوالم الظلام لأنّ القصد إلى الله تعالى لا يتحقّق إلا بإذن بمعنى متى شوّر القلب نحو الله تعالى جاءك الإذن فيه من الله تعالى وذلك بإن يقيّض الله تعالى لك شيخا ويجيء إليك في لمح البصر لذا قيل ( من طلب الله بصدق وجد الشيخ أقرب إليه من نفسه )أي وجد الشيخ ليأذنه في ذكر التوجّه الحقيقي أي يعطيه مفتاح أبواب الفناء وفي هذا الكلام تفصيل وترتيب طويل عريض لا أذكره لأنّه بحسب رأيي حجاب عن الله تعالى لذا ما ذكره الشيوخ كما أنّهم لم يذكروا دسائس النفس وخواطر الشيطان وما فصّلوها تفصيلا حتى لا ينحجب بعلمها الفقراء كقولهم ( العلم غول كبير بالنسبة للسالكين أي متى وقفوا معه )
النوع الثاني من الذكر : أذكار السلوك إلى حضرة ملك الملوك
ولا يمكن أن يصحّ هذا التوجّه من العبد إلا بوجود شرطان أساسيان هما :
- الإذن الكامل من شيخ كامل
- النيّة الصحيحة الخالية من الشوائب والعلل والحظوظ كيفما كان هذا الحظّ
فمن توجّه بغير هذين الشرطين أستدرج ومكر به لأنّه تألّى على الحضرة وأساء أدابها وما جاء البيوت من أبوابها فهو يعتبر متجسّس على أسرار الحضرة ( وجعلناها رجوما للشياطين )وفي هذا المنزل ورد آية : ( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )
ثمّ إنّ الذكر المأذون متى آذنك الشيخ فيه فهو علامة أهليتك لمذهب أهل الإرادة بمعنى إذن الحضرة لك في التوجّه إليها
فمن أذنته الحضرة فهو محفوظ من دخول الظلام عليه الذي معناه أنّه يحفظ من قطّاع الطريق
فالحضرة يقابلها : سرّ الإخلاص الذي هو التوحيد المطلق : ويقابلها : النيّة الصحيحة التي هي محلّ سرّ الإخلاص , ويقابلها : الإذن الإلهي , ويقابلها مصاحبة النور المحمّدي فكلّ طريق غير طريقه يجيء منه المريد لا يقبل لأنّه طريق واحد ( وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم )وقوله ( إثنان إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي )فمن تمسّك بالكتاب من غير سنّة ضلّ الطريق فأصبح زنديقا بمفهوميه :
المفهوم الأوّل : الزنادقة ( من تصوّف ولم يتشرّع فقد تزندق )
المفهوم الثاني : الخوارج أو الذين لا يقولون بالسنّة ( أي باطنا كالزنادقة والباطنية , وظاهرا كالخوارج ومن جرى في فلكهم فافهم )
فحقيقة القسم الأوّل يقابلهم أهل الباطن الربانيين , وأهل القسم الثاني يقابلهم أهل السنّة من علماء الظاهر , فإن لكلّ صورة حقّ لها ما يقابلها من الباطل
ثمّ إن أحكام الإرادة توجب شروطا وإلا ما سمّيت إرادة وإنّما نعني بالإرادة المقول فيهم ( يريدون وجهه )فكلّ من نزل عن هذه المرتبة ولو كان عالما فهو لا يعتبر من أهل الإرادة
هذا وإعلم بأنّ الإرادات ثلاث :
- إرادة وجه الله ( فهي مقرونة بالوجه ) وقوله تعالى( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فنفى عنهم الإرادة المحدّدة أي الإرادة الغرضية أو العرضية لأنّ الوجه ليس له وجهة فهذا النوع من الإرادة يتبع الوجه والوجه ليس له وجهة ولا جهة فإتصفت إرادتهم بما عليه هذه الحقيقة فإنتفت إرادتهم في إرادة الله تعالى فهم في هذه الحالة ( مرادون )لا أنّهم مريدون فقط .فافهم
- هناك (إرادة الآخرة ونعيمهما )قال تعالى ( و منكم من يريد الآخرة )فهذا ثابت بأنّ أقواما يريدون الآخرة
وهنا لا بدّ من التفريق بين أمرين وبين مرتبتين :
هناك من يريد وجه الله والدار الآخرة , فالآخرة هنا جاءت تبعية لما تعطيه الحقائق الإلهية من حيث الأسماء والصفات وليست جاءت إستقلاليّة , ثمّ من أراد وجه الله والدار الآخرة فإنما إرادته لوجه الله هي التي جعلته يريد الدار الآخرة ليراه فيها ويتمتّع بالشهود على منبر الوجود , ثمّ إن إرادة وجه الله تحجب إرادة الدار الآخرة إستقلالا لذا قال ( يريدون وجهه )
أما هذا الصنف الثاني من الإرادات :فإنّه أراد الدار اللآخرة إستقلالا عن إرادة وجه الله تعالى بمعنى أنّه غاب وحجب بالصفات عن الذات وهذا مقام شركي لمن دقّق النظر فمن حجب بالأنوار وإطمئنّ بها لم تكن لديه أخبار عن ذات الواحد القهّار سبحانه وتعالى ونحن نعبد الله تعالى لذاته وليس لمجرّد صفاته فلو لا الذات لما كانت هناك صفات ( إعبدوا الله مخلصين )والله إسم ذات وليس إسم صفة وإسم الذات يكون جامعا للأسماء كلّها والصفات
- هناك إرادة ثالثة :- هناك إرادة ثالثة :- هناك إرادة ثالثة : قال تعالى : ( منكم من يريد الدنيا )وهذا واضح
ثمّ قال تعالى في المرتبتين الآخرتين ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا )أي من أراد ثواب الدنيا فأعماله معلولة فيكون ثوابه من جنس أعماله فسأحجبه بما طلبه عنّي وعن إرادتي
ومن يرد ثواب الآخرة فأعماله مدخولة فيكون ثوابه بحسب صفة عمله فسأحجبه عنّي بما طلبه من الثواب
لذا قال في آخر الآيات : ( وسنجزي الشاكرين )أي الذين عبدوني في مقام الشكر وهم الذين يريدون وجهي ولا يريدون غيري إلا بالتبعية لما تعطيه حقائقي في مراتب النسب التي قالت فيها الملائكة ( إنك أنت العليم الحكيم )
فمن توجّه إلى الله تعالى بغير الشرطين الذين ذكرتهما فهو مدخول عليه في طريق الأحوال والمقامات فإلتبس عليه الأمر وإنعكست لديه الحقائق ولا يخرجه من هذا إلا تصحيح النيّة والدخول تحت نظر وتربية شيخ واصل أو أخ ناصح وإلا خيف عليه من المكر الإلهي والإستدراج
أمّا قولك سيدي فارس : فهل لهذا الشخص من شعور وقت الإستدراج وإحساس بأنه مكر به ؟
قلت : لو كان له شعور وإحساس لما سمّي في حقّه إستدراج ومكر فإن من علوم المكر والإستدراج أنّ الشخص متى أستدرج حجب عن هذا الإحساس والشعور به
قال تعالى : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين )فأنظر إلى متانة الكيد فجعل هذا مع إنتفاء علمهم به لأنّ الكيد خفيّ جدّا حتى الشعور والإحساس الرقيق الذي هو رادار قلب العبد لا يمكنه الإحساس بذلك ( نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ )فنفى الشعور عنهم الذي هو رادار القلب وليس هناك رادارا غير شعور القلب ( إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي )كما قال صلى الله عليه وسلّم فما بالك بنظر الله فينا وقد قال سيدي محي الدين بن عربي في عقيدته ( ويرى الماء في الماء , والسواد في الظلماء )
ثمّ إنّ متانة الكيد لا طاقة لمخلوق بفهمها ولو لا خوف الملل والسآمة لأبحرنا مع وارد الحقائق في ذلك
ثمّ إنّ الفطنة والذكاء وما كان من دائرة قوّة العقل والقلب والروح فهي مقاييس فيما بين الخلق
أمّا الله تعالى فحاشا وكلاّ ( عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ )
قال تعالى في الأعمال المستدرجة ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون )فكانت مشاهدهم معكوسة وهذا الإستدراج في العمل
وفي الأحوال المستدرجة ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه ) فذكر أحوالهم المعكوسة المستدرجة وعلى هذا قس
فكلّما تفطّن مثل هذا الشخص من الإستدراج وجعله في ذهنه كلّما تلوّن له المكر الإلهي والكيد المتين ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون )فيترقّى معهم وينزل المكر والإستدراج فهم في دائرته لا يخرجون عنها إلا متى تابوا فتاب الله عليهم
ثمّ إن علوم المكر هي العلوم التي هزمت إبليس وما كانت له على بال فهو قائم الآن في دائرة المكر فلا خروج له عنها البتّة فأكبر ممكور به على وجه البسيطة هو إبليس لذا يخاف الأنبياء والمرسلون والملائكة المقرّبون رغم عصمتهم جميعا من مكر الله لأنّه : ( فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )
قلت سيدي فيما سبق ( فكذلك الذكر فمتى لم يكن مأذونا أو يكون بنيّة معلولة ولم يرد به وجه الله تعالى زجّ بصاحبه في عالم الباطل وعالم الشياطين فإنعكست لديه الحقائق ) والسؤال هو :
الا يشعر صاحب هذه الحال بانه زل ووقع وانحرف وان الحقائق معكوسة عنده , وما السبب اصلا انه مُكِرَ به ؟
الجواب والله اعلم
حباك الله سيدي فارس النور وجازاك خيرا :
إعلم أيها الفتى الحبيب , والأديب النجيب : أن الذكر متى لم يكن مأذونا فهو لا يدلّ على الله تعالى بمعنى أنّه لا يؤذن له في القبول كقولنا : في راعي من الرعيّة أراد أن يزور السلطان من غير إذن السلطان فإنّه حتما لا تفتح له أبواب القبول في قصر السلطان بل يطرد ويهان في الأغلب
فإنّ الذكر الذي يوصل إلى الحضرة أي المعرفة الكبرى فلا بدّ فيه من الإذن
فالأذكار نوعان :
النوع الأوّل :أذكار توصل إلى عوالم النور أي توصل إلى الفناء في الصفات وبالأحرى توصل إلى الجنّة أو تقول أنوار الحقيقة المحمدية فهذه هي أذكار السنّة التي ورد فيها الإذن من الشارع لكلّ أحد من المسلمين فهم فيها درجات وهذه الأنوار يحوز منها العلماء نصيب كبير لذا فأغلب علماء الشريعة من أهل السنّة والجماعة هم من أهل الكشف ومن أهل النور وهذه الأذكار يجب فيها إعتبار الإذن المحمّدي السنّي بلا زيادة ولا نقصان وهي توصل إلى النور وإلى دخول الجنّة في الآخرة ومعاينة أنوارها في الدنيا وأكثر الأذكار التي توصل إلى هذا بعد الإستقامة والتوبة والإستغفار هي ذكر الله تعالى بصيغة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم
فإنّ السلوك مناهج ومدارس :
منها السلوك بالصلاة المفروضة والنوافل ومنهم من كان سلوكه بالأذكار والعزلة ومنهم من يكون سلوكه بالإنفاق والصدقة لأنّ هذا يميت النفس موتا كبيرا ..إلخ وغير ذلك كالجهاد وكنشر العلم
وكلّ هذه الأنواع من السلوك يكون في الأغلب حدّها ونهايتها الفناء في الحقيقة المحمدية أي عالم الأنوار فلا يتجاوزون ذلك وأغلب علوم الشريعة والعلوم المحمدية من هذا القادوس تنشر وقد كانت مرتبة الشيخ يوسف النبهاني ومقامه رضي الله عنه الفناء في الحقيقة المحمدية فكان ثابت القدم فيها وعلى هذا أغلب مشائخ أرض الشام لذا قال سيدي أحمد العلاوي في حقّ سيدي يوسف النبهاني رضي الله عنها لمّا زار الشام في الثلاثينيات : ( أردت أن أعرج بيوسف النبهاني إلى الحضرة القدسية فوجدته متشبّثا في الحضرة المحمدية فثبّته فيها )لذا كانت أغلب علوم سيدي النبهاني في خصوص الحضرة المحمدية وهذا تراه في كتبه وقصائده
ثمّ إن الإذن بالمشيخة أعني الإذن بالإرشاد ينقسم إلى ثلاثة أذون :
فقد يكون الشيخ مأذونا فقط بتلقين الأوراد العامّة - والأوراد العامّة -أي الأوراد التي يكتسب منها المريد أحوالا فيشوّر قلبه نحو الله تعالى
وقد يكون الشيخ مأذونا بتلقين الأذكار الخاصّة التي يكتسب منها الفقير مقامات فيرسخ فيها كالصدق والتصديق والمحبة والعفو والرحمة واليقين والتواضع ..إلخ
وقد يكون الشيخ مأذونا بتلقين أذكار الفناء والبقاء فهذا هو الشيخ الكامل والوارث المحمدي الشامل وهذه المرتبة هي التي ينطلق عليها إسم ( الوارث المحمدي الكامل ) وهذاهو الشيخ صاحب السرّ الرباني
ثمّ إن الأذكار قد تكون هي نفس الأذكار فلا تتعدّد وإنّما يتعدّد السرّ الذي فيها لأنّ الذكر يكون بحسب سرّ الشيخ فيه وقت تلقينه أي حالته مع ربّه لذا أذن صلى الله عليه وسلّم أمّته في جميع أذكار السنّة في مقام القلب وإختصّ الذكر الخاص لأهل مقام الروح وهم أهل نسبة الله تعالى وخاصّة آل بيته الكرام لأنّ الذي ورث هذا العلم على تمامه هو سيّدنا علي رضي الله عنه أعني ورثه ليبثّه في الأمّة بخلاف غيره من الصحابة فهو وإن ورثه فهو غير متعدّي إلى غيره لأنّ هذا العلم أختصّ به أل البيت إلا في حالات كمن ورث الصدّيق الأكبر رضي الله عنه وإنّما أعني أكابر الصحابة وهم كثر فإنّك لا تجد لهم طرائق تربوية ترجع في إسنادها إليهم غير أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وقال البعض وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أمّا بقيّة الصحابة فلا رغم قدر الصحابة العظيم ومقامهم الفخيم لذا فلو تراجع أغلب الطرق الصوفية تجد مشائخها من أل البيت ثمّ أن الخلاف الذي يقول في القطبانية التي لا ينالها إلا أل البيت فقد خلط الأمور وإنّما القطبانية التي لا ينالها إلا أل البيت هي قطبانية التربية وليست قطبانية التصريف أعني قوله عليه ال
صلاة والسلام ( إثنان إن تمسّكتم بها فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي وفي رواية وعترتي )أي طريق الهداية والتربية والمقامات والأحوال وليس المراد قطبانية التصريف التي ورثها أكثر من واحد ممّن ينتسبون لغير أل البيت كسيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه وغيره
فالذكر الذي قصد به الوصول إلى الحضرة الإلهية في أصل النيّة وجب أن يكون صادرا عن إذن وإلا زجّ بصاحبه فيما لا تحمد عقباه وشاهد هذا كمن تقدّم للتربية والإرشاد من غير إذن قال العارفون ومنهم سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه : ( يخشى أن يموت على سوء الخاتمة إذا لم يتب )
فكذلك أمر الذكر متى قصد به الوصول إلى المشاهدة أي ذكره من أجل أن يصل إلى مقام الفناء وما تلقّى ذكره بإذن فإنه يدخله إلى عوالم الظلام لأنّ القصد إلى الله تعالى لا يتحقّق إلا بإذن بمعنى متى شوّر القلب نحو الله تعالى جاءك الإذن فيه من الله تعالى وذلك بإن يقيّض الله تعالى لك شيخا ويجيء إليك في لمح البصر لذا قيل ( من طلب الله بصدق وجد الشيخ أقرب إليه من نفسه )أي وجد الشيخ ليأذنه في ذكر التوجّه الحقيقي أي يعطيه مفتاح أبواب الفناء وفي هذا الكلام تفصيل وترتيب طويل عريض لا أذكره لأنّه بحسب رأيي حجاب عن الله تعالى لذا ما ذكره الشيوخ كما أنّهم لم يذكروا دسائس النفس وخواطر الشيطان وما فصّلوها تفصيلا حتى لا ينحجب بعلمها الفقراء كقولهم ( العلم غول كبير بالنسبة للسالكين أي متى وقفوا معه )
النوع الثاني من الذكر : أذكار السلوك إلى حضرة ملك الملوك
ولا يمكن أن يصحّ هذا التوجّه من العبد إلا بوجود شرطان أساسيان هما :
- الإذن الكامل من شيخ كامل
- النيّة الصحيحة الخالية من الشوائب والعلل والحظوظ كيفما كان هذا الحظّ
فمن توجّه بغير هذين الشرطين أستدرج ومكر به لأنّه تألّى على الحضرة وأساء أدابها وما جاء البيوت من أبوابها فهو يعتبر متجسّس على أسرار الحضرة ( وجعلناها رجوما للشياطين )وفي هذا المنزل ورد آية : ( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )
ثمّ إنّ الذكر المأذون متى آذنك الشيخ فيه فهو علامة أهليتك لمذهب أهل الإرادة بمعنى إذن الحضرة لك في التوجّه إليها
فمن أذنته الحضرة فهو محفوظ من دخول الظلام عليه الذي معناه أنّه يحفظ من قطّاع الطريق
فالحضرة يقابلها : سرّ الإخلاص الذي هو التوحيد المطلق : ويقابلها : النيّة الصحيحة التي هي محلّ سرّ الإخلاص , ويقابلها : الإذن الإلهي , ويقابلها مصاحبة النور المحمّدي فكلّ طريق غير طريقه يجيء منه المريد لا يقبل لأنّه طريق واحد ( وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم )وقوله ( إثنان إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي )فمن تمسّك بالكتاب من غير سنّة ضلّ الطريق فأصبح زنديقا بمفهوميه :
المفهوم الأوّل : الزنادقة ( من تصوّف ولم يتشرّع فقد تزندق )
المفهوم الثاني : الخوارج أو الذين لا يقولون بالسنّة ( أي باطنا كالزنادقة والباطنية , وظاهرا كالخوارج ومن جرى في فلكهم فافهم )
فحقيقة القسم الأوّل يقابلهم أهل الباطن الربانيين , وأهل القسم الثاني يقابلهم أهل السنّة من علماء الظاهر , فإن لكلّ صورة حقّ لها ما يقابلها من الباطل
ثمّ إن أحكام الإرادة توجب شروطا وإلا ما سمّيت إرادة وإنّما نعني بالإرادة المقول فيهم ( يريدون وجهه )فكلّ من نزل عن هذه المرتبة ولو كان عالما فهو لا يعتبر من أهل الإرادة
هذا وإعلم بأنّ الإرادات ثلاث :
- إرادة وجه الله ( فهي مقرونة بالوجه ) وقوله تعالى( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فنفى عنهم الإرادة المحدّدة أي الإرادة الغرضية أو العرضية لأنّ الوجه ليس له وجهة فهذا النوع من الإرادة يتبع الوجه والوجه ليس له وجهة ولا جهة فإتصفت إرادتهم بما عليه هذه الحقيقة فإنتفت إرادتهم في إرادة الله تعالى فهم في هذه الحالة ( مرادون )لا أنّهم مريدون فقط .فافهم
- هناك (إرادة الآخرة ونعيمهما )قال تعالى ( و منكم من يريد الآخرة )فهذا ثابت بأنّ أقواما يريدون الآخرة
وهنا لا بدّ من التفريق بين أمرين وبين مرتبتين :
هناك من يريد وجه الله والدار الآخرة , فالآخرة هنا جاءت تبعية لما تعطيه الحقائق الإلهية من حيث الأسماء والصفات وليست جاءت إستقلاليّة , ثمّ من أراد وجه الله والدار الآخرة فإنما إرادته لوجه الله هي التي جعلته يريد الدار الآخرة ليراه فيها ويتمتّع بالشهود على منبر الوجود , ثمّ إن إرادة وجه الله تحجب إرادة الدار الآخرة إستقلالا لذا قال ( يريدون وجهه )
أما هذا الصنف الثاني من الإرادات :فإنّه أراد الدار اللآخرة إستقلالا عن إرادة وجه الله تعالى بمعنى أنّه غاب وحجب بالصفات عن الذات وهذا مقام شركي لمن دقّق النظر فمن حجب بالأنوار وإطمئنّ بها لم تكن لديه أخبار عن ذات الواحد القهّار سبحانه وتعالى ونحن نعبد الله تعالى لذاته وليس لمجرّد صفاته فلو لا الذات لما كانت هناك صفات ( إعبدوا الله مخلصين )والله إسم ذات وليس إسم صفة وإسم الذات يكون جامعا للأسماء كلّها والصفات
