مواهب المنان
مرحبا بزائرنا الكريم
يمكنك تسجيل عضويتك لتتمكن من معاينة بقية الفروع في المنتدى
حللت أهلا ونزلت سهلا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مواهب المنان
مرحبا بزائرنا الكريم
يمكنك تسجيل عضويتك لتتمكن من معاينة بقية الفروع في المنتدى
حللت أهلا ونزلت سهلا
مواهب المنان
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» تصحيح مفاهيم حول مشيخة التربية والإرشاد
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeأمس في 14:18 من طرف ابن الطريقة

» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالسبت 23 نوفمبر 2024 - 13:27 من طرف الطالب

» شيخ التربية
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالسبت 23 نوفمبر 2024 - 8:33 من طرف ابن الطريقة

» رسالة من مولانا وسيدنا إسماعيل الهادفي رضي الله عنه إلى إخوان الرقاب
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:13 من طرف ابن الطريقة

» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:06 من طرف ابن الطريقة

» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالجمعة 22 نوفمبر 2024 - 8:36 من طرف أبو أويس

» يا هو الهويه
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي

» لا بد لك من شيخ عارف بالله
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس

» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالسبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب

» السر فيك
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس

» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس

» ما أكثر المغرر بهم
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالسبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس

» قصيدة يا سائق الجمال
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة

» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس

» سيدي سالم بن عائشة
نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Icon_minitimeالثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس

منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930

اليومية اليومية


نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الأربعاء 22 يونيو 2011 - 2:22



بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين


من أجمل قصص المحاب التي في القرآن قصّة محبّة سيدنا يعقوب لإبنه سيدنا يوسف عليهما السلام ففيها من العبر والفكر ما تنوح له الجبال وتسير بها عبرات كلّ مكان وزمان وهي عندي أحسن قصص القرآن على الإطلاق لما فيها من المعاني الشريفة واللطائف المنيفة وهي من القصص التي تفيد الصوفية كثيرا في سلوكهم فتعرّفهم مقامات وأحوال ونفائس أمداد وأعمال لهذا صدّر الله تعالى هذه السورة بقوله تعالى في مستهلّ الآيات ( نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) هذا إذا إستشعرت حسن هذه القصّة متى قصّها عليك المحسن سبحانه وتعالى فإنّ الله تعالى حينما يقصّ علينا أيّة قصّة من القصص فإنّما يقصّها علينا بعلمه سبحانه المحيط فيا طوبى لمن إستمع القصص من عند الله تعالى فلكفته إذن وأطربته وأبكته وأحيته وأماته وأفقرته ثمّ أغنته ثمّ تيّهته ... إلخ تلك الأشواق ( فإنّ في قصصهم عبرة )

ولولا أنّ الله تعالى قصّ علينا تلك القصّة لقلنا متى سمعناها من غيره هذه يستلزم لها مزمار داود كي يقصّها لحنا شجيّا وإنشادا ملكوتيا ومهما تيّهني من القصص ما أخذ فؤادي مثل هذه القصّة ففيها من الصفاء ما يتيه به الأكوان ومن الإحسان ما يغيب به الوجدان , وإنّ فيها من العلوم والأحوال ما يستلزم قلم الروح نَوْحًا , ومدد القلب بَوْحًا , فهي قصّة من عالم الملكوت قصّة براءة مثلى لا يقدّر بقدرها صفاء مغشوش أو دعوى محسوس بل تبقى خالدة في تاريخ أفق القلوب وآفاق الأرواح , وإنّ من أجمل الأحوال التي تستهويني الأحوال اليوسفية والمقامات الصدّيقية , فهي قصّة ليست من هذا العالم في شيء وإن كانت أحداثها تدور فيه , فهي قصّة قلبية وحياة روحية بساطها الصفاء والوفاء وبناؤها الحبّ والنقاء فإنّ جمال سيّدنا يوسف الباطني خرج منه على محيّاه فصار بعض باطنه على ظاهره فأغشى جماله الجماعة حتى أجمعت النسوة على أنّه ليس ببشر بل هو ملك كريم , بل أين الملك منه لو كنّ يعلمن وها إنّي أتناول من آياتها طرفا ومن غرامها صرفا كأسا وقدحا فإنّ غرامي بهذه الصناعة يفوق الخيال ويسيطر منّي على جميع الأحوال والأعمال فهل لنا غير هذه الصناعة لا والله بل لا نحسن في العالمين سواها وكلّ يوم نتشبّث بمرقاها فإنّ سيدنا يوسف عليه السلام هو الكريم كما قال عليه الصلاة والسلام ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم أربع مراتب وبما أنّ الله تعالى رزقني محبّة هذه الأحوال والسعادة فيها بالأقوال فلا ملام على المحبّ وإن أخطأ فإنّ خطأه مغفور بل مجازى عليه فله أجر واحد وسعيه مشكور

قال تعالى ( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )

لمّا أراد الله تعالى إظهار الميزات اليوسفية والخصائص الصدّيقية أراه في منامه ما قد رآه فقرّبه يعقوب منه أكثر وأدناه خوفا عليه وتودّدا إليه لمّا علم ما قد يكون من مقامه فعلم يوسف من إشارة أبيه شأنه وأنّ لأمره قصّة طويلة وعبرة جليلة منذ أن أمره أبوه بأن لا يقصّ رؤياه على إخوته , ففهم يعقوب الإشارة من الرؤيا لمّا قال يوسف ( رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) فلمّا عيّن بقوله ( أحد عشر كوكبا ) مباشرة قال له ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) فعلم يعقوب ما علم من تأويل تلك الرؤيا فعلم بكيد إخوانه اللاحق له قبل حصوله لذا أمره بالكتم إذ أنّ الشمس والقمر مكتملان لا يخاف منهما بخلاف الكواكب

فجنح يعقوب إلى طلب الستر لما يستوجبه المقام في هذا المجال من الغيرة التي تفلق أكباد العارفين ولا بدّ لبعضهم منها فلا زال في كلّ زمان يوسف ويعقوب وكذلك بقية الأنبياء فلا تنكر على شيخك بل أنظر بأيّ حال من أحوال الأنبياء إتّصف . ولكن خفي على يعقوب ما في أٌقدار الله تعالى من تأويل تلك الرؤيا على تمامها وكمالها فخاف على يوسف كما خافت من بعده أمّ موسى على موسى عليه السلام من فرعون وجنوده فإنّ علامة الخوف متى إستشعرها النبي على إبنه أو العارف على مريده فإنّه حتما يقع ما كان يخشاه ويحذره كي يعلموا أنّ الله تعالى ناصر عباده بعلمه وبحوله وأنّ حفظه وصونه يفوق خوفهم وحرصهم إلاّ أنّه ردّ موسى إلى أمّه لأنّ الله تعالى يلطف بقلب المرأة كثيرا ويجبره لعلمه بما في فؤادهنّ من رقّة وحنان على أولادهنّ فالإبن قطعة من كبد أمّه وهذا أمر تراه في قلب كلّ أمّ حتّى في الأنعام فحاشا الله تعالى أن يحرق قلب أنثى فلو تعلم النساء برفق الله بهنّ لصعقوا ولكنهنّ لا يشعرن فإنّ أخلاق الله تعالى أمر جلل عظيم يرقص لها العرش طربا ويتمايل الكرسي منها هياما وسكرا فإذا لم تستطع أن تحيط بأخلاق سيّد المرسلين فكيف تحيط بأخلاق ربّ العالمين فيا لله ما أجمل وما أعظم أخلاق الله تعالى شيء عظيم عظيم عظيم لا تكيّف ولا تطاق منها الذرّة الواحدة فكيف بكلّها فهو ربّ بحقّ وصدق فما أعظم الله تعالى وما أحسن جماله ( الله نور السماوات والأرض )

فعلّق قلبك بالله أيّها المريد وافرح وغنّ واشطح أنّ لك ربّا هو الله تعالى فيا طوبى لك ويا سعدك بالله تعالى فهل لك غيره بالله عليك هل لك غيره وهل تريد سواه فهل عوّدك إلاّ حسنا وهل رأيت منه إلا خيرا فأحبّ الله وارقص غنّ وافرح واشطح ودر في الأكوان وقل : الله ربّي لا أريد سواه

فهل خفت على يوسف يا يعقوب وأين ربّ يوسف في هذا الخوف منك عليه يا يعقوب إذن فلا بدّ من الإبتلاء والإختبار ولا بدّ لك من الحزن والبكاء إلى حين العمى محبّة منّي إليك كي أرجع الحبيبين في الوصفين الكاملين

وهذا يونس لماذا هرب منّي أحسب أن لن نقدر عليه في وصف الصفات فلو لا أن جنح إلى حكم الذات للبث في بطنه إلى يوم يبعثون إنّي أعظك يا نوح أن تكون من الجاهلين أترفق أنت بإبنك أكثر منّي عليه وأنا ربّه وخالقه وأعلم به منك وأنت يا موسى خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين لا لنفاذ خزائني وإنّما طلب المزيد لا يكون إلاّ بشكري فلو كان حرصك على شكري لجاءك المزيد ( لئن شكرتم لأزيدنّكم ) وأنت يا أيّوب وجدناك صابرا محتسبا وكذلك نجزي الصابرين الشاكرين فنعوّض لهم ما فات بأحسن منه ونخلف لك ذلك فاصبر لحكمي ولا تخف فأنت بأعيننا وأنا أقرب إليك من حبل الوريد وأنت يا عيسى أحسبت أن لن تدفع مهر أحديتي التي إيّاك أشهدتها فكنت غلامها وولدها أم حسبتم يا جميع عبادي أنّكم أرباب تحكمون بحكمي وتعلمون بعلمي بل ( ما أؤتيتم من العلم إلاّ قليلا ) ومتى أتيناك كثيرا قلنا لك ( وقل ربّ زدني علما ) هذه مكانتي وليس مكاني وهذا قهري وليس عذابي وهذا إحساني وليس إنتقامي ...

فما أطلب منكم غير الأدب


علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الأحد 10 يوليو 2011 - 15:27



الحمد لله العظيم الكريم

قال تعالى ( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )

كان مشهد يوسف في هذه الرؤيا التي قصّها على أبيه مشهدا ملكوتيا صرفا لتعلّق ما حكاه بأخبار السماء وتعلّقه بعالم الأنوار لضياء الكواكب والشمس والقمر فقصّ الرؤيا بمراتبها وهذا من دليل صدقها وهو من علوم الرؤى فإنّ الرؤى يُعرف صدقها من كذبها وتُعرف حضراتها بما يتلوه رائيها منها لذا كانت رؤيا نبيّنا عليه الصلاة والسلام قبل النبوّة تأتي كفلق الصبح لوضوحها بوضوح قلب صاحبها وصفائه وما يعدّ له فيها وهكذا هي رؤى الأنبياء فمنها ما يؤوّل ومنها ما لا يؤوّل بل يأخذه النبيّ على ظاهر الرؤيا كرؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام لمّا رأى في منامه أنّه يذبح إبنه سيدنا إسماعيل عليه السلام لتعلّق الرؤى بأمرين : الأوّل : تعلّقها بعالم التشريع الذي هو من عالم الأسماء والعبودية , والثاني : تعلّقها بعالم الخصوصية في مرتبة العبودية , فما كان من عالم الصفات يؤوّل غالبا وما لا يؤوّل هو من عالم الأسماء لتعلّقها بالتشريعات كرؤيا ذلك الصحابي حيث سمع الآذان فأقرّه عليه الصلاة والسلام على ذلك فاتّخذ الآذان برؤيا ذلك الصحابي وهذا أمر لا يجب الموافقة عليه إلاّ بتفسير نبيّ أو تقريره فيه لأنّ أمر التشريع خاصّ بالمرسلين ولا يفهمه سواهم لذا قال عليه الصلاة والسلام في أمر الحجّ لما سأله صحابيّ أكلّ عام يا رسول الله فقال : لو قلت نعم لوجب فإنّه لا يحسن أحد أن يتصرّف في أمر التشريعات غير الأنبياء والمرسلين حيث سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام من ربّه أن يخفّف فريضة الصلاة عن أمّته بإشارة نبيّ وهو موسى عليه السلام لأنّ الفرائض هي الأوامر الإلهية وهي كثيرة ومرجع كلّها إلى معرفة حقوق الذات الإلهية في مراتب شتّى منها لتأسيس حكم شرعي متعلّقه حقوق الأسماء والصفات بهذا الترتيب أعني حقوق الأسماء أوّلا ثمّ حقوق الصفات أي من الفعل إلى الصفة وهو توحيد الأفعال أوّلا ثمّ توحيد الصفات

فلو لا التشريع لما وحّد أحد من الخلق الأفعال ولو لا التحقيق لما وحّد أحد من الخلق الصفات هذا كي أعلمك لماذا التشريع وحكمته ثمّ لماذا التحقيق وحكمته كي تفهم مراد الله منك في توحيده فالغير متشرّع عندنا يعتبر غير موحّد للأسماء أمّا الغير متحقّق فهو غير موحّد للصفات أو تأسيس أمر تشريعي متعلّقه حقوق الصفات والأسماء الإلهية خاصّة متّصلين بهذا الترتيب وذلك بسبق حقوق الصفات لحقوق الأسماء كرؤيا إبراهيم فيتّصل فيها حكم الصفات مع حكم الأسماء وإلاّ فإنّ قتل النفس التي حرّم الله كبيرة من الكبائر في عالم الأسماء فكيف بذبح الأبناء وهذا كلّه متعلّقه الذات الإلهية من حيث العبودية بخلاف رؤيا يوسف فهي رؤيا وإن كانت صفاتية فلا تتعلّق بحقوق الأسماء الإلهية من حيث العبودية لتعلّقها بالأسماء الإلهية من حيث الخصوصية التي لا تنفصل عن العبودية أو تقول بتعريف المقامات والمراتب فلا يطغى مقام على مقام أو مرتبة على مرتبة كما طغت مرتبة إبليس على مرتبة آدم لذا سمّي إبليس بالطاغوت بخلاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم فإنّ بصره ما زاغ وما طغى فإنّ الزيغ والطغيان متى دخلا على مقام أفسداه فانقلب ظلمة بعد نور ونقمة بعد نعمة , لأنّ قصّة إبراهيم مع إبنه وكذلك زوجته هاجر متعلّقها التشريع وهو تشريع الحجّ أو تقول متعلّق ذلك عالم الفتح وهو غفران جميع الذنوب فمن فتح الله عليه غفرت جميع ذنوبه ففهمنا أهميّة فتح مكّة وفتح جميع المدن

وقد قال تعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ) فمتى صار الفتح دخل الناس في دين الله أفواجا لكن في دائرة نصر الله تعالى وليس نصر أحد سواه لذا نسب النصر إليه برجوع ضمير النصر إلى الله إضافة ثمّ أضاف الفتح إليه بالعطف بداية وأطلق الفتح نهاية فلو شاء لقال ( وفتحه ) أي إذا جاء نصر الله وفتحه وحكمة ذلك والله أعلم أنّ الفتح مطلق من باب المشيئة الإلهية والمحبّة الربانية فلو قيّد الفتح على وجود سبب غير سبب العبودية لما سمّي فتح ومن العبودية أن لا تلتفت إلى سبب أصلا والكلام في هذا يطول هذا كي تعلم دقّة القرآن وإعجازه بحسب الحقائق في مراتب اللغة العربية وآدابها كنحو وصرف وبلاغة فهي موضوعة بحسب الحقائق قبل كلّ شيء فهو نهاية كمال الحسن ظاهرا وباطنا فيظنّ الظانّ أنّ محسّنات لغة القرآن الظاهرة إنّما مرجعها للمحسّنات اللفظية فحسب بل المحسّنات الحقائقية في القرآن على أكمل وأجمل وأحسن وجه وإذا كان الغوي يطرب ويرقص من الإعجاز اللغوي في القرآن فإنّ المحقّق كساداتنا العارفين رضي الله عنهم يطربون ويرقصون من إعجاز الحقائق فيه ولكلّ أناس مشربهم فشتّان ما بينهما ...

قلت :

رؤيا يوسف من عالم الملكوت وتدلّ على عالم الملكوت من حيث خصوصياته لأنّ الملكوت عالمه بين عالم عام وعالم خاص لذا نقول هناك عوام أهل النبوّة وهناك خواص أهل النبوّة كما الأمر في أهل الرسالة فهم بين عام وبين خاص وبين العام الخاصّ وبين الخاصّ العام فهي مراتب لتعدّد أوجه تلك المراتب بحسب ميزان الحقائق وهذا من عالم المشيئة وهو ميزان العلم بالفضل والعدل بحسب الإرادة وكذلك الأمر هناك عامّة أهل الولاية وهناك خواص أهل الولاية

فذكر يوسف رؤياه بداية بذكر مقامات إخوته فقال ( إنّي رأيت أحد عشر كوكبا ) ثمّ ذكر مقام أبيه كناية عن ( الشمس ) ثمّ ذكر بعد هذا مقام أمّه وهي ( القمر ) فذكر إخوته إشارة وكناية عن الحجاب فيما بينه وبين أبيه فكأنّه أشار هنا إلى ما سيحدث له مع إخوته لذا لمّا تمّ ذكر إخوته فيما بينه وبين أبيه في سياق قصّ الرؤيا نهاه أبوه يعقوب مباشرة أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فكأنّه علم أنّ إخوة يوسف سيمنعون يوسف من أبيه فلو قال له مثلا ( إنّي رأيت الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا رأيتهم لي ساجدين ) لتغيّر تأويل الرؤيا وربّما ما خاف عليه من إخوته فكان إخوته حجابا فيما بينه وبين أبيه وكان أبيه واسطة فيما بينه وبين أمّه لأنّ أمّه كانت تحت حكم أبيه لذا لم يقع ذكرها في أحداث الخوف عليهم وما في الحزن من أحداث القصّة فلم تكن تلك القصّة ظاهرية بقدر ما هي باطنية فهي مصارعة وخصام باطني فهو من شبيه خصام الملائكة في أيّهم يكفل مريم فما هو خصام ظاهري بقدر ما هو باطني لتعلّقه بالخصوصيات وهكذا هي بواطن الأولياء فكم من ولي يخاصم وليّا آخر باطنا وأنت تظنّ أنّهما يتخاصمان ظاهرا , كان مرّة شيخنا كثير الخصومة الظاهرة مع فقير من ساداتنا الفقراء وكان من العارفين وكان معهما فقير من إخواننا فممّا رواه لي ذلك الفقير أنّه قال : قال شيخنا لمّا أحسّ بتساؤلي عن سبب تلك الخصومات عند أهل الصفاء وكيف يمكن لها أن تقع : يا سيدي ليس بيننا غير الخير والصفاء التام وإنّما هي أمور باطنية فيخرج رشحها على الظاهر ...

لا تخاصم للكبير مع من هو أدنى في المقام منه بل الخصومة تأتي من الصغير للكبير بما يشهده الكبير من خروج الصغير عن دائرة التسليم له في دائرته ومنعتها وحكمه الذي إختصّه الله به فيريد أن يخرج عن حكم من هو أعلى مقام منه وكذلك فلا يصدر نفور من الكبير على الصغير بل يصدر النفور غالبا من الصغير على الكبير .. وهذا درجات .. لذا رجع إخوة يوسف في الأخير إلى حكم يوسف فسجدوا له

فنبّه يعقوب إبنه وحذّره من تلك الخصومة الباطنية التي ستقع من طرفهم فإنّهم سيجمعون عليها كما قال تعالى ( وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) فصدر منهم الإجماع فما فارق منهم أحد ذلك الإجماع كي تعلم أنّ الخوف كلّ الخوف ممّن يكون أدنى في المقام فهو على إستعداد أن يؤذي فتحتّم هنا الكتم وعدم التصريح للخواص بل غاية ما يكون التصريح للعوام فإنّ العامي يصدّق ويفرح غالبا بخلاف الخاص فقد يوذيك لطلبه ما أنت فيه وبصدده كما قال يعقوب : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ) فما قال ( فيحسدوك ) لأنّهم لا يحسدون وإنّما ذكر الكيد ( فيكيدوا لك كيدا ) فلا تستطيعه , وإنّما ذكر الشيطان في آخر الآية لما عليه الحقائق في دقائقها لذا قال ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) لأنّ سبب العداوة فيما بين آدم وإبليس بدأت من طرف إبليس فهو الذي بدأ ( والبادئ أظلم ) إنّما كانت بسبب المقامات فهي محلّ التنازع ومجالها وإنّما كلّ هذا في حقيقته كي نتعلّم التسليم لله تعالى من حيث ألوهيته فأنت متى سلّمت لمخلوق فيما آتاه الله تعالى فهذا يأخذك تدريجيا إلى التسليم لله في أحكام ربوبيته وألوهيته فالمراد من ذلك كلّه هو معرفة الله تعالى والتسليم له في أسمائه وصفاته فهذا يأخذك إلى الفناء في مطلق ذاته والبقاء بها وهذا هو التوحيد الحقّ الذي عليه الأنبياء والمرسلون والعارفون الكاملون فإنّ التسليم للمقام هو بداية التسليم لله تعالى في أحكامه لأنّ المقام حكم إلهي ليس بمقدرة المخلوق دعواه أو الوصول إليه فهو من حكم الله وهذا مجال الأدب مع الله تعالى , فمثال العبودية كلوح ومثال الخصوصية كالكتابة فيها , فمتى نازعت في تلك الكتابة فأردت تغييرها فأنت بذلك تفسد اللوح , فأنت مأمور بمشاهدة اللوح وهو العبودية والقراءة فيه وهو معرفة منازل الخصوصية فلا تخرج الخصوصية من العبودية أبدا كما لا تخرج الكتابة من اللوح أبدا فمن أفسد عبوديته فقد أفسد خصوصيته ( لا يمكنك أن تكتب محاسن الخصوصية إلاّ في لوح العبودية ) ( أصلها ثابت وفرعها في السماء ) ...

يتبع ...

علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الجمعة 8 مارس 2013 - 5:30



( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين )

ما قال له ( إنّي رأيت في منامي ) كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام لإبنه سيدنا إسماعيل عليه السلام ( يا بنيّ إنّي أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) بل قال سيدنا يوسف هنا ( إنّي رأيت ) وهذا يعطي الكشف المنامي لما سيكون في المستقبل أكثر منه مجرّد الرؤيا فهو إخبار من يوسف لأبيه على وجه الصدق لما سيكون من حاله في مستقبله لهذا قال بعد أن تمّ الأمر ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي جعلها حقّا كما قصصتها عليك بلا زيادة ولا نقصان

ومن لطائف هذه الآية أنّ المريد يشترط عليه كتم حاله وما يكاشف به سواء في الرؤى أو في الكشف الصحيح ولا يصارح إلاّ شيخه بذلك فهو أعلم بما يراه منه كما قال يعقوب عليه السلام ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) ثمّ أوضح له سبب ذلك في قوله ( فيكيدوا لك كيدا ) حتى لا يترك منفذا للشيطان إلى الدخول فيما بينهم فقال كما قال تعالى ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) لما عند الأنبياء وعلى آثارهم المشائخ من معرفة لمداخل الشيطان وأنّه يفسد الوداد بين الأحبّة والخلاّن فإنّ غاية الشيطان استراق السمع سماع الوحي كيفما كان وعلى لسان أينما كان ونحن هنا لو نفتح قوسا كي نذكر منهج النبيّ عليه الصلاة والسلام في حكاية المغيبات لأدركنا عظيم معرفته عليه الصلاة والسلام بمداخل الشيطان والنفس ومثالا على ذلك فإنّه عليه الصلاة والسلام ذكر ما سيكون في أمّته إلى يوم القيامة ولكن ذكره بجوامع كلمه الذي يعجز إبليس لعنه الله تعالى في تحديد ماهيته ووقته وكيفياته .. وهنا هناك علوم جمّة عزيزة

لذا قال سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمة من حكمه ( عباراتهم إما لفيضان وجد أو لقصد هداية مريد فالأول حال السالكين والثاني حال أرباب المكنة والمحققين ) لأنّ الكأس متى إمتلأت فاضت بعد ذلك وفي حكاية سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه قوله ( تعلّق باطني بالعالم العلوي حتى سيطر ذلك على قلبي فشكوت ذلك إلى شيخي فقال لي ( ضعه في كتاب تتخلّص منه فكان ذلك سبب تأليفي كتاب " مفتاح الشهود في مظاهر الوجود " ) – نقلته بالمعنى –
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( إستشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك )
قال بعض العارفين رضي الله عنه من أحبّ أن يطلع الناس على عمله فهو مراء ومن أراد أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب

قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( لا ينبغي للسالك أن يعبر عن وارداته فإن ذلك يقل عملها في قلبه ويمنعه وجود الصدق مع ربه ) فلا يجب الإغترار كثيرا بمن يكتب وارداته أو يحكي رؤياه للعامّة والخاصّة وإنّي العبد الضعيف لا أكتب ما أكتبه باعتباره من الواردات فلو كنت أعتبرها كذلك ما كتبت حرفا كما قال شيخنا سيدي إسماعيل رضي الله عنه في إحدى قصائده موجّها حديثه لشيخه سيدي محمد المداني رضي الله عنه ( وعندي من الاشواق ما لم أبح به --- فأنت طبيبي عالما بالخفية ) لأنّ الطبيب يداوي صاحب الشوق فيسقيه من كأس المحبّة كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ( سقيت من كأس الحبّ ثمّ ملكته --- فصار ملكا لديّ في مدّة الدهر )

أمّا أهل الإذن من ساداتنا العارفين كالشيخ الأكبر رضي الله عنه وغيره كثير رضي الله تعالى عنهم فهم ما كتبوا إلاّ بإذن إلهي فحكوا ما أذنوا لهم فيه كي ينتفع به من يقف عليه من بعدهم وفي زمانهم من أهل الله تعالى فلربّما تجد وليّا ما كتب حرفا أعلى مقاما من وليّ كتب آلاف الكتب ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) فلو لم يكتب أحد لما برزت المعارف الربانية والفيوضات الأقدسية ولما اشرقت على الخلق الأنوار المحمدية كما كتب الشيخ سيدي محمد البوصيري رضي الله عنه بردته وهمزيته بلسان الحبّ والشوق على بساط المعرفة والعلم فوق نوق البوح ...

ومن لطائف الآية أنّ المريد عليه أنم يصارح شيخه ولا يكتمه شيئا ممّا تحلّى به في باطنه أو كاشفه الله تعالى به لأنّ كتمان ذلك عن شيخه يفسد بذرة الإرادة لئلاّ يتوهّم المريد أنّ ما أوتيه فاق ما عند شيخه فيغترّ بذلك فيفسد عليه إرادته وكذلك فلربما ما كوشف به المريد من تجليات الشيطان أو شديد مكره بالمريدين أو ربّما لما في نفسه من أمراض وأسقام فمن صارح شيخه فقد عرض حالته على الطبيب ولهذا جُعل الاشياخ .. وقد أفاض في هذه المباحث سيدي الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في الكثير من كتبه النافعة ..

قال تعالى ( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )

كان يوسف في أسمى معاني الصدق والصفاء بما أنّه صدّيق لمّا رأى رؤياه ولمّا قصّها على أبيه فكان كامل الصحو عند رؤياه ومتثبتا من مشهد ما يراه بما أنّه عدّد الكواكب فذكرها بعددها أحد عشر كوكبا فكانت هناك رؤيتان : رؤية أولى ( رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ) ثمّ رؤية ثانية وهي قوله ( رأيتهم لي ساجدين ) فكانت في الرؤيا آداب منها : أنّه ذكر مقامات إخوته المعبّر عنهم في الرؤيا ( بأحد عشر كوكبا ) فحفظ مقاماتهم وما غمطها لهم ثمّ ذكر مقام أبيه وأمّه في قوله ( والشمس والقمر ) فحفظ مقاميهما ثمّ ذكر بعد ذلك مقامه السامي عليه السلام في قوله ( رايتهم لي ساجدين ) فأخبر عن رفعة مقامه مقارنة بمقام إخوته لأنّ الرفعة تكون من جنس المرفوع التي هي الكواكب بينما لا تكون الرفعة على غير جنس المرفوع لهذا ذكر خصوصية مقامه مقارنة مع مقام والديه ومن الآداب أنّه ذكر إخوته قبل ذكره والديه فكان تركيب ألفاظ قصّة الرؤيا كما حكاها يوسف نهاية في الأدب مع والديه وإخوته عليهم جميعا السلام فأثبت المقامات ثمّ أتبعها بذكر خصوصيته ..