- هناك إرادة ثالثة :- هناك إرادة ثالثة :- هناك إرادة ثالثة : قال تعالى : ( منكم من يريد الدنيا )وهذا واضح
ثمّ قال تعالى في المرتبتين الآخرتين ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا )أي من أراد ثواب الدنيا فأعماله معلولة فيكون ثوابه من جنس أعماله فسأحجبه بما طلبه عنّي وعن إرادتي
ومن يرد ثواب الآخرة فأعماله مدخولة فيكون ثوابه بحسب صفة عمله فسأحجبه عنّي بما طلبه من الثواب
لذا قال في آخر الآيات : ( وسنجزي الشاكرين )أي الذين عبدوني في مقام الشكر وهم الذين يريدون وجهي ولا يريدون غيري إلا بالتبعية لما تعطيه حقائقي في مراتب النسب التي قالت فيها الملائكة ( إنك أنت العليم الحكيم )
فمن توجّه إلى الله تعالى بغير الشرطين الذين ذكرتهما فهو مدخول عليه في طريق الأحوال والمقامات فإلتبس عليه الأمر وإنعكست لديه الحقائق ولا يخرجه من هذا إلا تصحيح النيّة والدخول تحت نظر وتربية شيخ واصل أو أخ ناصح وإلا خيف عليه من المكر الإلهي والإستدراج
أمّا قولك سيدي فارس : فهل لهذا الشخص من شعور وقت الإستدراج وإحساس بأنه مكر به ؟
قلت : لو كان له شعور وإحساس لما سمّي في حقّه إستدراج ومكر فإن من علوم المكر والإستدراج أنّ الشخص متى أستدرج حجب عن هذا الإحساس والشعور به
قال تعالى : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين )فأنظر إلى متانة الكيد فجعل هذا مع إنتفاء علمهم به لأنّ الكيد خفيّ جدّا حتى الشعور والإحساس الرقيق الذي هو رادار قلب العبد لا يمكنه الإحساس بذلك ( نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ )فنفى الشعور عنهم الذي هو رادار القلب وليس هناك رادارا غير شعور القلب ( إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي )كما قال صلى الله عليه وسلّم فما بالك بنظر الله فينا وقد قال سيدي محي الدين بن عربي في عقيدته ( ويرى الماء في الماء , والسواد في الظلماء )
ثمّ إنّ متانة الكيد لا طاقة لمخلوق بفهمها ولو لا خوف الملل والسآمة لأبحرنا مع وارد الحقائق في ذلك
ثمّ إنّ الفطنة والذكاء وما كان من دائرة قوّة العقل والقلب والروح فهي مقاييس فيما بين الخلق
أمّا الله تعالى فحاشا وكلاّ ( عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ )
قال تعالى في الأعمال المستدرجة ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون )فكانت مشاهدهم معكوسة وهذا الإستدراج في العمل
وفي الأحوال المستدرجة ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه ) فذكر أحوالهم المعكوسة المستدرجة وعلى هذا قس
فكلّما تفطّن مثل هذا الشخص من الإستدراج وجعله في ذهنه كلّما تلوّن له المكر الإلهي والكيد المتين ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون )فيترقّى معهم وينزل المكر والإستدراج فهم في دائرته لا يخرجون عنها إلا متى تابوا فتاب الله عليهم
ثمّ إن علوم المكر هي العلوم التي هزمت إبليس وما كانت له على بال فهو قائم الآن في دائرة المكر فلا خروج له عنها البتّة فأكبر ممكور به على وجه البسيطة هو إبليس لذا يخاف الأنبياء والمرسلون والملائكة المقرّبون رغم عصمتهم جميعا من مكر الله لأنّه : ( فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال السابع عشر :
ذكرتم سيدي فيما سبق ( القاعد في الطريق المستقيم فكلّ مارّ منه لا بدّ أن يكون له نيّة الإخلاص لله وإلا إستزلّه الشيطان ) هذه قاعدة خطيرة جدا والسؤال هو :
كيف يكون الفقير مخلصا وقد اجتمعت عليه نفسه والشيطان والهوى وحب الدنيا , فما يجلب للعبد الاخلاص وماذا يفعل ان كان يشكو قلت الاخلاص اصلا ؟
الجواب واالله اعلم :-
سيدي الفاضل : إكتساب الفضائل وإجتناب الرذائل يتحقّق بالتربية والتزكية فإنّ الله تعالى ما ترك عباده من غير رعايته لهم بل تعاهدهم ولا يزال يتعاهدهم : تعاهدهم بقوله : (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
فأعطاهم العقل وأمدّهم بالحواس الظاهرة والباطنة ثمّ أكرمهم ببعثة الأنبياء والرسل وبتنزيل الكتب ( خلق الإنسان علّمه البيان ) ( إقرأ وربّك الأكرم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم )
قال تعالى ( ولقد آتاكم من كلّ ما سألتموه )أي قبل السؤال وحين السؤال وبعد السؤال فلم يترك عباده هملا ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى )في المعنيين ( الظاهر والباطن )
فالله تعالى إنّما سلّط الشيطان على بني آدم ليوحشهم إليه كما ذكر هذا في الحكمة سيدي بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه أي لتفرّ منه وتحتمي بعالم النور فالسير لا يتحقّق إلا بمنازلة جنود النور لجنود الظلام وكذلك النفس فما سلّطها على الإنسان إلا ليفنى عنها في حضرة الرحمان فيفرّ منه ( ففرّوا إلى الله )قال في الحكمة : ( لو لا ميادين النفوس ما تحقّق سير السائرين )وسلّط على العبد محبّة الدنيا ليفرّ منها إلى الآخرة فيتحقّق سيره ( نعمت الدنيا مطيّة المؤمن ...)كما ورد في الحديث أمّا تسليط الهوى فليعلّمك كيف تفطم نفسك عنه في جميع المراتب وحتى ولو كنت عارفا بالله تعالى فلا تميل إلى مقامات ولا أحوال ولا علوم ولا معارف ولا حكم ولا رئاسة ولا لأيّة خصوصية ظاهرة أو باطنة هذا المقام الأعلى أمّا المقام الأدنى فلا تميلوا كلّ الميل ولا بدّ مع هذا من العدل ذلك المقام الذي هو لا يكون إلا عند مشائخ التصريف فمشائخ التصريف هم أهل العدل والإحسان
فما سلّط الله على الإنسان الشيطان والدنيا والنفس والهوى إلا ليسري إليه ويفرّ منها إليه وهذه هي حكمتها
وهذا يعطينا مشهد الحكمة على إطلاقه :فالحكمة الألهية مراتب للوصول إليه , أمّا مشهد العلم للقيام بحقّ الأدب بين يديه , والعلم والحكمة أخوان شقيقان وصديقان حميمان
فالإخلاص سيدي :هو التوحيد بمفهومه التام لذا سمّيت سورة ( قل هو الله احد )بسورة الإخلاص
أمّا ضدّ الإخلاص :فهو الشرك , فالكون وما حواه متى نظر إليه بقلبه ميلا أو إعتقادا أو محبّة ففيه شبهة الشرك بالله تعالى :
والميل أقصد به أي ميلا مستقلاّ عن الميل إليه بالله تعالى وهذا لا يكون إلا في مقام البقاء حقيقة فنحن نميل إلى أهل الله تعالى ميلا لأنّهم أحباب الله فما ميلنا لهم لنفوسنا وإنما لله تعالى فمن مال إلى الكون بنفسه علويا أو سفليا ففيه بقية من الشرك
لذا جعل علم السلوك والتزكية لنبذ هذا الخيال الذي سنتكلّم عنه في محلّه (وأن عالم الخيال هو هذا الوجود بأسره بنظر النفس )فمتى نظرت النفس إلى هذا الوجود فنظرها باطل فوقعت في عالم الخيال وعالم الخيال هو عالم الباطل .فافهم. أمّا نظر الروح إلى هذا الوجود فهو نظر حقّ لأنّ الروح لا يشاهد إلا الحقّ ( ونفخت فيه من روحي )يعني إشارة
فبالتسليك والتزكية والترقية من مقام إلى مقام يترقّى الإخلاص شيئا فشيئا ويتربّى شيئا فشيئا
والإخلاص سيدي : هو أصل جميع المقامات فلا يصحّ مقام من المقامات أو حال من الأحوال إلا به فتتربّى جميع المقامات بمدد الإخلاص لذا دلّك على هذه الحقيقة لتنال كلّ شيء بأسرع وقت ( وأعبدوا الله مخلصين له الدين )
لذا شمّر الشيوخ رضي الله عنهم سواعدهم في تربية هذا الإخلاص الذي هو سرّ الوجود ومفتاح الشهود فكانت المعركة فيه حامية الوطيس بينهم وبين الشيطان وزوجته النفس لتعرف قوله عليه الصلاة والسلام ( عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )ويقول قائلهم : ( هل للصوفية جهاد )وأقول : ( وهل هناك غيرهم في ساحات الجهاد )فإنّهم يقاتلون أئمّة الكفر وهل هناك إماما في الكفر مثل إبليس ونفس الإنسان
فطريق الفقير أو أقول المؤمن من حيث أنّه مؤمن إلى الإخلاص هو طريق التزكية والتربية وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )
فهذه الآية تشمل درجات الإخلاص الثلاث : الإخلاص في مقام الإسلام , والإخلاص في مقام الإيمان , والإخلاص في مقام الإحسان
فليس إخلاص العامّة كإخلاص الخاصّة وليس إخلاص الخاصّة كإخلاص خاصّة الخاصّة فكيف بإخلاص رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( والإخلاص هو التوحيد )
فالإخلاص يرتقي بحسب مقام الفقير في التوحيد فكلّما حزت مقاما في الإخلاص ناداك المقام الذي بعده فحكمت على نفسك بالشرك في المقام الذي كنت فيه وهكذا إلى أن يقع لك التبرّي من إخلاصك وتتلوا قوله تعالى ( إلا عبادك منهم المخلصين )بفتح اللام
والتبرّي من الإخلاص هو التبرّي من شرك وجودك معه وكلّ المقامات سيدي تصبّ في هذه الحقيقة ولكن لا يتفطّن إليها إلا قليلا من العباد
وبالنسبة للسالك يقع في جملة من الإختبارات في مقام الإسلام والإيمان والإحسان ليمتحن في إخلاصه أي في توحيده الحقّ وتوجّهه الصدق
والإخلاص هو التبرّي من الحول والقوّة فلا تنسب لك شيء ولا تطمع في شيء إلا شيئا أباحه الله لك وما أباح لك في الطمع إلا غفران الذنوب , وغفران الذنوب هو الفناء ( ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر )فتعود وترجع إلى الكنزية
كما قال شيخنا إسماعيل في قصيد له رضي الله عنه :
أبغي ثباتي في شهود بحر الذات *** أغنم أوقاتي رجوعي إلى الكنزية
لذا قال تعالى ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ثمّ إستغفر لذنبك ) أي متى علمت هذا التوحيد إستغفرت من دعواك الوجود معه فتنسب لنفسك صفاته القائمة بذاته فأمسيت مدّعيا للألوهية لأنّ الصفات لا تقوم إلا بالذات فمتى نسبتها إليك فكأنّك إدّعيت أنها صفاتك فقلت بالشريك
فبحر الإخلاص أمره عظيم وخطبه جسيم
فالترقي في الإخلاص هو الترقي في التوحيد ومن عدم إخلاصه فقد عدم توحيده ومن تذكّر أن الإخلاص هو التوحيد وأن عكس الإخلاص هو الشرك بكلّ معانيه الظاهرة كعبادة الأصنام كيفما كان هذا الصنم مادي أو أدبي وبكلّ معانيه الباطنة وهو رؤية النفس وعبادتها كالرياء وغيره فافهم
فالمقامت سيدي هي مقامات إخلاصية بمعنى أنّ كلّ منقبة لا ترى فضلها ولا نورها إلا بمدد الإخلاص ومدد الإخلاص يأتي من قادوس التوحيد والتوحيد يرتقي بحسب فهمك عنه في أسمائه وصفاته أي في أكوانه الظاهرة والباطنة فما خلق الكون إلا لتوحّده فيه فإنّك لا تقدر على مشاهدته من غير حجاب الصفات فخلق لك كلّ شيء لتعرفه فيه فكلّ ما سواه يدلّ عليه وأنت تعرف بأن النفس والهوى والشيطان والدنيا إنما هي أشياء سلّطها عليك ليوحشك بها إليه فتفرّ إليه منها وهذه الأربعة هي الأصول القائم عليها عالم الخيال بأسره فما سلّطها عليك إلا ليدلّك بها على عالم الحقّ بأسره ( ما خلقت هذا باطلا )وبما أنّ الكون بأسره خلقه بالحقّ والشيطان من جملة هذا الخلق والنفس كذلك فافرح لأنّه ما خلق لك الكون إلا بالحقّ ليدلّك على الحقّ
حتى الذنب لولاه لما عرفت الطاعة وربّ ذنب أدخل صاحبة الجنّة كما ورد في الحديث
فهذه كلّها هي الإختبارات والمراحل التي أوجب عليك سلوكها لتعلم ثمن المهر الذي ستدفعه وغلاءه كيف لا وأنت تريد الوصول إلى حضرة ملك الملوك الأوّل بلا بداية والآخر بلا نهاية
فالإخلاص من نفس معدن نيّتك والنيّة لها طريق واحد ووجهة واحدة ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله )الحقيقة الإلهية والحقيقة المحمدية فلا تصحّ الثانية بغير الأولى وهذا مقام البقاء بالله تعالى فلا نقول البقاء بمحمّد فافهم
ثمّ إن الأدوية التي عند الورّاث المحمّديين هي العلاج لجلب الإخلاص وبعدها يتغيّر العلاج بحسب المقام
والعارفون يتنافسون في هذا أيّهم أقرب وليس هناك وسيلة إلى الله تعالى أقرب من وسيلة الإخلاص
فهذه نقاط متبعثرة تفي بالمقصود إن شاء الله تعالى لمن تدبّر وفهم
وأزيدك هذه الخلاصة من شرحي على الحكم :
- الأعمال في ظاهرها قائمة صورها برسم العلم , وقيام نوره بوجود سرّ الإخلاص في باطنها
- إنّما أمرك بالإخلاص لأنّه جوادك في السير إليه , ومتى كوشفت بسرّه أزال لك الحجاب بين يديه
- أراد منك الإخلاص في أعمالك كلّها , ليقطع نظرك عن ملاحظة الأكوان , ويغيبك في سرّه في مقام العيان
- أمرك بالإخلاص ليديم عليك مراقبته , وبوجود سرّه آنسك في مشاهدته , سرّ الإخلاص( أن تعبد الله كأنّك تراه ) والإخلاص ( فإن لم تكن تراه فإنّه يراك )
- تحقّقك بالإخلاص سلوك منك في أنوار صفاته , وتحقّقك بسرّه عروج منك الى حضرة ذاته
- قيام العارف بالأعمال في رسم العلم بقاء , ووجود سرّ إخلاصه فيها فناء , فكلّما تحقّق سرّ إخلاصك في فنائك , أرجعك في حلية العلم به الى عالم بقائك
- ما أمرك بالإخلاص في أعمالك إلا ليسري نور توحيده فيها , فلا تدلّك إلا عليه , ولا ترتضي لك مقاما غير الوقوف بين يديه ( إنّما يتقبّل الله من المحسنين )
- متى رزقك سرّ الإخلاص أسرع بك عملك إليه , ومتى منعك كبا بك جواده
- متى شهدت إخلاصك بأنه منك صدر صارت نسبة الأعمال إليك , فأنخسف قمر توحيدك , وظهرت دعاوي تجريدك
- متى خلا عملك من وجود سرّ الإخلاص فيه صار إعتمادك عليه , فأوجبت عليه حقوقا , وهو لا يجب عليه شيء
- لولا حصول فضله بوجود سرّ الإخلاص لما وصل سالك إليه , ولا تحقق عارف بمعرفته بين يديه
- الإخلاص متى نسبته إليك كان من جملة أعمالك فلا يدلّك فيها إلا على الحظوظ , ومتى نسبته إليه كانت أعمالك من جملته فلا يدلّك فيها إلا على مقام الشهود
-لا يتحقّق بمعاني الإخلاص إلا من صحّح الفقر إليه , ولا يشرق سرّه إلا لمن إعترف بالعجز بين يديه , ( إيّاك نعبد )فقر إليه ( وإيّاك نستعين )عجز بين يديه
- شهودك لإخلاصك من غير عمل , دعوى لظهوره في غير محلّ , فكثر عنادك , وظهر إلحادك
- إنّما جعل لك الأعمال ظاهرة في رسوم العلم , و جعل باطنها في أنوار الفهم , كي لا تخرج عن وصف عبوديتك , وتتجاوز أحكام هويّتك
- متى أجاز لك الرخصة في الأعمال فمن حيث ظاهر بشريتك , لا من حيث باطن حقيقتك , فالعزائم لا تنفكّ عنك في أعمالك القلبية , وشؤونك الغيبية ( السابقون السابقون أؤلائك المقرّبون )
- الأعمال لا تفارقها النيّة لذا جعلها محلاّ لوجود الإخلاص , كي يرافقك وجوده في جميع أعمالك , فلا تسير بك إلا إليه , ولا تزيغ بك دون الوقوف بين يديه
- إخلاص العارف قطع نظره عن جملة الأكوان , والغيبة بسرّه عن نفسه في مقام الإحسان
- السالك متى رجع الى شهود إخلاصه عوقب بوجود طلب الأعواض , ونودي عليه بلسان البعاد ( فنادى في الظلمات سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين )
- أعلمك بتخليصه لك على لسان محلّ الغواية , كي يدلّك على نسبة إخلاصك إليه , فتبرأ منه بين يديه , وإلا فمتى أوكله إليك , حلّت فتن الغواية عليك ( لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )
- ( قل إعملوا فسيرى الله عملكم )من حيث وجود سرّ الإخلاص فيه ( ورسوله )من حيث نور العلم بالإتّباع فيه ( والمؤمنون ) من حيث الدلالة عليه , والوقوف بهم بين يديه
- ما تحقّق دالّ عليه وموصل إليه بسرّ الإخلاص إلا ونادت حقيقته ( ما أسألكم عليه من أجر )من كثرة تحقّقه في مراقي أنوار صفاته , وشهود منّته بزوال حجاب ذاته
ذكرتم سيدي فيما سبق ( القاعد في الطريق المستقيم فكلّ مارّ منه لا بدّ أن يكون له نيّة الإخلاص لله وإلا إستزلّه الشيطان ) هذه قاعدة خطيرة جدا والسؤال هو :
كيف يكون الفقير مخلصا وقد اجتمعت عليه نفسه والشيطان والهوى وحب الدنيا , فما يجلب للعبد الاخلاص وماذا يفعل ان كان يشكو قلت الاخلاص اصلا ؟
الجواب واالله اعلم :-
سيدي الفاضل : إكتساب الفضائل وإجتناب الرذائل يتحقّق بالتربية والتزكية فإنّ الله تعالى ما ترك عباده من غير رعايته لهم بل تعاهدهم ولا يزال يتعاهدهم : تعاهدهم بقوله : (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
فأعطاهم العقل وأمدّهم بالحواس الظاهرة والباطنة ثمّ أكرمهم ببعثة الأنبياء والرسل وبتنزيل الكتب ( خلق الإنسان علّمه البيان ) ( إقرأ وربّك الأكرم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم )
قال تعالى ( ولقد آتاكم من كلّ ما سألتموه )أي قبل السؤال وحين السؤال وبعد السؤال فلم يترك عباده هملا ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى )في المعنيين ( الظاهر والباطن )
فالله تعالى إنّما سلّط الشيطان على بني آدم ليوحشهم إليه كما ذكر هذا في الحكمة سيدي بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه أي لتفرّ منه وتحتمي بعالم النور فالسير لا يتحقّق إلا بمنازلة جنود النور لجنود الظلام وكذلك النفس فما سلّطها على الإنسان إلا ليفنى عنها في حضرة الرحمان فيفرّ منه ( ففرّوا إلى الله )قال في الحكمة : ( لو لا ميادين النفوس ما تحقّق سير السائرين )وسلّط على العبد محبّة الدنيا ليفرّ منها إلى الآخرة فيتحقّق سيره ( نعمت الدنيا مطيّة المؤمن ...)كما ورد في الحديث أمّا تسليط الهوى فليعلّمك كيف تفطم نفسك عنه في جميع المراتب وحتى ولو كنت عارفا بالله تعالى فلا تميل إلى مقامات ولا أحوال ولا علوم ولا معارف ولا حكم ولا رئاسة ولا لأيّة خصوصية ظاهرة أو باطنة هذا المقام الأعلى أمّا المقام الأدنى فلا تميلوا كلّ الميل ولا بدّ مع هذا من العدل ذلك المقام الذي هو لا يكون إلا عند مشائخ التصريف فمشائخ التصريف هم أهل العدل والإحسان