ثمّ قال ( رايتهم لي ساجدين ) فما قال مثلا ( رايتهم لي عابدين ) فما قال الله تعالى للملائكة ( أعبدوا آدم ) بل قال لهم ( أسجدوا لآدم فسجدوا ) فيعطيك هذا أنّ السجود لا يكون عبادة إلاّ متى صاحبت نيّة العبادة السجود فصحّ هنا سجود التكريم وإنّما لم يشرّع سجود التكريم في الشرائع لما فيه من شبهة عبادة غير الله تعالى لذا رفض إبليس لعنه الله تعالى السجود لآدم أي رفض الإعتراف بكرامته بدليل قوله ( قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) فما قال مثلا ( هذا الذي أمرتني بعبادته ) لذا قال ( أأسجد لمن خلقت طينا ) هنا تفهم وتفقه أنّ دخول الشيطان عند بوحك بما خصّك الله تعالى به أمر خطير فإنّما هو دخول عداوة إبليسية ضدّك ففتحت على نفسك باب النزاع مع شياطين الإنس والجان لهذا قال يعقوب عليه السلام لما نهاه عن قصّ الرؤيا على إخوته ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) فهذا أعظم باب يدخل منه إبليس لعنه الله تعالى لأنّه الباب الذي طرد بسببه بعد أن رفض تكريم آدم عليه فانظر هنا وتمعّن في معرفة سيدنا يعقوب بمداخل الشيطان في هذا الباب تحديدا ..

فلمّا أخبر المريد سيدنا يوسف عليه السلام شيخه وهو سيدنا يعقوب عليه السلام وقصّ عليه رؤياه تصدّر هنا لحماية يوسف فتلك وظيفة الشيخ في كلّ زمان ومكان فقال له :

قال تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا )

فكان أوّل أمره قصده حماية مريده التي ستتولاّه يد القدرة الإلهية فيما بعد ذلك كما سنذكر الفرق إن شاء الله تعالى بين الكيد وبين المكر كما قال تعالى في آية (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ) وقال تعالى ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) رغم أنّ كيد الله تعالى ومكره يكون بالكافرين إلاّ أنّه يكون أيضا بالكائدين من المؤمنين وبالماكرين من المؤمنين وإن كان ليس على قياس واحد قال تعالى في خصوص المكر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏ ) فالكيد غير المكر فما قال يعقوب لإبنه ( يمكرون بك ) بل قال ( فيكيدوا لك كيدا ) وإن كانتا صفتين إبليسيتين وإنّما يكيد الله تعالى للمؤمنين في مقابلة كيد الكافرين لهم وهكذا في المكر لذا قال تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ )

ثمّ انّ يعقوب عليه السلام لم يخش من نفسه على إبنه أو أنّه خشي من أمّه على إبنها بل خشي من إخوته عليه لأنّهم من جنس مقامه لما رأى أحد عشر كوكبا فهو الكوكب الثاني عشر فلا يخشى الرسول أو النبيّ على أصحابه وأتباعه منه بل يخشى عليهم من بعضهم البعض لذا قال عليه الصلاة والسلام ( لا ترجعوا من بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وهكذا كلّ شيخ إنّما يخشى ما يقع فيما بين مريديه لهذا تراه جاهدا يخفي صاحب سرّه من بعده لما للشيطان من سطوة العداوة هناك

قد يسأل سائل : هل يدخل إبليس لعنه الله تعالى حتّى فيما بين المريدين بخصوص المقامات العالية الملكوتية ؟ الجواب : نعم يدخل بل أخطر باب يدخل منه إبليس لعنه الله تعالى لهذا كان عليه الصلاة والسلام يعطي وساما لكلّ صاحب من صحابته لذا قال أحد الصحابة رضي الله عنه في معنى كلامه وحديثه ( كان كلّ واحد منّا يظنّ أنّه أحبّ الخلق إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ) هذا كي تستشعر أهميّة التربية وأنّها وظيفة ربانية لا سبيل لإكتسابها بالمزاحمة والطلب ..

( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا )

فوقع المحذور الذي كان يخافه ويخشاه وهو ظهور تخصيص يوسف على إخوته في محضرهم فعلم عليه السلام أنّ الأمر لن يمرّ بسلام فأبعده الله تعالى عنهم من حيث أرادوا الكيد له فكانت المنحة في المحنة وإنّما أمره بعدم قصّ رؤياه على إخوته لما يعلمه من بواطن أبنائه بخصوص يوسف وأخيه تستشعره عند قولهم ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) فقد كان عليه السلام يعلم ما عليه باطن أبنائه قبل قصّة الرؤيا بخصوص يوسف وأخيه لهذا قال له منبّها كي لا يستسهل وصية والده أو لا يأخذها على محمل الجدّ لما في قلبه من الصفاء التام ( فيكيدوا لك كيدا ) فأخافه هنا من كيدهم زجرا لئلاّ يقصّ عليهم رؤياه لما يعلمه عليه السلام من حالة الصفاء التي عليها يوسف لذا ما تناول يعقوب حديثا غير حديث الوصية والأمر بعدم قصّ رؤياه على إخوته رغم أنّهم إخوته في المقامين الصلبي والروحي فأراد عليه السلام ستر سرّ يوسف ولكن قدر الله تعالى ماضي ونوره ظاهر ...

ومن الإسترواح في قوله تعالى ( والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ) في هذا المعنى الذي نحن بصدده مع مراعاة فارق تفسير الآية بعد القياس أنّ الله تعالى متمّ نور نبيّه أو وليّه ولو كره الكافر بذلك النور كما كفر بداية إخوة يوسف بنور يوسف ونعني بالكفر هنا عدم الإعتراف به أو مزاحمته ولكنهم في الأخير اعترفوا عليهم السلام فكم من وليّ يكفر الخلق بنوره ولكن النهاية تكون لظهور ذلك النور لأنّ الله تعالى يقول ( والله متمّ نوره ) لهذا قال له ( وليتمّ نعمته عليك ) أي ظهور خصوصيتك التامّة فتشرق كالبدر ليلة التمام لأنّها من عند الله تعالى ليس فيها حظّ نفس أو شيطان بل هي وهب خالص من عند لله تعالى

ثمّ قال ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) فذكر هنا الإنسان بالتعريف وهو الإنسان الكامل فأخبر عليه السلام إبنه أنّ هذا المقام السامي يحاربه الشيطان غاية إذ بسببه طرد من الحضرة وأخرج من الجنّة فهو المقام الذي تسبب في لعنه وطرده حسب رأيه ثمّ إنّ لفظة الإنسان فيها إشارة هنا إلى مقام الخلافة في الأرض ..

قال تعالى ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )

فبشّر ابنه عليه السلام بمقامه فأوضحه له وفصّله وأنّه مجتبى عليه السلام من دون سائر إخوته في هذا الخصوص الذي قصّه في الرؤيا فأوّلها له عليه السلام من حيث شأنها العام أمّا تفصيل ذلك ما علمه يعقوب وإنّما معرفة التفصيل حصل بعد أن تمّت نعمة الله تعالى على آل يعقوب لمّا قال يوسف ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا )

فعلم أنّ في رؤيا يوسف إجتباء له وأنّ العلم الذي اختصّه الله تعالى به هو علم تأويل الأحاديث والرؤى وعلم أنّ نعمة الله تعالى متمها الله تعالى عليه وعلى جميع آل يعقوب بما فيهم إخوته بعد أن سجدوا له كما في الرؤيا دلالة اعترافهم فما عاندوا بعد ظهور فضله عليهم كما قالوا ( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) فما أجمل وأحسن هذا الإعتراف منهم عليهم السلام فما عاندوا كما عاند إبليس لعنه الله تعالى بعد أن ظهرت خصوصية آدم وإجتباء الله له عليه في قوله تعالى ( وعلّم آدم الاسماء كلّها )

فكانت الرؤيا تحكي أوّلا ( الإجتباء ) كما قال يعقوب ( وكذلك يجتبيك ربك ) والمراد هنا قطبانية يوسف عليه السلام ثمّ ذكر ثانيا ( جنس العلوم والمعارف ) التي أختصّ الله تعالى بها يوسف وهي علم تأويل الأحاديث والرؤى وهو علم تعبير الرؤى فكان فيها النجم الذي لا يلحق فإنّ العلوم الوهبية حالها كالعلوم الكسبية من حيث الإختصاص ... لذا قال يوسف ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) فما نسي تلك الرؤيا التي مرّ عليها عشرات السنين بل استحضرها بمجرّد أنّ جمعه الله تعالى مع أبيه وإخوته وهو في حالة الملك وثالثا ( تمام النعمة ) من حيث يوسف بداية ثمّ بسببه هو نهاية أتمّ الله تعالى نعمته على آل يعقوب لذا قال له تحديدا ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ) أي يتمّ نعمته عليك في مقامك وخصوصيتك التي آتاكها الله تعالى فأفرده لحاله بتمام النعمة وهو يشير إلى حسن تأويل يعقوب وصدقه عليهم جميعا السلام ثم تمام النعمة على جميع آل يعقوب وهذا ما حصل ثمّ ذكر له أنّ تمام النعمة سيكون إرثا من الآباء وهما إبراهيم وإسحاق فكما فألحق الأبناء بالآباء وإنّما ذكر إبراهيم قبل ذكره إسحاق الذي هو أبوه لما يعطيه الأدب وترتيب المراتب فكأنّ نسبته لإبراهيم أظهر من نسبته لإسحاق فإنّ الخطاب لمّا توجّه إلى سارّة زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام بشرت بإسحاق كما بشّرت بيعقوب رغم أنّ يعقوب كان حفيدها كما قال تعالى ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) فكان مدد ساداتنا يوسف ويعقوب وإسحاق من مدد سيدنا إبراهيم إذ جاءت بهم البشرى لذا قال له منبّها ( كما أتمّها من قبل على أبويك إبراهيم وإسحاق )

لذا قال سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام في حقّ يوسف هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم

أما يعقوب فما ذكر تمام النعمة عليه بل كنّى في قوله ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ) فما قال يتمّها على يعقوب لأنّ تمام نعمته لا يكون إلاّ بتمام نعمة الله تعالى على آل يعقوب التي لن تتم إلاّ بتمامها على يوسف لذا أفرده في قوله كما قدمنا (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) هذا كي تعلم قدر وفخامة مقام آل بيت النبيّ عليه الصلاة والسلام

ثمّ في البشرى التي بشّرت بها الملائكة سارّة عليها السلام فأنّها بشّرت بإسحاق ثمّ أردفت بيعقوب بشرى لها أن نسبها لن ينقطع كونها عاقر فلن يرث أبناؤها من حالها .. بل سيرثون من حال آبيهم إبراهيم .. فكان ميراث الأبناء من الأجداد أمر معروف مشهور ومن هنا اعتنى أهل الله تعالى بآل مشائخهم بل قال سيدنا إسماعيل رضي الله عنه ( أنا لا أحبّ فقط أهل مدينة قصيبة المديوني بل أحبّ حتّى قطط تلك المدينة لمحبّتي لشيخي سيدي محمد المداني رضي الله عنه ) نقلته بالمعنى

فطب نفسا يا أخي بطريقة الصالحين فهي والله ميراث لطريقة الأنبياء والمرسلين وقل معي بقولهم ( هؤلاء آبائي فجئني بمثلهم --- إذا جمعتنا يا جرير المجامع )

فهذا علم يعقوب الثابت من رؤيا إبنه ما تزحزح عنه طرفة عين وإنّما الذي وقع منه خلال غيبة يوسف هي أحوال سنذكرها إن شاء الله تعالى بتفاصيلها كي تعلم الفرق بين العلم الثابت وبين الحال الوارد لهذا كان يقول عليه السلام ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ثابت القدم في حضرة القدم ...

قال تعالى ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ )

أمّا غير السائلين فلا آيات لهم في قصّة يوسف وإخوته

يتبع إن شاء الله تعالى ...


علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي السبت 9 مارس 2013 - 7:03



( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )

بعد أن قصّ سيّدنا يوسف رؤياه على أبيه سيدنا يعقوب عليهما السلام فهم من الرؤيا ما فهمه يوسف منها من حيث الإجتباء والتقدّم على إخوته ومن حيث علم تأويل الأحاديث ومن حيث تمام النعمة بما أنّ الله تعالى علّمه تأويل الأحاديث والرؤى وإنّما قال له ناهيا ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ) لما يعلمه من علم يوسف بتأويل الأحاديث والرؤى فلو قصّها على إخوته لكان أوّلها لهم بمعرفته أو أنّهم سيفهمون منها ما فهمه يعقوب منها

فكان حاصل الأمر ثلاثة أمور أفصحت عنها الرؤيا أوّلها ( الإجتباء ) متى علمت طريقه وأنّه لا يكون إلاّ بدفع مهره فلا يكون هناك إجتباء إلاّ بإبتلاء قال عليه الصلاة والسلام ( أشدّكم بلاء الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل ) فإنّ كلّ خصوصية أو مرتبة لها مهر فأنبأه بداية بتحمّل إبتلاءات الإجتباء كونها صقالة تصقل القلوب وامتحانات الإصطفاء كونها تربية توقف العبد عند حدود الأدب فما قال له بداية مثلا ( يعلّمك ويجتبيك ) بل قال كما في الآية بترتيبها (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) وثانيها ( التعليم ) وهو أمر عام وإنّ خصّصت فنونه فذكر له الأمر الخاص من حيث العلم الخاص فهذا الذي امتاز به على غيره بعد أن شاركهم في الكثير ممّا هم فيه متى علمت أنّ سيّدنا يوسف عليه السلام نبيّ من الأنبياء كما قال تعالى من حيث درجات تفضيل الرسل ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فكان عليه الصلاة والسلام أفضل المرسلين لأنّ التفضيل لا يكون إلاّ بالعلم خاصّة كما قال تعالى في تفضيل آدم عليه السلام وتكريمه على الملائكة ( وعلّم آدم الأسماء كلّها ) وقال تعالى ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) وقال تعالى ( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) لذا قال لسيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام ( وقل رب زدني علما )

ثمّ ثالثها ( إتمام النعمة ) وهي النبوّة في مظاهر تمام نورها وظهورها كما قال تعالى في حقّ سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) فنصر الأنبياء وعلى اثارهم الأولياء يكون حليفهم في النهاية مهما طال بهم الإبتلاء لهذا قال له ( كما أتمّها من قبل على أبويك إبراهيم وإسحاق ) في إشارة هنا أنّ تمام النعمة صحّت لإسحاق بتبعيته لأبيه إبراهيم وهكذا أنت يا يوسف فلن تتمّ نعمة الله تعالى عليك إلاّ بالتبعية لي ...

فصرّح هنا يعقوب عليه السلام لإبنه ما سيكون عليه أمره بداية ووسطا ونهاية فأوّله إجتباء ووسطه تعليم ونهايته إتمام نعمة لقوله تعالى ( والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ) لأنّ النور متى صدر من حضرة الجمال لا بدّ له من التمام والكمال وكذلك الأمر ميراثا نبويّا لكلّ الأولياء فيكون الأمر في حقّهم بداية إجتباء ثمّ تعليما وسطا ثمّ اتمام نعمة نهاية وإزاء هذا معبّرا عنه في طريقة الصالحين أنّ الأمر بدايته شريعة لتعبده ثمّ طريقه وهو التعليم لتقصده ثمّ حقيقة لتشهده فتشكره لأنّ غايتك من طلب مشاهدته هو اللقاء في عالم البقاء لتشكره بثنائه على نفسه سبحان كما قال عليه الصلاة والسلام ( أنت كما أثنيت على نفسك ) وهذا لا يكون إلاّ عند المشاهدة وهو قوله تعالى ( فاذكروني أذكركم ) أي أفنيكم في محبّتي عند ذكري ثم قال تعالى ( واشكروا لي ولا تكفرون ) أي اشكروا لي بلساني بعد أن أفناكم الذكر في المذكور فتمّ اللقاء والحضور لذا قال ( ولا تكفرون ) أي تمام تلك النعمة التي هي كما قدّمنا نعمة الإجتباء ونعمة التعليم ونعمة تمام النور في عالم الحضور قال تعالى ( وأمّا بنعمة ربّك فحدّث ) قال تعالى ( صراط الذين أنعمت عليهم ) لأنّ الله تعالى لا يؤتيك نعمه منقوصة بل لا بدّ أن يتمّها عليك قال تعالى ( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) قال شيخنا رضي الله عنه ( أي لا تحصوها مددا ولا عددا ) فكيف إذن بالقدرة على توفية حقّ شكرها لذا قال عليه الصلاة والسلام ( لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك )

قال تعالى ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )

لمّا قال يوسف لأبيه ( يا أبت إني رأيت ) أي خصوصية ما تفضّل الله تعالى به عليّ في مقامي أجابه أبوه بعد أن أمره بكتم مقامه عن إخوته مخافة بروز الحسد منهم والغيرة فيكيدو له كيدا لعزّة المقامات كما قالت الملائكة ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) قائلا ( وكذلك يجتبيك ربّك ) بما أراكه في منامك كي تستعدّ لما أنت مطلوب له أي لأنّك أهل لذلك يا يوسف فلا عجب لقول الله تعالى ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) فالإجتباء عناية سابقة ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) أمّا الهداية فهي كرامة لاحقة .. فالإجتباء حقيقة والهداية طريقة ... فمقام كلّ واحد من أهل الله تعالى يكون بحسب إجتباء الله تعالى له كما قال تعالى ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) فالأنبياء والرسل الذين وقع ذكرهم في القرآن هم أصحاب حضرات العبودية الكبرى وهي حضرات متنوّعة ومتفرّعه فقد يكون وليّ على قدم نبيّ وقد يكون على قدم أكثر من نبيّ فإنّ أولياء أمّة سيدّنا محمد صلى الله عليه وسلّم في الشاهد كأنبياء بني إسرائيل لقوله عليه الصلاة والسلام ( العلماء ورثة الأنبياء ) لذا قيل ( الشيخ بين مريديه كالنبيّ مع قومه ) وهذا أمر صحيح بحكم الإرث لا بحكم أنّ هذا الشيخ أو ذاك يزاحم مرتبة النبوّة .. لذا كثير ما تسمع وتقرأ أنّ غير واحد من الأولياء إجتمع مع روح أكثر من نبي في منامه كما حكى الشيخ الأكبر ذلك وغيره رضي الله تعالى عنهم فقال أنّه تاب على يد عيسى عليه السلام .. وهذا أمر مشهور يحدث كثيرا للأولياء رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ...

قال تعالى ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ )

تشعرك هذه الآية علوّ مقام إخوة سيّدنا يوسف لأنّهم لو لم يكونوا كذلك لما كانت في قصّة يوسف مع إخوته آيات للسائلين وإنّما قال السائلين وما قال مثلا العابدين أو الساجدين أو العالمين أو المؤمنين إذ أنّ مناط الآيات لا يكون خاصّة إلاّ متعلّقا بالإيمان ليشعرك أنّ قصّة يوسف أمر مخصوص جرى فيما بين أهل الله تعالى لها تعلّق بالمقامات فهو أمر سماوي أكثر منه أرضي لقوله ( إني رايت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين ) فكانت محنتهم محنة باطنة لهذا استشعر يوسف ذلك وعرفه لمّا قال ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي لا تأنيب عليكم ولا لوم فكان إبتلاء إخوة يوسف بيوسف شديدا كما أنّ إبتلاءه بهم أكثر شدّة

( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ) أي السائلين نوال أعلى المقامات وأرقى العلوم والدرجات وهذا في حقيقته مطلب شريف لكن لا تجوز في المزاحمة كما قال تعالى لسيدنا موسى عليه السلام ( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ) فرغم كون الأنبياء والرسل عليهم السلام معصومين إلاّ أنّه أورد قصصهم عبرة لنا كوننا غير معصومين فإذا كان المعصوم صار معه هذا الحال أو ذاك فما بالك بغير المعصوم أن لو صار معه ذلك فربّما هلك والله أرحم الراحمين

ومن ذلك ما تراه من شفوف رتب العارفين فيما بينهم فيظنّ من لا يفهم منطقهم كما قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام ( عُلّمنا منطق الطير ) كما وقع مما حكاه الإمام الشعراني رضي الله عنه قصة إجتماع في وليمة حضر فيها قطبين هما سيدي محمد الحنفي وسيدي علي وفا رضي الله عنهما فصارت بينهما منازلة عظيمة وكما وقع بين سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي شيخ سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه وبين سيدي محمد ظافر المدني رضي الله عنه من منازلة لذا قال سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه لمّا أكمل تربية بعض مريديه فصاروا من جملة كمّل العارفين ( لا أنصح أحدكم بالمكوث معي في بلدتي خشية المضرّة له ) نقلته بالمعنى وكذلك ما كتبه سيدي علي بن حرازم في رسالته لشيخه سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنهما وذلك لمّا سأله أن يضمن له الحصول على جميع ما عند الشيخ الأكبر من علوم فأجابه إلى طلبه إلاّ قطبانية الشيخ فقال لا أعلم فيها أمرا بل مردّها إلى الله تعالى ... وفي مثل هذا المعنى نجد كثيرا من القصص فقد يحدث بين الأولياء من نفس ما هو موجود في قصّة سيّدنا يوسف عليه السلام كما حكى الإمام الشعراني من ذلك كثير رضي الله عنه كفي قصّة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وبعض مريديه .. بل قد يهلك وليّ وليّا آخر أدنى مقاما منه متى اساء الأدب مع شرع الله تعالى فحقّت عليه العقوبة وكذلك ما يقع من السلب عند العارفين فكم من عارف سلب ما آتاه الله تعالى لعدم توفية حق الشكر عليه ...

ومن ذلك ما كان بصدده سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه لمّا تعلّق باطنه بمعرفة المقامات والأحوال حتى أنّه نسب إلى نفسه ختمية الولاية الخاصّة ثمّ قال بعد أن تبيّن له خلاف ذلك كم جلت ببصيرتي في عالم الملكوت بحثا عن علوم ومقامات وأحوال خاتم الأولياء فما أطلعني الله تعالى على ذلك من شيء وإنّما جرّنا الكلام في هذا الأمر لما فيه من بعض معاني وتجانس تشابه قصّة يوسف وإخوته من وجه لا من جميع الوجوه لذا قال تعالى ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ) فحاشا ساداتنا الأنبياء أو الأولياء عليهم جميعا السلام أن يتبادر إلى قلوبهم أو يخطر على أفئدتهم أيّ خاطر سيء لا يليق بمقاماتهم وبما هم عليه من صفاء ولكن هناك أمر ملكوتي يستوجب عند الأحوال القلبية التنافس على المحبّة والقرب ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) متى علمت أنّ القرب بالأحوال والتمايز بالعلوم كما قال تعالى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )

فإن سألت : هل يكون بين الأولياء مخاصمة رغم كونهم أهل صفاء وقرب من الله تعالى ؟ فالجواب : نعم هذا يكون ولكن لا من جانب مرض في قلوبهم ولكن من جانب افتراق أحوالهم وتعدد علومهم وغيرتهم على المقامات والأحوال كما ورد عن أبي يزيد رضي الله عنه في قوله لما سأله مريده بعد أن أخبره عن معراجه المنامي ووقوفه بيين يدي الله تعالى ( هل سألته محبته أو قال معرفته ) فأجابه ( لقد غار قلبي أن يعرفه أو قال يحبه مثلي ) نقلته بالمعنى

فكانت قصّة يوسف قصّة ملكوتية باطنية تعلّقها بالمقامات والعلوم المرموز لها في الرؤيا بالكواكب

يتبع إن شاء الله تعالى ...


علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الأربعاء 13 مارس 2013 - 2:37



قال تعالى ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )

ما صرّحوا هنا ببغضهم ليوسف ولا بكرهم له إذ لو كان البغض والكره مقصودا بداية لذات الشخص لعلمنا أنّ حالهم كان حالا شيطانيا خالصا كما كانت عليه حالة إبليس لعنه الله تعالى إذ أنّه ما أراد السجود لآدم لمرض في النفس وهو الحسد بداية لآدم ثمّ التكبر على أوامر الله نهاية فالحسد صفة نارية حارة تذهب العقل وتسيطر على القلب أمّا الكبر فهو صفة باردة فلمّا كان الكبر أكبر جرما من مجرّد الحسد قال تعالى ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) أي لأنّ الكبر لا يجوز على أوامر الله تعالى بحال فهو يناقض العبودية فالإنسان قد يتكبّر على الله تعالى من حيث شعر أو لم يشعر ولكن لا نقول أنّه الإنسان يحسد الله تعالى لأنّ الحسد يكون فيما بين المخلوقين والمتجانسين فليس مجرّد الحسد هو الذي أخرج إبليس لعنه الله تعالى من الجنّة وإنّما الذي أخرجه خاصّة هو وصف الكبر

إذ أنّ الحسد بريد الكبر كما كانت المعصية بريد الكفر فلمّا عصى إبليس لعنه الله تعالى بحسده لآدم وقع في الكفر بتكبره على أوامر الله تعالى لذا نعته ووصفه الله تعالى به لأنّ الكبر ينازع دائما الألوهية كما ورد في الحديث القدسي ( الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ) لأنّ الحسد قد يكون كما قيل ما خلا جسد من حسد ولكنّه أمر وإن كان مذموما في الشرع والحقيقة فهو معصية كبيرة وفاحشة مقيتة إلاّ أنّه لا يصل صاحبه درجة الكفر رغم أنّ الحسود لا يسود كما يقال وأنّه كما ورد في الحديث ( أنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) فهو معذّب باطنا وقد قال تعالى ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) فهذا وإن كان فاحشة قلبية وكبيرة من الكبائر إلاّ أنّها لا تصل إلى درجة كبيرة وفاحشة الكبر

لذا لمّا رأى إبليس لعنه الله تعالى وعاين يقينا منزلة آدم ومكرمته عليه أمره الله تعالى بالسجود بعد أن ظهرت الحجّة عليه فسجدت الملائكة ولكن إبليس لعنه الله تعالى أبى واستكبر وكان من الكافرين فإنّما قال تعالى ( أبى واستكبر ) فهنا ظهر الكبر بخلاف إخوة يوسف عليه السلام فما تكبّروا حينما ظهرت حجّة يوسف ومكرمته يقينا فلا يسعهم حينئذ إنكارها فقالوا كما قال تعالى ( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) فاعترفوا ثمّ طلبوا الصفح والغفران من أبيهم ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) نعم يمكن أن نقول أنّهم حسدوا يوسف ولكن لا يمكن أن نقول في حقّهم أنّهم تكبّروا عليه بعد أن ظهرت مكرمته عليهم خلاف إبليس لعنه الله تعالى لمّا ظهرت مكرمة آدم عليه بعد أن أنبأهم بأسمائهم فتكبّر حينما أُمر بالسجود لأنّ العبد عندما يرفض الإنصياع إلى أوامر الله تعالى في حضرته سبحانه يصير متكبّرا فيخرج من حضرة الله تعالى مطرودا ملعونا ...