فما سلّط الله على الإنسان الشيطان والدنيا والنفس والهوى إلا ليسري إليه ويفرّ منها إليه وهذه هي حكمتها
وهذا يعطينا مشهد الحكمة على إطلاقه :فالحكمة الألهية مراتب للوصول إليه , أمّا مشهد العلم للقيام بحقّ الأدب بين يديه , والعلم والحكمة أخوان شقيقان وصديقان حميمان
فالإخلاص سيدي :هو التوحيد بمفهومه التام لذا سمّيت سورة ( قل هو الله احد )بسورة الإخلاص
أمّا ضدّ الإخلاص :فهو الشرك , فالكون وما حواه متى نظر إليه بقلبه ميلا أو إعتقادا أو محبّة ففيه شبهة الشرك بالله تعالى :
والميل أقصد به أي ميلا مستقلاّ عن الميل إليه بالله تعالى وهذا لا يكون إلا في مقام البقاء حقيقة فنحن نميل إلى أهل الله تعالى ميلا لأنّهم أحباب الله فما ميلنا لهم لنفوسنا وإنما لله تعالى فمن مال إلى الكون بنفسه علويا أو سفليا ففيه بقية من الشرك
لذا جعل علم السلوك والتزكية لنبذ هذا الخيال الذي سنتكلّم عنه في محلّه (وأن عالم الخيال هو هذا الوجود بأسره بنظر النفس )فمتى نظرت النفس إلى هذا الوجود فنظرها باطل فوقعت في عالم الخيال وعالم الخيال هو عالم الباطل .فافهم. أمّا نظر الروح إلى هذا الوجود فهو نظر حقّ لأنّ الروح لا يشاهد إلا الحقّ ( ونفخت فيه من روحي )يعني إشارة
فبالتسليك والتزكية والترقية من مقام إلى مقام يترقّى الإخلاص شيئا فشيئا ويتربّى شيئا فشيئا
والإخلاص سيدي : هو أصل جميع المقامات فلا يصحّ مقام من المقامات أو حال من الأحوال إلا به فتتربّى جميع المقامات بمدد الإخلاص لذا دلّك على هذه الحقيقة لتنال كلّ شيء بأسرع وقت ( وأعبدوا الله مخلصين له الدين )
لذا شمّر الشيوخ رضي الله عنهم سواعدهم في تربية هذا الإخلاص الذي هو سرّ الوجود ومفتاح الشهود فكانت المعركة فيه حامية الوطيس بينهم وبين الشيطان وزوجته النفس لتعرف قوله عليه الصلاة والسلام ( عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )ويقول قائلهم : ( هل للصوفية جهاد )وأقول : ( وهل هناك غيرهم في ساحات الجهاد )فإنّهم يقاتلون أئمّة الكفر وهل هناك إماما في الكفر مثل إبليس ونفس الإنسان
فطريق الفقير أو أقول المؤمن من حيث أنّه مؤمن إلى الإخلاص هو طريق التزكية والتربية وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )
فهذه الآية تشمل درجات الإخلاص الثلاث : الإخلاص في مقام الإسلام , والإخلاص في مقام الإيمان , والإخلاص في مقام الإحسان
فليس إخلاص العامّة كإخلاص الخاصّة وليس إخلاص الخاصّة كإخلاص خاصّة الخاصّة فكيف بإخلاص رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( والإخلاص هو التوحيد )
فالإخلاص يرتقي بحسب مقام الفقير في التوحيد فكلّما حزت مقاما في الإخلاص ناداك المقام الذي بعده فحكمت على نفسك بالشرك في المقام الذي كنت فيه وهكذا إلى أن يقع لك التبرّي من إخلاصك وتتلوا قوله تعالى ( إلا عبادك منهم المخلصين )بفتح اللام
والتبرّي من الإخلاص هو التبرّي من شرك وجودك معه وكلّ المقامات سيدي تصبّ في هذه الحقيقة ولكن لا يتفطّن إليها إلا قليلا من العباد
وبالنسبة للسالك يقع في جملة من الإختبارات في مقام الإسلام والإيمان والإحسان ليمتحن في إخلاصه أي في توحيده الحقّ وتوجّهه الصدق
والإخلاص هو التبرّي من الحول والقوّة فلا تنسب لك شيء ولا تطمع في شيء إلا شيئا أباحه الله لك وما أباح لك في الطمع إلا غفران الذنوب , وغفران الذنوب هو الفناء ( ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر )فتعود وترجع إلى الكنزية
كما قال شيخنا إسماعيل في قصيد له رضي الله عنه :
أبغي ثباتي في شهود بحر الذات *** أغنم أوقاتي رجوعي إلى الكنزية
لذا قال تعالى ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ثمّ إستغفر لذنبك ) أي متى علمت هذا التوحيد إستغفرت من دعواك الوجود معه فتنسب لنفسك صفاته القائمة بذاته فأمسيت مدّعيا للألوهية لأنّ الصفات لا تقوم إلا بالذات فمتى نسبتها إليك فكأنّك إدّعيت أنها صفاتك فقلت بالشريك
فبحر الإخلاص أمره عظيم وخطبه جسيم
فالترقي في الإخلاص هو الترقي في التوحيد ومن عدم إخلاصه فقد عدم توحيده ومن تذكّر أن الإخلاص هو التوحيد وأن عكس الإخلاص هو الشرك بكلّ معانيه الظاهرة كعبادة الأصنام كيفما كان هذا الصنم مادي أو أدبي وبكلّ معانيه الباطنة وهو رؤية النفس وعبادتها كالرياء وغيره فافهم
فالمقامت سيدي هي مقامات إخلاصية بمعنى أنّ كلّ منقبة لا ترى فضلها ولا نورها إلا بمدد الإخلاص ومدد الإخلاص يأتي من قادوس التوحيد والتوحيد يرتقي بحسب فهمك عنه في أسمائه وصفاته أي في أكوانه الظاهرة والباطنة فما خلق الكون إلا لتوحّده فيه فإنّك لا تقدر على مشاهدته من غير حجاب الصفات فخلق لك كلّ شيء لتعرفه فيه فكلّ ما سواه يدلّ عليه وأنت تعرف بأن النفس والهوى والشيطان والدنيا إنما هي أشياء سلّطها عليك ليوحشك بها إليه فتفرّ إليه منها وهذه الأربعة هي الأصول القائم عليها عالم الخيال بأسره فما سلّطها عليك إلا ليدلّك بها على عالم الحقّ بأسره ( ما خلقت هذا باطلا )وبما أنّ الكون بأسره خلقه بالحقّ والشيطان من جملة هذا الخلق والنفس كذلك فافرح لأنّه ما خلق لك الكون إلا بالحقّ ليدلّك على الحقّ
حتى الذنب لولاه لما عرفت الطاعة وربّ ذنب أدخل صاحبة الجنّة كما ورد في الحديث
فهذه كلّها هي الإختبارات والمراحل التي أوجب عليك سلوكها لتعلم ثمن المهر الذي ستدفعه وغلاءه كيف لا وأنت تريد الوصول إلى حضرة ملك الملوك الأوّل بلا بداية والآخر بلا نهاية
فالإخلاص من نفس معدن نيّتك والنيّة لها طريق واحد ووجهة واحدة ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله )الحقيقة الإلهية والحقيقة المحمدية فلا تصحّ الثانية بغير الأولى وهذا مقام البقاء بالله تعالى فلا نقول البقاء بمحمّد فافهم
ثمّ إن الأدوية التي عند الورّاث المحمّديين هي العلاج لجلب الإخلاص وبعدها يتغيّر العلاج بحسب المقام
والعارفون يتنافسون في هذا أيّهم أقرب وليس هناك وسيلة إلى الله تعالى أقرب من وسيلة الإخلاص
فهذه نقاط متبعثرة تفي بالمقصود إن شاء الله تعالى لمن تدبّر وفهم
وأزيدك هذه الخلاصة من شرحي على الحكم :
- الأعمال في ظاهرها قائمة صورها برسم العلم , وقيام نوره بوجود سرّ الإخلاص في باطنها
- إنّما أمرك بالإخلاص لأنّه جوادك في السير إليه , ومتى كوشفت بسرّه أزال لك الحجاب بين يديه
- أراد منك الإخلاص في أعمالك كلّها , ليقطع نظرك عن ملاحظة الأكوان , ويغيبك في سرّه في مقام العيان
- أمرك بالإخلاص ليديم عليك مراقبته , وبوجود سرّه آنسك في مشاهدته , سرّ الإخلاص( أن تعبد الله كأنّك تراه ) والإخلاص ( فإن لم تكن تراه فإنّه يراك )
- تحقّقك بالإخلاص سلوك منك في أنوار صفاته , وتحقّقك بسرّه عروج منك الى حضرة ذاته
- قيام العارف بالأعمال في رسم العلم بقاء , ووجود سرّ إخلاصه فيها فناء , فكلّما تحقّق سرّ إخلاصك في فنائك , أرجعك في حلية العلم به الى عالم بقائك
- ما أمرك بالإخلاص في أعمالك إلا ليسري نور توحيده فيها , فلا تدلّك إلا عليه , ولا ترتضي لك مقاما غير الوقوف بين يديه ( إنّما يتقبّل الله من المحسنين )
- متى رزقك سرّ الإخلاص أسرع بك عملك إليه , ومتى منعك كبا بك جواده
- متى شهدت إخلاصك بأنه منك صدر صارت نسبة الأعمال إليك , فأنخسف قمر توحيدك , وظهرت دعاوي تجريدك
- متى خلا عملك من وجود سرّ الإخلاص فيه صار إعتمادك عليه , فأوجبت عليه حقوقا , وهو لا يجب عليه شيء
- لولا حصول فضله بوجود سرّ الإخلاص لما وصل سالك إليه , ولا تحقق عارف بمعرفته بين يديه
- الإخلاص متى نسبته إليك كان من جملة أعمالك فلا يدلّك فيها إلا على الحظوظ , ومتى نسبته إليه كانت أعمالك من جملته فلا يدلّك فيها إلا على مقام الشهود
-لا يتحقّق بمعاني الإخلاص إلا من صحّح الفقر إليه , ولا يشرق سرّه إلا لمن إعترف بالعجز بين يديه , ( إيّاك نعبد )فقر إليه ( وإيّاك نستعين )عجز بين يديه
- شهودك لإخلاصك من غير عمل , دعوى لظهوره في غير محلّ , فكثر عنادك , وظهر إلحادك
- إنّما جعل لك الأعمال ظاهرة في رسوم العلم , و جعل باطنها في أنوار الفهم , كي لا تخرج عن وصف عبوديتك , وتتجاوز أحكام هويّتك
- متى أجاز لك الرخصة في الأعمال فمن حيث ظاهر بشريتك , لا من حيث باطن حقيقتك , فالعزائم لا تنفكّ عنك في أعمالك القلبية , وشؤونك الغيبية ( السابقون السابقون أؤلائك المقرّبون )
- الأعمال لا تفارقها النيّة لذا جعلها محلاّ لوجود الإخلاص , كي يرافقك وجوده في جميع أعمالك , فلا تسير بك إلا إليه , ولا تزيغ بك دون الوقوف بين يديه
- إخلاص العارف قطع نظره عن جملة الأكوان , والغيبة بسرّه عن نفسه في مقام الإحسان
- السالك متى رجع الى شهود إخلاصه عوقب بوجود طلب الأعواض , ونودي عليه بلسان البعاد ( فنادى في الظلمات سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين )
- أعلمك بتخليصه لك على لسان محلّ الغواية , كي يدلّك على نسبة إخلاصك إليه , فتبرأ منه بين يديه , وإلا فمتى أوكله إليك , حلّت فتن الغواية عليك ( لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )
- ( قل إعملوا فسيرى الله عملكم )من حيث وجود سرّ الإخلاص فيه ( ورسوله )من حيث نور العلم بالإتّباع فيه ( والمؤمنون ) من حيث الدلالة عليه , والوقوف بهم بين يديه
- ما تحقّق دالّ عليه وموصل إليه بسرّ الإخلاص إلا ونادت حقيقته ( ما أسألكم عليه من أجر )من كثرة تحقّقه في مراقي أنوار صفاته , وشهود منّته بزوال حجاب ذاته
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال الثامن عشر :
ذكرتم أخي الحبيب فيما سبق ( فالشيطان يستعمل الأرواح السفلية الشيطانية في قضاء أغراضه والأولياء يستعملون الأرواح النورانية العلوية في قضاء حاجاتهم وهذا العلم عند الأولياء يسمّى علم الحروف ) والسؤال هو :
ما هي الأرواح السفلية و ما هي الأرواح العلوية ؟ وما المقصود بكلمة الروحانيات التي نسمعها دائما وخصوصا حين يقال شخص روحاني ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
طبعا فإنّ لكلّ عدوّ من الشياطين أعوان من جنسه , وجنس الشياطين هو الأرواح السفلية الكافرة , والتي تكون روحانيتها نارية من نفس جنس تركيبة الشيطان وهذه الصورة النارية إنّما إنفعلت في صورتها بحسب الأمراض المعنوية المنطبعة بحقيقة صاحبها فإنّ لكلّ جنس أعوان وجنود فنقول في الأرواح السفلية جنود إبليس وهذا ما يتعلّق بعلم السحر والطلسمات قال عليه الصلاة والسلام : ( من سحر فقد كفر )والساحر كافر بدليل القرآن والسنّة وحكمه في الشريعة القتل لتخليص الناس من شرّه وفي هذا تقع المعونة بين الإنس والجنّ فيستخدم بعضهم بعضا قال تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر )فانظر قوله يعلّمون النّاس أي الإنس يتعلّمون من الشياطين السحر فلا يكون هذا التعليم إلا بالتتلمذ له فيكون شيخ تعليمهم في ذلك وهذا لا يكون من غير ملاقاة ومشافهة وهو الأغلب وهذه الملاقاة لا يمكن للإنسان الوصول إليها إلا عند جاهزيته لذلك فيكون الشيطان متلبّسا بالإنسان فيستخدم أعوانه من الشياطين في تنفيذ الأوامر لهذا الساحر فينفث سمومه النارية بعلومه الإبليسية بمدد أمراضه النفسية وتفصيل هذا في الكتب الصفراء التي يحرّم بيعها ويقتل مستعملها وقد توعّد الله تعالى من فعل ذلك بالخسران المبين في الدنيا والآخرة وهذه الأمور لا يجوز قطعا الخوض فيها فإنّها مهلكة وتستهوي طوائف من الناس لغلبة الأمراض النفسية عليهم كالحسد والحقد والعين , فإذا أردت أن تعرف ما معنى إبليس فإرجع إلى قول الله تعالى فيه ( إن إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه )ولو لا أنّه أخبرنا أنّه من الجنّ لما عرفنا حقيقته فالمعركة فيما بين آدم وذريّته وبين إبليس وذرّيته وهو وذريته من الجنّ , فالجنّ له خوارق وقدرات تخرج عن طور الجسمانية المادية من حيث القوّة والسرعة والخفاء والسريان والدهاء والمكر والتلبيس لذا ورد في الآيات بأنّ بعض الناس يعبدون الجنّ لما رأوا منهم من الخوارق والتلبيسات التي لم يهتدوا إليها
وهذه الأرواح السفلية لها علوم هي علوم السحر وهذه العلوم تنفّذ بسريان كبير متى كانت همّة تلك الروح بلغت درجة عالية من الدناءة فمثلا الحسود متى أعجبه شيئا منك وحسدك عليه فتمنّى زواله نظر إليك نظرته الشيطانية فينفث الشيطان سموم نارة في الوقت فتخترق تلك النار قوّة العالم المادي فينفعل له بالفواجع والمصائب لذا حذر رسول الله صلى اله عليه وسلّم من ذلك وقال : لما يقتل أحدكم أخاه وقد ورد في الخبر : لو كان شيئا سابق القدر لكانت العين أي عين الحسود لأنّ للنفس قوى خفيّة ناجمة عن أمراضها والمرض ناجم عن قلّة التوحيد ومعرفة ما عليه الخالق من صفات سنيّة كالكرم والجود والفضل والعطاء والشيطان يعرف كلّ ذلك في النفس فيقوم بتغذيته لذا فلا يختار إلا جنوده وأعوانه لذا من دخل هذا الطريق ومعدنه غير جيّد صديد في صديد فإنّ مآله إلى السحر وإستخدام الأرواح الشيطانية السفلية وقد سحرت تلك اليهودية رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فكلّ هذا وغيره ليس من طريق الله في شيء بل هو الكفر الصريح البواح الذي لا تأويل فيه وقد وقع جملة من الدواهي في بعض المتمصوفين ودخلوا مع الشياطين اليد في اليد فأصبحوا يبحثون عن الكنوز والمال بحجج واهية سيسألهم عنها الله تعالى يوم القيامة وما وجدت شيئا يفسد على المريدين سلوكهم وسيرهم لمحبّة ربّهم والجلوس في مجالس التقوى إلا محبّة الدنيا والمال والجاه والحكم والإستعلاء والكبرياء ثمّ إنّ الجهل والظلم في الجنّ كثير والتعصّب أشهر فيهم من نار على علم قال شيخنا إسماعيل فيمن سمع عنه أنّه يخالط الجنّ ويعتقد في علاجهم ( الله يعطيه جنّ يخبطه )ومرّة قال لي فقير من فقراء بعض المشائخ ( قال لي جنّ في أذني بأنّ شيخنا قطب الوجود )
ومرّة أخرى كنت أقيم درسا دينيا في أحد المساجد وكان هناك شيخ كبيرا مجانب لحلقتنا يسمع ما يقوله المجتمعون وبعد الدرس قال لي : يا فلان أنت تتكلّم عن الدين وعن العلم فأنا ممّن تحدّثه الملائكة ) فسكتّ وما رددت عليه إلا بالحسنى وفي اليوم التالي كنّا في نفس الحلقة وقد إستهواه كلام الإخوة لأنّه كلام في ترقيق القلوب الجامدة فإقترحت أن يكون الدرس بخصوص عالم الشياطين وفعلها بالإنسان فوافق الجماعة إسعافا منهم ثمّ بدأ الكلام وهذا الشيخ يسمع بإنتباه شديد وكان مجانبا لحلقتنا كعادته بإعتبار أنّ الملائكة تحدّثه في أذنه وتبشّره بمقامات هائلة وبعد الدرس جاء هذا الشيخ فهمس في أذني من دون الجماعة : ( يا هذا الذي يحدّثني هو جنّ وليس بملائكة فقد أقنعني كلامك بعد هذا الإيضاح )فما قلت له إلا خيرا وبعد مدّة أصبح يرتاد مجلسنا كأحدنا وكان كلّ مرّة يتحرّك بحركة غريبة فعرفنا كلّنا أنّه ممسوس من الشيطان وبدأ الشيطان يظهر نفسه , وبالخلاصة أخذناه بعد مدّة إلى شيخ له خبرة ودراية فقرأ عليه الرقية الشرعية فوجدناه ملبوسا بجنّ يهودي إسمه دافيد مع خمسة من أعوانه ثمّ صار ما صار فيما بينه وبين ذلك الشيخ فقد أتعبوه كثيرا لوجود سحر قديم عسر علاجه على الشيخ كثرا
وإنّما أردت الإشارة بهذه القصّة أنّ السحر داهية من الدواهي وأقرب الناس لفهم علوم السحر هم الذين يذكرون الله تعالى ويختلون في ذلك للإتّصال بعالم الجنّ والشياطين
فهذه أوراق أقصد منها تبغيض هذا العالم الظلماني لأنفسنا وهذا العلم الذي أصبح الناس الآن يفتخرون به وأصبحت هناك مدارس يسمونها مدارس الروحانيات كالأبراج وعلم الغيب والإستقصاء بالأزلام وقد أوصد هذا الباب وأغلقه النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله ( كذب المنجمون ولو صدقوا )وقوله الخطير ( من أتى عرّافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد )فلا تقبل له صلاة ولا عبادة وإعلموا بأنّه ليس كلّ ما يقوله الوهابيون خطأ بل والله فيه الكثير من الصواب من حيث هذه الناحية أي ناحية السحر والجنّ والكتب الصفراء وما يتبع ذلك وقد تفشّى هذا الأمر كثيرا في الأفارقة السود وكذلك في بعض المغاربة وكلّ بلد فيها هذا إلا من رحم الله تعالى وحبّ الدنيا يفعل العجائب والغرائب والداهية العظمى أنّه هناك من الرؤساء وأصحاب الرتب العلمية من يعتقدون هذا وقد ذهب الرئيس الفرنسي جاك شيراك وكذلك خليفته ساركوزي إلى مدينة توزر في الجنوب الغربي التونسي عند عرّافة مشهورة عند الرؤساء يلتمسون بركاتها كي تعاونهم على بلوغ مقاصدهم
هذا بإختصار وهناك من أهل العلم في هذا الشأن من لهم دراية أكثر منّي بكثير في ذلك كسلاطين الجنّ من الإنس ومن دار في فلكهم ممّن إتّبع عالم الروحانيات
فالعالم الروحاني هو هذا العالم وفيه الروح المسلمة وهي لا تسمّى أرواح سفلية وهم الجنّ المؤمن وفيه الروح الخبيثة وهم الجنّ الكافر ( الشياطين )كالجنّ اليهودي الذين هم أئمّة هذا الكفر وما تراه في إسرائيل من هذا الكفر شيء كبير وقد حضر إبليس مع جنوده في معركة بدر الكبرى فإستعان الكفّار بالأرواح السفلية ثم إن الله تعالى أمدّ المؤمنين بالملائكة فكان النصر حليفهم فكلّ له أعوانه