من جانب آخر النفوس داهية قد تحسّ بصاحب السرّ فلمّا أحسّت أنفسهم واستشعرت أنّ يوسف قد يكون صاحب سرّ أبيهم وأنّه المقصود في زمانهم من عين الوجود بحثوا عن مدخل لتعكير صفو ذلك ولو بالكيد الذي كادوه له لا من جانب كبريائي كفري ولكن من جانب تنازع باطني مذموم قال القطب سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه لمّا رأى من شفوف مرتبة مريده القطب سيدي محمد بن أحمد البوزيدي رضي الله عنه شيخ سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه ( هو سيّدنا في الدنيا والآخرة ) وقد قال سيدي محمد اابوزيدي هذا رضي الله عنه ( ما كنت أحسب أنّ بين الصوفية حسدا حتى وقفت على ذلك فوجدت فيهم الكثير من الحسد ) نقلته بالمعنى

لهذا لم يحسد سيدي العربي الدرقاوي مريده رضي الله عنهما لهذا تحدّثوا فيما بينهم ليجمعوا أمرهم باحثين عن سبب ظاهر يراه الجميع فتكون أفعالهم جميعا متأسّسة على كلمة حقّ يراد بها باطل وهكذا أهل هذا الحال لا تجدهم إلا باحثين عن حقائق يرتكزون عليها في فعل باطلهم وهذا من إملاءات النفس وأمراضها مهما كانت عالية من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين )

فلا تجد صاحب هذا الحال إلاّ ملبّسا الحقّ بالباطل فورث اليهود من حال إخوة يوسف كلّ قبيح وما ورثوا منهم ما فيهم من مليح إلاّ ما شاء الله تعالى كما قال تعالى في حق من هكذا شأنه ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) رغم أنّه سماهم أهل كتاب ( فافهم ) فلبّس إخوة يوسف الحقّ بالباطل لأنّ محبّة يعقوب ليوسف وأخيه حقيقة ظاهرة ولكن هذا لا ينفي محبّته لهم لهذا قالوا ذاكرين ما وصلوا إليه في فهمهم ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) فما نفوا محبّة أبيهم لهم ولكن لبّسوا بقولهم ( أحبّ إلى أبينا منّا ) ثمّ زادوا في التلبيس لترضى نفوسهم إلى ما عمدوا إليه واسرّوه في قلوبهم بقولهم ( ونحن عصبة ) فخرج من هذه العصبة بنيامين الأخ الشقيق لسيدنا يوسف عليهما السلام فكلّ هذا وغيره من الحجج التي أرادوا أن يقنعوا بها نفوسهم قبل فعلتهم لأنّ النفس متى حدّثتك بأنّك صاحب حقّ وصاحب حجّة ..إلخ ذلك من الأقيسة العقلية والأمراض الوهمية إنّما تريد منك ظهورها وذلك بإبطال حقّ وإحقاق باطل .. لهذا قالوا لا تركن إلى وساوس نفسك أبدا ...

قال تعالى : ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )

لمّا نسبوا كثرة وشدّة محبّة أبيهم يعقوب ليوسف وأخيه أرادوا أن يفرضوا أحوالهم على حال أبيهم بعد أن اتّهموه بالضلال في زيادة هذه المحبة ليوسف لأنّهم ماأنكروا محبته ليوسف ولكن أنكروا أن يكون يحبّه أكثر منهم فليس التنازع وقع في المحبة من عدمها وإنّما التنازع وقع فينا بينهم وبينه فيها في هذا الجانب ويبقى هذا قولهم هم لا غير وربما لا يكون الحقيقة ولكنه من أوهام النفس وسترى في الآيات اللاحقات هذا الوهم لأنّ الله تعالى حكى قولهم وحالهم وربما لا يكون ما قالوه صحيحا وإنّ كان في ظاهره حقّا كما ستراه وتقف عليه إن شاء الله تعالى وسنذكر إن شاء الله تعالى الكثير من المقامات والأحوال خلال هذه القصّة وما هو الحال الصحيح من السقيم والعالي من الأعلى وكذلك في المقام والله أعلم سبحانه وأحكم وهو العليم الحكيم وتفسير الضلال المقول في هذه الآية هو الخطأ كما قاله المحققون من ساداتنا المفسرين رضي الله عنهم

إنّما ورد التعبير بالضلال لأنّ الضلال لا يرجع عنه غالبا فهو صفة مصاحبة للقلب بخلاف الخطأ فلو بيّنوه له لرجع عنه أمّا الضلال فهي صفة ملازمة لها تعلّق بالبصيرة فكأنّهم حكموا بأنّ أباهم أعمى ( حاشاه عليه السلام ) لا يرى ما هم عليه في بواطنهم وظواهرهم من محبّتهم له وأنّهم يحبّونه أكثر ممّا يحبّه يوسف وأخوه لذا قالوا ( ونحن عصبة ) أي كثرة فلو اجتمعت محابنا كلّها لرجحت بمحبّة يوسف لأبيه وأخيه إنّ أبانا في هذه الحالة لفي ضلال وهو العمى عن محابنا له وخدمتنا ونحن عصبة لو أمرنا بأيّ شيء لكنّا في خدمته دليل محبّته ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) فكأنّهم يقولون في نفوسهم ( يا يوسف إنّ يعقوب هو أبونا قبل أن يكون أباك فهو أولى بنا منك ونحن أولى به منك ) فلمّا كان أمر المحبّة صادرا من يعقوب اتّهموه بالضلال المبين أي الواضح الذي لا تعتريه شبهة لهذا عاقبوه في يوسف من حيث لم يشعروا وهذا عقاب لهم من الله تعالى وتأديب لأنّ الذي يكيد يكاد به فزادوا بعدا عن أبيهم جرّاء فعلتهم فأبعدهم الله تعالى عن قلب أبيهم من حيث أرادوا القرب منه فلو خدموه في يوسف وأحبّوه في يوسف لسعدوا وما نالهم من الشقاء ما نالوه ومن البعد والتيه ما لاقوه ...

ثمّ في قولهم ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) يشمل أخا يوسف أيضا بنيامين إلاّ أنهم قرّروا البداية بيوسف لأنّه المقصود ذاتا لهذا نطقوا بإسمه بخلاف بنيامين فوصفوه بوصف الأخوّة ليوسف وما وصفوه بوصف الأخوّة لهم فتجاذبتهم هنا إفتراق الأمومة لأنّهم لمّا قالوا ( ليوسف وأخوه ) نسبوه إلى أمّ يوسف وما نسبوه إلى أبيهم يعقوب في هذه الحالة فلو نسبوه إلى أبيهم يعقوب لقالوا ( ليوسف وأخونا ) ثمّ ما نسبوا يوسف وأخاه إلى أبيهم فما قالوا مثلا ( أحبّ إلى أبيهم منا ) بل قالوا ( أحبّ إلى أبينا منا ) فنسبوا الأب المشترك إليهم كما نسبوا يوسف وأخاه إلى أمّ يوسف فكأنّهم غير راضين بإنتسابهما لأبيهما رغم أنّه أخوهم فأحيووا بذلك فيما بينهم نعرة أفتراق الأمومة كي يتشجّع لديهم ذلك الأمر فجعلوا مفارقة فيما بينهم وبين يوسف وأخيه فبحثوا عن الحجج الواهية لأنّ النفس دائما هكذا شأنها تلبّس وتسوّل كما قال لهم أبوهم بعد ذلك ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) وهذا أمر يحدث كثيرا فيمن تزوّج أكثر من واحدة وأنجب منها ...

يتبع إن شاء الله تعالى ...

علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الخميس 14 مارس 2013 - 3:04



قال تعالى : ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ )

بعد التلبيس السابق الذي ذكروه في قولهم في الآية السابقة ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) عزموا على تنفيذ لازم ما وقر في نفوسهم لكنّهم زادوا كشفا لما انطوت عليه تلك النفوس من حسد ليوسف وغيرة منه لأنّهم بداية قدّموا أنّ سبب ضلال أبيهم المبين هو كثرة محبّته ليوسف وأخيه مقارنة مع محبّته لهم ثمّ في هذه الآية قالوا ( أقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ) فكشفوا أنّ المراد هو يوسف عليه السلام وليس مجرّد محبّة أبيه له لأنه برأيهم سبب ضلال أبيهم فيهم بعد أن اتهموا آباهم بالميل الغير محق ليوسف فتنادوا إلى الدفاع عن مظلمتهم بزعمهم وإنّما كما قدّمنا الذي حملهم على ذلك هو حسد يوسف والغيرة منه لأنّهم أحسّوا وعلموا أنّ يوسف هو المراد وهذا صريح في الرؤيا التي لم يقصّها عليهم بعد أن قصّها على أبيه وقد كان يعقوب على علم سابق بما انطوت عليه ضمائرهم من ذلك بصريح قوله عليه السلام ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ... )

كذلك يوسف عليه السلام كان على علم بما انطوت عليه ضمائر إخوته بعد أن نبّهه أبوه قائلا كما قال تعالى ( ... فيكيدوا لك كيدا ) فهو تحذير صريح ليوسف منهم فأوضح هنا سيدنا يعقوب طبيعة تلك المنازعة لمّا قال ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) فهي منازعة على مقامات الخصوصية وفيها شبهة من منازعة إبليس لعنه الله تعالى لآدم عليه السلام لكن ليس بنفس القياس كما قدّمنا في الأعلى فقد يقول قائل وهل تصل المنازعة إلى التفكير في القتل ؟ فالجواب : نعم بل أكثر من ذلك ولو لا حفظ الله تعالى لإخوة يوسف لأنّهم من آل يعقوب لكان ما كان من شأنهم بل إنّ المنازعة على المقامات قد تصل بالإنسان إلى درجة الكفر أو لم يكن إبليس لعنه الله تعالى قبل خلق أدم عالما عابدا منوّرا عارفا ؟ الجواب : نعم قد كان كذلك فكان إبتلاؤه شديدا بآدم فنازع الأقدار بإسم الأحقيّة والعلم كما نازع إخوة يوسف يوسف عليه السلام بإسم الحقّ ودعوى ضلال أبيهم لكن الفرق الأكيد بين هذا وذاك أنّ إخوة يوسف ما خرجوا من الحسد إلى الإستكبار أو إلى الكفر أو إلى الإعتراض على الله تعالى لذا قالوا كما في الآية ( وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ) فلمّا اعتقدوا وتيقّنوا أنّ فعلهم ذاك هو معصية أضمروا التوبة فما أٍرادوا إلاّ قطع حظّ يوسف من يعقوب لظنّهم أنّ الأمر منوط بفوزهم بأبيهم يعقوب

لهذا اتّهموه بالضلال فكان مشهدهم في هذه الحال مشهد مراتب خاصّة فما خلطوا بين العبودية والخصوصية بخلاف إبليس لعنه الله تعالى فقد خلط بينهما فأراد لعنه الله تعالى الخروج في وصف الخلافة العامّة والقطبانية الشاملة فظنّ أنّه خير من آدم كما قال ( ( أنا خير منه ) أمّا إخوة يوسف في مقامهم ذاك ما نسبوا الخيرية لأنفسهم فقالوا ( نحن خير منه ) إذ أنّ نسبة الخيرية لجميعهم في آن واحد لا تستقيم فلو حصل هذا لتخايروا فيما بينهم أيضا ولما قالوا ( ليوسف وأخوه ) بل لصدر الأمر من أحدهم فحسب أو من إثنين لهذا قالت الملائكة عليهم السلام ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فجمعوا أنفسهم في ضمير واحد خلاف إبليس لعنه الله تعالى فما قال ( نحن خير منه ) نسبة لنورانيته وقتها بل قال ( أنا خير منه ) فبيّن منحاه في تلك الخيرية في قوله ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) فذكر نسبته النارية وطبيعته العنصرية مقارنة بنسبة آدم الطينية وطبيعته العنصرية بخلاف الملائكة فما ذكرت نسبتها النورية وطبيعتها العنصرية فقالت ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فذكرت أمرين :

الأوّل غيرتها على جناب التوحيد أن ينتهك ولأوامر الله تعالى أن تعصى لأنّهم من جنود الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ثمّ الأمر الثاني ذكروا مراقي عبوديتهم من حيث التسبيح والتقديس فما رأوا أنفسهم على آدم وأنّهم خير منه إذ أنّ شهود هذه الحالة من الأنانية والغرور والدعوى عصمت منها الملائكة في أصل خلقتها كما قال تعالى ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) وإنّما تكلّموا بحسب ما عاينوه في كشفهم من أمر هذا الخليفة فذكروا الشريعة وصيانتها ( أتجعل فيما من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ثمّ ذكروا الحقيقة ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) أي أننّا لا نعصيك يا ربنا طرفة عين فسألوا هنا عن الحكمة الإلهية من إسداء الخلافة لمن يفسد في الأرض ويسفك الدماء لذا قال الله تعالى لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) وهذا أدب كبير منهم رغم أنّ الله تعالى عاتبهم على الإحتجاج بالعلم على الله تعالى إذ لا يحاجج أحد الله تعالى بعلمه أبدا لذا يقول المشركون في النار ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ) فقالوا بالجبر أي أنّهم مجبورون على الشرك والكفر فنسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به لأنّ الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر هذا الكلام في ظاهره حقيقة لأنّه لا يكفر أحد أو يؤمن إلاّ متى شاء الله تعالى لكنّه في باطنه كذب وبهتان وقول على الله تعالى بغير علم لذا قال الله تعالى لهم ( كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ) فوصفهم بالكذب كما كذب الذين من قبلهم ثمّ قال لهم في هذا الجانب الذي اعترضوا فيه ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) فطالبهم هنا بالإفصاح عن علم ما قالوه ثمّ أبهتهم كما قال تعالى ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) فبيّن تعالى أنّ ما هم فيه ليس بعلم وإنّما هو ظنّ كما قال تعالى ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) وقال تعالى ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية )

المراد هنا بالظنّ الظنّ السيّء القبيح الذي لا يليق بالله تعالى لا الظنّ الذي يفيد اليقين كما قال تعالى ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) أمّا الملائكة الكرام عليهم السلام فما قال الله تعالى لهم ( كاذبين ) كما نعت ووصف بالكذب المشركين الجاهلين وإنّما ذكر فقط قوله تعالى ( إن كنتم صادقين ) وهنا هناك فرق بين أن تكون كاذبا وبين أن تكون غير صادق صدقا مطلقا لأنّ الصدق المطلق من إختصاص الله تعالى لهذا قال للملائكة لمّا تكلّمت بما علمته ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) أي صادقين صدقا مطلقا في علمكم بشأن هذا الخليفة

فقالوا هنا ( سبحانك ) التوحيد الكامل بالإستغفار التام ثمّ قالوا ( لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا ) فتبرّؤوا بعد هذا المشهد الفنائي من علمهم ثمّ إستثنوا فأثبتوا علمهم الذي علّمه الله تعالى لهم فلم ينفوه عنهم ولم يجحدوه بل حمدوا الله تعالى عليه لأنّ جاحد نعمة الله تعالى كافر نهاية الأدب مع الله تعالى فالكشف الصحيح لا يعطي العلم المطلق لهذا نصح الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه مريديه في قولته المشهورة ( إذا خالف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فاعمل بالكتاب والسنّة ودع الكشف جانبا وقل إنّ الله قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنّة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ) فأنظر هنا كيف سأل وطلب العصمة المراد بها الحفظ التام وليس عصمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ...