والعالم الروحاني ليس هو العالم الربّاني فبينهما فرق كبير وقد يخطىء البعض في التفريق بينهما
فالصوفية عالمهم ربّاني وهذا هو الدين والشريعة والتحقيق
أمّا العالم الروحاني فهو عوالم الأرواح اللطيفة من الجنّ
وهنا يقع تلبيس كبير عند عامّة الناس فلا يفرّقون بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمان
هذا ما كتبه القلم فأرجو أن أكون وفّقت في ذلك بقدر الإمكان في هذا الجانب
أمّا العالم العلوي :
فإسمه يدلّ على مسمّاه وهي كلّ روح مؤمنة بالله تعالى مستقيمة لا تفعل الحرام بشكل من الأشكال بل تحاربه وتكون عدّوه
ثمّ إنّ المؤمنين متى أرادوا أن يستعينوا في قضاء حوائجهم بجند النور فإنّهم يتوجّهون إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم العامّة والخاصّة فيمدّه سبحانه بجنود لم يروها ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فقد يغيثك بلا سبب تراه أو تشعر به (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)لأنّ الله تعالى أمره بين الكاف والنّون , وقد يمدّك بسبب من الأسباب فإن جند الله يصرفهم في خدمة المؤمنين كما صرف الخضر في خدمة المساكين والأيتام والعجّز بأمر الله تعالى وبقوّته سبحانه وكذلك فقد أعطى سبحانه للمخلصين من عباده أسرارا وأنوارا يصرفونها متى شاء الله تعالى في أوجه الخير لأمره إياهم بفعل الخير ظاهرا وباطنا ( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )وهم يختلفون في هذا على قدر تحقّق عجزهم لأنّه من تحقّق بالعجز ظاهرا وباطنا أمدّه الله بقوّته وكلّ هذا يدخل في ما أكرمهم به من كرامات كصاحب سليمان الذي أتى بعرش بلقيس في طرفة العين لأنّ الله تعالى أمدّه بأسرار قوّته سبحانه والمؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف ظاهرا وباطنا كطالوت الملك ( وزاده بسطة في العلم والجسم )من حضرة المزيد( وعندنا مزيد )ومن هنا تصرّف الأولياء بقوّة الله تعالى لدفع الشرّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي ... فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه )فهذه قوّة خارقة وإلا من يحسن أن يربط عفريتا من الجنّ والله تعالى يقول في قوّة الجنّ : ( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً )أنظر قوله كأنّها جان ومقدرة العفاريت بلغت مبلغا لا يستهان به قال تعالى ( قال عفريت من الجن انا اتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين )فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يربط ذلك العفريت من الجنّ ويظهره بصورته حتى يراه الناس فهذا وغيره من قوّة الله تعالى التي جعلها لكلّ من يطيعه خالصا مخلصا وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا الفضل الإلهي ذاكرا الدجّال وفتنته :
( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ) لأنّها سنحتمي برسول الله لذا قال : ( فأنا حجيجه دونكم )فيتولّى بنفسه صلى الله عليه وسلّم مبارزته فما ذكر عيسى عليه السلام هنا ولا المهدي لتعلم من هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فهذه القوّة الربانية ليست مكتسبة بل هي موهوبة من عند الله لعباده المخلصين الذين قال فيهم ( يريدون وجهه )فتحقّقوا بحقائق التوحيد فكانت قوّتهم بالله تعالى ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى )وقوله تعالى في الحديث القدسي : ( ...وكنت يده التي يبطش بها والبطش هو التصرّف )لذا قال ولئن سألني لأعطينّه بالتوكيدين اللام والنون ولإن إستعاذني لأعيذنّه بنفس الحقيقة والجملة لتعلم حفظ الله تعالى لعباده الصالحين قال شيخنا سيدي فتحي السلامي القيرواني رضي الله عنه :لمّا آذنني شيخي بالتسليك والإرشاد دعا لي بدعوات منها : ( حفظك الله بما حفظ به عباده الصالحين )وكما قيل المأذون مأمون ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجا )قال تعالى في قتال المؤمنين للكفار وأعوانهم من العالم السفلي : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ )فالقوّة التي هي العذاب من الله وما العبد إلا آلة عاجزة يعطيها الله تعالى من قوّته ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )
فليس للعبد في الحقيقة والشريعة قوّة مستقلّة عن قوّة الله فكلّ من نسب النفع والضرّ لغير الله إستقلالا فهو مشرك شركا أكبر مخرجا من الملّة وغاية الأمر أنّ الله تعالى قد يرزق بعض عباده في بعض الأوقات بعض الكرامات وليس في كلّ الأوقات وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بعض الأحيان يشبع صحابته كلّهم من صاع شعير وفي بعض الأحيان يشدّ بطنه من الجوع لأنّ الأمر في كلّ ذلك إلى الله تعالى فكلّ من يدّعي المقدرة والنفع والضرّ فأحذره فهو شيطان لأنّ الذي يدّعي المقدرة هي الأرواح السفلية أي الشيطان لذاك قال ( لأغوينّهم أجمعين )وكأنّه الفاعل المختار وقال : (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين )فنسب إلى نفسه الإتيان والقوّة والفعل والغواية والضلالة فهذه أقوال من هم على قدم إبليس فهذا الذي يتألّى على الله تعالى فيوهم الخلق بأنّه يفعل ويستطيع والله تعالى يقول : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) فقال الجنّ والإنس بأل التعريف إستغراقا للجنس فيدخل كلّ أحد من العباد ولو كانوا أنبياءا ورسلا فالعبد الصادق لا يدّعي نفعا ولا ضرّا قطعا وهو جازم في ذلك بعقيدة راسخة لا تتبدّل ولا تتحوّل وإلا سلب وطرد ولعن فإدعى مثل إبليس ما لا يجوز له وما العبد إلا عبد ضعيف فقير لا يقدر على شيء إلا بإذن الله متى شاء وأراد فلم يبق سبيل أمام الخلق بإسرهم غير الدعاء الذي هو مخّ العبادة وقد قال : ( أدعوني أستجب لكم )فما ترك لك حجّة غير حجّة الدعاء فهذا الأصل وهذا لا ينفي التوسّل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وبدعاء الصالح من نبيّ ووليّ وبجاههم وأسرارهم ومحابهم لله تعالى فهذا لا ينافي الدعاء بل هو وسيلة للإسراع في الإستجابة لا على ما يقوله الوهابيون في ذلك فإن التفصيل عندههم معدوم وترتيب المراتب مفقود وليس لهم حظّ في علوم الحقيقة .
فعلوم القوم إنّما منحت لهم لتقرّبهم من الله تعالى ( وإتقوا الله ويعلّمكم الله )ومن جملة العلوم علوم أسرار أسماء الله تعالى فهذا علم نوراني وهو من أسرار الله تعالى لا يعطاه إلإ أمين ولا يجوز صرفه لغير أمين شهدت العدول بأمانته فمن خالفه سلبه في الوقت كما حكى سيدي عبد العزيز الدبّاغ رضي الله عنه كما في الإبريز عن ذلك الولي الذي سلبه أحد الأولياء ما كان معه من التصريف لمّا تصرّف في سفينة الكفّار فأحرقها وإشتعلت فيها النيران من غير سبب ظاهر , فعوقب في ذلك لأنّه لا يجوز وإلاّ فهذا جبريل قادر على قلب الأرض بأسرها وقتل الكفّار جميعهم في لحظة بما آتاه الله من قوّة لكن تصريفه عليه السلام لا يكون إلا بإذن الله تعالى وكذلك لكلّ من له سرّ مع الله تعالى لأنّ السرّ هو أمانة لا يجوز إظهارها ولا التصرّف فيها إلا بإذن صاحبها لذا ترك جملة هائلة من الأولياء مقام التصريف وقالوا :( تركنا الله تعالى يتصرّف لنا ) وسنكتب إن شاء الله تعالى بسطة في ذكر تفاصيل هذا متى سنحت الفرصة
ثمّ إنّ العبد إنّما أكرمه الله تعالى بتلك الكرامات نتيجة تقواه ومحبّته لله ولرسوله وللمؤمنين ولم ينلها بعلم عنده كما قال قارون ناسبا لنفسه الغنى وحيلة إكتساب المال قال تعالى :
( قال إنما أوتيته على علم عندي )فهذا الفرق بين الأولياء وبين غيرهم
فالوليّ أضعف ما يكون وأعجز ما يكون وأفقر ما يكون إلا أنّهم يلتجئون في هذا متى مسّهم الضرّ إلى الله تعالى ( رب اني قد مسني الضر وانت ارحم الراحمين )
قال تعالى في أهل بدر ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ )
لأنّ العبد متى أحسّ بعجزه وفقره وضعفه إستلزمه ذلك التوجّه إلى الله تعالى بإخلاص وصدق وتبتّل وتمريغ الوجه في التراب فإن إستجابة الله تعالى أقرب للإنسان من حبل الوريد وهو الفعّال لما يريد : ( فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) --(والله يجيب دعوة الداعي إذا دعان )
فهذا العالم العلوي والأرواح العلوية لا يتسرّب إليه الشرك ولا الحرام ولا الشعوذة ولا البيع والشراء فيه بل هو من أمر الله تعالى وغاية الوليّ أنّك متى أكرمته أو أحببته أكرمك الله واحبّك وقضى حاجتك ببركة ذلك الوليّ لأنّهم القوم لا يشقى بهم جليسهم والله يكرم من يكرم أحبابه ويحبّ من يحبّ أولياءه وقد قال تعالى في الحديث القدسي : ( وجبت محبّتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ ) هذا وإن الله تعالى يحبّ المحسنين ويحبّ من يقضي حاجة أخيه سواء أكانت دنيوية أم معنوية ( والله في عون العبد ما كان العون في عون أخيه )فمن هذا الباب أحكم الأولياء التقوى وفتحوا باب القربى فمن كان له مال واسى إخوانه فأعطى المعدوم وكفل اليتيم وجاد على المسكين , ومن كان له أيّة منحة إلهية أو خصوصيّة أنفق منها فعاون الفقير ونصر الضعيف وأقام العدل حسب الإمكان والقدرة
ثمّ إنّ علوم الأخيار من الخصوصيات لقضاء الحاجات هي منحة ربّانية على خلقه كما فعل الخضر عليه السلام نصرة للحقّ ومعاونة الضعيف فهي من الرحمة الإلهية وهؤلاء القوم هم أهل الرحمة فتشاهد مظاهر الرحمة في حركاتهم وسكناتهم وما نشأ الصوفية إلا رحمة للخلق ( والراحمون يرحمهم الرحمان ) ( إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )
( محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم )ويكفي أنّه عليه الصلاة والسلام قال ( إنما أنا رحمة مهداة )
وقال تعالى ذاكر هذه الحقيقة التامّة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )
والله أعلم سيدي
وبالله التوفيق
ذكرتم أخي الحبيب فيما سبق ( فالشيطان يستعمل الأرواح السفلية الشيطانية في قضاء أغراضه والأولياء يستعملون الأرواح النورانية العلوية في قضاء حاجاتهم وهذا العلم عند الأولياء يسمّى علم الحروف ) والسؤال هو :
ما هي الأرواح السفلية و ما هي الأرواح العلوية ؟ وما المقصود بكلمة الروحانيات التي نسمعها دائما وخصوصا حين يقال شخص روحاني ؟
الجواب والله ورسوله أعلم :
طبعا فإنّ لكلّ عدوّ من الشياطين أعوان من جنسه , وجنس الشياطين هو الأرواح السفلية الكافرة , والتي تكون روحانيتها نارية من نفس جنس تركيبة الشيطان وهذه الصورة النارية إنّما إنفعلت في صورتها بحسب الأمراض المعنوية المنطبعة بحقيقة صاحبها فإنّ لكلّ جنس أعوان وجنود فنقول في الأرواح السفلية جنود إبليس وهذا ما يتعلّق بعلم السحر والطلسمات قال عليه الصلاة والسلام : ( من سحر فقد كفر )والساحر كافر بدليل القرآن والسنّة وحكمه في الشريعة القتل لتخليص الناس من شرّه وفي هذا تقع المعونة بين الإنس والجنّ فيستخدم بعضهم بعضا قال تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر )فانظر قوله يعلّمون النّاس أي الإنس يتعلّمون من الشياطين السحر فلا يكون هذا التعليم إلا بالتتلمذ له فيكون شيخ تعليمهم في ذلك وهذا لا يكون من غير ملاقاة ومشافهة وهو الأغلب وهذه الملاقاة لا يمكن للإنسان الوصول إليها إلا عند جاهزيته لذلك فيكون الشيطان متلبّسا بالإنسان فيستخدم أعوانه من الشياطين في تنفيذ الأوامر لهذا الساحر فينفث سمومه النارية بعلومه الإبليسية بمدد أمراضه النفسية وتفصيل هذا في الكتب الصفراء التي يحرّم بيعها ويقتل مستعملها وقد توعّد الله تعالى من فعل ذلك بالخسران المبين في الدنيا والآخرة وهذه الأمور لا يجوز قطعا الخوض فيها فإنّها مهلكة وتستهوي طوائف من الناس لغلبة الأمراض النفسية عليهم كالحسد والحقد والعين , فإذا أردت أن تعرف ما معنى إبليس فإرجع إلى قول الله تعالى فيه ( إن إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه )ولو لا أنّه أخبرنا أنّه من الجنّ لما عرفنا حقيقته فالمعركة فيما بين آدم وذريّته وبين إبليس وذرّيته وهو وذريته من الجنّ , فالجنّ له خوارق وقدرات تخرج عن طور الجسمانية المادية من حيث القوّة والسرعة والخفاء والسريان والدهاء والمكر والتلبيس لذا ورد في الآيات بأنّ بعض الناس يعبدون الجنّ لما رأوا منهم من الخوارق والتلبيسات التي لم يهتدوا إليها
وهذه الأرواح السفلية لها علوم هي علوم السحر وهذه العلوم تنفّذ بسريان كبير متى كانت همّة تلك الروح بلغت درجة عالية من الدناءة فمثلا الحسود متى أعجبه شيئا منك وحسدك عليه فتمنّى زواله نظر إليك نظرته الشيطانية فينفث الشيطان سموم نارة في الوقت فتخترق تلك النار قوّة العالم المادي فينفعل له بالفواجع والمصائب لذا حذر رسول الله صلى اله عليه وسلّم من ذلك وقال : لما يقتل أحدكم أخاه وقد ورد في الخبر : لو كان شيئا سابق القدر لكانت العين أي عين الحسود لأنّ للنفس قوى خفيّة ناجمة عن أمراضها والمرض ناجم عن قلّة التوحيد ومعرفة ما عليه الخالق من صفات سنيّة كالكرم والجود والفضل والعطاء والشيطان يعرف كلّ ذلك في النفس فيقوم بتغذيته لذا فلا يختار إلا جنوده وأعوانه لذا من دخل هذا الطريق ومعدنه غير جيّد صديد في صديد فإنّ مآله إلى السحر وإستخدام الأرواح الشيطانية السفلية وقد سحرت تلك اليهودية رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فكلّ هذا وغيره ليس من طريق الله في شيء بل هو الكفر الصريح البواح الذي لا تأويل فيه وقد وقع جملة من الدواهي في بعض المتمصوفين ودخلوا مع الشياطين اليد في اليد فأصبحوا يبحثون عن الكنوز والمال بحجج واهية سيسألهم عنها الله تعالى يوم القيامة وما وجدت شيئا يفسد على المريدين سلوكهم وسيرهم لمحبّة ربّهم والجلوس في مجالس التقوى إلا محبّة الدنيا والمال والجاه والحكم والإستعلاء والكبرياء ثمّ إنّ الجهل والظلم في الجنّ كثير والتعصّب أشهر فيهم من نار على علم قال شيخنا إسماعيل فيمن سمع عنه أنّه يخالط الجنّ ويعتقد في علاجهم ( الله يعطيه جنّ يخبطه )ومرّة قال لي فقير من فقراء بعض المشائخ ( قال لي جنّ في أذني بأنّ شيخنا قطب الوجود )
ومرّة أخرى كنت أقيم درسا دينيا في أحد المساجد وكان هناك شيخ كبيرا مجانب لحلقتنا يسمع ما يقوله المجتمعون وبعد الدرس قال لي : يا فلان أنت تتكلّم عن الدين وعن العلم فأنا ممّن تحدّثه الملائكة ) فسكتّ وما رددت عليه إلا بالحسنى وفي اليوم التالي كنّا في نفس الحلقة وقد إستهواه كلام الإخوة لأنّه كلام في ترقيق القلوب الجامدة فإقترحت أن يكون الدرس بخصوص عالم الشياطين وفعلها بالإنسان فوافق الجماعة إسعافا منهم ثمّ بدأ الكلام وهذا الشيخ يسمع بإنتباه شديد وكان مجانبا لحلقتنا كعادته بإعتبار أنّ الملائكة تحدّثه في أذنه وتبشّره بمقامات هائلة وبعد الدرس جاء هذا الشيخ فهمس في أذني من دون الجماعة : ( يا هذا الذي يحدّثني هو جنّ وليس بملائكة فقد أقنعني كلامك بعد هذا الإيضاح )فما قلت له إلا خيرا وبعد مدّة أصبح يرتاد مجلسنا كأحدنا وكان كلّ مرّة يتحرّك بحركة غريبة فعرفنا كلّنا أنّه ممسوس من الشيطان وبدأ الشيطان يظهر نفسه , وبالخلاصة أخذناه بعد مدّة إلى شيخ له خبرة ودراية فقرأ عليه الرقية الشرعية فوجدناه ملبوسا بجنّ يهودي إسمه دافيد مع خمسة من أعوانه ثمّ صار ما صار فيما بينه وبين ذلك الشيخ فقد أتعبوه كثيرا لوجود سحر قديم عسر علاجه على الشيخ كثرا
وإنّما أردت الإشارة بهذه القصّة أنّ السحر داهية من الدواهي وأقرب الناس لفهم علوم السحر هم الذين يذكرون الله تعالى ويختلون في ذلك للإتّصال بعالم الجنّ والشياطين
فهذه أوراق أقصد منها تبغيض هذا العالم الظلماني لأنفسنا وهذا العلم الذي أصبح الناس الآن يفتخرون به وأصبحت هناك مدارس يسمونها مدارس الروحانيات كالأبراج وعلم الغيب والإستقصاء بالأزلام وقد أوصد هذا الباب وأغلقه النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله ( كذب المنجمون ولو صدقوا )وقوله الخطير ( من أتى عرّافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد )فلا تقبل له صلاة ولا عبادة وإعلموا بأنّه ليس كلّ ما يقوله الوهابيون خطأ بل والله فيه الكثير من الصواب من حيث هذه الناحية أي ناحية السحر والجنّ والكتب الصفراء وما يتبع ذلك وقد تفشّى هذا الأمر كثيرا في الأفارقة السود وكذلك في بعض المغاربة وكلّ بلد فيها هذا إلا من رحم الله تعالى وحبّ الدنيا يفعل العجائب والغرائب والداهية العظمى أنّه هناك من الرؤساء وأصحاب الرتب العلمية من يعتقدون هذا وقد ذهب الرئيس الفرنسي جاك شيراك وكذلك خليفته ساركوزي إلى مدينة توزر في الجنوب الغربي التونسي عند عرّافة مشهورة عند الرؤساء يلتمسون بركاتها كي تعاونهم على بلوغ مقاصدهم
هذا بإختصار وهناك من أهل العلم في هذا الشأن من لهم دراية أكثر منّي بكثير في ذلك كسلاطين الجنّ من الإنس ومن دار في فلكهم ممّن إتّبع عالم الروحانيات
فالعالم الروحاني هو هذا العالم وفيه الروح المسلمة وهي لا تسمّى أرواح سفلية وهم الجنّ المؤمن وفيه الروح الخبيثة وهم الجنّ الكافر ( الشياطين )كالجنّ اليهودي الذين هم أئمّة هذا الكفر وما تراه في إسرائيل من هذا الكفر شيء كبير وقد حضر إبليس مع جنوده في معركة بدر الكبرى فإستعان الكفّار بالأرواح السفلية ثم إن الله تعالى أمدّ المؤمنين بالملائكة فكان النصر حليفهم فكلّ له أعوانه
والعالم الروحاني ليس هو العالم الربّاني فبينهما فرق كبير وقد يخطىء البعض في التفريق بينهما
فالصوفية عالمهم ربّاني وهذا هو الدين والشريعة والتحقيق
أمّا العالم الروحاني فهو عوالم الأرواح اللطيفة من الجنّ
وهنا يقع تلبيس كبير عند عامّة الناس فلا يفرّقون بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمان
هذا ما كتبه القلم فأرجو أن أكون وفّقت في ذلك بقدر الإمكان في هذا الجانب
أمّا العالم العلوي :
فإسمه يدلّ على مسمّاه وهي كلّ روح مؤمنة بالله تعالى مستقيمة لا تفعل الحرام بشكل من الأشكال بل تحاربه وتكون عدّوه
ثمّ إنّ المؤمنين متى أرادوا أن يستعينوا في قضاء حوائجهم بجند النور فإنّهم يتوجّهون إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم العامّة والخاصّة فيمدّه سبحانه بجنود لم يروها ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فقد يغيثك بلا سبب تراه أو تشعر به (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)لأنّ الله تعالى أمره بين الكاف والنّون , وقد يمدّك بسبب من الأسباب فإن جند الله يصرفهم في خدمة المؤمنين كما صرف الخضر في خدمة المساكين والأيتام والعجّز بأمر الله تعالى وبقوّته سبحانه وكذلك فقد أعطى سبحانه للمخلصين من عباده أسرارا وأنوارا يصرفونها متى شاء الله تعالى في أوجه الخير لأمره إياهم بفعل الخير ظاهرا وباطنا ( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )وهم يختلفون في هذا على قدر تحقّق عجزهم لأنّه من تحقّق بالعجز ظاهرا وباطنا أمدّه الله بقوّته وكلّ هذا يدخل في ما أكرمهم به من كرامات كصاحب سليمان الذي أتى بعرش بلقيس في طرفة العين لأنّ الله تعالى أمدّه بأسرار قوّته سبحانه والمؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف ظاهرا وباطنا كطالوت الملك ( وزاده بسطة في العلم والجسم )من حضرة المزيد( وعندنا مزيد )ومن هنا تصرّف الأولياء بقوّة الله تعالى لدفع الشرّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي ... فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه )فهذه قوّة خارقة وإلا من يحسن أن يربط عفريتا من الجنّ والله تعالى يقول في قوّة الجنّ : ( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً )أنظر قوله كأنّها جان ومقدرة العفاريت بلغت مبلغا لا يستهان به قال تعالى ( قال عفريت من الجن انا اتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين )فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يربط ذلك العفريت من الجنّ ويظهره بصورته حتى يراه الناس فهذا وغيره من قوّة الله تعالى التي جعلها لكلّ من يطيعه خالصا مخلصا وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا الفضل الإلهي ذاكرا الدجّال وفتنته :
( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ) لأنّها سنحتمي برسول الله لذا قال : ( فأنا حجيجه دونكم )فيتولّى بنفسه صلى الله عليه وسلّم مبارزته فما ذكر عيسى عليه السلام هنا ولا المهدي لتعلم من هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فهذه القوّة الربانية ليست مكتسبة بل هي موهوبة من عند الله لعباده المخلصين الذين قال فيهم ( يريدون وجهه )فتحقّقوا بحقائق التوحيد فكانت قوّتهم بالله تعالى ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى )وقوله تعالى في الحديث القدسي : ( ...وكنت يده التي يبطش بها والبطش هو التصرّف )لذا قال ولئن سألني لأعطينّه بالتوكيدين اللام والنون ولإن إستعاذني لأعيذنّه بنفس الحقيقة والجملة لتعلم حفظ الله تعالى لعباده الصالحين قال شيخنا سيدي فتحي السلامي القيرواني رضي الله عنه :لمّا آذنني شيخي بالتسليك والإرشاد دعا لي بدعوات منها : ( حفظك الله بما حفظ به عباده الصالحين )وكما قيل المأذون مأمون ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجا )قال تعالى في قتال المؤمنين للكفار وأعوانهم من العالم السفلي : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ )فالقوّة التي هي العذاب من الله وما العبد إلا آلة عاجزة يعطيها الله تعالى من قوّته ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )
فليس للعبد في الحقيقة والشريعة قوّة مستقلّة عن قوّة الله فكلّ من نسب النفع والضرّ لغير الله إستقلالا فهو مشرك شركا أكبر مخرجا من الملّة وغاية الأمر أنّ الله تعالى قد يرزق بعض عباده في بعض الأوقات بعض الكرامات وليس في كلّ الأوقات وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بعض الأحيان يشبع صحابته كلّهم من صاع شعير وفي بعض الأحيان يشدّ بطنه من الجوع لأنّ الأمر في كلّ ذلك إلى الله تعالى فكلّ من يدّعي المقدرة والنفع والضرّ فأحذره فهو شيطان لأنّ الذي يدّعي المقدرة هي الأرواح السفلية أي الشيطان لذاك قال ( لأغوينّهم أجمعين )وكأنّه الفاعل المختار وقال : (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين )فنسب إلى نفسه الإتيان والقوّة والفعل والغواية والضلالة فهذه أقوال من هم على قدم إبليس فهذا الذي يتألّى على الله تعالى فيوهم الخلق بأنّه يفعل ويستطيع والله تعالى يقول : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) فقال الجنّ والإنس بأل التعريف إستغراقا للجنس فيدخل كلّ أحد من العباد ولو كانوا أنبياءا ورسلا فالعبد الصادق لا يدّعي نفعا ولا ضرّا قطعا وهو جازم في ذلك بعقيدة راسخة لا تتبدّل ولا تتحوّل وإلا سلب وطرد ولعن فإدعى مثل إبليس ما لا يجوز له وما العبد إلا عبد ضعيف فقير لا يقدر على شيء إلا بإذن الله متى شاء وأراد فلم يبق سبيل أمام الخلق بإسرهم غير الدعاء الذي هو مخّ العبادة وقد قال : ( أدعوني أستجب لكم )فما ترك لك حجّة غير حجّة الدعاء فهذا الأصل وهذا لا ينفي التوسّل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وبدعاء الصالح من نبيّ ووليّ وبجاههم وأسرارهم ومحابهم لله تعالى فهذا لا ينافي الدعاء بل هو وسيلة للإسراع في الإستجابة لا على ما يقوله الوهابيون في ذلك فإن التفصيل عندههم معدوم وترتيب المراتب مفقود وليس لهم حظّ في علوم الحقيقة .
فعلوم القوم إنّما منحت لهم لتقرّبهم من الله تعالى ( وإتقوا الله ويعلّمكم الله )ومن جملة العلوم علوم أسرار أسماء الله تعالى فهذا علم نوراني وهو من أسرار الله تعالى لا يعطاه إلإ أمين ولا يجوز صرفه لغير أمين شهدت العدول بأمانته فمن خالفه سلبه في الوقت كما حكى سيدي عبد العزيز الدبّاغ رضي الله عنه كما في الإبريز عن ذلك الولي الذي سلبه أحد الأولياء ما كان معه من التصريف لمّا تصرّف في سفينة الكفّار فأحرقها وإشتعلت فيها النيران من غير سبب ظاهر , فعوقب في ذلك لأنّه لا يجوز وإلاّ فهذا جبريل قادر على قلب الأرض بأسرها وقتل الكفّار جميعهم في لحظة بما آتاه الله من قوّة لكن تصريفه عليه السلام لا يكون إلا بإذن الله تعالى وكذلك لكلّ من له سرّ مع الله تعالى لأنّ السرّ هو أمانة لا يجوز إظهارها ولا التصرّف فيها إلا بإذن صاحبها لذا ترك جملة هائلة من الأولياء مقام التصريف وقالوا :( تركنا الله تعالى يتصرّف لنا ) وسنكتب إن شاء الله تعالى بسطة في ذكر تفاصيل هذا متى سنحت الفرصة
ثمّ إنّ العبد إنّما أكرمه الله تعالى بتلك الكرامات نتيجة تقواه ومحبّته لله ولرسوله وللمؤمنين ولم ينلها بعلم عنده كما قال قارون ناسبا لنفسه الغنى وحيلة إكتساب المال قال تعالى :
( قال إنما أوتيته على علم عندي )فهذا الفرق بين الأولياء وبين غيرهم
فالوليّ أضعف ما يكون وأعجز ما يكون وأفقر ما يكون إلا أنّهم يلتجئون في هذا متى مسّهم الضرّ إلى الله تعالى ( رب اني قد مسني الضر وانت ارحم الراحمين )
قال تعالى في أهل بدر ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ )
لأنّ العبد متى أحسّ بعجزه وفقره وضعفه إستلزمه ذلك التوجّه إلى الله تعالى بإخلاص وصدق وتبتّل وتمريغ الوجه في التراب فإن إستجابة الله تعالى أقرب للإنسان من حبل الوريد وهو الفعّال لما يريد : ( فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) --(والله يجيب دعوة الداعي إذا دعان )
فهذا العالم العلوي والأرواح العلوية لا يتسرّب إليه الشرك ولا الحرام ولا الشعوذة ولا البيع والشراء فيه بل هو من أمر الله تعالى وغاية الوليّ أنّك متى أكرمته أو أحببته أكرمك الله واحبّك وقضى حاجتك ببركة ذلك الوليّ لأنّهم القوم لا يشقى بهم جليسهم والله يكرم من يكرم أحبابه ويحبّ من يحبّ أولياءه وقد قال تعالى في الحديث القدسي : ( وجبت محبّتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ ) هذا وإن الله تعالى يحبّ المحسنين ويحبّ من يقضي حاجة أخيه سواء أكانت دنيوية أم معنوية ( والله في عون العبد ما كان العون في عون أخيه )فمن هذا الباب أحكم الأولياء التقوى وفتحوا باب القربى فمن كان له مال واسى إخوانه فأعطى المعدوم وكفل اليتيم وجاد على المسكين , ومن كان له أيّة منحة إلهية أو خصوصيّة أنفق منها فعاون الفقير ونصر الضعيف وأقام العدل حسب الإمكان والقدرة
ثمّ إنّ علوم الأخيار من الخصوصيات لقضاء الحاجات هي منحة ربّانية على خلقه كما فعل الخضر عليه السلام نصرة للحقّ ومعاونة الضعيف فهي من الرحمة الإلهية وهؤلاء القوم هم أهل الرحمة فتشاهد مظاهر الرحمة في حركاتهم وسكناتهم وما نشأ الصوفية إلا رحمة للخلق ( والراحمون يرحمهم الرحمان ) ( إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )
( محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم )ويكفي أنّه عليه الصلاة والسلام قال ( إنما أنا رحمة مهداة )
وقال تعالى ذاكر هذه الحقيقة التامّة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )
والله أعلم سيدي
وبالله التوفيق
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال التاسع عشر :
قلتم سيدي الفاضل ( قال لي شيخنا : لا بدّ لمؤوّل الرؤيا أن يكون عالما بعلوم وهي 11 علما ) والسؤال هو :
ما هي هذه العلوم المطلوب توافرها في مؤول الرؤى حتى يكون مفسرا بحق ويأخذ بكلامه ؟
الجواب والله اعلم
إعلم أخي علّمني الله وإيّاك من علمه المخزون , وأفاض علينا جميعا من مشارب سرّه المصون :
أنّ الرؤيا المنامية كما ورد في الحديث الشريف بأنّها وحي المؤمن وبأنّها من المبشّرات التي هي من أجزاء النبوّة وبأنّ منها الصالح وهي الرؤية الصالحة التي تكون من الله تعالى ومنها الحلم أو أضغاث أحلام الذي هو من الشيطان وقد ورد في الحديث بأن الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان
والرؤية من حيث أنّها وحي منام فهي تنقسم إلى قسمين : قسم خاص بالأنبياء والرسل وهو ما يقرّر أمرا أو نهيا أي أنّه يقرّر حكما شرعيا فلا سبيل لغير الأنبياء والرسل إلى هذا النوع من الوحي المنامي وهذا العلم خاصّ بالأنبياء والرسل كما أقرّ صلى الله عليه وسلّم الآذان عن طريق رؤيا رآها أحد الصحابة فلولا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أحسن أحد من الصحابة تقريرها لأنّ الشرع شرعه عليه الصلاة والسلام فهو المبعوث به وهو الذي يقرّره صلى الله عليه وسلّم بوحي من الله تعالى كما قال في الحجّ لما سأله ذلك الصحابي ( أكلّ عام )قال عليه الصلاة والسلام : ( لو قلت نعم لوجب )لأنّ كلامه وحي يوحى وكذلك في قصّة تخفيف الصلاة فرجع إلى ربّه عدّة مرّات لأنّه المسؤول عن تقرير الشريعة فلا أحد غيره يزيد في الشرع ما ليس منه فيقبل منه لذا أوضح هذه المسألة : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )لذا قلنا بأنّ وحي المنام الخاص بالأنبياء ليس هو على نفس درجة وحي المنام الذي من نصيب المؤمن فبينهما فرق كبير فإنّ المؤمن يشارك الأنبياء في وجه من وجوه هذا النوع من الوحي وليس في كلّ أوجهه , لذا قال عن الرؤية الصالحة وبأنّها (جزء من ستّ وأربعين جزءا من النبوّة )فهي من هذا الوجه جزء من ستّ وأربعين جزء من وحي منام الأنبياء .فافهم . ليفهم الفارق بين الأنبياء وغيرهم لأنّهم أهل العصمة فكلامهم وحي وكذلك منامهم وكذلك إلهاماتهم ( قد جاءكم من الله نور )هذا حتى لا نتجرّأ على مقامات ساداتنا الأنبياء فنحمل رؤيانا على نفس محمل رؤياهم
قال تعالى ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )
فهل تظنّ بأنّ أحدا من المؤمنين اليوم لو رأى مثل هذه الرؤيا في المنام فما تراه فاعلا بإبنه ؟ وكذلك ما ترى الإبن فاعلا عند قول أبيه له بأنّه رأى في المنام أنّه يذبحه ؟ فأردت التعريج في بداية الإجابة على السؤال بهذا ليعرف كلّ مؤمن قدر نفسه فلا يسرف في التأويل ( إنّ الله لا يحبّ المسرفين )
ففي هذا الزمان صار خلط كبير في الرؤى وتأويلها حتى أنّ بعض الناس يدّعي المهدية بمجرّد رؤيا رآها في منامه كما حدث مع جهيمان الذي قدم من اليمن وإحتلّ الحرم المكّي في التاريخ الحاضر , وكذلك الكثير ممّن إدّعى المهدية وبأنّه المهدي المرتقب بمجرّد رؤى منامية وخاصّة ما نلحظه اليوم في الوهابية فإنّ أحدهم متى رأى رؤيا فيأخذها بإعتبار أنّه أقرب ما يكون من النبوّة وهو في تلك الحالة وهذا ما لحظناه فيهم من غير مبالغة إلا من رحمه الله منهم فهو على تمييز وهذا قليل فيهم والله أعلم
ثمّ إنّ الرؤى المنامية لها علمها الخاصّ وهو علم تأويل الرؤى وهو علم إختصاصيّ ينال منه المرء على قدر القسمة فيه من الله تعالى وهذا العلم له أقطابه لأنّ لكلّ علم قطب
وقد نال سيّدنا يوسف الحظّ الأوفر من هذا العلم عدا سيّد الأنبياء فهو صاحب العلوم كما قال البوصيري ( لك ذات العلوم * ولآدم منها الأسماء )فقد نال فيه أوفر حظّ ونصيب , قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ )
فأنظر قوله ( ويعلّمك من تأويل الأحاديث )لأنّ الرؤيا المنامية لها علمها الخاص فليس كلّ من هبّ ودبّ يحسن تأويل الرؤى لذا ورد في الخبر ( لا تقصّ رؤياك إلا على عالم )أي عالم بتأويل الرؤى . أمّا ما نراه اليوم من كتب معنونة بإسم تفسير الرؤى أو تفسير الأحلام وغير ذلك فأغلبها موضوع من أجل كسب المال والتجارة ليس إلا لأنّها اليوم أضحت السلعة الرائجة في المسلمين وأنت تعلم من غير مبالغة منّي أنّ أصحاب المكتبات ودور النشر همّهم الأوّل والأخير هو التجارة وجمع المال ولا تجد منهم إلا القليل الذي يخاف الله تعالى ويخشاه فلا يتّخذ هذه الصنعة إلا محبّة في نشر العلم الديني وإفادة المسلمين , والآن لو تلاحظ أسعار الكتب الدينية بلغت من الغلاء مبلغا كبيرا ليس في متناول كلّ الناس قال لي أحد ساداتنا وكان يطبع كتبه في دار من دور النشر ( لقد كسب صاحب الدار من كتبي مبالغ خيالية )ومنهم من يكتب على غلاف الكتاب الأوفاق والمثلّث كي تشترى كتبه وتباع سريعا ومرّة ذهبت إلى مكتبة إسلامية فوجدت المصحف الشريف في الرفوف السفلى مبعثرة وكأنّا ( بطاطس )حاشا كلام الله تعالى وكتابه الكريم ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم
ووالله سيدي ولا أزكّي نفسي فإن محبّة المال والدنيا ذهبت بالمسلمين اليوم مذهبا بعيدا جدّا وهذا رأيناه حتى عند البعض ممّن تنسب إليهم الولاية وإنّما حكيت هذا لما في قلبي من ذلك من النكران الشديد
وقد ورد في كتاب الإبريز لصاحبه عن شيخه بعض الأمور فيما يخصّ الرؤيا من حيث تأويلها وتفسيرها وحضراتها وذكر بعض الأمور التي تتعلّق بذلك وهي مشهورة لمن طالع في الإبريز
هذا سيدي أما عن العلوم التي لا بدّ أن تتوفّر لمؤوّل الرؤيا فقد حكيت عددها تقليدا لما أخبرني به شيخي وإلا فمن أين لي أن أعلم أسماءها بل قد ورد في عدّة تفاسير إجتهادات في هذا الصدد فلتراجع فإنها تفي بالمقصود العام إن شاء الله تعالى هذا ولتعلم سيدي بأنّ حضرات الرؤى أربع :
- رؤيا من الله ( من عالم النور )ويشملها الرؤيا من الملائكة
- رؤيا من الشيطان
رؤيا من الجنّ ( من حيث أنّه جنّ )
- رؤيا من النفس
فهذه حضرات الرؤى بلا زيادة وإن شئت أن تردّها خمس حضرات بإعتبار حضرة الملائكة فلك ذلك
فالرؤية تقع في عالم المثال وعالم المثال هو البرزخ الذي بين الدنيا والآخرة فله وجه إلى عالم النور وله وجه إلى عالم الدنيا فهي من هذا الحيز كالوحي الذي يتوقّع حدوثه أي يتوقّع حدوثه إمّا في عالم الدنيا وإمّا في عالم الآخرة لذا فالوجه الذي يتوقّع أن يقع في عالم الدنيا فلا بدّ لتأويله من علوم منها علم الأمثال بحسب أمثال كلّ بلد أو قبيلة أو جنس من الاجناس فهناك أمثال مشتركة عامة وهناك أمثال خاصّة
ورد في الحديث أن المؤمن متى رأى رؤيا تفزعه فلينفث على شماله ثلاثة مرات ويبدّل جنبه وهيئة رقدته ولا يقصّها على أحد من الناس فإنّها لا تضرّه ( قال بأنها لا تضرّه )فافهم