قال تعالى : ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ )

الحسد متى تمكّن من العبد يصل به إلى درجة التفكير في القتل وإن لم يعزم عليه ويباشره لأنّ الشيطان يدخل في جميع المقامات والأحوال فهو يراقب نفس العبد عن كثب فمتى رآها تحركت تحرك معها فله فيها مداخل سمعت أحد ساداتنا يقول ( النفس زوجة إبليس ) لذا قال أهل الله تعالى منبّهين رضي الله عنهم ( من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان ) أمّا متى ضلّ الفقير ولم يتبع منهاج شيخه فلا يلومنّ إلاّ نفسه كما حدث للسامري مع نبيّ الله تعالى سيّدنا موسى عليه السلام فقد زاغ عن السلوك القويم والطريق المستقيم فبمجرّد أن رأى أثر جبريل كما قال ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) فتسويل النفس شيء خطير كما قال يعقوب لبنيه ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ) لهذا انقسمت الرؤى فهي وإن كانت إمّا رؤيا من الله تعالى وإمّا حلم من الشيطان فهناك أيضا حديث نفس وأيضا رؤيا من الجنّ وقد فصّلها شيخنا رضي الله عنه فنقصد هنا ( حديث النفس في المنام ) فما بالك في اليقظة ..

( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ )

فرغم طرح فكرة الإغتيال والقتل إلا أنّ القتل لم يكن مقصودا لذاته وإنّما الذي كان مقصودا هو إبعاد يوسف عن أبيهم كي يخلو لهم وجه أبيهم في زعمهم فما طوّعت لهم أنفسهم قتل يوسف بخلاف قابيل فقد طوّعت له نفسه قتل أخيه كما قال تعالى ( َطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) بعد أن قال له ( قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) فعزم على قتله فشافهه بالتهديد لأنّ القتل كان مقصودا لذاته في قوله ( لأقتلنّك ) أي بسبب تقبل الله تعالى منك ولم بتقبل مني لهذا قال له رادا عليه ( قال إنّما يتقبل الله من المتقين ) فنفى عنه وصف التقوى لازم تهديده بالقتل نهاية إضمار القتل لذا جعلوا التهديد بالقتل جريمة يعاقب عليها مرتكبها لأنّه من مقدّمات مباشرة الفعل ..

لم يجمعوا بداية على كيفية طريقة إبعاده هل هي بالقتل أو بالطرح في الأرض فلو قالوا جميعهم ( أقتلوا يوسف ) فحسب لكان أمر قتله مجمعا عليه ولكن الآراء إختلفت عندهم فمن قائل بالقتل وهو أشدّهم على يوسف ومن قائل بالطرح في الأرض فبدأوا بذكر الأمر الأشدّ ثم تدرجوا ...

يتبع إن شاء الله تعالى ....



عدل سابقا من قبل علي في الخميس 14 مارس 2013 - 9:22 عدل 1 مرات
علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الخميس 14 مارس 2013 - 9:06



قال تعالى : ( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ )

بعد أنّ بثّوا في أنفسهم حماسة التخلّص من يوسف إلى أن وصل بهم الأمر إلى التفكير في قتله أو طرحه في الأرض حيث قد يأكله الذئب أو تضرّه السباع وإن كان هذا الأمر أهون من قتله في الظاهر وهو ايسر الطروحات التي إقترحوها إلاّ أنّ قائلهم هذا وهو كبيرهم كما قاله بعض المفسرين أنكر بشدّة إقتراح قتله لما فيه من طغيان كبير وإفساد خطير وإثم كبير لأنّه من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى فلا يمكن لأحد من المؤمنين أن يبوء بإثم ذلك خصوصا متى علمنا أنّ إخوة يوسف وصفهم بالكواكب في رؤياه ورآهم ساجدين له فلا يحتمل هذا الفعل منهم ولو اقترحوه أو فكروا فيه لأنّه سريعا ما استدرك كبيرهم قائلا ( لا تقتلوا يوسف ) بنهي قاطع وإنّما استبدل إقتراح طرحه في الأرض لأنّه مدعاة إلى قتله القتل البطيء فهو شبيه بالتسبب في القتل على هذا النحو وهذا ليس مقصودهم ولا مرغوبهم فقرّر بجعله في غيابة الجبّ وهو للحفظ أكثر منه للضياع والتلف كما قال ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ )

أي إن كنتم عازمين فعلا على إبعاده عن أبيه فلا يجب إبعاده إلاّ بأحسن الطرق وأصوبها ممّا يليق بحالنا مع الله تعالى في صلة رحمنا لئلاّ نبوء بغضب من الله تعالى ومقتا لا تنصلح أعمالنا بعدها فهم مع ما عليه قلوبهم من حقد على يوسف وحسد له إلاّ أنّه بقيت فيهم بقيّة من المراقبة والمحاسبة وذاك شأن الصالحين لما عليهم هم أيضا من علم وفهم للخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها بحال فهم لم يخرجوا بفعلهم هذا إلى الشيطنة الكاملة والحقد الأعمى الذي لا بصيرة ولا بصر فيه كحقد إبليس وحسده لآدم فما ترك له من بقية حتّى اساء الأدب مع الله تعالى في حضرته قائلا ( أأسجد لمن خلقت طينا ) غاية الإحتقار ورؤية النفس والإستكبار أمّا هم فلم يحتقروا يوسف لذات يوسف لأنّهم من جنسه ومن صلب واحد أمّا إبليس لعنه الله تعالى فاحتقر آدم لأنّه ليس من جنسه لهذا تفاخر بعنصره الناري ..

( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ )

فخرج بقول كبيرهم هذا مظنّة فساد قلوب إخوة يوسف وضلالها الذي لا خير يرجى من ورائه خصوصا بعد أن عزموا وأضمروا التوبة من بعده فكان من شأن كبيرهم ممّا نلاحظه بعض عطفه وحنانه على يوسف فما ارتضى له القتل ولا الطيش في البراري والصحاري البعيدة المعزولة التي تكثر فيها الهيام والسباع والذئاب فاختاروا أسلم الحلول وأحسن الطرق للتخلّص منه وهذا يكفي دليلا على بذرة صلاحهم مهما سوّلت لهم أنفسهم ورغم ما اقترفوه من الذنب ولابسوه من العيب ففي قوله ( يلتقطه بعض السيارة إن كنت فاعلين ) أقصى ما وافقت عليه نفوسهم من الرحمة بيوسف

قال تعالى : ( قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ )

فما قالوا هنا ( وعلى أخيه ) كما قالوا في الأوّل ( ليوسف وأخوه ) لأنّ مقصودهم يوسف لأنّه أكثر الأبناء قربا من قلب يعقوب فزاحمت محبّته ليوسف كلّ محبّة أخرى لأبنائه لما يعلمه عليه السلام من شأن يوسف لأنّ المحبّة لا تصطنع بل الله تعالى هو الذي يدخلها في القلوب فهو أمر غير متكلّف بل ضروري كما قال عليه الصلاة والسلام في خصوص محبته لأهل بيته كمحبّته لخديجة وفاطمة وعائشة وغيرهم رضي الله تعالى عنهنّ و بخصوص الأماكن كمكّة المكرمة ( إنّك أحبّ بلاد الله إليّ ) ومحبّته للأزمنة والأطعمة والألبسة ..إلخ لأنّ ميل قلوب الأنبياء ميل رباني فهم يحبّون في الله تعالى بالله تعالى ويبغضون فيه به ... فلو لا محبّة يعقوب ليوسف لما ظهر مقام يوسف ولا عرف كوكبه الذي سجدت إليه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فهي حكمة بليغة والله عليم حكيم ..

( قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ )

تشير الآية أنّهم كانوا يلاحظون توجّس مخافة أبيهم على يوسف منهم لذا سألوه بنسبة عدم الإئتمان على يوسف إليهم فكأنّهم أخبروا عن حالهم في معرض سؤالهم وهو من المكر الشديد إذ أنّ الأمر لن يستقيم لديهم حتّى يكشفوا ما في باطن يعقوب له كي يدخلوا الإطمئنان على قلبه فلو لم يفعلوا ذلك لبقي ما أضمره أبوهم مستورا في قلبه فربّما قالوا له ذلك في محضر يوسف حتّى يلهموه عدم الخوف من كيدهم به فيشجّعونه بهذا الأمر على الذهاب معهم حيثما شاؤوا فيستعينون به على أبيهم لأنّ يوسف بعد الرؤيا لا بدّ أنّه كان يتوجّس منهم خيفة الكيد بعد أن أخبره أبوه بأن لا يقصّ رؤياه على إخوته رغم صغر سنّه ولكن هكذا حال أهل الصفاء لا يعتقدون غير الصفاء في غيرهم قياسا على ما يجدونه في قلوبهم منه لذا كان نبيّنا عليه الصلاة والسلام لا يخطر السوء على قلبه ثمّ إنّ قلب العارف قد يكره شيئا ولا يجد سبيلا إلى منعه ظاهرا متى استوفت حجج الظاهر دورها كما ورد في قصّة ببعثه عليه الصلاة والسلام لأؤلائك القراء من الصحابة الذين قتلوهم فقال ( إنّي كنت لبعثهم لكاره ) أو ما في معناه
يتبع إن شاء الله تعالى ...

علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الجمعة 15 مارس 2013 - 1:34



قال تعالى ( قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ )

أصبح أمر إخوة يوسف واضحا بعد قولهم هذا وما عزموا عليه لكنّه لا يصل إلى درجة اليقين بالفعل عند أبيهم رغم يقينه بحسدهم ليوسف بدليل قوله ( فيكيدوا لك كيدا ) لذا قالوا له ( ما لك لا تأمنّا على يوسف ) فما أجابهم على هذا السؤال كما سيأتي لأنّهم يعلمون أنّه سيتعلّل بأسباب ولكنه لن يذكر لهم السبب الرئيس وهذا ما حصل إذ لو صارحهم بما يتوقّعه منهم بشأن يوسف لحصلت منازعات فيما بينهم وبين أبيهم ولصارحوه بما اتهموه به من ضلال في محبته ليوسف وهذا لم يكن مرغوبهم ولا مطلوبهم فليس من مقاصدهم خسران أبيهم أو الغضب عليهم منه لعلمهم أنّهم متى فعلوا ذلك فقد أغلقوا كلّ باب للتوبة متى علمنا أنّ يعقوب من أنبياء الله تعالى

فما أرادوا أن يتصادموا فيما بينهم وبين أبيهم لمحبّتهم لأبيهم من جهة ومن أخرى اعتقادهم في ضلال أبيهم بخصوص يوسف كما قدمنا فإن قلت بل كيدهم بيوسف يثير غضب أبيهم عليهم فالجواب أنّهم فرّوا من مواجهته فبقي سترهم لهذا التمسوا مكائد وحيل ومكر لا تعطي لأبيهم حجّة ظاهرة رغم أنّهم اعترفوا بفعلتهم بيوسف في معرض الميثاق الذي حصل فيما بينهم وبين أبيهم في إرجاع بنيامين في آخر القصّة فهم اعترفوا ضمنيا إذ لو كانوا بريئين ممّا فعلوه بيوسف لجادلوا في الميثاق ولما رضوا به لأنّه فوق طاقتهم وفوق قدرتهم على زعم أنّ هلاك يوسف كان فوق طاقتهم وقدرتهم لكنّهم توجّسوا من العقاب الإلهي في حقّهم في شخص بنيامين فربّما لا يرجعونه لأبيه بسبب ما لا يقدرون على دفعه فأخرجهم أبوهم من تلك الحال وما أراد أن يضيّق عليهم بقوله ( إلاّ أن يحاط بكم ) فأغلق الباب في وجوههم من حيث إضمار كيدهم ببنيامين متى أضمروا وفتح لهم الباب الإلهي من حيث قدرة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره وحكمته سبحانه فأوفى المراتب حقّها وسنأتي عليه ...

قالوا ( مالك لا تأمنّا على يوسف وإنّا له لناصحون ) ربّما لسبق إقتراح منهم على أبيهم في أرسال يوسف معهم أو أنّه منعهم في السابق من الخروج معهم ولو كانوا غير عازمين على فعلتهم وما قررّوا ذّلك بعد فعدم الأمان على يوسف من يعقوب سابق لاجتماعهم الذي قرّروا وعزموا فيه على التخلص منه فهي أمور باطنة ومخاصمات خفية أكثر منها ظاهرة فما خرج إلى الظاهر إلاّ ما كمن في الباطن ...

فكان قولهم هذا في هذه المناسبة قول أكيد أي لا بدّ من الحصول على تأشيرة من أبيهم في خروج يوسف معهم ليس مثل الأوّل فإنّهم وإن كانوا ربّما سألوه خروج يوسف معهم أو أنّ يوسف سأل أباه الخروج معهم فمنعه فلم يعترضوا وسلّموا الأمر أمّا في هذه المناسبة فقد عزموا على إخراجه معهم مهما كلّفهم الأمر لذا بدأوا حديثهم بقولهم ( قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) فتكلّموا جميعهم مظنّة الصدق من طرفهم والمحبة ليوسف ..