وإنما أمر بأن لا يقصّها على أحد لأنّها على جناحي طير فإنّها تقع بحسب تأويلها لذا ورد في الخبر أن لا يقصّ رؤياه إلا على عالم بتأويلها مخافة أن تؤوّل على غير وجهها الصحيح فتقع بحسب الوجه الذي أوّلت به لذا فنحن مأمورون بأن نؤوّل الرؤيا دائما على فأل حسن ومحمل جميل حتى لا نضرّ غيرنا بجهلنا من حيث لا نشعر
فالرؤيا من إختصاص عالم الأحياء أي يراها في منامه الإنسان الحي في الحياة الدنيا ولا يمكننا أن نقول يراها الإنسان المنتقل لأنّه في دار الحقّ فكلّ ما يراه هناك حقّ لا وجه للتأويل فيه
وإنّما كان التأويل في حقّ الحي لأنّه له وجه إلى عالم الآخرة في منامه وذلك عند عروج الروح , وله وجه آخر إلى عالم الدنيا بإعتبار أنّه فيها حيّ يرزق وروحه متّصلة مع جسده وتحت نظرها
ثمّ أنّ الروح ترى الأمور هناك في عالم المثال بحسب صفائها فالرؤيا تتلوّن بلون روح صاحبها فعلى قدر صفاء الروح تصفى الرؤيا والمثال في الشاهد كالواردات فعلى قدر صفاء القلب يكون صفاء الوارد وعلى قدر الإستعداد يأتي الإمداد
فكلّما صفيت الروح صفيت الرؤيا حتى يصبح تأويلها يسيرا سهلا بل ربّما تقع كما شوهدت حرفا بحرف وهذا كان حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل نزول الوحي فما رأى رؤيا إلا كانت كفلق الصبح كما ورد في الحديث
وكان الصحابة رضي الله عنهم يؤوّلون الرؤى بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمنهم من يخطىء ومنهم من يصيب ومنهم من يخطىء في جزء منها وهكذا ..لأنّ تأويلها علم مستقلّ بحدّ ذاته وقد نال محمد بن سيرين باعا في هذا وكذلك بعض الأولياء وهذا العلم من علوم الأسرار لذا أمر يعقوب عليه السلام إبنه بعدم قصّ رؤياه على إخوته وهو بدوره ما حكى تأويلها ليوسف وإنما أمره بالكتم فقط , أمّا يوسف عليه السلام فرغم أنه أوّل الرؤى في السجن للملك ولصاحبي السجن إلا أنّه كتم تأويل رؤياه وما قال في حقّها شيئا إلا لمّا رأى تحقّقها أمام عينيه فقال ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا )فما خاطب إلا أباه وما نسي الرؤيا بل بقيت في باله رغم السنوات الطوال التي حالت بينه وبين تحقّق رؤياه , وفي هذه السورة أي سورة يوسف من الأسرار والعلوم والحكم والفهوم ما لا يكيّف ولا يطاق ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ )
وكذلك سيّدنا إبراهيم عليه السلام لمّا قال : ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )
فما قال له ( إن الله أمرني بذبحك )بل قال له ( إني أرى في المنام )
فقال له إبنه ( إفعل ما تؤمر )فما قال له ( إفعل ما أمرك الله به )فأنظر أدب الأنبياء مع الله تعالى وفهمهم للحضرات والمراتب
ثمّ قال له : ( إني أرى في المنام )فذكر له حضرة الرؤيا , لذا قال له ( فأنظر ماذا ترى )أي هل توافقني في تأويلي لها في تلك المنزلة وتلك الحضرة فأجابه بأنّ ما أضمرته من تأويلها هو حقّ وهو نفس تأويلي وكما أوّلتها يا أبت فستقع وكذلك يعضدها تأويلي فهي حتما ستقع كما أوّلناها لذا فداهما الله تعالى : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )
وإنّما قال له : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فما ذكر غير إبراهيم لأنّ إبنه فلذة كبده فهو في الشاهد سيذبح نفسه لذا إنطوى الفرع في الأصل لذا عبّر عنه بالفدية ( بذبح عظيم ) بحسب مقام إبراهيم لا بحسب مقام إبنه
وقوله : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )أي رغم أنّ فيها شبهة الظلم والإفساد والإعتداء أو الشرّ فقد سلّمت لنا في علمنا بحسب وسعه وما سلّم موسى للخضر عليها السلام في هذا الوسع وذلك في قوله لما سألوه هل هناك من هو أعلم منك اليوم في الأرض فقال : ( لا )فكان إمتحانه في النكران على الخضر من مدد قوله (لا)والقاعدة تقول ( وفوق كلّ ذي علم عليم )لتبقى عبدا من العباد فلا تخرج عن شهود جهلك أبدا
فالرؤيا لها علومها التي يعلمها أصحاب هذا العلم أي أصحاب علم تأويل الرؤى وهذا المؤوّل لا يمكن إلا أن يكون عارفا بالله كاملا وإلا فلربّما أخطأ غيره وأصاب وفي آخر الزمان لمّا يقلّ هذا العلم في الناس أكرمهم الله تعالى بأنّ رؤيا المؤمن توشك في هذا الزمان أن لا تكذب فتكون صادقة في كلّ حالاتها
ونحن وغيرنا نريد أن نصدّ هذا الباب أمام الناس الذين لهم علل قلبية وأمراض نفسية فيلتمسون الرؤى ليلا نهارا كي يبشّرون بمراتب أو خصوصيات وغير ذلك من العلل السقيمة والأحوال المظلمة وغايتهم الأولى والأخيرة وجود شاهد من الرؤى يقوّي ما ركن في النفس من حبّ الدعاوى والظهور وهنا يدخل مجال الشيطان في عالم الخيال وهي الرؤيا التي تكون من الشيطان والنفس والجنّ فهذه مراتب في التلبيس بالرؤى وكلّها باطلة من الحلم وأضغاث الأحلام
هذا سيدي ولم أدخل في تفاصيل علومها لأنّني لست مختصّا في ذلك ولا أطلعني الله تعالى عليه وعاش من عرف قدره ووقف عند حدّه
الرؤيا سيدي من حيث أنّها رؤيا تتعدّد إتّجاهاتها فليست كلّ الرؤى هي من المبشّرات بل من الرؤيا الصادقة ما يفرح ومن الرؤيا الصادقة ما يحزن وهكذا هي أحكام القضاء والقدر , ثمّ إنّ المبشّرة متى فهمت عن الله فيها فاستعدّ لدفع مهرها كما دفعه يوسف عليه السلام ولا تظنّ بأنّ المبشّرة أمرها كلّه فرح وسرور وسعادة وإنّما بقيت فينا المبشّرات التي هي من أجزاء النبوّة لكي نصدّق بما بشّرنا الله به فنصبر على ذلك المهر الغالي الذي سندفعه
أنظر مبشّرة يوسف عليه السلام لما قال لإبيه ( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )فهذه البشرى الكبيرة بالنبوّة والقطبية والمقام العالي إنظر ما كان بعده من الإمتحان والإبتلاء والفتنة
ثمّ أنّ النبوّة من أحكامها الإبتلاء الشديد الذي لا طاقة به لغير الانبياء قال عليه الصلاة والسلام : ( أشدّكم بلاء الأنبياء ...الحديث )
فلا ننظر إلى ظاهر المبشّرة فنغترّ بها بل لا بدّ من فهم تأويلها وما يترتّب عنه كما ذكرت , لذا فبعد أن تمّت قصّة يوسف عليه السلام وإنتهى دفع مهر وإبتلاء هذه المبشّرة قال لأبيه
( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)
فحكى بأنّ كلّ ما جرى له إنّما جرى لتتحقّق له رؤياه كما أرادها الله تعالى فلو لا إخوته ولولا إمرأة العزيز ولو لا البدو ولولا السجن ولولا صاحبي السجن لما تحقّقت تلك الرؤيا .فافهم. لذا قال لإخوته : ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )فما لامهم ولا عاتبهم لمّا كمل تحقّق رؤياه
فانظر مهر تلك المبشّرة ما أغلاه , قال تعالى على لسان يوسف : ( مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي )وكأنّه كان طرفا فيما جرى له , نعم لأنّه لولاه لما مكر به إخوته فكان عليه السلام سبب مكرهم .فافهم الإشارة .
فما خاطب يوسف عليه السلام برؤياه غير أبيه فقال له في الأوّل (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )
وقال له أخيرا لمّا جاء به إليه : ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ )
أمّا سيدي : المبشّرات المذكورة في الحديث المقصود بها عينا مقامات أهل الولاية فهي لا تأتي غالبا إلا لهم أو تأتي لغيرهم فيبشّرونهم بها لذا قال ( يراها المؤمن أو ترى له )والأغلب أن يراها لنفسه متى كان ثابت الحال قوي القلب متماسك الفهم محفوظا من الطغيان بها أمّا إذا كان ضعيف القلب متقلّب الحال فالأغلب أن يراها له غيره كوليّ يرى رؤيا لمريده فلا يخبرها بها إلا في وقت معلوم كرؤى رسوالله صلى الله عليه وسلّم في حقّ بعض صحابته كعمر وأبي بكر رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين
ومعنى الحديث : أقصد المعنى الخاص فيه ولا أقصد المعنى العام الذي شرحه أهل العموم
وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكر بأنّ باب الوحي قد إنقطع به لأنّه خاتم النبيئين فما بقي غير المبشّرات التي يراها المؤمن أي مقام الولاية الخاصّة الباقي في أمّته إلى يوم القيامة وعدّها من أجزاء النبوّة لأنّ هذا صحيح لأنّ الولاية من أجزائها فلا يكون النبيّ نبيّا حتى يكون وليّا فكلّ نبيّ أو رسول هو في حقيقته وليّ لله تعالى
وإنّما أعني الفهم الخاص للحديث وليس الفهم العام
فباب الوحي سدّ وإنغلق بخاتم النبيئين ولم يبق بابا من هذا الوحي إلا ما كان متعلّقا بإجزاء النبوّة لأنّ النبوّة هي الوحيدة المخوّلة والمستعدّة لنزول هذا الوحي فلا ينزل الوحي بالمعنى المتعارف عليه إلا من مشكاة النبوّة فكان هذا الباب لايزال مفتوحا إلى يوم القيامة
ومعنى المبشّرات أخصّ من معنى الرؤى فالرؤى معناها أكثر تعميما ووسعا
ثمّ إنّ المبشّرات نوعان : مبشّرة في عالم الأنوار , ومبشّرة في عالم الأسرار
وبالله التوفيق والله اعلم
قلتم سيدي الفاضل ( قال لي شيخنا : لا بدّ لمؤوّل الرؤيا أن يكون عالما بعلوم وهي 11 علما ) والسؤال هو :
ما هي هذه العلوم المطلوب توافرها في مؤول الرؤى حتى يكون مفسرا بحق ويأخذ بكلامه ؟
الجواب والله اعلم
إعلم أخي علّمني الله وإيّاك من علمه المخزون , وأفاض علينا جميعا من مشارب سرّه المصون :
أنّ الرؤيا المنامية كما ورد في الحديث الشريف بأنّها وحي المؤمن وبأنّها من المبشّرات التي هي من أجزاء النبوّة وبأنّ منها الصالح وهي الرؤية الصالحة التي تكون من الله تعالى ومنها الحلم أو أضغاث أحلام الذي هو من الشيطان وقد ورد في الحديث بأن الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان
والرؤية من حيث أنّها وحي منام فهي تنقسم إلى قسمين : قسم خاص بالأنبياء والرسل وهو ما يقرّر أمرا أو نهيا أي أنّه يقرّر حكما شرعيا فلا سبيل لغير الأنبياء والرسل إلى هذا النوع من الوحي المنامي وهذا العلم خاصّ بالأنبياء والرسل كما أقرّ صلى الله عليه وسلّم الآذان عن طريق رؤيا رآها أحد الصحابة فلولا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أحسن أحد من الصحابة تقريرها لأنّ الشرع شرعه عليه الصلاة والسلام فهو المبعوث به وهو الذي يقرّره صلى الله عليه وسلّم بوحي من الله تعالى كما قال في الحجّ لما سأله ذلك الصحابي ( أكلّ عام )قال عليه الصلاة والسلام : ( لو قلت نعم لوجب )لأنّ كلامه وحي يوحى وكذلك في قصّة تخفيف الصلاة فرجع إلى ربّه عدّة مرّات لأنّه المسؤول عن تقرير الشريعة فلا أحد غيره يزيد في الشرع ما ليس منه فيقبل منه لذا أوضح هذه المسألة : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )لذا قلنا بأنّ وحي المنام الخاص بالأنبياء ليس هو على نفس درجة وحي المنام الذي من نصيب المؤمن فبينهما فرق كبير فإنّ المؤمن يشارك الأنبياء في وجه من وجوه هذا النوع من الوحي وليس في كلّ أوجهه , لذا قال عن الرؤية الصالحة وبأنّها (جزء من ستّ وأربعين جزءا من النبوّة )فهي من هذا الوجه جزء من ستّ وأربعين جزء من وحي منام الأنبياء .فافهم . ليفهم الفارق بين الأنبياء وغيرهم لأنّهم أهل العصمة فكلامهم وحي وكذلك منامهم وكذلك إلهاماتهم ( قد جاءكم من الله نور )هذا حتى لا نتجرّأ على مقامات ساداتنا الأنبياء فنحمل رؤيانا على نفس محمل رؤياهم
قال تعالى ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )
فهل تظنّ بأنّ أحدا من المؤمنين اليوم لو رأى مثل هذه الرؤيا في المنام فما تراه فاعلا بإبنه ؟ وكذلك ما ترى الإبن فاعلا عند قول أبيه له بأنّه رأى في المنام أنّه يذبحه ؟ فأردت التعريج في بداية الإجابة على السؤال بهذا ليعرف كلّ مؤمن قدر نفسه فلا يسرف في التأويل ( إنّ الله لا يحبّ المسرفين )
ففي هذا الزمان صار خلط كبير في الرؤى وتأويلها حتى أنّ بعض الناس يدّعي المهدية بمجرّد رؤيا رآها في منامه كما حدث مع جهيمان الذي قدم من اليمن وإحتلّ الحرم المكّي في التاريخ الحاضر , وكذلك الكثير ممّن إدّعى المهدية وبأنّه المهدي المرتقب بمجرّد رؤى منامية وخاصّة ما نلحظه اليوم في الوهابية فإنّ أحدهم متى رأى رؤيا فيأخذها بإعتبار أنّه أقرب ما يكون من النبوّة وهو في تلك الحالة وهذا ما لحظناه فيهم من غير مبالغة إلا من رحمه الله منهم فهو على تمييز وهذا قليل فيهم والله أعلم
ثمّ إنّ الرؤى المنامية لها علمها الخاصّ وهو علم تأويل الرؤى وهو علم إختصاصيّ ينال منه المرء على قدر القسمة فيه من الله تعالى وهذا العلم له أقطابه لأنّ لكلّ علم قطب
وقد نال سيّدنا يوسف الحظّ الأوفر من هذا العلم عدا سيّد الأنبياء فهو صاحب العلوم كما قال البوصيري ( لك ذات العلوم * ولآدم منها الأسماء )فقد نال فيه أوفر حظّ ونصيب , قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ )
فأنظر قوله ( ويعلّمك من تأويل الأحاديث )لأنّ الرؤيا المنامية لها علمها الخاص فليس كلّ من هبّ ودبّ يحسن تأويل الرؤى لذا ورد في الخبر ( لا تقصّ رؤياك إلا على عالم )أي عالم بتأويل الرؤى . أمّا ما نراه اليوم من كتب معنونة بإسم تفسير الرؤى أو تفسير الأحلام وغير ذلك فأغلبها موضوع من أجل كسب المال والتجارة ليس إلا لأنّها اليوم أضحت السلعة الرائجة في المسلمين وأنت تعلم من غير مبالغة منّي أنّ أصحاب المكتبات ودور النشر همّهم الأوّل والأخير هو التجارة وجمع المال ولا تجد منهم إلا القليل الذي يخاف الله تعالى ويخشاه فلا يتّخذ هذه الصنعة إلا محبّة في نشر العلم الديني وإفادة المسلمين , والآن لو تلاحظ أسعار الكتب الدينية بلغت من الغلاء مبلغا كبيرا ليس في متناول كلّ الناس قال لي أحد ساداتنا وكان يطبع كتبه في دار من دور النشر ( لقد كسب صاحب الدار من كتبي مبالغ خيالية )ومنهم من يكتب على غلاف الكتاب الأوفاق والمثلّث كي تشترى كتبه وتباع سريعا ومرّة ذهبت إلى مكتبة إسلامية فوجدت المصحف الشريف في الرفوف السفلى مبعثرة وكأنّا ( بطاطس )حاشا كلام الله تعالى وكتابه الكريم ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم
ووالله سيدي ولا أزكّي نفسي فإن محبّة المال والدنيا ذهبت بالمسلمين اليوم مذهبا بعيدا جدّا وهذا رأيناه حتى عند البعض ممّن تنسب إليهم الولاية وإنّما حكيت هذا لما في قلبي من ذلك من النكران الشديد
وقد ورد في كتاب الإبريز لصاحبه عن شيخه بعض الأمور فيما يخصّ الرؤيا من حيث تأويلها وتفسيرها وحضراتها وذكر بعض الأمور التي تتعلّق بذلك وهي مشهورة لمن طالع في الإبريز
هذا سيدي أما عن العلوم التي لا بدّ أن تتوفّر لمؤوّل الرؤيا فقد حكيت عددها تقليدا لما أخبرني به شيخي وإلا فمن أين لي أن أعلم أسماءها بل قد ورد في عدّة تفاسير إجتهادات في هذا الصدد فلتراجع فإنها تفي بالمقصود العام إن شاء الله تعالى هذا ولتعلم سيدي بأنّ حضرات الرؤى أربع :
- رؤيا من الله ( من عالم النور )ويشملها الرؤيا من الملائكة
- رؤيا من الشيطان
رؤيا من الجنّ ( من حيث أنّه جنّ )
- رؤيا من النفس
فهذه حضرات الرؤى بلا زيادة وإن شئت أن تردّها خمس حضرات بإعتبار حضرة الملائكة فلك ذلك
فالرؤية تقع في عالم المثال وعالم المثال هو البرزخ الذي بين الدنيا والآخرة فله وجه إلى عالم النور وله وجه إلى عالم الدنيا فهي من هذا الحيز كالوحي الذي يتوقّع حدوثه أي يتوقّع حدوثه إمّا في عالم الدنيا وإمّا في عالم الآخرة لذا فالوجه الذي يتوقّع أن يقع في عالم الدنيا فلا بدّ لتأويله من علوم منها علم الأمثال بحسب أمثال كلّ بلد أو قبيلة أو جنس من الاجناس فهناك أمثال مشتركة عامة وهناك أمثال خاصّة
ورد في الحديث أن المؤمن متى رأى رؤيا تفزعه فلينفث على شماله ثلاثة مرات ويبدّل جنبه وهيئة رقدته ولا يقصّها على أحد من الناس فإنّها لا تضرّه ( قال بأنها لا تضرّه )فافهم
وإنما أمر بأن لا يقصّها على أحد لأنّها على جناحي طير فإنّها تقع بحسب تأويلها لذا ورد في الخبر أن لا يقصّ رؤياه إلا على عالم بتأويلها مخافة أن تؤوّل على غير وجهها الصحيح فتقع بحسب الوجه الذي أوّلت به لذا فنحن مأمورون بأن نؤوّل الرؤيا دائما على فأل حسن ومحمل جميل حتى لا نضرّ غيرنا بجهلنا من حيث لا نشعر
فالرؤيا من إختصاص عالم الأحياء أي يراها في منامه الإنسان الحي في الحياة الدنيا ولا يمكننا أن نقول يراها الإنسان المنتقل لأنّه في دار الحقّ فكلّ ما يراه هناك حقّ لا وجه للتأويل فيه
وإنّما كان التأويل في حقّ الحي لأنّه له وجه إلى عالم الآخرة في منامه وذلك عند عروج الروح , وله وجه آخر إلى عالم الدنيا بإعتبار أنّه فيها حيّ يرزق وروحه متّصلة مع جسده وتحت نظرها
ثمّ أنّ الروح ترى الأمور هناك في عالم المثال بحسب صفائها فالرؤيا تتلوّن بلون روح صاحبها فعلى قدر صفاء الروح تصفى الرؤيا والمثال في الشاهد كالواردات فعلى قدر صفاء القلب يكون صفاء الوارد وعلى قدر الإستعداد يأتي الإمداد
فكلّما صفيت الروح صفيت الرؤيا حتى يصبح تأويلها يسيرا سهلا بل ربّما تقع كما شوهدت حرفا بحرف وهذا كان حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل نزول الوحي فما رأى رؤيا إلا كانت كفلق الصبح كما ورد في الحديث
وكان الصحابة رضي الله عنهم يؤوّلون الرؤى بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمنهم من يخطىء ومنهم من يصيب ومنهم من يخطىء في جزء منها وهكذا ..لأنّ تأويلها علم مستقلّ بحدّ ذاته وقد نال محمد بن سيرين باعا في هذا وكذلك بعض الأولياء وهذا العلم من علوم الأسرار لذا أمر يعقوب عليه السلام إبنه بعدم قصّ رؤياه على إخوته وهو بدوره ما حكى تأويلها ليوسف وإنما أمره بالكتم فقط , أمّا يوسف عليه السلام فرغم أنه أوّل الرؤى في السجن للملك ولصاحبي السجن إلا أنّه كتم تأويل رؤياه وما قال في حقّها شيئا إلا لمّا رأى تحقّقها أمام عينيه فقال ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا )فما خاطب إلا أباه وما نسي الرؤيا بل بقيت في باله رغم السنوات الطوال التي حالت بينه وبين تحقّق رؤياه , وفي هذه السورة أي سورة يوسف من الأسرار والعلوم والحكم والفهوم ما لا يكيّف ولا يطاق ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ )
وكذلك سيّدنا إبراهيم عليه السلام لمّا قال : ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )
فما قال له ( إن الله أمرني بذبحك )بل قال له ( إني أرى في المنام )
فقال له إبنه ( إفعل ما تؤمر )فما قال له ( إفعل ما أمرك الله به )فأنظر أدب الأنبياء مع الله تعالى وفهمهم للحضرات والمراتب
ثمّ قال له : ( إني أرى في المنام )فذكر له حضرة الرؤيا , لذا قال له ( فأنظر ماذا ترى )أي هل توافقني في تأويلي لها في تلك المنزلة وتلك الحضرة فأجابه بأنّ ما أضمرته من تأويلها هو حقّ وهو نفس تأويلي وكما أوّلتها يا أبت فستقع وكذلك يعضدها تأويلي فهي حتما ستقع كما أوّلناها لذا فداهما الله تعالى : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )
وإنّما قال له : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فما ذكر غير إبراهيم لأنّ إبنه فلذة كبده فهو في الشاهد سيذبح نفسه لذا إنطوى الفرع في الأصل لذا عبّر عنه بالفدية ( بذبح عظيم ) بحسب مقام إبراهيم لا بحسب مقام إبنه
وقوله : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )أي رغم أنّ فيها شبهة الظلم والإفساد والإعتداء أو الشرّ فقد سلّمت لنا في علمنا بحسب وسعه وما سلّم موسى للخضر عليها السلام في هذا الوسع وذلك في قوله لما سألوه هل هناك من هو أعلم منك اليوم في الأرض فقال : ( لا )فكان إمتحانه في النكران على الخضر من مدد قوله (لا)والقاعدة تقول ( وفوق كلّ ذي علم عليم )لتبقى عبدا من العباد فلا تخرج عن شهود جهلك أبدا
فالرؤيا لها علومها التي يعلمها أصحاب هذا العلم أي أصحاب علم تأويل الرؤى وهذا المؤوّل لا يمكن إلا أن يكون عارفا بالله كاملا وإلا فلربّما أخطأ غيره وأصاب وفي آخر الزمان لمّا يقلّ هذا العلم في الناس أكرمهم الله تعالى بأنّ رؤيا المؤمن توشك في هذا الزمان أن لا تكذب فتكون صادقة في كلّ حالاتها
ونحن وغيرنا نريد أن نصدّ هذا الباب أمام الناس الذين لهم علل قلبية وأمراض نفسية فيلتمسون الرؤى ليلا نهارا كي يبشّرون بمراتب أو خصوصيات وغير ذلك من العلل السقيمة والأحوال المظلمة وغايتهم الأولى والأخيرة وجود شاهد من الرؤى يقوّي ما ركن في النفس من حبّ الدعاوى والظهور وهنا يدخل مجال الشيطان في عالم الخيال وهي الرؤيا التي تكون من الشيطان والنفس والجنّ فهذه مراتب في التلبيس بالرؤى وكلّها باطلة من الحلم وأضغاث الأحلام
هذا سيدي ولم أدخل في تفاصيل علومها لأنّني لست مختصّا في ذلك ولا أطلعني الله تعالى عليه وعاش من عرف قدره ووقف عند حدّه
الرؤيا سيدي من حيث أنّها رؤيا تتعدّد إتّجاهاتها فليست كلّ الرؤى هي من المبشّرات بل من الرؤيا الصادقة ما يفرح ومن الرؤيا الصادقة ما يحزن وهكذا هي أحكام القضاء والقدر , ثمّ إنّ المبشّرة متى فهمت عن الله فيها فاستعدّ لدفع مهرها كما دفعه يوسف عليه السلام ولا تظنّ بأنّ المبشّرة أمرها كلّه فرح وسرور وسعادة وإنّما بقيت فينا المبشّرات التي هي من أجزاء النبوّة لكي نصدّق بما بشّرنا الله به فنصبر على ذلك المهر الغالي الذي سندفعه
أنظر مبشّرة يوسف عليه السلام لما قال لإبيه ( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )فهذه البشرى الكبيرة بالنبوّة والقطبية والمقام العالي إنظر ما كان بعده من الإمتحان والإبتلاء والفتنة
ثمّ أنّ النبوّة من أحكامها الإبتلاء الشديد الذي لا طاقة به لغير الانبياء قال عليه الصلاة والسلام : ( أشدّكم بلاء الأنبياء ...الحديث )
فلا ننظر إلى ظاهر المبشّرة فنغترّ بها بل لا بدّ من فهم تأويلها وما يترتّب عنه كما ذكرت , لذا فبعد أن تمّت قصّة يوسف عليه السلام وإنتهى دفع مهر وإبتلاء هذه المبشّرة قال لأبيه
( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)
فحكى بأنّ كلّ ما جرى له إنّما جرى لتتحقّق له رؤياه كما أرادها الله تعالى فلو لا إخوته ولولا إمرأة العزيز ولو لا البدو ولولا السجن ولولا صاحبي السجن لما تحقّقت تلك الرؤيا .فافهم. لذا قال لإخوته : ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )فما لامهم ولا عاتبهم لمّا كمل تحقّق رؤياه
فانظر مهر تلك المبشّرة ما أغلاه , قال تعالى على لسان يوسف : ( مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي )وكأنّه كان طرفا فيما جرى له , نعم لأنّه لولاه لما مكر به إخوته فكان عليه السلام سبب مكرهم .فافهم الإشارة .
فما خاطب يوسف عليه السلام برؤياه غير أبيه فقال له في الأوّل (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )
وقال له أخيرا لمّا جاء به إليه : ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ )
أمّا سيدي : المبشّرات المذكورة في الحديث المقصود بها عينا مقامات أهل الولاية فهي لا تأتي غالبا إلا لهم أو تأتي لغيرهم فيبشّرونهم بها لذا قال ( يراها المؤمن أو ترى له )والأغلب أن يراها لنفسه متى كان ثابت الحال قوي القلب متماسك الفهم محفوظا من الطغيان بها أمّا إذا كان ضعيف القلب متقلّب الحال فالأغلب أن يراها له غيره كوليّ يرى رؤيا لمريده فلا يخبرها بها إلا في وقت معلوم كرؤى رسوالله صلى الله عليه وسلّم في حقّ بعض صحابته كعمر وأبي بكر رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين
ومعنى الحديث : أقصد المعنى الخاص فيه ولا أقصد المعنى العام الذي شرحه أهل العموم
وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكر بأنّ باب الوحي قد إنقطع به لأنّه خاتم النبيئين فما بقي غير المبشّرات التي يراها المؤمن أي مقام الولاية الخاصّة الباقي في أمّته إلى يوم القيامة وعدّها من أجزاء النبوّة لأنّ هذا صحيح لأنّ الولاية من أجزائها فلا يكون النبيّ نبيّا حتى يكون وليّا فكلّ نبيّ أو رسول هو في حقيقته وليّ لله تعالى
وإنّما أعني الفهم الخاص للحديث وليس الفهم العام
فباب الوحي سدّ وإنغلق بخاتم النبيئين ولم يبق بابا من هذا الوحي إلا ما كان متعلّقا بإجزاء النبوّة لأنّ النبوّة هي الوحيدة المخوّلة والمستعدّة لنزول هذا الوحي فلا ينزل الوحي بالمعنى المتعارف عليه إلا من مشكاة النبوّة فكان هذا الباب لايزال مفتوحا إلى يوم القيامة
ومعنى المبشّرات أخصّ من معنى الرؤى فالرؤى معناها أكثر تعميما ووسعا
ثمّ إنّ المبشّرات نوعان : مبشّرة في عالم الأنوار , ومبشّرة في عالم الأسرار
وبالله التوفيق والله اعلم
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: المسك والعطور في أسئلة سيدي فارس النور
السؤال العشرون :
قلتم سيدي فيما سبق ( والرؤى الشيطانية من عالم الخيال أيضا وفيها دواهي وفواجع ) والسؤال هو :
ما هو عالم الخيال هل هو مخلوق وهل له من يقطنه من حيث اسمه عالم ؟
الجواب والله اعلم
طبعا لا يمكننا أن نقول بأنّ الرؤيا الشيطانية من عالم الحقيقة أي عالم الأنوار وإنّما هي من حضرة الشيطان , وحضرته كلّها خيال في خيال من حيث التحقيق لا من حيث كيد الشيطان الذي كان ضعيفا حالا وماضيا ومستقبلا
والرؤيا سيدي قد تكون صالحة , ومعنى الرؤيا الصالحة أي كلّ رؤيا فيها نسائم الحضرة الإلهية بمعنى تزيدك حبّا أو تشويقا أو إسراعا أو تقوى أو عزيمة أو طاعة أو أيّة منقبة وحالة تقرّبك من الله تعالى , فما لم تدلّك رؤياك على الله تعالى فليست برؤيا صالحة , لأنّ الرؤيا الصالحة من الله ومحال أنها منه ولا تكون إليه .فافهم.
والرؤيا هي وحي المؤمن أي الباب الذي بقي منه الوحي الذي هو من أجزاء النبوّة وهي تدلّ على حدوث غيب من الغيوب التي لها تعلّق بها أو بغيرك مما رأيتها له بمعنى أنّها إمّا أن تدلّك على حالة واقعة فيك أو في غيرك كمن يكشف له في منامه عن حالة إنسان سواء بالإيجاب أو السلب أو بما يقع له في الإستقبال وهذه وغيرها لا تكون إلا متى كانت الرؤيا صالحة وكان تعبيرها حقيقيّا من عالم متمكّن من التعبير
ولمّا كانت الرؤيا المنامية وحي المؤمن كان لا بدّ لهذا الوحي من معاند يريد إفساده الذي هو الشيطان الذي يسترق السمع في السماء وكذلك في سماء القلب ليخلط الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ لأنّ المقام الذي يشتغل فيه هو مقام التزيين بمعنى تزيين الباطل في صورة الحقّ وتزيين الحقّ في صورة الباطل كي يرى الإنسان الحقائق معكوسة ( فيبغونها عوجا )
بالنسبة للمؤمن القويّ أي قويّ الإيمان وذلك بأن تكون أنوار قلبه رجوما للشياطين لأنّ قلبه محروسا بجند الأنوار فلا يقع فيه إلا واردات الرحمان فهذا لا سلطان للشيطان عليه في رؤياه ولا يستطيع أن يخلط فيها أو يزيّنها له أو يكذب عليه فيها بل لا سبيل له لذلك البتّة ( إلا عبادك منهم المخلصين )
لأنّ الشيطان توعّد بالغواية وأقسم في ذلك بالعزّة الإلهية وهذه الغواية من الشيطان لنا تكون في حالتي النوم واليقظة لذا أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالوضوء للنوم لأنه سلاح المؤمن يقاتل به أعداءه وأوصانا بذكر أوراد النوم وماذا نفعل متى لعب بنا الشيطان فلا نقصّ رؤيانا التي فيها تحزين من الشيطان وكذلك نتفل على شمالنا ثلاث مرّات متى رأينا رؤيا تفزعنا وكذلك بأن لا نقصّ رؤيانا إلا على عالم ناصح لبيب فطن كما ورد في الأحاديث لأنّ الرؤيا على رجل أو جناح طائر فكيفما أوّلها المؤوّل وقعت فأمرنا بالتريّث في ذلك والتمهّل
لأنّ سطوة الشيطان وغوايته في عالم النوم أيضا كبيرة بل هي من أدقّ تلبيساته وأخفاها على الإنسان لذا فقد دخل على الناس من هذا الباب فأفسد على كثير من الناس إيمانهم وتقوتهم
وكان لي أخا في الله تعالى إسمه ( منير ) كان يأتيه الشيطان برؤى في منامه ومن ثمّ يراها هذا الأخ في اليقظة حرفا بحرف وذلك لأنه يريد التلبيس عليه , وتفسير ذلك سهل وهو أنّ الشيطان يخيّل إليك أمر في منامك ثمّ يعمل الشيطان وأعوانه في يقظتك على أن يجعلوا ذلك الأمر مشهودا عندك , فمثلا يريك في منامك بأنك قابلت أحدا من الناس منذ فترة لم تراه , ثمّ في الصباح يذهب الشيطان لذلك الشخص فيوسوس له بخاطر المجيء والقدوم فيقدم فتقابله حتى أنك ربّما تقول له أو في نفسك : سبحان الله البارحة رأيته في منامي أنّي أراه ...وهكذا
وهذه ليست قاعدة كليّة وإنّما هي قاعدة عند الناس الذين مازالوا في مرتبة النفس الأمّارة بالسوء أي مازالوا في مرتبة الخواطر الشيطانية والنفسية لذا وجب عليهم أن لا يجزموا في رؤياهم لأنّها لربّما تكون من النفس أضغاث أحلام أو من الشيطان وهو الحلم والتلبيس
أمّا أهل الله تعالى فليس للشيطان ولا للنفس عليهم من سبيل لأنّهم محفوظون منه ( إلا عبادك منهم المخلصين )
ثمّ إنّ الرؤيا لها تعلّق كبير بالواردات :فمن كان من المريدين كما قال الشيوخ ساداتنا من أهل المعرفة رضي الله عنهم مازال في دائرة الخواطر النفسية والشيطانية فليس لرؤياه قيمة كبيرة وقد تكون ذات قيمة كبيرة ولكن هذا قليل إلا ما كان من السنّة كصلاة الإستخارة من حيث الإنشراح أو رؤيا صالحة تشير إلى ما إستخار فيه تلميحا أو تصريحا , وإنما كلامنا في الرؤيا من حيث أنها رؤيا من غير تكلّف ولا قصد لها مسبّق
فالرؤيا التي يعتنى بها هي رؤيا العارف بالله تعالى كالأنبياء والرسل وأهل الولاية الكبرى والفتح الكبير ثمّ يليهم من الناس أهل الولاية الصغرى ثمّ في المرتبة الثالثة أهل الإيمان من حيث مستويات إيمانهم
وحقيقة الرؤيا الصالحة لا يراها إلا المؤمن ( أي المؤمن الكامل )فمن كمل إيمانه أشرق إحسانه قال أحد الصحابة ( لقد أصبحت اليوم مؤمنا حقّا يا رسول الله ...)
ثمّ إن الكشف الذي عند الأولياء فهو إمّا أن يكون كشفا مناميا وهذه المبشّرة المنامية وإمّا أن يكون كشفا حقيقيّا في عالم يقظتهم أو بين النوم واليقظة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي )أي في اليقظة عند الصلاة و بصر الروح هذا لأنّه مثل الذرّة لا تنقسم أفرادها وليست لها أجزاء متى وصلنا إلى نواتها الأصلية التي لا تنقسم فالروح تسمع بكلّ ذاتها وترى وتشاهد بكلّ ذاتها وهكذا لأنّها جوهر لا ينقسم ولها ما يقابلها في العالم المادي ( وهي الذرّة )لذا فالروح تأخذ حيزها من حيث الوسع والإنتشار بحسب حجم الروح وكبرها ومن هنا تعرف مقامات الأولياء في الإدراك والعلوم ومن هنا نعرف أسرار نوال المقامات والخصوصيات كالقطبانية والفردانية وغيرها لأن هذا من أمر الروح التي هي من أمر الله .فافهم .
وإنّما قلنا بأنّ للشيطان فواجع في عوالم الخيال , إنّما نقصد بعالم الخيال هو هذا العالم الباطل أي الذي لا يرى العبد وجود موجده قبله أو معه أو بعده بحيث أنّه في نظره لا يعدو كونه عالما مترامي الأطراف حسّا ومعنى فيحجب بالكون عن المكوّن فهذا الحجاب في مراتبه الثلاث وهي مرتبة حجاب العقل وحجاب القلب وحجاب الروح , فكلّ ما أدركه البشر متى كان بهذه الصفة من العوالم إنما هو من عالم الخيال الذي لا وجود له لأنّ البقاء إنّما يكون بالجمال الإلهي ولا يكون البقاء بالجلال الإلهي أبدا , وإبليس قام في الجلال فأراد أن يقوم بأحكامه من حيث القدرة وهكذا فافهم فعالمه حتما أنّه عالم خيالي وإعتقاده وهم في وهم لذا كان كيده ضعيفا لأنّ هذا العالم ليس بعالم الخصوصيات فلا يحسن إبليس ولا غيره أن يمدّ الناس بخصوصيات فيه لا عن طريق المنام ولا عن طريق غيره .فافهم
قال تعالى ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا )
وقوله إلا ( غرورا )متعلّق بحقيقة النفس متى إعتقدت وجودها مع وجود الله )
في هذا العالم الخيالي الذي لا يدلّ على الله تعالى بحال لقوله ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )حجب الناس من كلّ ما يدلّ عليه ظاهرا وباطنا لأن غايته أن لا يتوجّه الناس إليه , وكذلك لعلمه بالحضرات يعرف بأنّ هناك حضرات باطل في صورة حقّ لا تدلّ عليه لأنّه ليست الطريق إليه : كالخوارج وغيرهم , فهو عليم بطريق القوم لذا قال
( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )فهو عارف بمحلّ وجود هذا الصراط لذا كان غاوي لعنه الله في جميع الشرائع والمناهج والطرق فما سلم منه دين ولا رسول ولا ولي ولا طريق ولا مذهب , لأنّها كلّها طرق تدلّ على الله تعالى وغايته سدّ اي طريق في وجه العباد يدلّ على الله تعالى لعلمه بأنّ كلّ من توجّه إليه أعطاه الله تعالى بصيرة النور فيكشفه بها كالنبي صلى الله عليه وسلّم لمّا خطّ خطوطا في الأرض يرسم فيه طريق الله وطرق الشيطان ولتعلم قدر وكمية حقد الشيطان علينا يجب أن تعرف بأن الشيطان ينظر إلى آدم وهو أبونا بأنه كان السبب في إستحقاقه غضب الله وأنه السبب في غواية الله له وأنّه السبب في خروجه من ذلك النعيم الأبدي الذي لا يطاق حسنه وفضله وكرمه فكان حقده علينا لا يوصف قدرا ونزل إلى الأرض عدوّا خالصا لنا وقد أوضح بأن عداوته لنا لن ينجى منها إلا ( المخلصين )إسم مفعول بفتح اللام أي أهل الفناء والبقاء الذين ماتت نفوسهم فكان الله بصرهم وسمعهم ويدهم ورجلهم لأنّ إبليس ليس له قدرة على غواية الإنسان وهو في الحضرة لذا إنتظر سكنى آدم في الجنّة ومن ثمّ إستعجل المعركة فغوى آدم بسبب أكله من الشجرة لأن إبليس كان يعلم بأن النزول إلى الأرض لن يتحقّق إلا بالأكل من الشجرة فإستعجل المعركة من كثرة حقده علينا
وهناك حقيقة لا بدّ من ذكرها :
وهي أنّ أدم كان قرينه إبليس ولكلّ إنسان قرين لذا كان معه في الجنّة قبل نزول آدم رغم أن إبليس لعنه الله وطرده ورغم هذا سكن الجنّة مع آدم لأنّه قرينه وهكذا لكلّ إنسان قرين : بمعنى أن كلّ مولود من بني آدم لا بدّ أن يولد لإبليس مولودا شيطانا ليكون قرينا لذلك الإنسان , فيستمدّ ذلك الشيطان مددا من حقيقة إبليس التي مسخه الله عليها , كما أن كلّ مولود من البشر يستمدّ من حقيقة أبيه آدم فحقائق آدم سارية فينا من حيث سماعنا لقوله تعالى ونحن في صلب آدم ( وعلّم آدم الأسماء كلّها )وكذلك حقائق إبليس سارية في ذريته وذلك عند سماعهم وهم في صلب إبليس ( إن عليك لعنتي إلى يوم الدين )فكانت المعركة بينهما شرسة وكبيرة فهذا يريد أن يغوي هذا وهذا يريد أو يصلح هذا لذا قال ( بعضكم لبعض عدوّ )فكانت عداوتنا له أننا نأمر بالخير وننهى عن الفحشاء والمنكر فهذا وجه عداوتنا له أما إبليس فوجه عدواته أنه يأمر بالفحشاء والمنكر ....
وبالخلاصة :أن للشيطان عداوة لبني آدم في منامهم ويقظتهم لذا أخبر عليه الصلاة والسلام بالرؤيا من الشيطان ليبيّن بأن الرؤيا ليست فقط وقفا على أنّها من الرحمان أو الملائكة كي نفرّق بين الباطل والحقّ في كلّ شيء لذا كان هناك علماء بتأويل الرؤيا وهكذا هناك علماء في كلّ علم رباني كي يميّزوا فيدلوا الناس على ما هو حقّ وما هو باطل فعلماء الشريعة لهم دورهم وعلماء الطريقة لهم دورهم وعلماء الحقيقة لهم دورهم وهكذا فعلماء تأويل الرؤيا لهم دورهم وهكذا في كلّ فنّ وعلم ديني وهكذا فإن العلوم لا تستقيم إلا متى كانت صحيحة لأنه نور من الله تعالى
وعالم الخيال :هو الوجود ما لم تشاهد فيه مولاك قبله أو معه أو بعده
فقوله ( لأغوينّهم أجمعين )أي مجموعين من حيث أنّهم من آدم وأنهم بشر
ومجموعين : أي لا يهمّني كثرتهم ولا عدّتهم ولا عتادهم
ومجموعين :أي في حقائق كلّ واحد منهم الظاهرة أو الباطنة
ومجموعين :لأنّهم أهل جمال فإنهم لايعرفون أحكام الجلال والمكر والفتنة لبياض قلوبهم وسلامة صدورهم فيسهل إغواءهم كما حدث لآدم لذا حاجج موسى آدم
ومجموعين :لأنهم أهل جمع فأفرّقهم لتذهب ريحهم
ومجموعين :وذلك لحصول كلّ واحد منهم على قدر من غوايتي
....وهكذا من هذه الحقائق فإن القرآن كلّه أسرار وحقائق فإن كلّ شرّ في الكون هو من الشيطان فلا بدّ أن ننسبه إليه ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )هكذا قال أيوب , أنظر فهم الأنبياء وعلومهم وأدبهم وترتيبهم للحقائق وليس بعد هذا الكلام من كلام
يتبع............. مع السؤال الواحد والعشرون
قلتم سيدي فيما سبق ( والرؤى الشيطانية من عالم الخيال أيضا وفيها دواهي وفواجع ) والسؤال هو :
ما هو عالم الخيال هل هو مخلوق وهل له من يقطنه من حيث اسمه عالم ؟
الجواب والله اعلم
طبعا لا يمكننا أن نقول بأنّ الرؤيا الشيطانية من عالم الحقيقة أي عالم الأنوار وإنّما هي من حضرة الشيطان , وحضرته كلّها خيال في خيال من حيث التحقيق لا من حيث كيد الشيطان الذي كان ضعيفا حالا وماضيا ومستقبلا
والرؤيا سيدي قد تكون صالحة , ومعنى الرؤيا الصالحة أي كلّ رؤيا فيها نسائم الحضرة الإلهية بمعنى تزيدك حبّا أو تشويقا أو إسراعا أو تقوى أو عزيمة أو طاعة أو أيّة منقبة وحالة تقرّبك من الله تعالى , فما لم تدلّك رؤياك على الله تعالى فليست برؤيا صالحة , لأنّ الرؤيا الصالحة من الله ومحال أنها منه ولا تكون إليه .فافهم.
والرؤيا هي وحي المؤمن أي الباب الذي بقي منه الوحي الذي هو من أجزاء النبوّة وهي تدلّ على حدوث غيب من الغيوب التي لها تعلّق بها أو بغيرك مما رأيتها له بمعنى أنّها إمّا أن تدلّك على حالة واقعة فيك أو في غيرك كمن يكشف له في منامه عن حالة إنسان سواء بالإيجاب أو السلب أو بما يقع له في الإستقبال وهذه وغيرها لا تكون إلا متى كانت الرؤيا صالحة وكان تعبيرها حقيقيّا من عالم متمكّن من التعبير
ولمّا كانت الرؤيا المنامية وحي المؤمن كان لا بدّ لهذا الوحي من معاند يريد إفساده الذي هو الشيطان الذي يسترق السمع في السماء وكذلك في سماء القلب ليخلط الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ لأنّ المقام الذي يشتغل فيه هو مقام التزيين بمعنى تزيين الباطل في صورة الحقّ وتزيين الحقّ في صورة الباطل كي يرى الإنسان الحقائق معكوسة ( فيبغونها عوجا )
بالنسبة للمؤمن القويّ أي قويّ الإيمان وذلك بأن تكون أنوار قلبه رجوما للشياطين لأنّ قلبه محروسا بجند الأنوار فلا يقع فيه إلا واردات الرحمان فهذا لا سلطان للشيطان عليه في رؤياه ولا يستطيع أن يخلط فيها أو يزيّنها له أو يكذب عليه فيها بل لا سبيل له لذلك البتّة ( إلا عبادك منهم المخلصين )
لأنّ الشيطان توعّد بالغواية وأقسم في ذلك بالعزّة الإلهية وهذه الغواية من الشيطان لنا تكون في حالتي النوم واليقظة لذا أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالوضوء للنوم لأنه سلاح المؤمن يقاتل به أعداءه وأوصانا بذكر أوراد النوم وماذا نفعل متى لعب بنا الشيطان فلا نقصّ رؤيانا التي فيها تحزين من الشيطان وكذلك نتفل على شمالنا ثلاث مرّات متى رأينا رؤيا تفزعنا وكذلك بأن لا نقصّ رؤيانا إلا على عالم ناصح لبيب فطن كما ورد في الأحاديث لأنّ الرؤيا على رجل أو جناح طائر فكيفما أوّلها المؤوّل وقعت فأمرنا بالتريّث في ذلك والتمهّل
لأنّ سطوة الشيطان وغوايته في عالم النوم أيضا كبيرة بل هي من أدقّ تلبيساته وأخفاها على الإنسان لذا فقد دخل على الناس من هذا الباب فأفسد على كثير من الناس إيمانهم وتقوتهم
وكان لي أخا في الله تعالى إسمه ( منير ) كان يأتيه الشيطان برؤى في منامه ومن ثمّ يراها هذا الأخ في اليقظة حرفا بحرف وذلك لأنه يريد التلبيس عليه , وتفسير ذلك سهل وهو أنّ الشيطان يخيّل إليك أمر في منامك ثمّ يعمل الشيطان وأعوانه في يقظتك على أن يجعلوا ذلك الأمر مشهودا عندك , فمثلا يريك في منامك بأنك قابلت أحدا من الناس منذ فترة لم تراه , ثمّ في الصباح يذهب الشيطان لذلك الشخص فيوسوس له بخاطر المجيء والقدوم فيقدم فتقابله حتى أنك ربّما تقول له أو في نفسك : سبحان الله البارحة رأيته في منامي أنّي أراه ...وهكذا
وهذه ليست قاعدة كليّة وإنّما هي قاعدة عند الناس الذين مازالوا في مرتبة النفس الأمّارة بالسوء أي مازالوا في مرتبة الخواطر الشيطانية والنفسية لذا وجب عليهم أن لا يجزموا في رؤياهم لأنّها لربّما تكون من النفس أضغاث أحلام أو من الشيطان وهو الحلم والتلبيس
أمّا أهل الله تعالى فليس للشيطان ولا للنفس عليهم من سبيل لأنّهم محفوظون منه ( إلا عبادك منهم المخلصين )
ثمّ إنّ الرؤيا لها تعلّق كبير بالواردات :فمن كان من المريدين كما قال الشيوخ ساداتنا من أهل المعرفة رضي الله عنهم مازال في دائرة الخواطر النفسية والشيطانية فليس لرؤياه قيمة كبيرة وقد تكون ذات قيمة كبيرة ولكن هذا قليل إلا ما كان من السنّة كصلاة الإستخارة من حيث الإنشراح أو رؤيا صالحة تشير إلى ما إستخار فيه تلميحا أو تصريحا , وإنما كلامنا في الرؤيا من حيث أنها رؤيا من غير تكلّف ولا قصد لها مسبّق
فالرؤيا التي يعتنى بها هي رؤيا العارف بالله تعالى كالأنبياء والرسل وأهل الولاية الكبرى والفتح الكبير ثمّ يليهم من الناس أهل الولاية الصغرى ثمّ في المرتبة الثالثة أهل الإيمان من حيث مستويات إيمانهم
وحقيقة الرؤيا الصالحة لا يراها إلا المؤمن ( أي المؤمن الكامل )فمن كمل إيمانه أشرق إحسانه قال أحد الصحابة ( لقد أصبحت اليوم مؤمنا حقّا يا رسول الله ...)
ثمّ إن الكشف الذي عند الأولياء فهو إمّا أن يكون كشفا مناميا وهذه المبشّرة المنامية وإمّا أن يكون كشفا حقيقيّا في عالم يقظتهم أو بين النوم واليقظة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي )أي في اليقظة عند الصلاة و بصر الروح هذا لأنّه مثل الذرّة لا تنقسم أفرادها وليست لها أجزاء متى وصلنا إلى نواتها الأصلية التي لا تنقسم فالروح تسمع بكلّ ذاتها وترى وتشاهد بكلّ ذاتها وهكذا لأنّها جوهر لا ينقسم ولها ما يقابلها في العالم المادي ( وهي الذرّة )لذا فالروح تأخذ حيزها من حيث الوسع والإنتشار بحسب حجم الروح وكبرها ومن هنا تعرف مقامات الأولياء في الإدراك والعلوم ومن هنا نعرف أسرار نوال المقامات والخصوصيات كالقطبانية والفردانية وغيرها لأن هذا من أمر الروح التي هي من أمر الله .فافهم .
وإنّما قلنا بأنّ للشيطان فواجع في عوالم الخيال , إنّما نقصد بعالم الخيال هو هذا العالم الباطل أي الذي لا يرى العبد وجود موجده قبله أو معه أو بعده بحيث أنّه في نظره لا يعدو كونه عالما مترامي الأطراف حسّا ومعنى فيحجب بالكون عن المكوّن فهذا الحجاب في مراتبه الثلاث وهي مرتبة حجاب العقل وحجاب القلب وحجاب الروح , فكلّ ما أدركه البشر متى كان بهذه الصفة من العوالم إنما هو من عالم الخيال الذي لا وجود له لأنّ البقاء إنّما يكون بالجمال الإلهي ولا يكون البقاء بالجلال الإلهي أبدا , وإبليس قام في الجلال فأراد أن يقوم بأحكامه من حيث القدرة وهكذا فافهم فعالمه حتما أنّه عالم خيالي وإعتقاده وهم في وهم لذا كان كيده ضعيفا لأنّ هذا العالم ليس بعالم الخصوصيات فلا يحسن إبليس ولا غيره أن يمدّ الناس بخصوصيات فيه لا عن طريق المنام ولا عن طريق غيره .فافهم
قال تعالى ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا )
وقوله إلا ( غرورا )متعلّق بحقيقة النفس متى إعتقدت وجودها مع وجود الله )
في هذا العالم الخيالي الذي لا يدلّ على الله تعالى بحال لقوله ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )حجب الناس من كلّ ما يدلّ عليه ظاهرا وباطنا لأن غايته أن لا يتوجّه الناس إليه , وكذلك لعلمه بالحضرات يعرف بأنّ هناك حضرات باطل في صورة حقّ لا تدلّ عليه لأنّه ليست الطريق إليه : كالخوارج وغيرهم , فهو عليم بطريق القوم لذا قال
( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )فهو عارف بمحلّ وجود هذا الصراط لذا كان غاوي لعنه الله في جميع الشرائع والمناهج والطرق فما سلم منه دين ولا رسول ولا ولي ولا طريق ولا مذهب , لأنّها كلّها طرق تدلّ على الله تعالى وغايته سدّ اي طريق في وجه العباد يدلّ على الله تعالى لعلمه بأنّ كلّ من توجّه إليه أعطاه الله تعالى بصيرة النور فيكشفه بها كالنبي صلى الله عليه وسلّم لمّا خطّ خطوطا في الأرض يرسم فيه طريق الله وطرق الشيطان ولتعلم قدر وكمية حقد الشيطان علينا يجب أن تعرف بأن الشيطان ينظر إلى آدم وهو أبونا بأنه كان السبب في إستحقاقه غضب الله وأنه السبب في غواية الله له وأنّه السبب في خروجه من ذلك النعيم الأبدي الذي لا يطاق حسنه وفضله وكرمه فكان حقده علينا لا يوصف قدرا ونزل إلى الأرض عدوّا خالصا لنا وقد أوضح بأن عداوته لنا لن ينجى منها إلا ( المخلصين )إسم مفعول بفتح اللام أي أهل الفناء والبقاء الذين ماتت نفوسهم فكان الله بصرهم وسمعهم ويدهم ورجلهم لأنّ إبليس ليس له قدرة على غواية الإنسان وهو في الحضرة لذا إنتظر سكنى آدم في الجنّة ومن ثمّ إستعجل المعركة فغوى آدم بسبب أكله من الشجرة لأن إبليس كان يعلم بأن النزول إلى الأرض لن يتحقّق إلا بالأكل من الشجرة فإستعجل المعركة من كثرة حقده علينا
وهناك حقيقة لا بدّ من ذكرها :
وهي أنّ أدم كان قرينه إبليس ولكلّ إنسان قرين لذا كان معه في الجنّة قبل نزول آدم رغم أن إبليس لعنه الله وطرده ورغم هذا سكن الجنّة مع آدم لأنّه قرينه وهكذا لكلّ إنسان قرين : بمعنى أن كلّ مولود من بني آدم لا بدّ أن يولد لإبليس مولودا شيطانا ليكون قرينا لذلك الإنسان , فيستمدّ ذلك الشيطان مددا من حقيقة إبليس التي مسخه الله عليها , كما أن كلّ مولود من البشر يستمدّ من حقيقة أبيه آدم فحقائق آدم سارية فينا من حيث سماعنا لقوله تعالى ونحن في صلب آدم ( وعلّم آدم الأسماء كلّها )وكذلك حقائق إبليس سارية في ذريته وذلك عند سماعهم وهم في صلب إبليس ( إن عليك لعنتي إلى يوم الدين )فكانت المعركة بينهما شرسة وكبيرة فهذا يريد أن يغوي هذا وهذا يريد أو يصلح هذا لذا قال ( بعضكم لبعض عدوّ )فكانت عداوتنا له أننا نأمر بالخير وننهى عن الفحشاء والمنكر فهذا وجه عداوتنا له أما إبليس فوجه عدواته أنه يأمر بالفحشاء والمنكر ....
وبالخلاصة :أن للشيطان عداوة لبني آدم في منامهم ويقظتهم لذا أخبر عليه الصلاة والسلام بالرؤيا من الشيطان ليبيّن بأن الرؤيا ليست فقط وقفا على أنّها من الرحمان أو الملائكة كي نفرّق بين الباطل والحقّ في كلّ شيء لذا كان هناك علماء بتأويل الرؤيا وهكذا هناك علماء في كلّ علم رباني كي يميّزوا فيدلوا الناس على ما هو حقّ وما هو باطل فعلماء الشريعة لهم دورهم وعلماء الطريقة لهم دورهم وعلماء الحقيقة لهم دورهم وهكذا فعلماء تأويل الرؤيا لهم دورهم وهكذا في كلّ فنّ وعلم ديني وهكذا فإن العلوم لا تستقيم إلا متى كانت صحيحة لأنه نور من الله تعالى
وعالم الخيال :هو الوجود ما لم تشاهد فيه مولاك قبله أو معه أو بعده
فقوله ( لأغوينّهم أجمعين )أي مجموعين من حيث أنّهم من آدم وأنهم بشر
ومجموعين : أي لا يهمّني كثرتهم ولا عدّتهم ولا عتادهم
ومجموعين :أي في حقائق كلّ واحد منهم الظاهرة أو الباطنة
ومجموعين :لأنّهم أهل جمال فإنهم لايعرفون أحكام الجلال والمكر والفتنة لبياض قلوبهم وسلامة صدورهم فيسهل إغواءهم كما حدث لآدم لذا حاجج موسى آدم
ومجموعين :لأنهم أهل جمع فأفرّقهم لتذهب ريحهم
ومجموعين :وذلك لحصول كلّ واحد منهم على قدر من غوايتي
....وهكذا من هذه الحقائق فإن القرآن كلّه أسرار وحقائق فإن كلّ شرّ في الكون هو من الشيطان فلا بدّ أن ننسبه إليه ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )هكذا قال أيوب , أنظر فهم الأنبياء وعلومهم وأدبهم وترتيبهم للحقائق وليس بعد هذا الكلام من كلام
يتبع............. مع السؤال الواحد والعشرون
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
مواضيع مماثلة
» الأذواق البكر من قصّة يوسف في الذكر ( هدية لسيدي فارس النور)
» من أسئلة الدكتور سيدي إلياس بلكا حول فهم النص القرآني
» من أسئلة الأستاذ سيدي محمد حراز المغربي حفظه الله تعالى
» رسائل من سيدي أحمد العلاوي الى سيدي محمد المدني رضي الله عنهما
» الرسالة الأولى من سيدي محمد المداني إلى سيدي إسماعيل الهادفي
» من أسئلة الدكتور سيدي إلياس بلكا حول فهم النص القرآني
» من أسئلة الأستاذ سيدي محمد حراز المغربي حفظه الله تعالى
» رسائل من سيدي أحمد العلاوي الى سيدي محمد المدني رضي الله عنهما
» الرسالة الأولى من سيدي محمد المداني إلى سيدي إسماعيل الهادفي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 22:37 من طرف الطالب
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
الخميس 14 نوفمبر 2024 - 20:57 من طرف أبو أويس
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس
» هل تطرأ الخواطر على العارف ؟
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:59 من طرف أبو أويس
» رسالة من شيخنا الى أحد مريديه رضي الله عنهما
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:49 من طرف أبو أويس
» مقام الجمع
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:40 من طرف أبو أويس
» تقييمات وإحصائيات في المنتدى
الثلاثاء 30 يوليو 2024 - 6:36 من طرف أبو أويس