لذا ما قال يعقوب عليه السلام مثلا ( لا لن أرسله معكم ) لأنّه لو قال ذلك لصحّ كلامهم في عدم إئتمانهم على يوسف فلفضح سرّهم حينئذ فوقع في مصادمتهم وكشف نواياهم وما عليه نفوسهم من الكيد والحسد ليوسف لأنّه لو جاءك مثلا أحد من الناس وقال لك لماذا لا تأمنّي على كذا أو كذا لما قلت له لأنّك صاحب كيد ومكر أو صاحب حسد وغيرة فإن هذا يفسد الودّ ويقيل التربية ويبعثر الحكمة ويزيد من الحقد والكراهية لهذا واجهوه بسؤالهم الصريح ( ما لك لا تأمنّا على يوسف ) فانتظروا الجواب ليلزموه الحجّة عليه فإن قال لهم كذا فسيقولون له كذا ولا يمكن أن يصارحهم بما يعتقده فيهم بخصوص يوسف كي لا يزيد من عداوتهم فتصبح ظاهرة بعد أن كانت خفية فيما بينهم وبين يوسف فكان يعقوب حكيما من هذه الناحية ذا سياسة ورعاية فهو لا يمكنه أن يصارحهم بما اعتقدوه من جهة ومن ناحية أخرى لا يمكنه أن لا يرسله معهم فردّوا على حججه بما يستقيم معها فلا حجّة له بعد ذلك في عدم إرساله معهم لأنّه عليه السلام كان بصيرا بعيوب النفس خبيرا بأمراضها فاتّخذ أخفّ الضررين وجنح إلى أقوم السبيلين فلربّما لو عاندهم ورفض اقتراحهم فتح على نفسه وعلى يوسف أبوابا من العداوة لا قبل له بها لأنّ الشيطان عدوّ مبين .. فتدبّر سياسة يعقوب تعلم ما عليه أهل الله تعالى في فهومهم ونظرياتهم في التربية فلا تعترض عليهم ...

قال تعالى :

( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )

ذكروا له أمورا تدخل الفرح والسرور على قلب يوسف لأنّ الفتيان يحبّون الإسترواح بالرياضة كما ورد في الحديث ( روحوا القلوب ساعة بعد ساعة ) ومنه يدخل الفرح والسرور على قلب يعقوب لأنّ فرحه بفرح يوسف وحزنه بحزن يوسف كما قال عليه الصلاة والسلام في حق فاطمة الزهراء ( فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا )

فما ذكروا له إلاّ ما يدخل الفرح والسرور على قلبه وقلب يوسف غاية المكر والكيد وهو من التزيين الذي هو من فعل الأنفس الخبيثة فإنّ الشيطان يستدرج أتباعه بمثل هذا وأكثر منه ثمّ قالوا له ( وإنّا له لحافظون ) أي لا تخشى عليه مكروها فنحن إخوته وأحبائه يثيرنا ما يثيره ونخاف عليه مما نحذره فلو كان يوسف أيضا سمع كلامهم هذا عند أبيهم لربّما طرب أيضا لسماعه ولاعتقد صفاء أفئدة إخوته لأنّ يعقوب غلّب حسن الظنّ في النهاية وتلك سيما العارفين وأنّه ربّما ما اعتقده في حقهم كان مبالغا فيه سببه شدّة تعلّقه بيوسف ومحبّته فذكروا له ما تحبّه الأنفس الشريفة وأنّ يوسف من حقّه أن يلعب ويرتع مع إخوته ولا يبقى معزولا عند أبيه ...

قال تعالى :

( قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ )

فذكر أنّ حاله عند فراق يوسف ولو للحظة مصيره الحزن فذكر بداية ( الحزن ) وهو لألم الفراق وهذا لا علاقة له بهم فهو لا يهمهم ثمّ ذكر الأمر الثاني وهو الذي له علاقة مباشرة بهم بقوله ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) فما قال لهم ( وأخاف أن تكيدوا له كيدا ) لهذا ما ذكروا في ردّهم غير هذا السبب الأخير في قولهم وسنأتي عليه ( قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) فما ذكروا حزنه متى ذهبوا به لأنّ ذكر هذا الحزن زادهم يقينا في إيثاره ليوسف عليهم فهو صريح منه فيما إعتقدوه ضلالا من قبل في قولهم ( أحبّ إلى أبينا منّا ) وإنّما اعتذر لهم بأمرين :

الأوّل إعتذاره بما سيسببه ذلك من الحزن وهم في الظاهر لا يريدون إلا فرح أبيهم ودخول السرور على قلبه وهو اتهام صريح بعدم الحفاظ على محاب أبيهم ومشاعره وإشارة إلى عدم صدق محبّتهم لأبيهم التي يدعونها في قولهم ( يخلو لكم وجه أبيكم ) والثاني ذكر خوفه عليه وهو اتّهام لهم في عدم نزاهتهم ومحبتهم ليوسف لذا قالوا له ( ما لك لا تأمنّا على يوسف ) لهذا ما عقّبوا ولا ردّوا على ما ذكره من الحزن بل ردّوا على ما يناسب حالهم الظاهر بقولهم كما سيأتي ( قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) فاعتدّوا بعدّتهم الظاهرة من كثرة وقوّة وحزم وعزم بقولهم ( ونحن عصبة ) لأنّه لا حيلة لهم في ذكر دفع الحزن عن يعقوب ولكن لهم حيلة في الأمر الثاني بذكر استطاعتهم حماية يوسف وإنّما كان يعقوب يداريهم ويعتذر بأسباب أمامهم لكنّه يتوجّس منهم خيفة على يوسف لعلمه عليه السلام بما تنطوي عليه أفئدتهم من الحسد ليوسف والكيد له فوقع يعقوب من حيث أراد النجاة ليوسف في كيد إخوته به فتلقّفت أنفسهم مسألة خوفه على يوسف من الذئب وهذا من الإيحاء الشيطاني لهم وهو سبب جائز ومعقول وحجّة قوية في الظاهر فتعللوا بها أخذا من لسانه كما قيل ( بكلامك أدينك ) وذلك في قوله ( أخاف أن يأكله الذئب ) ....

يتبع إن شاء الله تعالى ...

علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الإثنين 18 مارس 2013 - 23:32



قال تعالى ( قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنحن عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ )

لمّا اعتذر سيدنا يعقوب عليه السلام بداية عن إرسال سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته بذكر حزنه وخوفه عليه من الذئب فهم إخوة يوسف أنّه كان يخاف منهم عليه وليس من الذئب ولا يريد إرساله معهم لأنّ الخوف من الذئب ليس خاصّا بيوسف فلو كان خائفا من الذئب على يوسف فعلا لقال مثلا ( خذوا حذركم من الذئب ) لأنّهم ويوسف واحد في هذا الخطر والخوف لهذا أشار إليهم صريحا في قوله ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) فأفرد يوسف بالذكر في هذا الخوف عليه أي ربّما تتعمّدون تركه وشأنه فيأتي الذئب فيأكله فيوفي بغرضكم فيه بمعنى أنّكم ربما تكيدون له كيدا فتلقون به إلى الذئب لهذا قال لهم في معرض التصريح ( وأنتم عنه غافلون ) غاية التورية لكنّهم فهموا إشارة أبيهم فقالوا ( قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) فاستنبطوا هنا من كلام أبيهم فكرتين الأولى ( الذئب ) والثانية ( الغفلة عنه ) فاعتمدوا في جوابه بعد رجوعهم على هاتين الفكرتين لأنّهما أبلغ مظنّة للتصديق من غيرها بما أنّ أباهم ذكرهما في معرض إعتذاره عن إرسال يوسف فكأنّهم أرادوا أن يقولوا له يا ابانا قد صدقت فراستك وظنّك فيا ليتنا سمعنا كلامك فيلقون باللوم على أنفسهم أمامه لعدم سماعهم كلام أبيهم في حقّ يوسف وهذا مكر شديد وكيد متين ثمّ في قوله ( وأنتم عنه غافلون ) أي ( متغافلون ) ...

( قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ )

إضمار الكيد ولو بنسبة الخسران إلى أنفسهم لأنّ ما يعنيهم هو التخلص من يوسف مهما كلّفهم أمر ذلك وهذا ظاهر وصريح في الآيات لذا سلّمهم أبوهم يوسف وإنّما في الحقيقة سلّمه لله تعالى من باب قوله تعالى في قصّة ميلاد سيدنا موسى عليه السلام ( وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَآ خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي آلْيَمِّ وَلآ تَخَآفِي وَلآ تَحْزَنِي إِنَّآ رَآدُّوهُ إِلَيْگِ وَچَآعِلُوهُ مِنَ آلْمُرْسَلِينَ ) فالأنبياء عليهم السلام وكذلك الأولياء من ورثتهم كونهم إذا خافوا على شيء أخذه الله تعالى منهم قال شيخنا رضي الله عنه ( عندما أطهّر الفقير وأزكّيه حتى يكون مثل العروس أزفّه إلى الله تعالى والله تعالى هو من يتولاّه لي ) بمعنى ( فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ) لأنّ العارف ما تمسّك بشيء أو تعلّق به باطنه إلاّ أخذه الله تعالى منه من باب ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) فلمّا حاول يعقوب عليه السلام حماية يوسف بالإعتذار والمداراة لم يغن عنه ذلك شيئا من أمر الله تعالى فسلّم أمره وأمر يوسف إلى ربّه فأرسله معه لأنّه اختار أخفّ الضررين فلو أنّه عاندهم أوصارحهم بما في ضمائرهم لاشتدّ أمرهم على يوسف فربّما غيّروا رأيهم بخصوص طريقة التخلّص منه وهذا ما لا يريده يعقوب محبّة في يوسف عليهما السلام فالذي فعله يعقوب أحسن سبيل وأفضل طريق متاح لحمايته منهم

لأنّه لو جاءه الوارد بالوحي أنّهم عزموا على قتله ما كان أرسله معهم ولفضح بواطنهم ولتغيّر مجرى القصّة من اساسه لذا لم ييأس يعقوب إلى نهاية القصّة من العثور على يوسف والإجتماع به لأنّه ما خوطب في باطنه بأنّ يوسف يموت في البراري أو أنّه يقتل من طرف إخوته خصوصا متى علمنا قصّة الرؤيا وأنّها واقعة لا محالة فهي بشرى ليعقوب على سلامة يوسف وحمايته من قبل الله تعالى فلا بدّ أن يصل إلى مقامه الموعود به كما قال له ( ويتمّ نعمته عليك ) لذا ما ذكر له غير الكيد فما ذكر له القتل بل قال له ( فيكيدوا لك كيدا ) إذ أنّ مقامه لن يصله إلاّ عن طرق كيد إخوته به كما رآه في الرؤيا من حيث أنّ الجنس لا يسجد غالبا لجنسه إلاّ بعد ظهور فرد ذلك الجنس بخصوصيته العالية الربانية كما قالوا ( تالله لقد آثرك الله علينا ) وهذا صريح في بابه أنّه غيرة على المقامات والسرّ الإلهي في الوجود ..

فسلّمه إليهم لا زهدا في يوسف بل حماية له ودفعا له إلى الوصول إلى مقامه الموعود به فانفطم يوسف عن الرضاع من سرّ أبيه في سنّ باكرة بينما بقي إخوته في حضرة أبيهم ما استقلوا عنها وهنا نجد هذه الأحوال كثيرا في أتباع الشيوخ من حيث الإستقلالية عن الشيوخ من عدمها ونعني هنا بالإستقلالية هي قطبانية كلّ وارث لسرّ من أسرار الله تعالى في زمانه فهو مدفوع إليها مستقلّ فيها عن غيره فهي خصوصيته كما قال سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه في حقّ مريده سيدي محمد بن أحمد البوزيدي رضي الله عنه ( هو سيدنا في الدنيا والآخرة ) وهكذا كان من شأن سيدي محمد المداني رضي الله عنه فكما قال فيه سيدي عدّة ابن تونس رضي الله عنه في ترجتمه ( إنّ الرجل يقول ها أنا ذا ) نقتله بالمعنى وهكذا من شأن بعض أشياخنا اليوم فلهم حضراتهم فما بقي لهم من شيوخهم غير الإنتساب إلى فضل السند والسلسلة والإحترام والمحبّة والإعتراف بالجميل فهم موصولون بالنسبة الإلهية كابر عن كابر وإنّما نتكلّم عن المقامات لذا قال البوصيري رحمه الله تعالى ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديم )

فيوسف استقلّ عن أبيه وإخوته كما حكاه في الرؤيا أي أنّ مقامه يبلغه برعاية إلهية وخصوصية ربانية بخلاف إخوته فهم في حضرة أبيهم لأنّهم لا يرون سواها فغلبهم مشهدها لأنّهم يرضعون منها وهو واضح في كلامهم ( يخلو لكم وجه أبيكم ) وهكذا نجد الأمر في كلّ مكان وزمان على هذا النسق فتكون المخاصمة والمصادمة الباطنية شديدة فيمن يبقون في حضرة الشيوخ فذلك قادوسهم وتلك منزلتهم وبين من يستقلون عنها فينفردون بأحوالهم وخصوصياتهم رغم بقاء نسبتهم إليها ظاهرا وباطنا ( فافهم )

فطردوا يوسف عن حياض أبيهم لأنّه لا مقام له عندهم فكان إخوته في الحقيقة هي يد القدرة التي تحرّكهم كي ينفصل يوسف عنهم حتى يصل إلى مقامه الموعود به والذي سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى فإنّ هذه القصّة من أحسن القصص القرآنية كما قال تعالى فيها تحديدا ( نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) ثمّ قال تعالى ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين )

يتبع إن شاء الله تعالى ...

علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الخميس 21 مارس 2013 - 0:56



قال تعالى ( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )

ذهبوا به غداة قولهم ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا ) فاختاروا اليوم الملائم للذهاب به لئلّا تتبادر الظنون نحوهم لو أخذوه في غير ذلك اليوم وهو يوم الرعي واللعب وإنّما قال تعالى ( فلمّا ذهبوا به ) وما قال مثلا ( فلمّا خرجوا أو أرسلهم أبوهم ...إلخ ) لأنّ ذلك اليوم وإن كان يوم رعيهم ولعبهم يخرجون فيه إلاّ أنّ هذه المرّة سيكون خروجهم على غير عادته فكأنّ ذلك اليوم هو يوم يوسف لذا قال تعالى ( فلمّا ذهبوا به ) أي لم يذهبوا أو يخرجوا للرعي واللعب كما هي عادتهم في ذلك اليوم

قال تعالى ( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )

فصاروا إلى الرأي الثالث الذي قاله أخوهم الأكبر فيما نقله المفسرون ( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) لأنّ الأخ الأكبر غالبا ما يكون في مرتبة الأب فلو لا أنّه أكبرهم ربّما غيّروا رأيهم وما أخذوا بقوله في نهيهم عن قتل يوسف فصاروا إلى راي أخيهم الأكبر لأنّه مظنّة عتاب الأب أكثر من بقية إخوته لو حدث مكروه ليوسف لذا قال في آخر القصّة كما قال تعالى ( قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ) فذكر هنا معرض كلامه يوسف بنسبة التفريط لإخوته وما نسبه لنفسه كي نعلم جميعا أنّ قائل ( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) هو أخوهم الأكبر فهو كبيرهم في العلم والرحمة بيوسف فلو لا أنّه كان أكبرهم ما رجعوا إلى قوله ( لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبّ )

( وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) فهو الذي اشار عليهم بذلك بداية فو أنّه ما ساير إخوته في ذلك لكانوا قتلوا يوسف أو طرحوه أرضا لكنّه خرج مخرجا حسنا فهو نهاهم عن قتل يوسف ثمّ أسعفه قائلا ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) أي إن كنتم تريدون أن اشارككم هذا الفعل فلا قتل ( لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ) فهو نهي صريح ولا طرح في الأرض وإلاّ فلن أفعل معكم ما عزمتم عليه ( إن كنتم فاعلين ) لهذا رجعوا إلى رأيه فضمن كبيرهم ليوسف مخرجين الأوّل عدم المساس ببشريته كقتل أو طرح في الأرض والثاني قوله ( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ) فاختار الجبّ لأنّه موفي بغرضه وهو قوله ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ) وموفي بغرض إخوته في التخلّص من يوسف وهذا في حدّ ذاته شفقة كبيرة على أبيهم وحنان ومحبّة غير خافية ليوسف مهما حسدوه أو غاروا منه ...

قد يسأل سائل :

أليس لأبيهم إلهام ووحي من الله تعالى فيما عزم عليه أبناؤه وحدّثتهم به نفوسهم قبل خروجه معهم في حقّ يوسف خصوصا متى علمنا أنّ الأنبياء أهل كشف قبل غيرهم وأهل معرفة بالخواطر القلبية ؟
الجواب والله تعالى أعلم ثمّ رسوله من بعده عليه الصلاة والسلام :

أنّ النبيّ أو الوليّ متى أراد الله تعالى أمرا قد لا يطلعه الله تعالى على تفصيله لما فيه من الحكمة الإلهية ثمّ إنّ العبد مهما بلغ من الدرجات العلى كالأنبياء عليهم السلام أو الأولياء العارفين رضي الله عنهم قد لا يطلعهم الله تعالى في بعض الأحيان على خبايا النفوس في كيدها ومكرها تفصيلا وتفسيرا لكن لا تخلو بواطنهم من التحديث العام وهذا ما قاله يعقوب عليه السلام في معرض قوله ( فيكيدوا لك كيدا ) فما أوضح له ماهية هذا الكيد ولا كيفيته ولا وقوعه من عدمه كما قال عليه الصلاة والسلام حينما أرسل بعض صحابته من القراء والفقهاء إلى قوم طلبوا منه ذلك كي يعلموهم في القرآن والدين فلمّا أرسلهم عليه الصلاة والسلام غدروا بهم وقتلوهم فقال عليه الصلاة والسلام ( لقد كنت لبعثهم لكاره ) وهكذا حال يعقوب فإنّه كان لإرسال يوسف معهم كارها ونعني أنّه كان كارها وليس مُكرَهًا ...

لأنّ النبيّ وعلى أثره الوليّ ربّما أخذ بظاهر القول وظاهر الحجّة لأنّ الشريعة حكمها بالظاهر لكن يجب مراعاة الباطن وهو من حكم الحقيقة قال الله تعالى لسيدنا نوح عليه السلام لمّا حكم بالظاهر دون الباطن في قوله تعالى ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) فنظر إلى ظاهر الوعد دون الولوج إلى باطنه قال الله تعالى له ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )

لأنّ أهل النبوّة ثمّ أهل الولاية يراقبون الله تعالى في الأنفاس فهم مع إرادة الله تعالى كيفما كانت لعلمهم بعظيم حكمته وحفظه فهم يسلمون الأمور لله تعالى لأنّ الله تعالى هو العليم الحكيم فالأمر جميعه بيد الله تعالى ( فَسُبْحَان الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوت كُلّ شَيْء ) فلا يتعلّق أهل الله تعالى إلاّ بالله تعالى في كلّ شيء ظاهرا وباطنا فسلّم يعقوب أمر إبنه يوسف لله تعالى فرغم أنّه ما أذن من الله تعالى في تسليم إبنه لإخوته إلاّ أنّ الإذن العام مطالب به من حيث أنّه أرسله مع إخوته بعد أن أكّدوا أنّهم حافظوه فما خرج يعقوب عن أمر الله تعالى له ...

كما سلمت أمّ موسى موسى لله تعالى في قوله تعالى ( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي ) لكن في مثل حالة أمّ موسى لا يقع كلّ هذا إلاّ بإلهام وإذن من الله تعالى صريح لئلاّ يدّعي مدّع أنّ الأمر يكون على عواهنه لأنّ أهل الله تعالى يموجون مع الحقائق حيثما ماجت لا يتقيّدون بحيلة أو حماية أو وسيلة وإنّما حمايتهم ووسيلتهم هو الله تعالى

قال تعالى لسيّد الخلق ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ... الآية ) فكان هنا الحكم حكم باطن رغم أنّه عليه الصلاة والسلام كان على علم بأحوال أهل الصفّة الباطنة لكنّه أراد أن يغير ظاهرهم بما يناسب ذلك الظاهر البشري فهو مطالب بهذا من حيث الظاهر كذلك لمّا حكم عليه الصلاة والسلام بالظاهر مع علمه بالباطن في قوله تعالى (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) لأنّ النبيّ أو الوليّ متى أراد أن يحكم بما علّمه الله تعالى لا يحكم به إلاّ بعد الإذن الإلهي كما قال تعالى لمّا حكمت الملائكة على آدم عليه السلام ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) قال الله تعالى لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون )

وتفصيل هذا أنّ الحضرة الإلهية فيما هي عليه في جميع أسمائها وصفاتها المطلقة في حضرة الكمال لا تتقيّد بشيء إلا ما شاءته فلا يتقيّد علمه تعالى بما علّمه لك من غيب كما علّم الملائكة من قبل لأنّ علمك نسبي وعلم الله تعالى مطلق فمهما كنت عالما فما علمك مقارنة بعلم الله تعالى كلا شيء ( وما أؤتيتم من العلم إلاّ قليلا ) ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ) إلاّ أنّ الحضرة الإلهية تغار لأهل الإرادة وهو أهل الأحوال الربانية العالية كأهل الصفّة لمّا قصدوا في أصل إرادتهم الله تعالى إبتغاء وجهه الكريم سبحانه غارت لهم الحضرة الإلهية كما غارت للأعمى الذي قصد النبي عليه الصلاة والسلام فكلّ علم ملكوتي من هذه الحيثية لا يوصلك إلى مبتغاك متى حكمت به على أهل الحضرة الإلهية كقول الملائكة في علمها الملكوتي في كشفها ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) لأنّ علوم حضرة الإفساد والقتل من حضرة الجزاء من عقاب وثواب فهي حضرة ملكوتية فلمّا ذكروا هذا العلم الذي هو علمهم وهو من العلم الملكوتي ردّهم الله تعالى إلى علم التوحيد وهو أعلى من مجرّد علم الفقه والأحكام وإن كان بابه فكان الشأن في علوم التوحيد والقصد نحو الله تعالى علوم ربانية قدسية فليست هي علوم ملكوتية فكان سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم حاكما في عالم الملكوت وليس حاكما في عالم الحضرة الإلهية لهذا قال الله تعالى له ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم ...الآية )

كذلك الأمر من حيث نقيض ذلك وهو الكفر والشرك فلا حكم بعلوم ملكوتية فيهما كما قال تعالى من حيث التخصيص وقضاء الحاجة في حقّ ابن نوح عليه السلام ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك ) أي لا يتبع حضرتك يا نوح لأنّه خارج دائرة الإيمان فهو عدوّ لي قبل أن يكون حبيبا لك وكذلك الأمر فلسان الحضرة يقول إنّه حبيب لي قبل أن يكون عدوّا لك لذا كانت لا شفاعة فيمن خرجوا عن دائرة الإيمان كأهل الشرك أو المنافقين أو الكافرين كما قال تعالى لسيّد المرسلين صلى الله عليه وسلّم ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) لأنّهم منافقون لا يدخلون في حضرته عليه الصلاة والسلام وهي حضرة الشفاعة لهذا نجد اليوم بعض من لا علم له ولا يخشى الله تعالى يخلط بين المقامين مقام عالم الملكوت فأنكر التوسّل والشفاعة وقضاء الحاجات وفي هذا العالم يكون سبيله كما قال تعالى وسنأتي عليه ( إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها ) أي قضاها لإبنائه وله وبين مقام عالم الجبروت الذي مقياسه التوحيد والأيمان أو الكفر والطغيان فمهما عوتب نبيّ فلا يقع عتابه فيما اختصّه الله تعالى به من خصوصية وتصرّفه فيها وإنّما يقع عتابه فيما ليس له به علم دلالا على الله تعالى لما يراه ويشاهده ويعلمه من عظيم رحمة الله تعالى به ومنته عليه لأنّه محبوب عنده لهذا قال الله تعالى لسيدنا نوح عليه السلام ( فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )

قال تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)

وإنّما يؤتيهم الله تعالى الإطمئنان الجامع العام والتفهيم العام الجامع وإنّ المعاني غزيرة دقيقة والتعبير عنها أصعب وأدقّ لهذا بعد أنّ جاءت الإشارة ليعقوب وذلك في قصّ يوسف رؤياه عليه وأنّ إبنه سيكون سيّدا في الدنيا والآخرة فكلّ ما جاء بعد ذلك من الحزن والإبتلاء إنّما هو من ضروريات الخصوصية وكذلك البشرية أمّا الإيمان الثابت بالوعد السابق ثابت في قلب يعقوب يعلمه علما يقينيا لذا كان يترقّب إجتماعه بيوسف في كلّ لحظة وإنّما سلّم إبنه لله تعالى لما يعلمه عليه السلام أنّ إبنه خارج عن دائرته بخلاف أبنائه الأخرين فهم في حضرته دائمون وبشؤونها قائمون ...

يتبع إن شاء الله تعالى ...

علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ... Empty رد: نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...

مُساهمة من طرف علي الإثنين 25 مارس 2013 - 22:45



( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )

لمّا صاروا إلى رأي أخيهم خرج كونهم تعمّدوا قتل يوسف لذات القتل أو طرحه في الأرض لمجرّد الطرح فأجمعوا على إزاحته وابعاده عن أبيهم لكون عداوتهم له لم تكن عداوة ذاتية تتعلّق بشخصه إنّما كانت غيرة منهم وحسدا على القرب والوصلة بأبيهم فهي تنازع على المقامات والخصوصيات ...

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )

فخرج بهذا قضية هلاك يوسف بعد أنّ تأكّد لديه حينما أوحى الله تعالى إليه أنّهم لن يقتلوه أو يقدرهم الله تعالى على فعل ذلك فكما أنّهم أضمروا بعد أن أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ أوحى الله تعالى إليه أنّه سيأتي يوم ينبّئهم فيه بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وذلك في قوله تعالى على لسان يوسف ( قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ )

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )

فيه إشارة أنّه سيجازيهم على سوء صنيعهم هذا وذلك بأن يخفي فعله هو أيضا بهم لأنّ من كاد يكاد به كما قال تعالى ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) فكاد الله تعالى له فهي إشارة واضحة في قوله تعالى ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) فقوله لتنبئنّهم زيادة عن إنبائهم بما فعلوه به وهم لا يشعرون فيه أيضا أنّ طريقة الإنباء ستكون فعلا قبل كلام لهذا جاء قوله تعالى ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) بعد قوله تعالى ( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) فكان الجزاء من جنس العمل ويشعرك أيضا أنّ المقامات لا بدّ من ظهور خصوصياتها أي فلتنبئنّهم يا يوسف بحقيقة مقامك وأنت في معرض ردّ الكيد الذي كادوه لك أي أنّ الله تعالى سيكيد لك وهم لا يشعرون بنفس ما كادوه لك وأنت لا تشعر وإنّما ورد لفظ ( لتنبئنّهم ) لما فيه من صفاء وأنّ يوسف عندما سيكيد الله تعالى له إنّما يكيد له في معرض العتاب والتربية بخلافهم هم فقد كادوا له في معرض الحسد والغيرة منه فافترقت هنا المقامات وظهرت الخصوصيات لهذا اعترفوا في الأخير ( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) أي في فعلنا فذكروا تلك الخصيصة التي بسببها فعلوا به ما فعلوا وهي خصيصة ( لقد آثرك الله علينا ) لأنّهم بداية اعترفوا بمقامه قبل أن يعترفوا بخطئهم وهو أدب منهم واعتراف بخصوصيته عليهم لهذا قال لهم بعد هذا ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي لا عتاب اليوم ولا تأنيب لأنّكم في معرض ظهور خصوصيتي التي أظهرها الله تعالى فاعترفتم بها يقينا مشاهدة وعيانا وأنّ من خصّه الله تعالى بشيء لا يستطيع أحد أن يأخذ منه تلك الخصوصية التي اختصّه الله تعالى بها ..

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) لأنّه يراهم من حيث لا يرونه وهكذا هي المقامات فصاحب المقام الأعلى يرى دائما صاحب المقام الأدنى متى كان من نفس جنسه متى علمت أنّ الإخوة هم كواكب في سماء الصفاء فكادوا له كيدا وهو يراهم ويرى ما فعلوا به وحينما كاد الله تعالى له كان يراهم أيضا لكنّهم لا يشعرون به وإنّ في قصّة يوسف من الآداب اليوسفية والعلوم الصديقية أمر كثير سنأتي على ذكر بعضا منها إن شاء الله تعالى ...
علي
علي

ذكر عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى