بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
+5
عبد السّميع المدني
سلطان
أبو أويس
أمة الله
علي
9 مشترك
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
بسم الله الرحمان الرحيم
وصلى الله وسلّم على الحبيب وآله وصحبه أجمعين
وبعد :
فقد أحببت أن أحيّيك بباقات من ورود المعاني بديعة , وأهديك محابا من القلب تسير على حياء بين يديك شفيعة , فإن الفضل بين الإخوان الكرماء يبقى ببقاء الزمان وديعة , يردّها أولو الفضل منهم كلّما سنحت لهم الفرصة وإنشرح لهم الوقت ولو كانت بضاعتهم مزجاة وضيعة
فإن خير ما تصاحب فيه أخوان , وتعاشر فيه خلاّن , إلتفافهم في وصف العبيد على موائد معارف الإحسان , وأطايب ثمار الإيمان , فمازال ساداتنا في مجالس أنسهم يتباسطون ويتسامرون , وفي مقاعد هيبتهم يتواعظون ويتناصحون , وقد أحببت أن أكتب لك من مداد القلب أذواقا , وبماء العين حنينا وأشواقا , فإنّهما حسان جيادي , ومربط فرس بغيتي ومرادي , إذ أجدها الوسيلة الحاضرة في مواصلتك , نائبة عن يميني التي ما نالها إلى الآن كرامة شرف مصافحتك , وإن كانت الأرواح مجتمعة في عالم سمائها , فنرجو أن تقتفي أثرها الأجسام في تحقيق وفائها وولائها , وإنّ للفتيان بالقوم غرام قديم , حيثما إرتحلوا أو كان كائنهم في الأقاليم , وحيث وجدوا روائح طيب فؤاد حميم , أو إستنشقوا عبق نفحات الرحيم , أو تشنّفت أسماعهم بهمسة حبّ من قلب سليم
وها إني إن شاء الله أطرّز لك بردة من المحاب المنمّق بالسندس البهيج , فتهبّ عليه رياح الصبا بطيب الأريج , فتسمو به سالكة أقوم المعاريج
وما غايتي في ذلك إلا نشر نفحات الأذواق , بعد أن جفّت المحابر فكتبنا بمداد محبرة الأحداق , إذ أنّها كحل العين , إذ ينتفي هناك الأين , والغين .
إعلم سيدي الحبيب أنّ قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام فيها من العلوم والحقائق ما يعجز عن فهمه الكثير من أصناف الخلائق ويكفي أنّها دليل حيّ على رفعة الهمم في طلب العلم وأنّ العلم وخاصّة منه علم المعارف والحقائق يدفع من أجله الغالي والثمين والأجساد والأكباد ولذا كانت الجنّة غالية المهر لأنّها سلعة ثمينة قال تعالى : ( افحسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) فإذا كان هذا ثمن الجنّة بما بالك بثمن ومهر العلوم الربانية والحقائق العليا المصونة فإنها أغلى ما أتحف الله به عباده الصالحين ( واتّقوا الله ويعلّمكم الله ) إتّقوا الله شريعة ويعلّمكم الله حقيقة ( ومن يتّق لله يجعل له مخرجا ) أي في كلّ لون من ألوان علوم الحقيقة بتلك التقوى التي هي الشريعة والمخرج هو حقيقة مقام البقاء لأنّه مقام شرعي وهو يتحقّق بعد الفناء لذا قال ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ) : التقوى : أدخلني مدخل صدق , العلم : أخرجني مخرج صدق , وإنّما ماذكر المدخل تصريحا لأنّه كنّى عنه بالتقوى على شرط الصدق , فصرّح بالمخرج دون المدخل لأنّ المخرج هو الظهور في العوالم وأنت متحقّق بأوصافه متخلّقا بها أعني أوصاف الجمال لأنّ الخروج إلى عالم البقاء هو وصف جمالي وهو مقام الخصوصية وهو صورة الحضرة المحمدية بل قل عينها من حيث حقيقة النبي صلى الله عليه وسلّم أمّا المدخل فهو البطون فما الشريعة التي هي التقوى إلا للفناء وأمّا البقاء فهو خروج الحقيقة متحلّية بوصف الشريعة بعدما خرجت من جديد وبعثت من بعد موتها في حلية الحقيقة فكانت الشريعة هي فناء البقاء والحقيقة هي بقاء الفناء , والغلبة للحقيقة والحجّة للشريعة وإن شئت عكست الأمر لأنّه ربّ المشارق والمغارب وكذلك فهو ربّ المشرق والمغرب وكذلك ربّ المشرقين وربّ المغربين لذا أخبرك بإحاطته علما
هنا صار اللقاء بين موسى والخضر بين مقامين : مقام موسى : وهو الفناء بالبقاء وبه حاجج
مقام الخضر : وهو البقاء بالفناء وبه غلب
فكانت أمواج الحقائق تتلاطم فيما بينهما وفي تلك الآيات التي سنحاول أن نخرج منها زبدا وعسلا لذّة للشاربين لأنّ ساقي القوم يدور على الحضور فسقانا بعد أن أماتنا وأحيانا (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي) وآه على أسرار القرآن العظيم وعلى درره وفهومه وعلومه وخمرته ولطائفه وصدقه وغوره وسطوته ... كيف لا وكيف لا يكون وهو الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من الله الحكيم الحميد
فكانت قصّتهما مشهدا قدسيّا فريدا في مقام الفتوّة وصفاء النظر والأدب والحكمة والعلم والفهم والصدق والمحبّة فيا لله على سيدنا موسى وعلمه ويا لله على سيدنا الخضر وفهمه
وقصّتهما خمرة زلالية تسقى كؤوسها من حضرتيهما
هنا سيدي إلتقت القطبانية مع الفردانية , والتصريف مع الإرشاد , التربية مع الإرادة , والعلم مع الحكمة , والجذب مع الصحو , والبقاء مع الفناء , وسنخرج بحول الله أذواقا ونصنع منها نمارق مصفوفة وسرر منضودة
هذا لتعلم غور فهومات أهل الله وتحقّقهم بخمرة جذب الإله وأنّ الأمر عظيم جلل , ورحمة الله سبقت الأجل فكان العالم من حيث حقيقة مرحوما ومن حيث حقيقة أخرى قسمين شقيّا وسعيدا ,
ثمّ التلوّن في الحقائق وبها وصف العبيد للأنّهم يدورون مع الحقّ حيثما دار والله تعالى يقول ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فإذا وقفت على هذه الحقيقة كانت دليلك على غيرها مما تهواه أو تعتقده وتسلكه أو تميل إليه فمتى غاب دليلك كثر جهلك وظهرت دعاويك
فإنّنا والله لا نشاهد غير خزائن الفضل مفتوحة ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) بلا تحجير عليه فافهم
وسنشرع إن شاء الله في فضّ أبكار الحور , بمحض النور
يتبع...
وصلى الله وسلّم على الحبيب وآله وصحبه أجمعين
وبعد :
فقد أحببت أن أحيّيك بباقات من ورود المعاني بديعة , وأهديك محابا من القلب تسير على حياء بين يديك شفيعة , فإن الفضل بين الإخوان الكرماء يبقى ببقاء الزمان وديعة , يردّها أولو الفضل منهم كلّما سنحت لهم الفرصة وإنشرح لهم الوقت ولو كانت بضاعتهم مزجاة وضيعة
فإن خير ما تصاحب فيه أخوان , وتعاشر فيه خلاّن , إلتفافهم في وصف العبيد على موائد معارف الإحسان , وأطايب ثمار الإيمان , فمازال ساداتنا في مجالس أنسهم يتباسطون ويتسامرون , وفي مقاعد هيبتهم يتواعظون ويتناصحون , وقد أحببت أن أكتب لك من مداد القلب أذواقا , وبماء العين حنينا وأشواقا , فإنّهما حسان جيادي , ومربط فرس بغيتي ومرادي , إذ أجدها الوسيلة الحاضرة في مواصلتك , نائبة عن يميني التي ما نالها إلى الآن كرامة شرف مصافحتك , وإن كانت الأرواح مجتمعة في عالم سمائها , فنرجو أن تقتفي أثرها الأجسام في تحقيق وفائها وولائها , وإنّ للفتيان بالقوم غرام قديم , حيثما إرتحلوا أو كان كائنهم في الأقاليم , وحيث وجدوا روائح طيب فؤاد حميم , أو إستنشقوا عبق نفحات الرحيم , أو تشنّفت أسماعهم بهمسة حبّ من قلب سليم
وها إني إن شاء الله أطرّز لك بردة من المحاب المنمّق بالسندس البهيج , فتهبّ عليه رياح الصبا بطيب الأريج , فتسمو به سالكة أقوم المعاريج
وما غايتي في ذلك إلا نشر نفحات الأذواق , بعد أن جفّت المحابر فكتبنا بمداد محبرة الأحداق , إذ أنّها كحل العين , إذ ينتفي هناك الأين , والغين .
إعلم سيدي الحبيب أنّ قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام فيها من العلوم والحقائق ما يعجز عن فهمه الكثير من أصناف الخلائق ويكفي أنّها دليل حيّ على رفعة الهمم في طلب العلم وأنّ العلم وخاصّة منه علم المعارف والحقائق يدفع من أجله الغالي والثمين والأجساد والأكباد ولذا كانت الجنّة غالية المهر لأنّها سلعة ثمينة قال تعالى : ( افحسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) فإذا كان هذا ثمن الجنّة بما بالك بثمن ومهر العلوم الربانية والحقائق العليا المصونة فإنها أغلى ما أتحف الله به عباده الصالحين ( واتّقوا الله ويعلّمكم الله ) إتّقوا الله شريعة ويعلّمكم الله حقيقة ( ومن يتّق لله يجعل له مخرجا ) أي في كلّ لون من ألوان علوم الحقيقة بتلك التقوى التي هي الشريعة والمخرج هو حقيقة مقام البقاء لأنّه مقام شرعي وهو يتحقّق بعد الفناء لذا قال ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ) : التقوى : أدخلني مدخل صدق , العلم : أخرجني مخرج صدق , وإنّما ماذكر المدخل تصريحا لأنّه كنّى عنه بالتقوى على شرط الصدق , فصرّح بالمخرج دون المدخل لأنّ المخرج هو الظهور في العوالم وأنت متحقّق بأوصافه متخلّقا بها أعني أوصاف الجمال لأنّ الخروج إلى عالم البقاء هو وصف جمالي وهو مقام الخصوصية وهو صورة الحضرة المحمدية بل قل عينها من حيث حقيقة النبي صلى الله عليه وسلّم أمّا المدخل فهو البطون فما الشريعة التي هي التقوى إلا للفناء وأمّا البقاء فهو خروج الحقيقة متحلّية بوصف الشريعة بعدما خرجت من جديد وبعثت من بعد موتها في حلية الحقيقة فكانت الشريعة هي فناء البقاء والحقيقة هي بقاء الفناء , والغلبة للحقيقة والحجّة للشريعة وإن شئت عكست الأمر لأنّه ربّ المشارق والمغارب وكذلك فهو ربّ المشرق والمغرب وكذلك ربّ المشرقين وربّ المغربين لذا أخبرك بإحاطته علما
هنا صار اللقاء بين موسى والخضر بين مقامين : مقام موسى : وهو الفناء بالبقاء وبه حاجج
مقام الخضر : وهو البقاء بالفناء وبه غلب
فكانت أمواج الحقائق تتلاطم فيما بينهما وفي تلك الآيات التي سنحاول أن نخرج منها زبدا وعسلا لذّة للشاربين لأنّ ساقي القوم يدور على الحضور فسقانا بعد أن أماتنا وأحيانا (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي) وآه على أسرار القرآن العظيم وعلى درره وفهومه وعلومه وخمرته ولطائفه وصدقه وغوره وسطوته ... كيف لا وكيف لا يكون وهو الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من الله الحكيم الحميد
فكانت قصّتهما مشهدا قدسيّا فريدا في مقام الفتوّة وصفاء النظر والأدب والحكمة والعلم والفهم والصدق والمحبّة فيا لله على سيدنا موسى وعلمه ويا لله على سيدنا الخضر وفهمه
وقصّتهما خمرة زلالية تسقى كؤوسها من حضرتيهما
هنا سيدي إلتقت القطبانية مع الفردانية , والتصريف مع الإرشاد , التربية مع الإرادة , والعلم مع الحكمة , والجذب مع الصحو , والبقاء مع الفناء , وسنخرج بحول الله أذواقا ونصنع منها نمارق مصفوفة وسرر منضودة
هذا لتعلم غور فهومات أهل الله وتحقّقهم بخمرة جذب الإله وأنّ الأمر عظيم جلل , ورحمة الله سبقت الأجل فكان العالم من حيث حقيقة مرحوما ومن حيث حقيقة أخرى قسمين شقيّا وسعيدا ,
ثمّ التلوّن في الحقائق وبها وصف العبيد للأنّهم يدورون مع الحقّ حيثما دار والله تعالى يقول ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فإذا وقفت على هذه الحقيقة كانت دليلك على غيرها مما تهواه أو تعتقده وتسلكه أو تميل إليه فمتى غاب دليلك كثر جهلك وظهرت دعاويك
فإنّنا والله لا نشاهد غير خزائن الفضل مفتوحة ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) بلا تحجير عليه فافهم
وسنشرع إن شاء الله في فضّ أبكار الحور , بمحض النور
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
شوّقتنا يا سيدي علي
لمعاني هذه القصة وهذين العلمين والشاهدين سيدنا موسى وسيدنا الخضر على نبينا وعليهما الصلاة والسلام
لمعاني هذه القصة وهذين العلمين والشاهدين سيدنا موسى وسيدنا الخضر على نبينا وعليهما الصلاة والسلام
أمة الله- عدد الرسائل : 92
العمر : 52
تاريخ التسجيل : 23/04/2009
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
ذكر الله تعالى هنا موسى بإسمه مجرّدا وذكر فتاه بكنيته الصفاتية وهو وصف الفتوّة لأنّ هذا المقام في هذه الرحلة يستوجب أن يكون هذا من جنس هذا أي الفتوّة من جنس العلوم والمعارف الربانية الذي أراد أن يطلبه فكان فتاه هو المخوّل لصحبته في هذه الرحلة لما تحقّق به من فتوّة لذا قال ( فتاه ) وهو يوشع بن نون فما ذكر بإسمه كما ذكر موسى
فأخبر موسى فتاه بأنّه عازم على بلوغ مجمع البحرين وكأنّه يشير إلى فتاه بأنّه أيضا في إستطاعته أن يبلغ هذا المكان لذا شوّقه إليه بما أخبره به من ثبات وحرص على بلوغ مجمع البحرين
قال تعالى : ( وإذ قال موسى لفتاه ) فأظهر إسم موسى وأخفى إسم يوشع فأظهره بصفته إشارة إلى أنّ الصحبة ستكون في عالم غير عالم الظهور الحسّي أو تقول بين الظهور والبطون وبين الحسّ والمعنى وهو عالم صفاتي أي نوراني ولن تكون الرحلة في عالم الأسماء أي عالم الشرائع فكان فتى موسى في الحقيقة هو الدليل في الطريق لأنّه فتى ولولاه ما وجد موسى الخضر ولما إجتمع به فهو الذي حمل الحوت وهو الذي نسيه حيث مجمع البحرين فلولاه ما وجد موسى الخضر لذا وجب أن يكون الدليل فتى في مقام فتوّته إذ لولا فتوّته لما صحّت له إستشارة من موسى ولا إخبارا ولولا فتوّته لما نسي الحوت ولو لا فتوّته لما تمّ ذكر صفته الفتويّة لأنّ الذي ذكر صفته هو الله تعالى فما ناداه الله تعالى في ذلك الموقع عند إخبار موسى له إلا بقوله ( فتاه )
ثمّ إن المجال يستوجب الفتوّة لأنّها غير مقيّدة بمقامات ولا بوظائف فهي تدور مع الحقّ حيثما دار لأنّ أهل هذه الصفة يعتبرون مساكين الحضرة لا رتبة لهم ولا مقام وهم في وصف أهل طريقتنا لهم جانب كبير من ( الملامتية ) أي أنّهم غير معنيين بالرتب لأنّ الرتب وظائف إلهية كرتبة الرسلية أو الإرشاد أو التصريف خلاف صفة الفتوّة فلا تعلّق لها بهذا فهي صفة توحيدية أهلها مغمورون في الحضرة وما يستوجب لها من آداب فهي صفة تمام النور وقدسية الصفاء فهم مثل الأرواح القدسية فهذا المقام لا نظر له ولا دفاع له إلا عن الحضرة كأهل الكهف فإنّهم فتية ( إنّهم فتية آمنوا بربّهم ) فذكرهم بوصفهم هذا ولم يذكرهم بأسمائهم لأنّه مقام صفاتي لذا عاشوا ثلاثمائة سنة وإزدادوا تسعا لأنّ مقام مكوثهم هذا الطويل تستوجبهم حقائقهم من حيث نسبتهم من الله تعالى كالخضر الذي يعيش طويلا لأنّه مقام صفاتي فجاء هنا ذكر فتى موسى لأنّ المقام إستوجب مصاحبة صفة الفتوّة وهذا من أدب موسى مع الله تعالى ومعرفته بالحقائق والمراتب
فالفتوّة مقام خصالي نتج عن الخصال الجمالية والرقائق القلبية لرقّة أفئدتهم وصفاء نظرهم فلا يخطر على باطنهم السوء وهؤلاء هم نخبة أهل التصوّف لأنّ التصوّف منه مقامات وأحوال ومنه نخب وجمال فتصوّف النخبة لا تعلّق له بالوظائف ولا بالخصوصيات لذا فإنّك تجد عدد هؤلاء في كلّ زمان مع كلّ شيخ قليل كعدد أصحاب الكهف أو أقل بقليل أو أكثر من ذلك بقليل وقد ورد في صنف هؤلاء قوله عليه الصلاة والسلام : ( يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط والرهطان ويأتي النبي وليس معه أحد ..الحديث ) لأنّه مقام نخبوي عسير مسلكه فله أهله
وقد كان أويس القرني صوفي نخبوي ومن الصحابة كان أبو ذرّ الغفاري صوفي نخبوي ...
أمّا فتوّة سيدنا إبراهيم حينما حطّم الأصنام ( قالوا سمعنا فتى يذكرهم إسمه إبراهيم )
فهو من حيث فتوّته حطّم الأصنام بباطنه وهكذا أهل الفتوّة كلّهم ومن حيث إبراهيميته أي ظهوره في وصف إسمه الإبراهيمي التكليفي الوظيفي حطّم الأصنام حسّا
لأنّ تحطيم الأصنام بالقلب مقام إعتزالي ( وإذ إعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ) فهربوا بدينهم مخافة أن يفسد عليهم قومهم إيمانهم فكان حال فتوّتهم يصحبهم في دفاعهم عن بواطنهم فليسوا بأهل ظهور أسمائي ليقوموا بتحطيم الأصنام ظاهرا وهنا هناك علوم أخرى من حيث ظهور أثر ذلك في المستقبل من حيث توجّه هممهم في إزالة الأصنام فما إستغرق منهم هذا إلا نومة في الكهف فما ذهبوا إلى المدينة بعد تلك النومة إلا ووجدوا أهل بلدتهم كلّهم من المؤمنين وإنّما تصرّفوا بهذا من غير شعور منهم وإنما تصرّفت الحضرة بحسب توجّه بواطنهم في إرادة وجهه سبحانه فأكرمهم بما به أكرمهم فكان حالهم معجزة وهو الأمر الخارق للعادة من آيات الله تعالى وهذا من مرتبة الصفات والعالم النوري خلاف الفتى إبراهيم فهو فتى مثل أهل الكهف في فتوّته لكنّه فارقهم بإسمه إبراهيم فظهر إسمه وغلب على وصفه لتحقّقه في مراتب المقامات والعرفان والخلافة لذا قال تعالى ( وإذ قال موسى فذكر مقامه العالي الذي هو أعلى من مقام فتوّته عليه السلام وكأنّه يذكر قطبانية موسى بمجرّد ذكره بإسمه مجرّدا وهذا المقام أعلى من مقام فتوّته وهو مقام من مقامات نبوّته الجامعة لجميع أحكام التحقيق ومنها الفتوّة
قال تعالى : ( وإذ قال موسى لفتاه ) فنسب الفتى لموسى بهاء الضمير العائد على موسى والضمير هو حرف الهاء بالضمّ فهذا وجه الإلتقاء والعلامة بين موسى ويوشع بن نون فهو فتاه أي صفة فتوّة موسى الباطنة فهي التي ستصحبه في رحلته فأخبر موسى عن نفسه في غيره وقد قال سيدي أبو الحسن الشاذلي مخبرا عن نفسه ( كتبي أصحابي ) وهكذا كلّ رسول ووليّ
ومن هذا المقام أي مقام الفتوّة أوضح سيدنا موسى عليه السلام لفتاه مستلزمات مقام الفتوّة وما تعطيه حقيقته من حيث العزيمة والهمّة العالية والحرص على طلب الإستزادة من العلم والأدب وكذلك فالفتوّة تستلزم التكفير عن الذنوب حالا ومآلا والتواضع للغير ولو كان دونك في مرتبة العلم بل والتعلّم منه وهكذا..
وبما أنّ الحضرة أخذت بمجامع قلوب أحبابها فإنّ كل نبيّ أو وليّ متى تعلّق العلم بالله تعالى تجرّدت الذوات من أوصاف الخصوصية وأسرعت الهمم في طلبه وهذا تراه في قصّة عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه لمّا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يشرب اللبن وكان على يمينه عبد الله بن عبّاس وكان صغيرا في السنّ وعلى شماله أبو بكر الصدّيق أو أحد أكابر الصحابة وشيوخهم فإستأذن رسول الله من عبد الله بن عباس أن يعطي الإناء ويقدّم من كان على شماله في الشرب لكبر سنّهم فقال له : لا يا رسول الله والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا
فإذا كان هذا النصيب من رسول الله فكيف النصيب من الله هذا لتفهم معنى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )
وهذا ما نراه اليوم والحمد لله في المريدين مع شيوخهم فإنهم يلتموسون البركة من أكلهم وشرابهم كما فعل عبد الله بن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنّهم رضي الله عنهم ورثتهم
فذكر موسى لفتاه هنا : علوم : منها علوم : الهمّة لقوله ( لا أبرح ) أي ولو بقيت كما قال ( أو أمضي حقبا ) فإن الهمم الشريفة لا تتكاسل في طلب ما طلبه موسى بل تمضي إليه على الأجفان
ومنها : الثبات والصدق في الطلب : فهو على بصيرة من أمره وأمر المتّبع الذي هو الخضر
ومنها : أنّه ذكر له العلم والعمل فلا يبقى العلم مجرّد أماني أي علمه بوجود الخضر أمّا العمل فهو عزمه وحزمه , والعمل الذي هو الجدّ والنشاط يفضي إلى نتائجه لذا قال له ( حتى أبلغ ) لعلمه بأنّه من جدّ وجد ومن زرع حصد
ومنها : علوم الجذب فهو يذهب إلى أي شخص يقرّبه من الله تعالى زيادة على ما عنده من العلم لأن القناعة من الله حرمان وقد قال موسى سابقا ( وعجلت إليك ربّ لترضى ) وكذلك الآن فهو عجول ومصمّم على بلوغ مناه في طلب كلّ علم يقرّبه إلى مولاه
ومنها : ذكره لمجمع البحرين فحدّد الوجهة وجعل مقصودا واحدا بين عينيه وهذا ما ينصح به المشائخ مريديهم بأن يحدّد مقصدا واحدا وشيخا واحدا وذكرا واحدا وأصلا واحدا من الطرق معوّل عليه كما ذكر ذلك سيد أحمد التيجاني رضي الله عنه
ومنها : ذكر له مجمع البحرين لأنّ الفتى يفهم هذا فعرّف له البحرين بأل التعريف حتى يضع المناسبات في مراتبها فإن القرآن معجز من جميع وجوهه ومتى عاندت قال لك ( وهو بكلّ شيء عليم) والقرآن أنزله بعلمه
فإنه لولا تعريف البحرين ما صحّ أن يعرف المجمع فعرّفه بالإضافة فكان المجمع مضاف إلى البحرين لتعلم ذلك المكان الذي إلتقى فيه موسى الخضر فتقوم لهما إجلالا وإكبارا
يتبع ...
ذكر الله تعالى هنا موسى بإسمه مجرّدا وذكر فتاه بكنيته الصفاتية وهو وصف الفتوّة لأنّ هذا المقام في هذه الرحلة يستوجب أن يكون هذا من جنس هذا أي الفتوّة من جنس العلوم والمعارف الربانية الذي أراد أن يطلبه فكان فتاه هو المخوّل لصحبته في هذه الرحلة لما تحقّق به من فتوّة لذا قال ( فتاه ) وهو يوشع بن نون فما ذكر بإسمه كما ذكر موسى
فأخبر موسى فتاه بأنّه عازم على بلوغ مجمع البحرين وكأنّه يشير إلى فتاه بأنّه أيضا في إستطاعته أن يبلغ هذا المكان لذا شوّقه إليه بما أخبره به من ثبات وحرص على بلوغ مجمع البحرين
قال تعالى : ( وإذ قال موسى لفتاه ) فأظهر إسم موسى وأخفى إسم يوشع فأظهره بصفته إشارة إلى أنّ الصحبة ستكون في عالم غير عالم الظهور الحسّي أو تقول بين الظهور والبطون وبين الحسّ والمعنى وهو عالم صفاتي أي نوراني ولن تكون الرحلة في عالم الأسماء أي عالم الشرائع فكان فتى موسى في الحقيقة هو الدليل في الطريق لأنّه فتى ولولاه ما وجد موسى الخضر ولما إجتمع به فهو الذي حمل الحوت وهو الذي نسيه حيث مجمع البحرين فلولاه ما وجد موسى الخضر لذا وجب أن يكون الدليل فتى في مقام فتوّته إذ لولا فتوّته لما صحّت له إستشارة من موسى ولا إخبارا ولولا فتوّته لما نسي الحوت ولو لا فتوّته لما تمّ ذكر صفته الفتويّة لأنّ الذي ذكر صفته هو الله تعالى فما ناداه الله تعالى في ذلك الموقع عند إخبار موسى له إلا بقوله ( فتاه )
ثمّ إن المجال يستوجب الفتوّة لأنّها غير مقيّدة بمقامات ولا بوظائف فهي تدور مع الحقّ حيثما دار لأنّ أهل هذه الصفة يعتبرون مساكين الحضرة لا رتبة لهم ولا مقام وهم في وصف أهل طريقتنا لهم جانب كبير من ( الملامتية ) أي أنّهم غير معنيين بالرتب لأنّ الرتب وظائف إلهية كرتبة الرسلية أو الإرشاد أو التصريف خلاف صفة الفتوّة فلا تعلّق لها بهذا فهي صفة توحيدية أهلها مغمورون في الحضرة وما يستوجب لها من آداب فهي صفة تمام النور وقدسية الصفاء فهم مثل الأرواح القدسية فهذا المقام لا نظر له ولا دفاع له إلا عن الحضرة كأهل الكهف فإنّهم فتية ( إنّهم فتية آمنوا بربّهم ) فذكرهم بوصفهم هذا ولم يذكرهم بأسمائهم لأنّه مقام صفاتي لذا عاشوا ثلاثمائة سنة وإزدادوا تسعا لأنّ مقام مكوثهم هذا الطويل تستوجبهم حقائقهم من حيث نسبتهم من الله تعالى كالخضر الذي يعيش طويلا لأنّه مقام صفاتي فجاء هنا ذكر فتى موسى لأنّ المقام إستوجب مصاحبة صفة الفتوّة وهذا من أدب موسى مع الله تعالى ومعرفته بالحقائق والمراتب
فالفتوّة مقام خصالي نتج عن الخصال الجمالية والرقائق القلبية لرقّة أفئدتهم وصفاء نظرهم فلا يخطر على باطنهم السوء وهؤلاء هم نخبة أهل التصوّف لأنّ التصوّف منه مقامات وأحوال ومنه نخب وجمال فتصوّف النخبة لا تعلّق له بالوظائف ولا بالخصوصيات لذا فإنّك تجد عدد هؤلاء في كلّ زمان مع كلّ شيخ قليل كعدد أصحاب الكهف أو أقل بقليل أو أكثر من ذلك بقليل وقد ورد في صنف هؤلاء قوله عليه الصلاة والسلام : ( يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط والرهطان ويأتي النبي وليس معه أحد ..الحديث ) لأنّه مقام نخبوي عسير مسلكه فله أهله
وقد كان أويس القرني صوفي نخبوي ومن الصحابة كان أبو ذرّ الغفاري صوفي نخبوي ...
أمّا فتوّة سيدنا إبراهيم حينما حطّم الأصنام ( قالوا سمعنا فتى يذكرهم إسمه إبراهيم )
فهو من حيث فتوّته حطّم الأصنام بباطنه وهكذا أهل الفتوّة كلّهم ومن حيث إبراهيميته أي ظهوره في وصف إسمه الإبراهيمي التكليفي الوظيفي حطّم الأصنام حسّا
لأنّ تحطيم الأصنام بالقلب مقام إعتزالي ( وإذ إعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ) فهربوا بدينهم مخافة أن يفسد عليهم قومهم إيمانهم فكان حال فتوّتهم يصحبهم في دفاعهم عن بواطنهم فليسوا بأهل ظهور أسمائي ليقوموا بتحطيم الأصنام ظاهرا وهنا هناك علوم أخرى من حيث ظهور أثر ذلك في المستقبل من حيث توجّه هممهم في إزالة الأصنام فما إستغرق منهم هذا إلا نومة في الكهف فما ذهبوا إلى المدينة بعد تلك النومة إلا ووجدوا أهل بلدتهم كلّهم من المؤمنين وإنّما تصرّفوا بهذا من غير شعور منهم وإنما تصرّفت الحضرة بحسب توجّه بواطنهم في إرادة وجهه سبحانه فأكرمهم بما به أكرمهم فكان حالهم معجزة وهو الأمر الخارق للعادة من آيات الله تعالى وهذا من مرتبة الصفات والعالم النوري خلاف الفتى إبراهيم فهو فتى مثل أهل الكهف في فتوّته لكنّه فارقهم بإسمه إبراهيم فظهر إسمه وغلب على وصفه لتحقّقه في مراتب المقامات والعرفان والخلافة لذا قال تعالى ( وإذ قال موسى فذكر مقامه العالي الذي هو أعلى من مقام فتوّته عليه السلام وكأنّه يذكر قطبانية موسى بمجرّد ذكره بإسمه مجرّدا وهذا المقام أعلى من مقام فتوّته وهو مقام من مقامات نبوّته الجامعة لجميع أحكام التحقيق ومنها الفتوّة
قال تعالى : ( وإذ قال موسى لفتاه ) فنسب الفتى لموسى بهاء الضمير العائد على موسى والضمير هو حرف الهاء بالضمّ فهذا وجه الإلتقاء والعلامة بين موسى ويوشع بن نون فهو فتاه أي صفة فتوّة موسى الباطنة فهي التي ستصحبه في رحلته فأخبر موسى عن نفسه في غيره وقد قال سيدي أبو الحسن الشاذلي مخبرا عن نفسه ( كتبي أصحابي ) وهكذا كلّ رسول ووليّ
ومن هذا المقام أي مقام الفتوّة أوضح سيدنا موسى عليه السلام لفتاه مستلزمات مقام الفتوّة وما تعطيه حقيقته من حيث العزيمة والهمّة العالية والحرص على طلب الإستزادة من العلم والأدب وكذلك فالفتوّة تستلزم التكفير عن الذنوب حالا ومآلا والتواضع للغير ولو كان دونك في مرتبة العلم بل والتعلّم منه وهكذا..
وبما أنّ الحضرة أخذت بمجامع قلوب أحبابها فإنّ كل نبيّ أو وليّ متى تعلّق العلم بالله تعالى تجرّدت الذوات من أوصاف الخصوصية وأسرعت الهمم في طلبه وهذا تراه في قصّة عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه لمّا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يشرب اللبن وكان على يمينه عبد الله بن عبّاس وكان صغيرا في السنّ وعلى شماله أبو بكر الصدّيق أو أحد أكابر الصحابة وشيوخهم فإستأذن رسول الله من عبد الله بن عباس أن يعطي الإناء ويقدّم من كان على شماله في الشرب لكبر سنّهم فقال له : لا يا رسول الله والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا
فإذا كان هذا النصيب من رسول الله فكيف النصيب من الله هذا لتفهم معنى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )
وهذا ما نراه اليوم والحمد لله في المريدين مع شيوخهم فإنهم يلتموسون البركة من أكلهم وشرابهم كما فعل عبد الله بن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنّهم رضي الله عنهم ورثتهم
فذكر موسى لفتاه هنا : علوم : منها علوم : الهمّة لقوله ( لا أبرح ) أي ولو بقيت كما قال ( أو أمضي حقبا ) فإن الهمم الشريفة لا تتكاسل في طلب ما طلبه موسى بل تمضي إليه على الأجفان
ومنها : الثبات والصدق في الطلب : فهو على بصيرة من أمره وأمر المتّبع الذي هو الخضر
ومنها : أنّه ذكر له العلم والعمل فلا يبقى العلم مجرّد أماني أي علمه بوجود الخضر أمّا العمل فهو عزمه وحزمه , والعمل الذي هو الجدّ والنشاط يفضي إلى نتائجه لذا قال له ( حتى أبلغ ) لعلمه بأنّه من جدّ وجد ومن زرع حصد
ومنها : علوم الجذب فهو يذهب إلى أي شخص يقرّبه من الله تعالى زيادة على ما عنده من العلم لأن القناعة من الله حرمان وقد قال موسى سابقا ( وعجلت إليك ربّ لترضى ) وكذلك الآن فهو عجول ومصمّم على بلوغ مناه في طلب كلّ علم يقرّبه إلى مولاه
ومنها : ذكره لمجمع البحرين فحدّد الوجهة وجعل مقصودا واحدا بين عينيه وهذا ما ينصح به المشائخ مريديهم بأن يحدّد مقصدا واحدا وشيخا واحدا وذكرا واحدا وأصلا واحدا من الطرق معوّل عليه كما ذكر ذلك سيد أحمد التيجاني رضي الله عنه
ومنها : ذكر له مجمع البحرين لأنّ الفتى يفهم هذا فعرّف له البحرين بأل التعريف حتى يضع المناسبات في مراتبها فإن القرآن معجز من جميع وجوهه ومتى عاندت قال لك ( وهو بكلّ شيء عليم) والقرآن أنزله بعلمه
فإنه لولا تعريف البحرين ما صحّ أن يعرف المجمع فعرّفه بالإضافة فكان المجمع مضاف إلى البحرين لتعلم ذلك المكان الذي إلتقى فيه موسى الخضر فتقوم لهما إجلالا وإكبارا
يتبع ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
نسب موسى الفعل في قوله ( لا أبرح ) إلى نفسه فما ذكر معه فتاه في هذا الفعل لأنّه القاصد والمريد في هذا الفعل ففتاه تحت حكمه وتصرّفه من حيث أنّه يحلّ بحلوله ويرتحل بترحاله وهكذا هو مقام الفتوّة ففيه التسليم لشيخه باطنا وظاهرا بلا إعتراض عليه وهذه صفة المحبّ مع المحبوب وهذا ما تعطيه أحكام الفناء في المحبّة والإتّباع والصدق والتصديق فاصطفاه إلى هذا السفر من حيث هذه الحقائق فكأنّ فتاه هو موسى بعينه لذا ما وقع منه غير ما يطلبه موسى ويريده لعلم الفتى بما يعطيه مقام الإتّباع والخدمة والملازمة والتربية والأدب , فما إصطحب معه أخاه هارون وما جرى به ذكر لأنّ مهمّة هارون مع موسى تكليفية مفروضة أمرا إلهيا بحتا أمّا هذا السفر فهو من النوافل التي أرادها موسى فهذا دليل على أنّها قصّة رقائق ودقائق وعلوم ومعارف من حضرة القدس لا علاقة لها بالتكليف ولا بالرسالة وهي إشارة لمن تدبّر أن السير في هذا السفر هو سير صفاتي نوري له أحكام أخرى غير أحكام التشريع الذي أمره الله بتبليغه لبني إسرائيل
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)
جزم هنا بأمرين متى تعذّر الأوّل إنتقل إلى الثاني :
الأمر الأوّل : عزمه على بلوغ مجمع البحرين وهو المطلب المقصود
الأمر الثاني : متى تعذّر عليه هذا المقصود في الإرادة إنتقل إلى الأمر الثاني الغير مقصود ولا مراد وهو قوله ( أو أمضي حقبا )
فما توقّف مع إرادة الأمر الأوّل الذي هو مقصوده لذا جعله في دائرة إمكان حصوله متى ساعفته المشيئة فما جزم بوقوعه ولا ببلوغه من هذه الناحية أدبا مع الحضرة في وسع علمها
وإنّما ذكر هذين الأمرين من حيث حقيقتين :
الحقيقة الأولى : أنّه يريد أن يبلغ إلى مجمع البحرين ليكفّر عمّا بدر منه من حيث عدم إرجاع العلم لله تعالى لمّا سئل , فيتتلمذ للخضر فيظهر بذلك أن جوابه ب : (لا) لما سئل ما كان علوّا في الأرض ولا فسادا ولا لإعتقاده بأنّه أعلم من كلّ أحد من بني جنسه فلو كان إعتقاده هذا لمنعه ذلك الإعتقاد من الذهاب وبحث الإجتماع بالخضر , فإنّ إبليس لمّا إعتقد في نفسه بأنّه أفضل من آدم رفض السجود أمّا من لم يعتقد أفضليته وشاهد نقصه مهما حصل له من العلم بمجرّد أن يجد من هو أعلم منه يسلّم له الأمر ويتّخذه شيخا مهما كانت رتبة هذا المريد في العلم بل ولو كان نبيّا كما وقع لموسى أو كان رسولا أو كليما لله تعالى فما بالك بمن هو دون هذا فهو أولى بذلك جزما من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام
الحقيقة الثانية : أنّه أراد متى لم يوفّق لبلوغ مجمع البحرين أن يمضي حقبا وذلك لمجازاة نفسه وتربيتها
فالأولى للكفّارة والثانية للإقتصاص منها وقد وقعت له الحالتان فإنّه بلغ مجمع البحرين ثمّ تجاوزه هو وفتاه فحصل لهما التعب والنصب فجازى نفسه ومن ثمّ رجع إلى مجمع البحرين ليكفّر عمّا صدر منه وإنّما نال النصب من فتاه أيضا لأنّ فتاه يكون بحسب حالة موسى في هذا السفر فمتى تعب موسى تعب هو ومتى جاع موسى جاع هو معه لذا أظهر فتاه في قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) بضمير التثنية لعلمه بالأحوال عليه الصلاة والسلام لذا كما قلت هذا السرّ في عودة ضمير الهاء لموسى في قوله ( فتاه ) فافهم
وقد أكرمه الله تعالى بالكرامتين كرامة الإجتماع بالخضر وكرامة ( أو أمضي حقبا )
وهذا من كماله عليه الصلاة والسلام
ثمّ أنّه ما ورد في قول موسى ذكر المشيئة فإنّه ما قال ( لا أبرح إن شاء الله ...)
لأنّ همّته عليه الصلاة والسلام منطوية في سرّ المشيئة الإلهية فهو سير روحاني خاصّة وهذا السير هو السير الإضطراري , وحالة الإضطرار تستوجب وجود المشيئة كامنة فيها من غير التلفّظ بها وهذا ما أحسّ به موسى فهو على يقين من أمرين إمّا بلوغ المكان المقصود أو المضي حقبا لذا ما ورد فيهما ذكر المشيئة لأنّه مستشعرها روحانيا قلبيا فهي زاد الروح فما جزم إلا بهذا يقينا وهو بلوغ مجمع البحرين أو أن يمضي حقبا وهذا ما حصل فعلا له
أمّا من حيث الإجتماع بالخضر والأخذ عنه فما جزم بشيء من ذلك لحداسته عليه السلام في فهم الأمور لأنّه يعلم بأنّه سيختبر بإختبار قد يكون لا طاقة له به لذا لمّا إشترط عليه الخضر عدم السؤال قال ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) أنظر قوله هنا ( إن شاء الله ) لعدم الجزم بذلك لأنّه لا يعلم ما خفي عنه من غرائب الخضر خلاف البلوغ إلى مجمع البحرين فهو في متناوله لذا جزم به بإعتبار أنّ همّته تتجاوز ذلك المكان لذا تجاوزه فعلا لسبق همّته عليه الصلاة والسلام
وقوله : ( أو أمضي حقبا ) قال المفسّرون قد يكون معناها سنة أو سبعين سنة أو ثمانين بحسب تحديد زمن الحقب
فجزم بأنّه متى تعسّر بلوغ مجمع البحرين فإنّه سيمضي حقبا أي وقتا طويلا إمّا في البحث عن الخضر حتى يجده أو أن لا يرجع وإنّما ذكر الحقب ولم يقل أيام أو شهورا لأنّ جنس هذا السفر جنس نوراني لطيف لأنّ متعلّقه بالعلوم والمعارف فهو من شؤون الروح والروح تحسن أن تمضي حقبا فهي لا تتقيّد بالدنيا ولا بالآخرة ولا بالظاهر ولا بالباطن لأنّها جوّالة لذا حكم بهذا التحديد في النوع الزمني لأنّه لا يتعلّق بموت ولا بحياة من جنس عمر الخضر .فافهم
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
فنسب الفعل : ( لا أبرح ) إليه ونسب الفعل ( حتى أبلغ ) أيضا إليه رغم أنّ فتاه سيصاحبه معه , وكأنّ فتاه غير مشاهد بالبصر الحسّي في صحبته لموسى فما يظهر إلا موسى في هذه السياحة أعني أنّ مقام الفتى مقام صفاتي نوراني ومقام موسى أسمائي وصفاتي في نفس الوقت لذا نسب الفعلين إليه وكأنّ فتاه محمول بموسى أي بهمّة موسى وإلا لما إستطاع الفتى الصبر على هذا السفر
وكذلك نسب الفعل الثالث لنفسه في قوله ( أو أمضي حقبا ) فيكون الفتى قبل لقاء موسى بالخضر في حكم موسى أي محمول بهمّته عليه السلام فهو قائم خديم في حضرة موسى عليه السلام وحضرته تمدّ الفتى فيستمدّ منها في جميع شؤونه
فكان موسى قويا أمينا : قويا على هذا السفر , أمينا لصحبة الخضر
نسب موسى الفعل في قوله ( لا أبرح ) إلى نفسه فما ذكر معه فتاه في هذا الفعل لأنّه القاصد والمريد في هذا الفعل ففتاه تحت حكمه وتصرّفه من حيث أنّه يحلّ بحلوله ويرتحل بترحاله وهكذا هو مقام الفتوّة ففيه التسليم لشيخه باطنا وظاهرا بلا إعتراض عليه وهذه صفة المحبّ مع المحبوب وهذا ما تعطيه أحكام الفناء في المحبّة والإتّباع والصدق والتصديق فاصطفاه إلى هذا السفر من حيث هذه الحقائق فكأنّ فتاه هو موسى بعينه لذا ما وقع منه غير ما يطلبه موسى ويريده لعلم الفتى بما يعطيه مقام الإتّباع والخدمة والملازمة والتربية والأدب , فما إصطحب معه أخاه هارون وما جرى به ذكر لأنّ مهمّة هارون مع موسى تكليفية مفروضة أمرا إلهيا بحتا أمّا هذا السفر فهو من النوافل التي أرادها موسى فهذا دليل على أنّها قصّة رقائق ودقائق وعلوم ومعارف من حضرة القدس لا علاقة لها بالتكليف ولا بالرسالة وهي إشارة لمن تدبّر أن السير في هذا السفر هو سير صفاتي نوري له أحكام أخرى غير أحكام التشريع الذي أمره الله بتبليغه لبني إسرائيل
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)
جزم هنا بأمرين متى تعذّر الأوّل إنتقل إلى الثاني :
الأمر الأوّل : عزمه على بلوغ مجمع البحرين وهو المطلب المقصود
الأمر الثاني : متى تعذّر عليه هذا المقصود في الإرادة إنتقل إلى الأمر الثاني الغير مقصود ولا مراد وهو قوله ( أو أمضي حقبا )
فما توقّف مع إرادة الأمر الأوّل الذي هو مقصوده لذا جعله في دائرة إمكان حصوله متى ساعفته المشيئة فما جزم بوقوعه ولا ببلوغه من هذه الناحية أدبا مع الحضرة في وسع علمها
وإنّما ذكر هذين الأمرين من حيث حقيقتين :
الحقيقة الأولى : أنّه يريد أن يبلغ إلى مجمع البحرين ليكفّر عمّا بدر منه من حيث عدم إرجاع العلم لله تعالى لمّا سئل , فيتتلمذ للخضر فيظهر بذلك أن جوابه ب : (لا) لما سئل ما كان علوّا في الأرض ولا فسادا ولا لإعتقاده بأنّه أعلم من كلّ أحد من بني جنسه فلو كان إعتقاده هذا لمنعه ذلك الإعتقاد من الذهاب وبحث الإجتماع بالخضر , فإنّ إبليس لمّا إعتقد في نفسه بأنّه أفضل من آدم رفض السجود أمّا من لم يعتقد أفضليته وشاهد نقصه مهما حصل له من العلم بمجرّد أن يجد من هو أعلم منه يسلّم له الأمر ويتّخذه شيخا مهما كانت رتبة هذا المريد في العلم بل ولو كان نبيّا كما وقع لموسى أو كان رسولا أو كليما لله تعالى فما بالك بمن هو دون هذا فهو أولى بذلك جزما من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام
الحقيقة الثانية : أنّه أراد متى لم يوفّق لبلوغ مجمع البحرين أن يمضي حقبا وذلك لمجازاة نفسه وتربيتها
فالأولى للكفّارة والثانية للإقتصاص منها وقد وقعت له الحالتان فإنّه بلغ مجمع البحرين ثمّ تجاوزه هو وفتاه فحصل لهما التعب والنصب فجازى نفسه ومن ثمّ رجع إلى مجمع البحرين ليكفّر عمّا صدر منه وإنّما نال النصب من فتاه أيضا لأنّ فتاه يكون بحسب حالة موسى في هذا السفر فمتى تعب موسى تعب هو ومتى جاع موسى جاع هو معه لذا أظهر فتاه في قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) بضمير التثنية لعلمه بالأحوال عليه الصلاة والسلام لذا كما قلت هذا السرّ في عودة ضمير الهاء لموسى في قوله ( فتاه ) فافهم
وقد أكرمه الله تعالى بالكرامتين كرامة الإجتماع بالخضر وكرامة ( أو أمضي حقبا )
وهذا من كماله عليه الصلاة والسلام
ثمّ أنّه ما ورد في قول موسى ذكر المشيئة فإنّه ما قال ( لا أبرح إن شاء الله ...)
لأنّ همّته عليه الصلاة والسلام منطوية في سرّ المشيئة الإلهية فهو سير روحاني خاصّة وهذا السير هو السير الإضطراري , وحالة الإضطرار تستوجب وجود المشيئة كامنة فيها من غير التلفّظ بها وهذا ما أحسّ به موسى فهو على يقين من أمرين إمّا بلوغ المكان المقصود أو المضي حقبا لذا ما ورد فيهما ذكر المشيئة لأنّه مستشعرها روحانيا قلبيا فهي زاد الروح فما جزم إلا بهذا يقينا وهو بلوغ مجمع البحرين أو أن يمضي حقبا وهذا ما حصل فعلا له
أمّا من حيث الإجتماع بالخضر والأخذ عنه فما جزم بشيء من ذلك لحداسته عليه السلام في فهم الأمور لأنّه يعلم بأنّه سيختبر بإختبار قد يكون لا طاقة له به لذا لمّا إشترط عليه الخضر عدم السؤال قال ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) أنظر قوله هنا ( إن شاء الله ) لعدم الجزم بذلك لأنّه لا يعلم ما خفي عنه من غرائب الخضر خلاف البلوغ إلى مجمع البحرين فهو في متناوله لذا جزم به بإعتبار أنّ همّته تتجاوز ذلك المكان لذا تجاوزه فعلا لسبق همّته عليه الصلاة والسلام
وقوله : ( أو أمضي حقبا ) قال المفسّرون قد يكون معناها سنة أو سبعين سنة أو ثمانين بحسب تحديد زمن الحقب
فجزم بأنّه متى تعسّر بلوغ مجمع البحرين فإنّه سيمضي حقبا أي وقتا طويلا إمّا في البحث عن الخضر حتى يجده أو أن لا يرجع وإنّما ذكر الحقب ولم يقل أيام أو شهورا لأنّ جنس هذا السفر جنس نوراني لطيف لأنّ متعلّقه بالعلوم والمعارف فهو من شؤون الروح والروح تحسن أن تمضي حقبا فهي لا تتقيّد بالدنيا ولا بالآخرة ولا بالظاهر ولا بالباطن لأنّها جوّالة لذا حكم بهذا التحديد في النوع الزمني لأنّه لا يتعلّق بموت ولا بحياة من جنس عمر الخضر .فافهم
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
فنسب الفعل : ( لا أبرح ) إليه ونسب الفعل ( حتى أبلغ ) أيضا إليه رغم أنّ فتاه سيصاحبه معه , وكأنّ فتاه غير مشاهد بالبصر الحسّي في صحبته لموسى فما يظهر إلا موسى في هذه السياحة أعني أنّ مقام الفتى مقام صفاتي نوراني ومقام موسى أسمائي وصفاتي في نفس الوقت لذا نسب الفعلين إليه وكأنّ فتاه محمول بموسى أي بهمّة موسى وإلا لما إستطاع الفتى الصبر على هذا السفر
وكذلك نسب الفعل الثالث لنفسه في قوله ( أو أمضي حقبا ) فيكون الفتى قبل لقاء موسى بالخضر في حكم موسى أي محمول بهمّته عليه السلام فهو قائم خديم في حضرة موسى عليه السلام وحضرته تمدّ الفتى فيستمدّ منها في جميع شؤونه
فكان موسى قويا أمينا : قويا على هذا السفر , أمينا لصحبة الخضر
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
قلت : مجمع البحرين هذا المكان الذي شوّرت همّة موسى في طلبه إنّما حكاه موسى إخبارا بأنّه علامة على وجود الخضر وليس هو مكانا معروفا مقصودا تحديدا فما كان لموسى أن يحدّد نقطة الإلتقاء في مجمع البحرين بالخضر إلا بوجود علامة وهي علامة نسيان الحوت لأنّه تجاوز مع فتاه المكان المحدّد للإلتقاء لذا فإنّه رجع إليه عندما تحقّقت العلامة , وعليه فنفهم بأنّ في مثل هذا السفر هناك إشارات وعلامات وهذا من علوم الخضر وهناك أمرا وهو أنّه لمّا وصل إلى الصخرة والمكان المحدّد قبل أن يتجاوزه ما وجد فيه الخضر وإنّما وجد الخضر بعد رجوعه إلى الصخرة من جديد بعد أن تحقّقت العلامة وظهرت وذلك بنسيان الحوت , فكان الغلام هو السبب في تحقّق العلامة بما أنّه هو الذي نسي الحوت , فكان مقام الفتوّة هو المخوّل لإظهار العلامة لذا ذكر فتى موسى بأنّه نسي الحوت عند الصخرة التي آوى إليها مع موسى فهناك حدث ما حدث للحوت فكان السبب في خروج الخضر لهما ولكن بعد أن تجاوزا ثمّ رجعا فكان الفتى خديم موسى في هذا السفر لذا إتّخذه صاحبا فيه فكان لا بدّ من ذلك وإلا لما وجد الخضر , وعليه فإنّ إخبار موسى فتاه بأنّه لن يبرح حتى يبلغ مجمع البحرين أو يمضي حقبا يوحي بعدم تحديد المكان ونقطة اللقاء بل ذكر دائرتها وما حكى موقعها فتحسّ بأنّ إخباره لفتاه بمجمع البحرين ليس فيه تحديدا لنقطة اللقاء أي أنّه لا يعرفها إلا بعلامة وهذه العلامة سيكون فتاه هو السبب في تحديدها لذا أخبره بوجهة السفر ومقصده فأنظر علم موسى عليه السلام وتدقيقه وكنايته وإشارته لفتاه ثمّ أنّه من وجه آخر أخبر بأّنه وحده الذي لا يبرح حتى يبلغ مجمع البحرين وكأنّ الفتى ليس مقصودا بذلك وإنّما هو وسيلة إلى ذلك فإتّخذه صاحبا في سفره
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
ظهر هنا أنّ هذا العلم الذي طلبه موسى لا بدّ فيه من الإستعانة بفتاه في تحديد نقطة اللقاء والإستعانة بالخضر في التعلّم منه فإحتاج مرشدا في الطريق وهو فتاه وكذلك إحتاج مرشدا في التحقيق وهو الخضر هذا دلالة على عجز العبد من كلّ وجه في النوال إلا متى أسعفه الله تعالى بالرجال لتحقيق الوصال
فكأنّه في إخباره لفتاه إستغاثة به لكي يصاحبه في مقام فتوّته ثمّ أيضا إحتياجه للمكان المعيّن الذي سيلتقي فيه بالخضر فلو لا المكان المعيّن لما أحسن الإجتماع بالخضر فلمات كمدا وذلك عندما تستشعر عزيمته في طلب الخضر رغم أنّه دونه في المقام فهو من أولي العزم من الرسل ويكفي هذا دلالة على مقامه السامي العالي
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
مهمّة الفتى هنا تتمثّل غايتها فيما أخبره به موسى وهو عزمه على بلوغ مجمع الحرين أمّا ما وراء ذلك فليس له من الأمر من شيء لذا ما وقع ذكر الفتى بمجرّد صحبة موسى مع الخضر في سياحتهما فما أخبره هنا في هذه الآية بلقاء الخضر فما قال له مثلا ( لا أبرح حتى أجتمع بالخضر ) بل أخبره ببلوغ المكان وتحديد نقطة لقاء الخضر فيه فساعفه فتاه على ذلك لذا حمل معه الحوت ومن ثمّ نسيه وإنّما نسيه الفتى لأنّه وصل إلى نقطة اللقاء فغاب ذكر حكم الأجسام من ذهن الفتى من طعام وشراب لأنّ مقامه يعطي ذلك من حيث فتوّته فمتى بلغ هذا المجمع وتلك النقطة تغيّرت الحالة وصار لهما حكما آخر وهذا ما سنأتي عليه تفصيلا في الآيات اللاحقة
ثمّ إنّه ذكر مجمع البحرين فتمّ ذكر البحرين ونقطة الإلتقاء بينهما وهو مقام وسطي حيث الإعتدال وهو مقام التمكين فلا يغلب صحوه سكره ولا سكره صحوه فهنا إجتمعت في مجمع البحرين ثلاثة مقامات مقام الفتوّة ومقام القطبانية ومقام الفردانية وهذا ما سنلاحظه في قوله تعالى ( وإذ قال موسى ) عيّن إسمه وذكر الفتى في قوله ( فتاه ) فعيّن فتوّته ثمّ ذكر في الأخير الخضر فلم يعيّن إلا ما يقابل الربوبية وهي العبودية وهي المقام الجامع الذي يجتمع فيه كلّ الناس من حيث عبوديتهم لله تعالى فتنمحي هناك جميع الخصوصيات من مراتب وغيرها لأنّ الفتوّة وما جرى مجراها صفات جمالية أما الإسم فهو ذات إلهية والعبودية فناء الموجودات وظهور الذات بالصفات فما وجد موسى في تحقيقه بالأسماء والصفات غير عدم التقييد في وجهة الذات أو تقول مجمع البحرين هو مقام نقطة الجمع بين البطون والظهور هذا لتعلم تعدّد حضرات البطون والظهور فبطون موسى ليس هو بطون الخضر وظهور الخضر ليس هو ظهور موسى وهذا يعطي إطلاقات الذات الإلهي في كلّ وجوهها فليس لك حجّة بالعلم أبدا على الله تعالى فما نلت من الله تعالى إلا من حيث حقيقتك منه فلم تنل منه غير تلك الحقيقة فأصبحت متلوّنا فيها متمكّنا فهي حقيقة من وجه الإطلاق في نظرك ومن حيثية أخرى هي مقيّدة متى رأيت حقائق أخرى ليست عندك فإتّضح عندك الوجهان وأنّك في فنائك وبقائك بالله تعالى في حريّة العبودية وفي عبودية الحريّة فلن تكون أبدا ذاتا محضا فتدّعي أنّك هو ومن قال هذا قيل له : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم)
فأراد موسى أن يرجع من مقام حرّيته الباطنة إلى مقام عبوديته الظاهرة أو تقول من الجذب إلى الصحو لأنّ قوله في جوابه ب ( لا ) يعطي شبهة أنّه عليم حكيم مثل الله تعالى لذا عوتب في ذلك ودخل مداخل كبيرة لا تثبت لها الجبال الرواسي فتلوّنت لديه الحقائق هنا تلوّنا كبيرا فهو يعلم علم الخضر وما صبر عليه فكان حاله يغلب مقامه وهذا من علوّ الهمّة ولكنّ الله تعالى قد يقهر همّة من أراد بعلمي القضاء والقدر لأنّ علم القضاء والقدر هو علم التربية لذا كانت مجاري الأقدار مسكن العارفين ( وسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار ) ( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ )
فكيف بنا اليوم يدّعي أحدنا كذا وكذا فيصف نفسه بأنه القطب الأعظم والفرد الأشمّ الأفخم وو..إلخ إلا يكون له في قصّة موسى مع الخضر أجلى برهان وأعظم تربية
والله تعالى يقول : ( وما قدروا الله حقّ قدره )
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
فهو إعتراف من موسى بأنّه سيطلب العلم وأنه سيهاجر في طلبه وفيه دليل على أنّ العلم بالله تعالى لا نهاية له وأنّ أسرار الله في الأرض قد تخفى على الكثير من الأقطاب حتى أنّ كبار الأقطاب ما أحسنوا إلى الآن أن يحدّدوا أو يتّفقوا على من يكون خاتم الأولياء فانظر سرّ الله في الأكوان فإنّه ما إستأثر بالعلم المحيط غير الله تعالى ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ( وقل ربّ زدني علما )
وفيه دليل على أنّه قد تقع من العارف شطحات فينسب لنفسه ما لا يكون له أو ينسب لغيره ما لا يكون له لذا فإنّنا نحمل كلام ساداتنا الأولياء على محمل حسن الظنّ والرجاء في الله تعالى وعلى عظمة ما أكرمهم الله به وعدم تناهيه أمّا أن نحمل كلامهم على القطع الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر فهذا من سوء الفهم عن الله تعالى
فموسى لمّا سئل فأجاب السائل ب: (لا ) فإنّ مريديه سيعتقدون بأنّه أعلم أهل الأرض في كلّ علم وهذا ليس بصحيح بدليل قصّته مع الخضر لذا عاتبه الله تعالى وأوحى إليه بأنه هناك من هو أعلم منه في علم لا يدريه موسى من حيثيّة من الحيثيات ولا يستأثر بالعلم غير الله تعالى ( وفوق كلّ علم عليم )
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
فإنتفت الأمراض القلبية والعلل النفسية من موسى عليه السلام فإنّ الأنبياء منزّهون عن هذا فأخذ معه فتاه فما قال كيف أخبر فتاي بأنني ذاهب لتلقي العلم من الخضر فهذا مما يحطّ من قدري عنده فتنزل منزلتي من قلبه , فهذا ما جرى به خاطره أصلا ولا خطر على باله لأنّ أهل الله ليس لهم إلتفات لهذا البتّة فإنّه من أمراض القلوب فمن خجل من قول ( لا أعلم ) أو هناك من هو أعلم منّي ولم يعتقد ذلك فقد باء بخسران مبين
ومرّة كتبت إلى شيخي أصفه بأنّه شيخ الإسلام وحجّة الزمان وقطب الأوان وسألته أن يفيدني بأجوبة عن أسئلتي :
فردّ عليّ برسالة وممّا جاء فيها : إنّك تصفني بأنني شيخ الإسلام وو..إلخ فوالله لست بشيخ للإسلام ولا أنا من فرسان هذا الميدان فإن لكلّ مجال فرسانه ولكنّ فنّ رجاله فما أنا إلا عبد مؤمن أعصي وأتوب وأخطىء وأصيب فلنبتعد عن هذه الكتابات والأوصاف وقد عاش من عرف قدره ووقف عند حدّه ونزل دونه وأوصيك برفع همّتك عن هذا والتوجّه بالذكر بالإسم المفرد فإن الإسم لا يدلّ إلا على مسمّاه وخاب من مات ولم يحصل له من الطريق غير الأوهام والخيالات فما أحسن أن يعيش الإنسان عارفا بربّه مقيما لفرائضه ونوافله محافظا على صلاته ...إلخ الرسالة )
أمّا نحن اليوم فلو قال شيخ لأحد مريديه : يا سيدي أنا سأذهب لفلان أطلب منه العلم فيفيدني ممّا علّمه الله تعالى
لشكّ هذا المريد في صحّة علم شيخه وإتّهمه في باطنه بأنّه ضعيف في العلم ولا يقتدى به في طريق القوم , وهذا وغيره نجم عن كثرة الجهل اليوم في المريدين وقلّة توحيدهم بل إن أهل الله يتعارفون ويتناصحون فيعلّم بعضهم بعضا ويستفيد بعضهم من بعض فقد كان سيدي محمّد المداني رضي الله عنه يلقي دروسا في الأدب العربي على شيخه فدرّسه كتاب الجوهر المكنون في البلاغة ومع هذا كان يتلقّى عليه علم السلوك والتوحيد الباطني, فقال له يوما : يا سيدي محمّد أنت تحلّينا ظاهرا ونحن نحلّيك باطنا , هذا مع ما يعرف من قدر سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ورسوخ قدمه في حضرة القدم
أمّا اليوم فقد تبدّل الحال والزمان وكلّ إدّعى وصلا بليلى وهي لا تقرّ لهم بذاك
يتبع...
قلت : مجمع البحرين هذا المكان الذي شوّرت همّة موسى في طلبه إنّما حكاه موسى إخبارا بأنّه علامة على وجود الخضر وليس هو مكانا معروفا مقصودا تحديدا فما كان لموسى أن يحدّد نقطة الإلتقاء في مجمع البحرين بالخضر إلا بوجود علامة وهي علامة نسيان الحوت لأنّه تجاوز مع فتاه المكان المحدّد للإلتقاء لذا فإنّه رجع إليه عندما تحقّقت العلامة , وعليه فنفهم بأنّ في مثل هذا السفر هناك إشارات وعلامات وهذا من علوم الخضر وهناك أمرا وهو أنّه لمّا وصل إلى الصخرة والمكان المحدّد قبل أن يتجاوزه ما وجد فيه الخضر وإنّما وجد الخضر بعد رجوعه إلى الصخرة من جديد بعد أن تحقّقت العلامة وظهرت وذلك بنسيان الحوت , فكان الغلام هو السبب في تحقّق العلامة بما أنّه هو الذي نسي الحوت , فكان مقام الفتوّة هو المخوّل لإظهار العلامة لذا ذكر فتى موسى بأنّه نسي الحوت عند الصخرة التي آوى إليها مع موسى فهناك حدث ما حدث للحوت فكان السبب في خروج الخضر لهما ولكن بعد أن تجاوزا ثمّ رجعا فكان الفتى خديم موسى في هذا السفر لذا إتّخذه صاحبا فيه فكان لا بدّ من ذلك وإلا لما وجد الخضر , وعليه فإنّ إخبار موسى فتاه بأنّه لن يبرح حتى يبلغ مجمع البحرين أو يمضي حقبا يوحي بعدم تحديد المكان ونقطة اللقاء بل ذكر دائرتها وما حكى موقعها فتحسّ بأنّ إخباره لفتاه بمجمع البحرين ليس فيه تحديدا لنقطة اللقاء أي أنّه لا يعرفها إلا بعلامة وهذه العلامة سيكون فتاه هو السبب في تحديدها لذا أخبره بوجهة السفر ومقصده فأنظر علم موسى عليه السلام وتدقيقه وكنايته وإشارته لفتاه ثمّ أنّه من وجه آخر أخبر بأّنه وحده الذي لا يبرح حتى يبلغ مجمع البحرين وكأنّ الفتى ليس مقصودا بذلك وإنّما هو وسيلة إلى ذلك فإتّخذه صاحبا في سفره
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
ظهر هنا أنّ هذا العلم الذي طلبه موسى لا بدّ فيه من الإستعانة بفتاه في تحديد نقطة اللقاء والإستعانة بالخضر في التعلّم منه فإحتاج مرشدا في الطريق وهو فتاه وكذلك إحتاج مرشدا في التحقيق وهو الخضر هذا دلالة على عجز العبد من كلّ وجه في النوال إلا متى أسعفه الله تعالى بالرجال لتحقيق الوصال
فكأنّه في إخباره لفتاه إستغاثة به لكي يصاحبه في مقام فتوّته ثمّ أيضا إحتياجه للمكان المعيّن الذي سيلتقي فيه بالخضر فلو لا المكان المعيّن لما أحسن الإجتماع بالخضر فلمات كمدا وذلك عندما تستشعر عزيمته في طلب الخضر رغم أنّه دونه في المقام فهو من أولي العزم من الرسل ويكفي هذا دلالة على مقامه السامي العالي
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
مهمّة الفتى هنا تتمثّل غايتها فيما أخبره به موسى وهو عزمه على بلوغ مجمع الحرين أمّا ما وراء ذلك فليس له من الأمر من شيء لذا ما وقع ذكر الفتى بمجرّد صحبة موسى مع الخضر في سياحتهما فما أخبره هنا في هذه الآية بلقاء الخضر فما قال له مثلا ( لا أبرح حتى أجتمع بالخضر ) بل أخبره ببلوغ المكان وتحديد نقطة لقاء الخضر فيه فساعفه فتاه على ذلك لذا حمل معه الحوت ومن ثمّ نسيه وإنّما نسيه الفتى لأنّه وصل إلى نقطة اللقاء فغاب ذكر حكم الأجسام من ذهن الفتى من طعام وشراب لأنّ مقامه يعطي ذلك من حيث فتوّته فمتى بلغ هذا المجمع وتلك النقطة تغيّرت الحالة وصار لهما حكما آخر وهذا ما سنأتي عليه تفصيلا في الآيات اللاحقة
ثمّ إنّه ذكر مجمع البحرين فتمّ ذكر البحرين ونقطة الإلتقاء بينهما وهو مقام وسطي حيث الإعتدال وهو مقام التمكين فلا يغلب صحوه سكره ولا سكره صحوه فهنا إجتمعت في مجمع البحرين ثلاثة مقامات مقام الفتوّة ومقام القطبانية ومقام الفردانية وهذا ما سنلاحظه في قوله تعالى ( وإذ قال موسى ) عيّن إسمه وذكر الفتى في قوله ( فتاه ) فعيّن فتوّته ثمّ ذكر في الأخير الخضر فلم يعيّن إلا ما يقابل الربوبية وهي العبودية وهي المقام الجامع الذي يجتمع فيه كلّ الناس من حيث عبوديتهم لله تعالى فتنمحي هناك جميع الخصوصيات من مراتب وغيرها لأنّ الفتوّة وما جرى مجراها صفات جمالية أما الإسم فهو ذات إلهية والعبودية فناء الموجودات وظهور الذات بالصفات فما وجد موسى في تحقيقه بالأسماء والصفات غير عدم التقييد في وجهة الذات أو تقول مجمع البحرين هو مقام نقطة الجمع بين البطون والظهور هذا لتعلم تعدّد حضرات البطون والظهور فبطون موسى ليس هو بطون الخضر وظهور الخضر ليس هو ظهور موسى وهذا يعطي إطلاقات الذات الإلهي في كلّ وجوهها فليس لك حجّة بالعلم أبدا على الله تعالى فما نلت من الله تعالى إلا من حيث حقيقتك منه فلم تنل منه غير تلك الحقيقة فأصبحت متلوّنا فيها متمكّنا فهي حقيقة من وجه الإطلاق في نظرك ومن حيثية أخرى هي مقيّدة متى رأيت حقائق أخرى ليست عندك فإتّضح عندك الوجهان وأنّك في فنائك وبقائك بالله تعالى في حريّة العبودية وفي عبودية الحريّة فلن تكون أبدا ذاتا محضا فتدّعي أنّك هو ومن قال هذا قيل له : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم)
فأراد موسى أن يرجع من مقام حرّيته الباطنة إلى مقام عبوديته الظاهرة أو تقول من الجذب إلى الصحو لأنّ قوله في جوابه ب ( لا ) يعطي شبهة أنّه عليم حكيم مثل الله تعالى لذا عوتب في ذلك ودخل مداخل كبيرة لا تثبت لها الجبال الرواسي فتلوّنت لديه الحقائق هنا تلوّنا كبيرا فهو يعلم علم الخضر وما صبر عليه فكان حاله يغلب مقامه وهذا من علوّ الهمّة ولكنّ الله تعالى قد يقهر همّة من أراد بعلمي القضاء والقدر لأنّ علم القضاء والقدر هو علم التربية لذا كانت مجاري الأقدار مسكن العارفين ( وسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار ) ( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ )
فكيف بنا اليوم يدّعي أحدنا كذا وكذا فيصف نفسه بأنه القطب الأعظم والفرد الأشمّ الأفخم وو..إلخ إلا يكون له في قصّة موسى مع الخضر أجلى برهان وأعظم تربية
والله تعالى يقول : ( وما قدروا الله حقّ قدره )
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
فهو إعتراف من موسى بأنّه سيطلب العلم وأنه سيهاجر في طلبه وفيه دليل على أنّ العلم بالله تعالى لا نهاية له وأنّ أسرار الله في الأرض قد تخفى على الكثير من الأقطاب حتى أنّ كبار الأقطاب ما أحسنوا إلى الآن أن يحدّدوا أو يتّفقوا على من يكون خاتم الأولياء فانظر سرّ الله في الأكوان فإنّه ما إستأثر بالعلم المحيط غير الله تعالى ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ( وقل ربّ زدني علما )
وفيه دليل على أنّه قد تقع من العارف شطحات فينسب لنفسه ما لا يكون له أو ينسب لغيره ما لا يكون له لذا فإنّنا نحمل كلام ساداتنا الأولياء على محمل حسن الظنّ والرجاء في الله تعالى وعلى عظمة ما أكرمهم الله به وعدم تناهيه أمّا أن نحمل كلامهم على القطع الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر فهذا من سوء الفهم عن الله تعالى
فموسى لمّا سئل فأجاب السائل ب: (لا ) فإنّ مريديه سيعتقدون بأنّه أعلم أهل الأرض في كلّ علم وهذا ليس بصحيح بدليل قصّته مع الخضر لذا عاتبه الله تعالى وأوحى إليه بأنه هناك من هو أعلم منه في علم لا يدريه موسى من حيثيّة من الحيثيات ولا يستأثر بالعلم غير الله تعالى ( وفوق كلّ علم عليم )
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
فإنتفت الأمراض القلبية والعلل النفسية من موسى عليه السلام فإنّ الأنبياء منزّهون عن هذا فأخذ معه فتاه فما قال كيف أخبر فتاي بأنني ذاهب لتلقي العلم من الخضر فهذا مما يحطّ من قدري عنده فتنزل منزلتي من قلبه , فهذا ما جرى به خاطره أصلا ولا خطر على باله لأنّ أهل الله ليس لهم إلتفات لهذا البتّة فإنّه من أمراض القلوب فمن خجل من قول ( لا أعلم ) أو هناك من هو أعلم منّي ولم يعتقد ذلك فقد باء بخسران مبين
ومرّة كتبت إلى شيخي أصفه بأنّه شيخ الإسلام وحجّة الزمان وقطب الأوان وسألته أن يفيدني بأجوبة عن أسئلتي :
فردّ عليّ برسالة وممّا جاء فيها : إنّك تصفني بأنني شيخ الإسلام وو..إلخ فوالله لست بشيخ للإسلام ولا أنا من فرسان هذا الميدان فإن لكلّ مجال فرسانه ولكنّ فنّ رجاله فما أنا إلا عبد مؤمن أعصي وأتوب وأخطىء وأصيب فلنبتعد عن هذه الكتابات والأوصاف وقد عاش من عرف قدره ووقف عند حدّه ونزل دونه وأوصيك برفع همّتك عن هذا والتوجّه بالذكر بالإسم المفرد فإن الإسم لا يدلّ إلا على مسمّاه وخاب من مات ولم يحصل له من الطريق غير الأوهام والخيالات فما أحسن أن يعيش الإنسان عارفا بربّه مقيما لفرائضه ونوافله محافظا على صلاته ...إلخ الرسالة )
أمّا نحن اليوم فلو قال شيخ لأحد مريديه : يا سيدي أنا سأذهب لفلان أطلب منه العلم فيفيدني ممّا علّمه الله تعالى
لشكّ هذا المريد في صحّة علم شيخه وإتّهمه في باطنه بأنّه ضعيف في العلم ولا يقتدى به في طريق القوم , وهذا وغيره نجم عن كثرة الجهل اليوم في المريدين وقلّة توحيدهم بل إن أهل الله يتعارفون ويتناصحون فيعلّم بعضهم بعضا ويستفيد بعضهم من بعض فقد كان سيدي محمّد المداني رضي الله عنه يلقي دروسا في الأدب العربي على شيخه فدرّسه كتاب الجوهر المكنون في البلاغة ومع هذا كان يتلقّى عليه علم السلوك والتوحيد الباطني, فقال له يوما : يا سيدي محمّد أنت تحلّينا ظاهرا ونحن نحلّيك باطنا , هذا مع ما يعرف من قدر سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ورسوخ قدمه في حضرة القدم
أمّا اليوم فقد تبدّل الحال والزمان وكلّ إدّعى وصلا بليلى وهي لا تقرّ لهم بذاك
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
تتمّة :
قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
قد أوضحنا فيما سبق بأنّ سيدنا موسى عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام قصد ملاقاة الخضر عليه السلام بسفره ورحلته لطلب علمه فهذا وجه أوّل أوّل بيّنته بإيجاز
وفي طيّاته عدّة حقائق أذكرها ثمّ نمرّ إلى ذكر أذواق الآية الثانية فمن ذلك :
تعلّقت همّة موسى أوّلا ببلوغ المكان لأهميته وذلك لكونه مكان الإجتماع لأنّه لن يجتمع معه في غيره من الأماكن والسؤال المستفاد ما هي خاصيّة هذا المكان حتى لا نعبر عليه هكذا من غير تدبّر أو تفكّر في المناسبات , فأضحى من هذا الوجه كأنّ هذا المكان إحتوى على السرّ بأسره من حيث الحقائق العليا ففيه إجتمعت الحضرات فهي بين بطون وظهور وبين ظهور وبطون , فإتّحد فيه المكان مع الزمان , فإتّحاد المكان واضح في قوله ( مجمع البحرين ) وإتّحاد الزمان واضح في قوله ( أو أمضي حقبا ) وإتّحاد الحقائق معهما في حضرة الجمع التي هي العبودية والجمع نوعان : جمع في العبودية حضرة العبيد وجمع في الخصوصية وهي حضرة المراتب وهكذا هي أحكام البطون في الظهور وأحكام الظهور في البطون فإنّ الحقائق لا تتقيّد والعبد مقيّد من كلّ وجه بقوله تعالى ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فقيّدك في عبوديتك ( أين المفرّ ) لذلك أوصاك ( ففرّوا إلى الله ) فدلّك على النجاة قبل الهلاك وإسمه الله هو الإسم الجامع حيث تجتمع الخصوم عند الله فيدخل القاتل والمقتول الجنّة إن كنت فهمت
فإتّحدت الحقائق وإنجمعت في هذا المحلّ فما فيه حكم لأحد على أحد وإنّما الحكم لله تعالى فحتّى الحوت في هذا المكان ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) لأنّه وصل أيضا إلى المكان الذي رفع فيه حكم إسمه فرجع إلى مقرّه وأصله وهكذا الناس معادن فافهم فما ظهر فيك غير وصف حقيقتك والله هو الحقّ خلقك بالحقّ وجمعك بالحقّ ( الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين )
هذا المكان حيث يتّحد فيه المكان والزمان تستوي فيه أحكام الأسماء والصفات فكأنّهما شيئا واحدا من هنا غلبت حجّة الخضر على موسى ومن هنا إتّبع موسى الخضر لأنّه بحسب طبيعة المكان والزمان تكون الأحكام وهذا من علوم الفتوى أخذها أهل الظاهر من الباطن وكذلك كلّ علم
فمن هذه الحيثية تفهم لماذا عيّن موسى في قوله ( مجمع البحرين ) المكان تحديدا وإن غاب عنه تدقيقا لأنّ التدقيق والتعيين العيني ليس من مقدوراته ولا من مقدورات فتاه بل الأمر في ذلك موكول إلى الله تعالى وإنّما شدّ الرحال بحسب متطلّبات وارد الرحمان فهو يسير بحسب هداية الوارد وهذا هو السير بالله تعالى وهو خاص بالعارفين أهل اليقين
لذاك قال لفتاه لمّا أخبره بأنّه نسي الحوت ( ذلك ما كنّا نبغ ) فدلّه على التعيين الآن أي عند الصخرة مكان نسيان الحوت فكان بحثه عن هذا المكان من كلّ هذا السفر فهذه بغيته
هذا وبما أنّه قال لفتاه ( قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ) فقد جمع فتاه معه في الضمير فأخبر عمّا في باطن فتاه وذلك بأنّه أيضا يبتغي الوصول إلى هذا المكان فما قال له : ( ذلك ما كنت أبغي ) بل جمعه معه في الضمير فكان الفتى متيّما فانيا في إرادة شيخه يريد ما يريده شيخه لذا قلنا بأنّ قوله ( ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) هو أيضا نفس قول فتاه لذا أشار الله تعالى في الآية إلى هذه الحقيقة تستشعر ذلك في هذا القول وذلك لمّا نسب فتاه إليه كما قدّمنا سابقا
فكان باطن الفتى وقلبه يجول فيما يجول فيه موسى بقلبه وباطنة مع الفارق بينهما في الهمّة والغاية والمقصد والعلم فهما متّحدان في مقام فتوّة موسى التي هي من أجزاء نبوّته لذا قلت سابقا وكأنّ موسى يخاطب نفسه وإنّما فعل موسى هذا لما إستوجبه المقام والحال في هذه النازلة فكان حقيقا بالفتى أن يعزم لهذا الأمر بهمّة موسى إذ هو مطلوب لذلك ربانيا وإلا لما إصطفاه موسى وأخذه معه لذا نعته الله تعالى ( بفتاه ) فافهم
ثمّ بأن قول موسى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) هو أيضا قول الفتى بالتبعية لموسى لأنّه فاني في شيخه وذلك فيما تراه من قول موسى وذلك بعد أن جاوزا المكان فقال لفتاه ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ) فذكر معه فتاه من حيث أنّه أيضا أصابه النصب وكذلك بأنه جاوز معه المكان فصحّ أنّ الفتى قال بحال موسى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فهو طائع لشيخه بحاله كلّه فإنّه إنجمع مع موسى في مقام فتوّته فكان الفتى عميد ومقدّم الحضرة الموسوية وموسى شيخه فيها وهكذا من هذا القول تفهم جميع حضرات الأنبياء والمرسلين وتميّز بين الأحباب والأصحاب وآل البيت
فكان المكان مرادا للجماعة فهو مقصد موسى لملاقاة الخضر ومعه فتاه بالتبعية وكذلك مراد الخضر للقاء موسى لأنّه لن يجتمع معه في غير هذا المكان فتعيّنت أهميّة المكان وقداسته فهنا تلاقى المكان مع الزمان مع أهله فهم مطلوبون لهذا المكان كلّهم من غير مزيّة أحدهم على الآخر وتفصيل هذا :
المزيّة لموسى على فتاه إذ أخذه معه فهو حتما يراعيها إذ صحبة الأنبياء نعمة ( الصحبة يا رسول الله ) قالها الصدّيق رضي الله عنه
المزية للفتى على موسى إذ لولاه لما تعيّن له المكان
مزيّة الخضر على موسى وبالتبعية على فتاه إذ لولاه ما قدم موسى ولا وصل إلى هذا المكان
مزيّة موسى وفتاه على الخضر فلولاه لما إجتمع بهما الخضر في هذا المكان لأنّها بحران منفصلان كلّ له حكمه ولا يجمعهما إلا هذا المكان فحصلت الكرامة لموسى بالخضر وحصلت الكرامة للخضر بموسى فهما متساويان من حيث الفضل
مزية الحوت عليهم جميعا إذ لولاه لما صار هناك إجتماع أصلا
قال تعالى : ( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ )
فأنظر الآن إلى قول موسى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) تعلم قدر موسى في العلم والفهم عليه السلام وقدر غلامه في الطاعة والخدمة والفهم والصفاء فهو حقّا الفتى الذي يصاحب في الأسفار وشدّ الرحال
ولا تظنّ بأنّ الكرامة فقط حصلت لموسى في ملاقاته للخضر بل حصلت الكرامة للخضر بملاقاة موسى أيضا عليهما السلام
فهذا لقاء برزخي فيما بينهما بين الظهور والبطون وبين الأسماء والصفات فهما إلتقيا في مجمع البحرين فنبّهك بالمكان على وجود نوع الزمان ونبّهك بالزمان على صدق الحال بين الطالب والمطلوب
وإنّ في هذه القصّة من الآداب والتربية والصدق والصفاء والتواضع ما يبكي الثقلين
ولن نطيل في هذه الآية وسنمرّ إلى الآية التي بعدها حتى نخرج كنوزها إن شاء الله تعالى
قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا)
قد أوضحنا فيما سبق بأنّ سيدنا موسى عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام قصد ملاقاة الخضر عليه السلام بسفره ورحلته لطلب علمه فهذا وجه أوّل أوّل بيّنته بإيجاز
وفي طيّاته عدّة حقائق أذكرها ثمّ نمرّ إلى ذكر أذواق الآية الثانية فمن ذلك :
تعلّقت همّة موسى أوّلا ببلوغ المكان لأهميته وذلك لكونه مكان الإجتماع لأنّه لن يجتمع معه في غيره من الأماكن والسؤال المستفاد ما هي خاصيّة هذا المكان حتى لا نعبر عليه هكذا من غير تدبّر أو تفكّر في المناسبات , فأضحى من هذا الوجه كأنّ هذا المكان إحتوى على السرّ بأسره من حيث الحقائق العليا ففيه إجتمعت الحضرات فهي بين بطون وظهور وبين ظهور وبطون , فإتّحد فيه المكان مع الزمان , فإتّحاد المكان واضح في قوله ( مجمع البحرين ) وإتّحاد الزمان واضح في قوله ( أو أمضي حقبا ) وإتّحاد الحقائق معهما في حضرة الجمع التي هي العبودية والجمع نوعان : جمع في العبودية حضرة العبيد وجمع في الخصوصية وهي حضرة المراتب وهكذا هي أحكام البطون في الظهور وأحكام الظهور في البطون فإنّ الحقائق لا تتقيّد والعبد مقيّد من كلّ وجه بقوله تعالى ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فقيّدك في عبوديتك ( أين المفرّ ) لذلك أوصاك ( ففرّوا إلى الله ) فدلّك على النجاة قبل الهلاك وإسمه الله هو الإسم الجامع حيث تجتمع الخصوم عند الله فيدخل القاتل والمقتول الجنّة إن كنت فهمت
فإتّحدت الحقائق وإنجمعت في هذا المحلّ فما فيه حكم لأحد على أحد وإنّما الحكم لله تعالى فحتّى الحوت في هذا المكان ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) لأنّه وصل أيضا إلى المكان الذي رفع فيه حكم إسمه فرجع إلى مقرّه وأصله وهكذا الناس معادن فافهم فما ظهر فيك غير وصف حقيقتك والله هو الحقّ خلقك بالحقّ وجمعك بالحقّ ( الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين )
هذا المكان حيث يتّحد فيه المكان والزمان تستوي فيه أحكام الأسماء والصفات فكأنّهما شيئا واحدا من هنا غلبت حجّة الخضر على موسى ومن هنا إتّبع موسى الخضر لأنّه بحسب طبيعة المكان والزمان تكون الأحكام وهذا من علوم الفتوى أخذها أهل الظاهر من الباطن وكذلك كلّ علم
فمن هذه الحيثية تفهم لماذا عيّن موسى في قوله ( مجمع البحرين ) المكان تحديدا وإن غاب عنه تدقيقا لأنّ التدقيق والتعيين العيني ليس من مقدوراته ولا من مقدورات فتاه بل الأمر في ذلك موكول إلى الله تعالى وإنّما شدّ الرحال بحسب متطلّبات وارد الرحمان فهو يسير بحسب هداية الوارد وهذا هو السير بالله تعالى وهو خاص بالعارفين أهل اليقين
لذاك قال لفتاه لمّا أخبره بأنّه نسي الحوت ( ذلك ما كنّا نبغ ) فدلّه على التعيين الآن أي عند الصخرة مكان نسيان الحوت فكان بحثه عن هذا المكان من كلّ هذا السفر فهذه بغيته
هذا وبما أنّه قال لفتاه ( قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ) فقد جمع فتاه معه في الضمير فأخبر عمّا في باطن فتاه وذلك بأنّه أيضا يبتغي الوصول إلى هذا المكان فما قال له : ( ذلك ما كنت أبغي ) بل جمعه معه في الضمير فكان الفتى متيّما فانيا في إرادة شيخه يريد ما يريده شيخه لذا قلنا بأنّ قوله ( ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) هو أيضا نفس قول فتاه لذا أشار الله تعالى في الآية إلى هذه الحقيقة تستشعر ذلك في هذا القول وذلك لمّا نسب فتاه إليه كما قدّمنا سابقا
فكان باطن الفتى وقلبه يجول فيما يجول فيه موسى بقلبه وباطنة مع الفارق بينهما في الهمّة والغاية والمقصد والعلم فهما متّحدان في مقام فتوّة موسى التي هي من أجزاء نبوّته لذا قلت سابقا وكأنّ موسى يخاطب نفسه وإنّما فعل موسى هذا لما إستوجبه المقام والحال في هذه النازلة فكان حقيقا بالفتى أن يعزم لهذا الأمر بهمّة موسى إذ هو مطلوب لذلك ربانيا وإلا لما إصطفاه موسى وأخذه معه لذا نعته الله تعالى ( بفتاه ) فافهم
ثمّ بأن قول موسى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) هو أيضا قول الفتى بالتبعية لموسى لأنّه فاني في شيخه وذلك فيما تراه من قول موسى وذلك بعد أن جاوزا المكان فقال لفتاه ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ) فذكر معه فتاه من حيث أنّه أيضا أصابه النصب وكذلك بأنه جاوز معه المكان فصحّ أنّ الفتى قال بحال موسى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فهو طائع لشيخه بحاله كلّه فإنّه إنجمع مع موسى في مقام فتوّته فكان الفتى عميد ومقدّم الحضرة الموسوية وموسى شيخه فيها وهكذا من هذا القول تفهم جميع حضرات الأنبياء والمرسلين وتميّز بين الأحباب والأصحاب وآل البيت
فكان المكان مرادا للجماعة فهو مقصد موسى لملاقاة الخضر ومعه فتاه بالتبعية وكذلك مراد الخضر للقاء موسى لأنّه لن يجتمع معه في غير هذا المكان فتعيّنت أهميّة المكان وقداسته فهنا تلاقى المكان مع الزمان مع أهله فهم مطلوبون لهذا المكان كلّهم من غير مزيّة أحدهم على الآخر وتفصيل هذا :
المزيّة لموسى على فتاه إذ أخذه معه فهو حتما يراعيها إذ صحبة الأنبياء نعمة ( الصحبة يا رسول الله ) قالها الصدّيق رضي الله عنه
المزية للفتى على موسى إذ لولاه لما تعيّن له المكان
مزيّة الخضر على موسى وبالتبعية على فتاه إذ لولاه ما قدم موسى ولا وصل إلى هذا المكان
مزيّة موسى وفتاه على الخضر فلولاه لما إجتمع بهما الخضر في هذا المكان لأنّها بحران منفصلان كلّ له حكمه ولا يجمعهما إلا هذا المكان فحصلت الكرامة لموسى بالخضر وحصلت الكرامة للخضر بموسى فهما متساويان من حيث الفضل
مزية الحوت عليهم جميعا إذ لولاه لما صار هناك إجتماع أصلا
قال تعالى : ( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ )
فأنظر الآن إلى قول موسى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) تعلم قدر موسى في العلم والفهم عليه السلام وقدر غلامه في الطاعة والخدمة والفهم والصفاء فهو حقّا الفتى الذي يصاحب في الأسفار وشدّ الرحال
ولا تظنّ بأنّ الكرامة فقط حصلت لموسى في ملاقاته للخضر بل حصلت الكرامة للخضر بملاقاة موسى أيضا عليهما السلام
فهذا لقاء برزخي فيما بينهما بين الظهور والبطون وبين الأسماء والصفات فهما إلتقيا في مجمع البحرين فنبّهك بالمكان على وجود نوع الزمان ونبّهك بالزمان على صدق الحال بين الطالب والمطلوب
وإنّ في هذه القصّة من الآداب والتربية والصدق والصفاء والتواضع ما يبكي الثقلين
ولن نطيل في هذه الآية وسنمرّ إلى الآية التي بعدها حتى نخرج كنوزها إن شاء الله تعالى
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
نمرّ إن شاء الله تعالى إلى إشارات الآية الموالية من قصّة سيدنا موسى مع الخضر فإنّها محطّ أنظار السالكين ومجمع بصائر العلماء العارفين :
هذا ولا يخفى لمن تدبّر أنّ سورة الكهف جمع الله تعالى فيها حقائق المراتب والعلوم الباطنة أو تقول علوم الأسرار لذا كما بيّنته في موضوعي ( نظرات في سورة الكهف ) فإنّ هذه السورة جمعت حقائق جميع الصوفية ومراتبهم :
- صوفية أهل الكهف
- صوفية الصحابة
- صوفية موسى مع الخضر
- صوفية ذي القرنين
فسميّت السورة بسورة الكهف نسبة لأصحاب الكهف هذا من وجهه الظاهر أمّا عن طريق الإشارة فلأنّ الكهف يرمز إلى الحقائق والأسرار التي إستأثر بها من أشرنا إليهم دون غيرهم وفي هذه السورة ذكر أصول مراتب أهل التصوّف
- ذكر مقام الفتوّة فذكر الصفات النورانية لأنّ مسمّى الفتوّة مقام جمالي لذا قال تعالى ( إنّهم فتية ) فوصفهم بصفة الفتوّة
- أمّا أهل الصفّة فما ذكر لهم وصف ذاتي بل قال ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
فما ذكر لهم وصف وإنّما أخبر عن صفاتهم الفعلية من حيث أنّهم ( يدعون ربّهم ) وذكر مقاصدهم فقال ( يريدون وجهه ) فما نعتهم بشيء آخر غير هذا فما أعطاهم وصفا صفاتي كالفتوّة مثلا أو المعرفة أو العلم أو التصريف وهكذا لأنّهم ذاتيون أي قصدوا الذات ومن قصدها فما بقي له وصف بل إنّه حاز كلّ وصف لذا لم يحسن أن يحدّد أحد من العلماء أعداد ولا أسماء أهل الصفّة فمنهم من يكون في وقت دون وقت منهم وهكذا أي لا مقام يقيّدهم وإن كانت أصولهم ثابتة ومعناهم ثابت فهؤلاء هم الذاتيون وقد إنقسموا إلى أقسام : فمنهم أهل التجرّد الخالص , ومنهم أهل التسبّب , ومنهم بين هذا وبين هذا , لكنّهم كلّهم ذاتيون لا يقصدون من الله سواه رضي الله عنهم ورضوا عنه وفي آيتهم من الأسرار والعلوم ما إنطوت عليه بواطن أولياء الأمّة وفيها حضراتهم الذاتية وما يقابلها من الحضرة المحمدية , وكذلك فيها حضرة النبي الذاتية وما يقابلها من حضراتهم المحمدية فهم بين جذب وصحو وبين حقيقة وشريعة فليس لهم حظّا في الصفات من حيث الإلتفات لذا أمر الصفات بعدم الظهور وذلك في قوله ( واصبر نفسك ) لأنّهم بين الإسم وذات المسمّى به من غير مرور على الصفات إلا بحكم الذات فافهم فهؤلاء صوفية الأمّة المحمدية جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه
- ثمّ ذكر صوفية موسى والخضر : من حيث المراتب وظهورها كالقطبانية والفردانية والفتوّة الخديمة لتلك المقامات لأنّ خديم مثل هذه الحضرات لا بدّ أن يتحلى بكلّ وصف نوراني صفاتي وإلا فما خدمت الصفات الذات ( وما يعلم جنود ربّك إلا هو ) ( يطوف عليهم ولدان مخلّدون ) وإنّما خلّدوا لأنّهم صفات نورانية جمالية
وهذه المراتب الصوفية التي أظهرتها قصّة موسى مع الخضر لا تعلّق لها بغير حضرات العلوم من حيث التجليات الإلهية في الأكوان ومن حيث عدم تناهي معلومات الله تعالى وأنّ كلمات الله لا تنفد
والحضرات لها حكمها وأحكامها فلا سلطان لحضرة على حضرة أخرى وهذا من أحكام البقاء بالله تعالى لأنّ البقاء لله تعالى يعطي البقاء بالصفات الإلهية والصفات كما علمت لا حكم لصفة على صفة أخرى وأنوار الحضرات صفات , فإنّ الإسم يدلّ على الذات بصفاتها وقد أعلمك بكثرة الأسماء في قوله عليه الصلاة والسلام ( ..الذي أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو إستأثرت به في علم الغيب عندك ) هذا بعد أن قال : ( أسألك بأسمائك الحسنى كلّها ) أي قبل التفصيل الذي جاء بعده من حيث ماهية الأسماء وحضراتها التي منها ما أنزله في القرآن تصريحا ومنها ما أنزله تلميحا ( أو علّمته أحدا من خلقك ) أو إستأثر بها في علم الغيب عنده لذا دعا بها كلّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله ( اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى كلّها ) لأنّه صاحب مقامها كلّها فهو قائم بالذات من جميع أوجه الصفات التي تدلّ عليها الأسماء الراجعة للذات حتى لا يحدث الفرق فتدلّ على الجمع على الله تعالى فلا يعبد في الأرض محمد ولا غيره
فعلم موسى مع الخضر هو من علوم هذه الحضرات وفي هذا لا حكم للأسماء من حيث الشريعة بل من حيث الحقيقة فتضحى الشريعة تابعة في هذا المحلّ لا متبوعة لأنّها خارجة من باطن الحقيقة لذا إتبع موسى الخضر في هذا المكان
فإن من علامات الساعة أن تلد الأمة ربّتها فيحكم الفرع الأصل وهذا من التحريف الذي سيظهر آخر الزمان وهو مشاهد الآن وقد ورد ( ما رضا الله إلا برضا الوالدين ) فلا يمكن أن تكون شريعتك مقبوله حتى توافقك الحقيقة وإلا فلا تقبل , ولا تكون الحقيقة مقبولة حتى توافقها الشريعة لذا ما بغى بحر موسى على بحر الخضر ولا بحر الخضر على بحر موسى وهذا من الفراسة الموسوية على صاحبها الصلاة والسلام وإن في قصة موسى والخضر العجب العجاب
فهناك من يكون من أهل التصوّف يتكلّم من هذه الحضرات فلا يفهم عليه ذلك وهذا كان علم سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه وأرضاه فكان خضر زمانه وفتى وقته وأوانه رضي الله عنه وألحقنا إلى حضرته بجاه الحبيب وآله
ومن هذه الحضرات تكلّم الشيخ الحكيم الترمذي رضي الله عنه وتكلّم سيدي الجيلي عبد الكريم رضي الله عنه وتلّم رجال الغيب الذين هم على قدم الخضر خلاف سيدي عبد القادر الجيلاني فإنّه موسوي الحال في القطبانية لأمّا سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه فهو محمّدي التوحيد في الحقائق من جهة كتم الأسرار فإن الله تعالى خصّة بخصوصية من المقام الأحمدي أمّا سيدي أبي الحسن الشاذلي فيستسقي من عين الذات فكانت بحوره التي يشرب منها عشرة أبحر رضي الله عنه وعنهم أجمعين هذا لتعرف ماهية الأولياء في العلوم وتعدّد حضراتهم وأسرارهم المقدّسة
- ثمّ ذكر ذا القرنين : مدرسة أهل التصريف في الخلافة والنيابة لذا آتاه من كلّ شيء سببا فتعلّقها بما يصلح الوجود وما قامت عليه الحكمة فصاحب هذا مكاشف بأسرار الأسباب والمسبّبات فيعرف مراتب الوجود بحسب خمرة الشهود
وهؤلاء جميعا في الحقيقة هم خدّام الحضرة النبوية المحمدية ( آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) ( وأنا سيّد ولد آدم ولا فخر ) هكذا أخبر النبي عن قطبانيته الجامعة للحضرات والقطبانيات كلّها من الأزل وإلى الأبد هكذا أراد الله تعالى والله يقر علم ما يريد بحسب سبق العلم والله هو العليم الحكيم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى
فكانت هذه السورة هي سورة كهف الحقائق وكلّ حقيقة من هذه الأصول الأربعة تنطوي تحتها حضراتها وهي المرموز لها في إصطلاحنا بعلم الفقه أما أصول الحضرات فهي المرموز إليها بعلم أصول الفقه أما التوحيد فهو أصل الأصول فهو أصل الدين وهذه الأصول كلّها تعرف وتستنبط من الكتاب والسنّة أو تقول من الحضرتين : الحضرة الإلهية والحضرة المحمدية ومن هنا تكون أنواع الواردات أي وارد الحضرات , ومن هنا تعرف نوع الوارد الذي ذهب به موسى إلى الخضر فتعيّن حضرته وكذلك وارد الخضر ووارد فتاه , ووارد أهل الكهف في ذهابهم إلى الغار ووارد أهل الصفّة في التوجه إلى العليم الغفار
فها إني قد أعطيتك لمحة على وسع العلوم وترتيب حضراتها كي تعلمها فلا تجهلها فإن الولاية لا تعرف بمجرّد الظنّ أو أغلبه بل بمجرّد العلم والمعرفة ( يعرف المجرمون بسيماهم ) وهكذا فإنّك لا تعرف في الوجود إلا بشيئين هما : إمّا وجهك وهذا تحقيقا إلا في حالات التشابه بينك وبين غيرك , والثاني تعرف بصوتك إلا في حالة تشابهه مع صوت غيرك وهذا ليس بكثير ولكنّها حقائق متلوّنة ليست بمحدودة متى طلبت الإحاطة بها
لذا يذكر القرآن ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) وللآخرين ( يعرف المجرمون بسيماهم ) وكذلك في النطق ( تعرفهم في لحن القول ) فمتى تعذّر هذا وذاك فما عليك إلا بإتّباع الأثر وهو المعبّر عنه ( بلى قادرين على أن نسوّي بنانه ) فما في الظاهر إلا ماكان في الباطن , هذا وعالم الباطن أوسع كثيرا فهو لا مجال ولا غاية لنهايته
والآن لتعرف نفسك بأي عين ترى هذا الوجود وما هو نوع إستمدادك للعلوم فيه ومحطّ رحال وترحال قلبك وروحك فيه ( إرجع البصر هل ترى من فتور )
فهذه لمحة عن مراتب أهل التصوّف في سورة الكهف ولو تتبعنا ذلك وشرحنا حضرات كلّ حضرة وما تعطيه لعلمنا بأن كلام الإمام الشعراني في كتابه ( تنبيه الأغبياء على نقطة من بحر علوم الأولياء ) كنز من كنوز الله , مع العلم بأن العبد الفقير لم يقرأ هذا الكتاب وإنما حكيت عنه بما حكى عنه المؤلّف نفسه فقد ذكر البعض من محتوياته
هذا ولا يخفى لمن تدبّر أنّ سورة الكهف جمع الله تعالى فيها حقائق المراتب والعلوم الباطنة أو تقول علوم الأسرار لذا كما بيّنته في موضوعي ( نظرات في سورة الكهف ) فإنّ هذه السورة جمعت حقائق جميع الصوفية ومراتبهم :
- صوفية أهل الكهف
- صوفية الصحابة
- صوفية موسى مع الخضر
- صوفية ذي القرنين
فسميّت السورة بسورة الكهف نسبة لأصحاب الكهف هذا من وجهه الظاهر أمّا عن طريق الإشارة فلأنّ الكهف يرمز إلى الحقائق والأسرار التي إستأثر بها من أشرنا إليهم دون غيرهم وفي هذه السورة ذكر أصول مراتب أهل التصوّف
- ذكر مقام الفتوّة فذكر الصفات النورانية لأنّ مسمّى الفتوّة مقام جمالي لذا قال تعالى ( إنّهم فتية ) فوصفهم بصفة الفتوّة
- أمّا أهل الصفّة فما ذكر لهم وصف ذاتي بل قال ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
فما ذكر لهم وصف وإنّما أخبر عن صفاتهم الفعلية من حيث أنّهم ( يدعون ربّهم ) وذكر مقاصدهم فقال ( يريدون وجهه ) فما نعتهم بشيء آخر غير هذا فما أعطاهم وصفا صفاتي كالفتوّة مثلا أو المعرفة أو العلم أو التصريف وهكذا لأنّهم ذاتيون أي قصدوا الذات ومن قصدها فما بقي له وصف بل إنّه حاز كلّ وصف لذا لم يحسن أن يحدّد أحد من العلماء أعداد ولا أسماء أهل الصفّة فمنهم من يكون في وقت دون وقت منهم وهكذا أي لا مقام يقيّدهم وإن كانت أصولهم ثابتة ومعناهم ثابت فهؤلاء هم الذاتيون وقد إنقسموا إلى أقسام : فمنهم أهل التجرّد الخالص , ومنهم أهل التسبّب , ومنهم بين هذا وبين هذا , لكنّهم كلّهم ذاتيون لا يقصدون من الله سواه رضي الله عنهم ورضوا عنه وفي آيتهم من الأسرار والعلوم ما إنطوت عليه بواطن أولياء الأمّة وفيها حضراتهم الذاتية وما يقابلها من الحضرة المحمدية , وكذلك فيها حضرة النبي الذاتية وما يقابلها من حضراتهم المحمدية فهم بين جذب وصحو وبين حقيقة وشريعة فليس لهم حظّا في الصفات من حيث الإلتفات لذا أمر الصفات بعدم الظهور وذلك في قوله ( واصبر نفسك ) لأنّهم بين الإسم وذات المسمّى به من غير مرور على الصفات إلا بحكم الذات فافهم فهؤلاء صوفية الأمّة المحمدية جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه
- ثمّ ذكر صوفية موسى والخضر : من حيث المراتب وظهورها كالقطبانية والفردانية والفتوّة الخديمة لتلك المقامات لأنّ خديم مثل هذه الحضرات لا بدّ أن يتحلى بكلّ وصف نوراني صفاتي وإلا فما خدمت الصفات الذات ( وما يعلم جنود ربّك إلا هو ) ( يطوف عليهم ولدان مخلّدون ) وإنّما خلّدوا لأنّهم صفات نورانية جمالية
وهذه المراتب الصوفية التي أظهرتها قصّة موسى مع الخضر لا تعلّق لها بغير حضرات العلوم من حيث التجليات الإلهية في الأكوان ومن حيث عدم تناهي معلومات الله تعالى وأنّ كلمات الله لا تنفد
والحضرات لها حكمها وأحكامها فلا سلطان لحضرة على حضرة أخرى وهذا من أحكام البقاء بالله تعالى لأنّ البقاء لله تعالى يعطي البقاء بالصفات الإلهية والصفات كما علمت لا حكم لصفة على صفة أخرى وأنوار الحضرات صفات , فإنّ الإسم يدلّ على الذات بصفاتها وقد أعلمك بكثرة الأسماء في قوله عليه الصلاة والسلام ( ..الذي أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو إستأثرت به في علم الغيب عندك ) هذا بعد أن قال : ( أسألك بأسمائك الحسنى كلّها ) أي قبل التفصيل الذي جاء بعده من حيث ماهية الأسماء وحضراتها التي منها ما أنزله في القرآن تصريحا ومنها ما أنزله تلميحا ( أو علّمته أحدا من خلقك ) أو إستأثر بها في علم الغيب عنده لذا دعا بها كلّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله ( اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى كلّها ) لأنّه صاحب مقامها كلّها فهو قائم بالذات من جميع أوجه الصفات التي تدلّ عليها الأسماء الراجعة للذات حتى لا يحدث الفرق فتدلّ على الجمع على الله تعالى فلا يعبد في الأرض محمد ولا غيره
فعلم موسى مع الخضر هو من علوم هذه الحضرات وفي هذا لا حكم للأسماء من حيث الشريعة بل من حيث الحقيقة فتضحى الشريعة تابعة في هذا المحلّ لا متبوعة لأنّها خارجة من باطن الحقيقة لذا إتبع موسى الخضر في هذا المكان
فإن من علامات الساعة أن تلد الأمة ربّتها فيحكم الفرع الأصل وهذا من التحريف الذي سيظهر آخر الزمان وهو مشاهد الآن وقد ورد ( ما رضا الله إلا برضا الوالدين ) فلا يمكن أن تكون شريعتك مقبوله حتى توافقك الحقيقة وإلا فلا تقبل , ولا تكون الحقيقة مقبولة حتى توافقها الشريعة لذا ما بغى بحر موسى على بحر الخضر ولا بحر الخضر على بحر موسى وهذا من الفراسة الموسوية على صاحبها الصلاة والسلام وإن في قصة موسى والخضر العجب العجاب
فهناك من يكون من أهل التصوّف يتكلّم من هذه الحضرات فلا يفهم عليه ذلك وهذا كان علم سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه وأرضاه فكان خضر زمانه وفتى وقته وأوانه رضي الله عنه وألحقنا إلى حضرته بجاه الحبيب وآله
ومن هذه الحضرات تكلّم الشيخ الحكيم الترمذي رضي الله عنه وتكلّم سيدي الجيلي عبد الكريم رضي الله عنه وتلّم رجال الغيب الذين هم على قدم الخضر خلاف سيدي عبد القادر الجيلاني فإنّه موسوي الحال في القطبانية لأمّا سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه فهو محمّدي التوحيد في الحقائق من جهة كتم الأسرار فإن الله تعالى خصّة بخصوصية من المقام الأحمدي أمّا سيدي أبي الحسن الشاذلي فيستسقي من عين الذات فكانت بحوره التي يشرب منها عشرة أبحر رضي الله عنه وعنهم أجمعين هذا لتعرف ماهية الأولياء في العلوم وتعدّد حضراتهم وأسرارهم المقدّسة
- ثمّ ذكر ذا القرنين : مدرسة أهل التصريف في الخلافة والنيابة لذا آتاه من كلّ شيء سببا فتعلّقها بما يصلح الوجود وما قامت عليه الحكمة فصاحب هذا مكاشف بأسرار الأسباب والمسبّبات فيعرف مراتب الوجود بحسب خمرة الشهود
وهؤلاء جميعا في الحقيقة هم خدّام الحضرة النبوية المحمدية ( آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) ( وأنا سيّد ولد آدم ولا فخر ) هكذا أخبر النبي عن قطبانيته الجامعة للحضرات والقطبانيات كلّها من الأزل وإلى الأبد هكذا أراد الله تعالى والله يقر علم ما يريد بحسب سبق العلم والله هو العليم الحكيم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى
فكانت هذه السورة هي سورة كهف الحقائق وكلّ حقيقة من هذه الأصول الأربعة تنطوي تحتها حضراتها وهي المرموز لها في إصطلاحنا بعلم الفقه أما أصول الحضرات فهي المرموز إليها بعلم أصول الفقه أما التوحيد فهو أصل الأصول فهو أصل الدين وهذه الأصول كلّها تعرف وتستنبط من الكتاب والسنّة أو تقول من الحضرتين : الحضرة الإلهية والحضرة المحمدية ومن هنا تكون أنواع الواردات أي وارد الحضرات , ومن هنا تعرف نوع الوارد الذي ذهب به موسى إلى الخضر فتعيّن حضرته وكذلك وارد الخضر ووارد فتاه , ووارد أهل الكهف في ذهابهم إلى الغار ووارد أهل الصفّة في التوجه إلى العليم الغفار
فها إني قد أعطيتك لمحة على وسع العلوم وترتيب حضراتها كي تعلمها فلا تجهلها فإن الولاية لا تعرف بمجرّد الظنّ أو أغلبه بل بمجرّد العلم والمعرفة ( يعرف المجرمون بسيماهم ) وهكذا فإنّك لا تعرف في الوجود إلا بشيئين هما : إمّا وجهك وهذا تحقيقا إلا في حالات التشابه بينك وبين غيرك , والثاني تعرف بصوتك إلا في حالة تشابهه مع صوت غيرك وهذا ليس بكثير ولكنّها حقائق متلوّنة ليست بمحدودة متى طلبت الإحاطة بها
لذا يذكر القرآن ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) وللآخرين ( يعرف المجرمون بسيماهم ) وكذلك في النطق ( تعرفهم في لحن القول ) فمتى تعذّر هذا وذاك فما عليك إلا بإتّباع الأثر وهو المعبّر عنه ( بلى قادرين على أن نسوّي بنانه ) فما في الظاهر إلا ماكان في الباطن , هذا وعالم الباطن أوسع كثيرا فهو لا مجال ولا غاية لنهايته
والآن لتعرف نفسك بأي عين ترى هذا الوجود وما هو نوع إستمدادك للعلوم فيه ومحطّ رحال وترحال قلبك وروحك فيه ( إرجع البصر هل ترى من فتور )
فهذه لمحة عن مراتب أهل التصوّف في سورة الكهف ولو تتبعنا ذلك وشرحنا حضرات كلّ حضرة وما تعطيه لعلمنا بأن كلام الإمام الشعراني في كتابه ( تنبيه الأغبياء على نقطة من بحر علوم الأولياء ) كنز من كنوز الله , مع العلم بأن العبد الفقير لم يقرأ هذا الكتاب وإنما حكيت عنه بما حكى عنه المؤلّف نفسه فقد ذكر البعض من محتوياته
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه
قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا )
قد إتضح بما قدمنا سابقا في ذكر أذواق الآية الأولى بخصوص رحلة موسى وفتاه في طلب العلم من الخضر عليهما السلام أنّ موسى عليه السلام قد إتّخذ الجدّ وشمّر عن ساعد العزم لبلوغ مناه ومقصده من تلك الرحلة الخالدة التي تمّ ذكرها في القرآن بأحسن وأبلغ بيان لأنّ في قصصهم عبرة لأولي الأبصار والألباب ما كان حديثا يفترى
قلت :
ما حكى الله تعالى لنا شيئا خلال سفرهم وما جرى فيه إلى حين بلوغ ( مجمع بينهما ) وكأنّها إشارة إلى سرعة الطلب وذلك بتعلّق الهمم بمطلوبها لأنّه قال تعالى ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فليس بين قول موسى لفتاه وبين بلوغهما مجمع بينهما حدث يستحقّ الذكر وذلك لسرعة طي الهمم لغير مرغوبها وتوجّهها وهذا يدلّنا على حسن القصد بعد تحديد التوجّه وصدق الطلب وهذه تعطي في الحقيقة مقام النوال والوصول ولذا قالوا ساداتنا من إجتهد نال ومن سار على الدرب وصل وهذه الحكاية تعطينا إستشعارا لفهم البعض من مقامات الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم من حيث صدقه وعلوّ همّته وتواضعه وطيّه لأكوان نفسه وعدم الوقوف مع مرتبته بل إنّه تجاوزها عليه السلام وتفسير ذلك أنّ مرتبة الرسالة والنبوّة مرتبة مصونة عليا لا يصلها لا الخضر ولا غيره ولا يحيط بعلمها إلا الله تعالى هذا فما بالك متى إستشعرت بأنّه عليه السلام من أولي العزم من الرسل ويكفيك قصّة تخفيف الصلاة عن هذه الأمّة دليلا على مقامه السامي ورغم هذا ذهب لطلب العلم لمن هو دونه في المرتبة يقينا ولكنّه تجاوز ذكر خصوصية رسالته لأنّ هذا العلم الذي سعى لطلبه ليس من مشمولات رسالته ولا أمر بتبليغه لذا تجاوز مجمع البحرين وكأنّه أراد أن يتجرّد من كلّ وصف ومن كلّ خصوصية وفيه إشارة للمريد بأنّ طالب المزيد عليه أن يتجرد من علمه وعقله وفهمه وهذا مطلب العارفين في طريق السلوك من مريديهم كما طلب الشيخ بن مشيش من تلميذه أبي الحسن ذلك إذ قال له ( إذهب فاغتسل ) أي من علمك وفهمك لأنّك تريد طلب مزيدا منّا فلا يتحقّق لك ذلك إلا بهذا الشرط لذا إشترط الخضرعلى موسى التسليم الظاهري والباطني له فكان لموسى التسليم الباطني وهذا يدرك بمجرّد معرفتنا لسفره وعزمه على بلوغ مجمع البحرين إلا أنّه لم يسلّم للخضر ظاهرا رغم تسليمه الباطني له وإلا لما واصل معه سفره وما تنازل له عن خرق السفينة و قتل الغلام وإقامة الجدار فتجرّد موسى من خصوصيته عند طلب الخضر لذا صحب معه فتاه في مقام الفتوّه لأنّ هذا المقام أعني مقام الفتوّة يعطي التسليم والإنقياد مع الحزم والعزم وكرم الظاهر والباطن فوقع موسى في هذا الإبتلاء من حيث أنّه سيطلب العلم ممّن دونه في المقام مع التسليم له وفي كلّ ما يفعله ظاهرا وباطنا وأبتلي الخضر وكان بلاؤه أكبر من حيث أنّه سيصاحب ويعلّم من هو أعلى منه في المقام وهذا أشدّ كثيرا فحصل الإبتلاء للفريقين وسنذكر من بلاء الخضر في هذا في موضعه طرفا
وإنّما قلنا بأنّ موسى أعلى من المقام من الخضر عند الله لأنّ هذا ما دلّت عليه النصوص أمّا من أراد أن يهرب من هذا القول وذلك بأن أسند للخضر النبوّة فقال هو من الأنبياء فقد وقع فيما هرب منه وذلك أنّه ولو كان من الأنبياء فلا يبلغ درجة النبي الرسول و ليس هو منهم فما بالك بمن كان من أولي العزم من الرسل أمّا الذين قالوا بأنّ الولاية أعلى مقاما من النبوّة مستدلّين بهذه الآية فقد قالوا زورا وبهتانا من القول ووقعوا في القول المحذور وما هي إلا دعاوى أنتجتها نفوسهم لمرض خفي فيها ولغلبة التقييد عليهم بحسب حقائقهم فلم تتسع حقائقهم لغير مشاربهم فظنوا شفوف مرتبة الولاية على مرتبة النبوّة وهذا قول خطأ شرعا وحقيقة وعقلا ونقلا فماذا بقي لهم بعد هذا من إستدلال غير إستدلال هوى النفس والدعاوى , وقد أراد فريق آخر الخروج من هذا فقال بأنّه هناك فرق بين نبوّة النبي وولاية النبيّ والأمر وقع في الولاية وليس في مشمولات النبوّة لذا حكموا بوسع دائرة الولاية وتخصيص دائرة النبوّة وتقييدها فكان حديثهم بحسب رأيهم لا يشمل غير ولاية النبيّ ولا يتعدّى إلى نبوّته وهذا قد يحسن الإستدلال به من وجه لا من جميع الوجوه وعليه فمتى إستدللنا به تعيّن أن نحمله على محمله الصحيح وهو أنّ الولاية إنّما إتسعت بوسع الوجود وإمتدت بإمتداد الشهود فوقع عليها الإدراك لأنّها نائبة عن حضرات الأنبياء في كلّ مكان وزمان بما أنّ الأنبياء إنتقلوا أشباحا وهم معنا أرواحا أي علومهم وأحوالهم ومشاربهم مازالت موجودة ولا تزال الأرض عامرة بنور النبوّة التي ظهرت للحسّ في مراتب الولاية أو تقول : أنوار الولاية هي أثر من أنوار النبوّة فهي كالصورة لها والعلماء ورثة الأنبياء فقد غابت أعيانهم وبقيت صورهم في أتباعهم فكانت الولاية نائبة عن النبوّة فهي في الشاهد كالقمر يستمدّ من نور الشمس فمن قال بأنّه يستمدّ من غير أنوار النبوّة فهو زنديق خرج عن الدين ومرق منه
فنقول : بأن موسى عليه السلام تنزّل للخضر وتنازل عن مقامه السامي حتى يتمكّن الخضر من صحبته لذا أشار منذ البداية إلى فتاه وأنّ المقام هو مقام فتوّة لا غير , ومقام الفتوّة تنمحي فيه الخصوصيات وعلوم مرتبة كلّ مختصّ فيضحى الأمر من أحكام الصفات أي عالم الأنوار وتصريفاته وهو مقام شهود القدرة قبل الحكمة وهذا لا يمكن فهمه في هذا العالم إلا بفهم زائد عن الأصل الذي هو شهود القدرة بعد الحكمة هذا طبعا بالنسبة لنا ولغيرنا في عالم الأسماء والشهادة لذا أنكر موسى وهو في مقامه هذا أعني مقام الفتوّة هذا الترتيب ولولا أنّ اللقاء فيما بينه وبين الخضر كان في المقام البرزخي أي في الإحتجاب عن الخلق لأقام موسى شريعته ولكان لها الحكم والغلبة
ونحن متى إستقرأنا القصّة وتمعنّا فيها تمعّن الصدق والتصديق والمحبة لظهر لنا بأنّ موسى كان مراعيا للمناسبات والأحكام فهو جزم ببلوغ مجمع البحرين ولم يجزم بقبول التعليم وتحصيل ما عند الخضر وهذا الفهم يعطينا فهما آخر وهو أنّ موسى كان على علم بحضرات العلم وما تعطيه كلّ حضرة وهذا تجده في قوله ( حتى أبلع مجمع البحرين ) لذا جعل الله تعالى هذا المكان موعدا أو محلاّ للقاء فيما بينهما فبمجرّد ذكر مكان الإجتماع تعرف ماهية ونوع تلك الحضرات العلمية لذا عرف موسى هذا فما جزم بشيء فيما يتعلّق بتحصيل علم الخضر وعدم الجزم هذا يعطي الفهم عن الله تعالى والأمر وخلاصته أنّ موسى ما راعى إلا جانب الربوبية لأنّه ما أرجع العلم لله تعالى فعلم أن الله أراد إبراز أمرا لموسى فكان هذا الأمر فتأدّب فيه موسى غاية الأدب ورجع منه متعلّما كاملا
فهذا وجه تعطيه القصّة ولها عدّة وجوه أخرى كلّها يقبلها العقل السليم ومما تعطيه حقائق الآية ومفرداتها
وسنتناول كلّ مرّة البعض من الجوانب الأخرى هكذا إختصارا حتى لا نطيل وإنّما توجّهت هذه الوجهة حتى أغلق الباب لمن أراد أن يتصوّر أنّ الولاية أعلى مقاما من النبوّة في هذه القصّة
فهذا مدخل لذكر أذواق الآية ...
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه
قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا )
قد إتضح بما قدمنا سابقا في ذكر أذواق الآية الأولى بخصوص رحلة موسى وفتاه في طلب العلم من الخضر عليهما السلام أنّ موسى عليه السلام قد إتّخذ الجدّ وشمّر عن ساعد العزم لبلوغ مناه ومقصده من تلك الرحلة الخالدة التي تمّ ذكرها في القرآن بأحسن وأبلغ بيان لأنّ في قصصهم عبرة لأولي الأبصار والألباب ما كان حديثا يفترى
قلت :
ما حكى الله تعالى لنا شيئا خلال سفرهم وما جرى فيه إلى حين بلوغ ( مجمع بينهما ) وكأنّها إشارة إلى سرعة الطلب وذلك بتعلّق الهمم بمطلوبها لأنّه قال تعالى ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فليس بين قول موسى لفتاه وبين بلوغهما مجمع بينهما حدث يستحقّ الذكر وذلك لسرعة طي الهمم لغير مرغوبها وتوجّهها وهذا يدلّنا على حسن القصد بعد تحديد التوجّه وصدق الطلب وهذه تعطي في الحقيقة مقام النوال والوصول ولذا قالوا ساداتنا من إجتهد نال ومن سار على الدرب وصل وهذه الحكاية تعطينا إستشعارا لفهم البعض من مقامات الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم من حيث صدقه وعلوّ همّته وتواضعه وطيّه لأكوان نفسه وعدم الوقوف مع مرتبته بل إنّه تجاوزها عليه السلام وتفسير ذلك أنّ مرتبة الرسالة والنبوّة مرتبة مصونة عليا لا يصلها لا الخضر ولا غيره ولا يحيط بعلمها إلا الله تعالى هذا فما بالك متى إستشعرت بأنّه عليه السلام من أولي العزم من الرسل ويكفيك قصّة تخفيف الصلاة عن هذه الأمّة دليلا على مقامه السامي ورغم هذا ذهب لطلب العلم لمن هو دونه في المرتبة يقينا ولكنّه تجاوز ذكر خصوصية رسالته لأنّ هذا العلم الذي سعى لطلبه ليس من مشمولات رسالته ولا أمر بتبليغه لذا تجاوز مجمع البحرين وكأنّه أراد أن يتجرّد من كلّ وصف ومن كلّ خصوصية وفيه إشارة للمريد بأنّ طالب المزيد عليه أن يتجرد من علمه وعقله وفهمه وهذا مطلب العارفين في طريق السلوك من مريديهم كما طلب الشيخ بن مشيش من تلميذه أبي الحسن ذلك إذ قال له ( إذهب فاغتسل ) أي من علمك وفهمك لأنّك تريد طلب مزيدا منّا فلا يتحقّق لك ذلك إلا بهذا الشرط لذا إشترط الخضرعلى موسى التسليم الظاهري والباطني له فكان لموسى التسليم الباطني وهذا يدرك بمجرّد معرفتنا لسفره وعزمه على بلوغ مجمع البحرين إلا أنّه لم يسلّم للخضر ظاهرا رغم تسليمه الباطني له وإلا لما واصل معه سفره وما تنازل له عن خرق السفينة و قتل الغلام وإقامة الجدار فتجرّد موسى من خصوصيته عند طلب الخضر لذا صحب معه فتاه في مقام الفتوّه لأنّ هذا المقام أعني مقام الفتوّة يعطي التسليم والإنقياد مع الحزم والعزم وكرم الظاهر والباطن فوقع موسى في هذا الإبتلاء من حيث أنّه سيطلب العلم ممّن دونه في المقام مع التسليم له وفي كلّ ما يفعله ظاهرا وباطنا وأبتلي الخضر وكان بلاؤه أكبر من حيث أنّه سيصاحب ويعلّم من هو أعلى منه في المقام وهذا أشدّ كثيرا فحصل الإبتلاء للفريقين وسنذكر من بلاء الخضر في هذا في موضعه طرفا
وإنّما قلنا بأنّ موسى أعلى من المقام من الخضر عند الله لأنّ هذا ما دلّت عليه النصوص أمّا من أراد أن يهرب من هذا القول وذلك بأن أسند للخضر النبوّة فقال هو من الأنبياء فقد وقع فيما هرب منه وذلك أنّه ولو كان من الأنبياء فلا يبلغ درجة النبي الرسول و ليس هو منهم فما بالك بمن كان من أولي العزم من الرسل أمّا الذين قالوا بأنّ الولاية أعلى مقاما من النبوّة مستدلّين بهذه الآية فقد قالوا زورا وبهتانا من القول ووقعوا في القول المحذور وما هي إلا دعاوى أنتجتها نفوسهم لمرض خفي فيها ولغلبة التقييد عليهم بحسب حقائقهم فلم تتسع حقائقهم لغير مشاربهم فظنوا شفوف مرتبة الولاية على مرتبة النبوّة وهذا قول خطأ شرعا وحقيقة وعقلا ونقلا فماذا بقي لهم بعد هذا من إستدلال غير إستدلال هوى النفس والدعاوى , وقد أراد فريق آخر الخروج من هذا فقال بأنّه هناك فرق بين نبوّة النبي وولاية النبيّ والأمر وقع في الولاية وليس في مشمولات النبوّة لذا حكموا بوسع دائرة الولاية وتخصيص دائرة النبوّة وتقييدها فكان حديثهم بحسب رأيهم لا يشمل غير ولاية النبيّ ولا يتعدّى إلى نبوّته وهذا قد يحسن الإستدلال به من وجه لا من جميع الوجوه وعليه فمتى إستدللنا به تعيّن أن نحمله على محمله الصحيح وهو أنّ الولاية إنّما إتسعت بوسع الوجود وإمتدت بإمتداد الشهود فوقع عليها الإدراك لأنّها نائبة عن حضرات الأنبياء في كلّ مكان وزمان بما أنّ الأنبياء إنتقلوا أشباحا وهم معنا أرواحا أي علومهم وأحوالهم ومشاربهم مازالت موجودة ولا تزال الأرض عامرة بنور النبوّة التي ظهرت للحسّ في مراتب الولاية أو تقول : أنوار الولاية هي أثر من أنوار النبوّة فهي كالصورة لها والعلماء ورثة الأنبياء فقد غابت أعيانهم وبقيت صورهم في أتباعهم فكانت الولاية نائبة عن النبوّة فهي في الشاهد كالقمر يستمدّ من نور الشمس فمن قال بأنّه يستمدّ من غير أنوار النبوّة فهو زنديق خرج عن الدين ومرق منه
فنقول : بأن موسى عليه السلام تنزّل للخضر وتنازل عن مقامه السامي حتى يتمكّن الخضر من صحبته لذا أشار منذ البداية إلى فتاه وأنّ المقام هو مقام فتوّة لا غير , ومقام الفتوّة تنمحي فيه الخصوصيات وعلوم مرتبة كلّ مختصّ فيضحى الأمر من أحكام الصفات أي عالم الأنوار وتصريفاته وهو مقام شهود القدرة قبل الحكمة وهذا لا يمكن فهمه في هذا العالم إلا بفهم زائد عن الأصل الذي هو شهود القدرة بعد الحكمة هذا طبعا بالنسبة لنا ولغيرنا في عالم الأسماء والشهادة لذا أنكر موسى وهو في مقامه هذا أعني مقام الفتوّة هذا الترتيب ولولا أنّ اللقاء فيما بينه وبين الخضر كان في المقام البرزخي أي في الإحتجاب عن الخلق لأقام موسى شريعته ولكان لها الحكم والغلبة
ونحن متى إستقرأنا القصّة وتمعنّا فيها تمعّن الصدق والتصديق والمحبة لظهر لنا بأنّ موسى كان مراعيا للمناسبات والأحكام فهو جزم ببلوغ مجمع البحرين ولم يجزم بقبول التعليم وتحصيل ما عند الخضر وهذا الفهم يعطينا فهما آخر وهو أنّ موسى كان على علم بحضرات العلم وما تعطيه كلّ حضرة وهذا تجده في قوله ( حتى أبلع مجمع البحرين ) لذا جعل الله تعالى هذا المكان موعدا أو محلاّ للقاء فيما بينهما فبمجرّد ذكر مكان الإجتماع تعرف ماهية ونوع تلك الحضرات العلمية لذا عرف موسى هذا فما جزم بشيء فيما يتعلّق بتحصيل علم الخضر وعدم الجزم هذا يعطي الفهم عن الله تعالى والأمر وخلاصته أنّ موسى ما راعى إلا جانب الربوبية لأنّه ما أرجع العلم لله تعالى فعلم أن الله أراد إبراز أمرا لموسى فكان هذا الأمر فتأدّب فيه موسى غاية الأدب ورجع منه متعلّما كاملا
فهذا وجه تعطيه القصّة ولها عدّة وجوه أخرى كلّها يقبلها العقل السليم ومما تعطيه حقائق الآية ومفرداتها
وسنتناول كلّ مرّة البعض من الجوانب الأخرى هكذا إختصارا حتى لا نطيل وإنّما توجّهت هذه الوجهة حتى أغلق الباب لمن أراد أن يتصوّر أنّ الولاية أعلى مقاما من النبوّة في هذه القصّة
فهذا مدخل لذكر أذواق الآية ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
علي كتب:...
فهذا وجه تعطيه القصّة ولها عدّة وجوه أخرى كلّها يقبلها العقل السليم ومما تعطيه حقائق الآية ومفرداتها
وسنتناول كلّ مرّة البعض من الجوانب الأخرى هكذا إختصارا حتى لا نطيل وإنّما توجّهت هذه الوجهة حتى أغلق الباب لمن أراد أن يتصوّر أنّ الولاية أعلى مقاما من النبوّة في هذه القصّة
فهذا مدخل لذكر أذواق الآية ...
السلام عليكم أحبتي وأخص بالذكر سيدي علي الفاضل.
أجدت والله يا أخي...
وما هذه الرشحات إلاّ دليلا لصفو المشرب وتملّك النبع...
واعلم أخي أننا نتابع ما تكتب ونجد في ذلك ما يفرح ويثلج الفؤاد
غير أن لسان حال الباع اللغوي يقول يا ليت لي ما لهؤلاء الفتية.
فسر وادخل لذكر الأذواق فإننا نبارك ذلك بكل أشواق...
أجدت والله يا أخي...
وما هذه الرشحات إلاّ دليلا لصفو المشرب وتملّك النبع...
واعلم أخي أننا نتابع ما تكتب ونجد في ذلك ما يفرح ويثلج الفؤاد
غير أن لسان حال الباع اللغوي يقول يا ليت لي ما لهؤلاء الفتية.
فسر وادخل لذكر الأذواق فإننا نبارك ذلك بكل أشواق...
أبو أويس- عدد الرسائل : 1577
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا )
قال علماء التفسير أنّ الضمير في قوله تعالى ( مجمع بينهما ) يعود على البحرين أي مجمع البحرين هذا بخصوص ما تعطيه أحكام اللغة من حيث أنّها لغة عربية لها أحكامها وأصولها وقواعدها التي يتحاكم إليها القوم لكنّهم قالوا أيضا بأنّ اللغة العربية تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي : لغة النثر , ولغة الشعر , ولغة القرآن
فاللغة تبقى لغة من حيث قواعدها وأصولها لكنّها تختلف معانيها بإختلاف متعلّقها هذا متى علمت بأنّ اللغة
القرآنية هي أصل العربية لأنّها أعمّ وأشمل من حيث مدلولاتها من النثر والشعر لذا كان القرآن معجزا في لغته ولو إجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما أتوا به رغم أنّه مكتوبا بلغة العرب فعلمنا مورد الإعجاز اللغوي فيه وذلك لكونه محيط بجميع المعاني الظاهرة والباطنة فنزلت لغة القرآن على العقل أوّلا رسما ومعنى يعضد هذا الرسم ولا تتجاوز مرتبته معنى فهم العقل وإستنباطه منها من غير تجاوز لما تعطيه القواعد الشرعية الظاهرة فهي محفوظة بهذا الظاهر من حيث أنّه ظاهر ولا تختلف فيه العقول بداهة وهو الجمع الأوّل على الله فيه ( أفلا يعقلون ) ثمّ نزلت لغة القرآن على القلب ثانيا نورا ومعنى لطيف ولا تتجاوز مرتبته فهم القلب من حيث التدبّر والتفكّر النوراني وجولان بصيرة الإيمان فيه بقواعد وشرع وأحكام الطريقة وهو المعبّر عنه بالجمع الثاني وهي الحضرة المحمدية كما كانت الحضرة الأولى الحضرة الآدمية وكلّكم من آدم وآدم من تراب فافهم لذا قال تعالى في هذا الجمع الثاني( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) وكأنّها مرتبة عسيرة نوعا ما عن المرتبة الأولى فأشار أنّ هذه المرتبة لا بدّ فيها من توجّه وهذا التوجّه هو التدبّر فذكر تدبّر القلب وأنّ التدبّر مرتبة القلب لا مرتبة العقل من حيث تخصيص كلمة العقل فيما نقصده لا في مطلق العقل من حيث الإحاطة والكليّة العلمية الغير متناهية ثمّ نزل القرآن على الروح ثالثا وهو الجمع الثالث على الله لذا أخطأ النصارى في تثليثهم خطأ علميا فادحا تبرأ منه عيسى في هذه المرتبة لأنّ الوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى العلم به لا شيء آخر لذا كانت معجزة القرآن معجزة علمية وهذه أعلى وأعظم المعجزات لأنّها مجمع المعجزات والحضرات فكان عليه الصلاة والسلام جامعا لما في الوجود في مختلف مراتب الشهود وهذا هو الخلق العظيم الذي مدح به ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) في المقامات الثلاثة فلا حجّة لأحد على الله تعالى بعد هذا الرسول والرسل من قبله ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) إلخ...
وعليه ندرك غور لغة الخطاب في القرآن وهي اللغة العربية وهي أمّ اللغات كما كانت مكّة أمّ القرى فكان تفسير القرآن يصدر من حضرة كلّ مفسّر له ( وما يعلم تأويله إلا الله ) فوجب الإيمان به وهو دليل العلم ومن لم يؤمن به فهو في جهله يسعى ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا به ) فدلّ على أنّ الإيمان قرين العلم بالقرآن ( اللهم إجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) دلّنا على فصل الجمع والإعتدال وليس بعد هذا الكمال من كمال ( الرحمان علّم القرآن) فقال له ( إقرأ ) وليس بعد هذا التعليم من تعليم ( وخيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) أهل القرآن هم أهل الله وخاصته فالصفة لا تدلّ إلا على الموصوف
فنقول : القرآن حكما على اللغة العربية في مستوى النور والسرّ أي في جمع القلب على الله تعالى وجمع الروح عليه وهو الجمع الثالث , وكذلك في مرتبة العقل لمن فهم عن الله تعالى لأنّ القرآن جاء مصحّحا ولم يأتي متحكّما عليه فنريد أن نطوّع القرآن بحسب مرادات عقولنا وتفسيراتها الشاذة فمن عرف القرآن عرف الله تعالى ومن عرف الله تعالى عرف معاني القرآن في ظاهره وباطنه إلى غير تناهي معلوماته التي هي معجزاته فليست هناك معجزة أعظم من معجزة الصفات محلّ إطمئنان القلب
قلت : تفسير القرآن لفظا ولغة وإعرابا في علومها المتوفّرة الآن هو في مرتبة العقل وليس هو التفسير الأصلي ولا تكون البداية في حقيقتها من هنا بل يبدأ التفسير روحا ثمّ قلبا ثمّ عقلا فيجتمع أهل الله مع غيرهم في هذه المرتبة فيكون اللفظ من حيث هو لفظا قرآنيا فيفترق بينه وبين لغة الشعر أو النثر في المدلولات العربية والأحكام اللغوية لأنّ الكلام يكون بحسب مرتبة المتكلّم به في العلم لذا نبّهك بقوله
( أنزله بعلمه ) كي تستوفي حقّ هذا العلم متى علمت بأنه أحاط بكلّ شيء علما وقد قال لك تنبيها ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) فدلّك على جمعه لكلّ شيء وهكذا المقياس في كلّ آية آية فلا تستنكر ولا تستغرب متى رأيت القوم يأتون بما لم تحط به علما وخبرا من معاني القرآن لأنّهم أهل الإحسان ثمّ غاية تفسير القرآن ما كان فيضا ولم يكن ملفّقا من هنا وهناك وهكذا يتجدّد الدين بتجدّد الفيوضات بحسب الحال والمكان والزمان لتعلم وسع القرآن والله واسع عليم وقد نبّهك إلى هذا بأن القرآن والسنّة لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض يوم القيامة فمن فهم القرآن في غير منازله الثلاث فأنّى يكون سنيّا أو حصل له قدم في إتّباع السنّة إذا علمت بأنّه قرآن يمشي على رجلين وبأنّ خلقه القرآن وبأنّه أوتي القرآن ومثله معه فمتى غاب القرآن غاب هذا المثل أي غابت صورته وهل يثبت صورتك غير ذاتك فهل تقوم الصفات بغير الذات فافهم فهذا معنى ( فاتّبعوني يحببكم الله ) فدلّك على الجمع والجذب في هذا المقام وهو مقام الإتّباع الذي سنتكلّم فيه في قصة الخضر مع موسى وهل طلب القوم غير الجذب نحو مولاهم الذي يتولاّهم
قال تعالى ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (
فقال ( بينهما ) وهذا يعطي كتابته هكذا ( مجمع بين البحرين ) ولا يعطي قوله ( مجمع البحرين )
فما قال ( مجمعهما ) أو ( فلمّا بلغا مجمع البحرين ) أو ( فلما بلغا مجمعهما ) أي البحرين
بل قال ( مجمع بينهما ) هذا لتعلم دقّة القرآن في لغته لأنّها موضوعة بحسب أسراره ومراداته المعنوية
فموسى جزم ببلوغه مجمع البحرين فخصّ نفسه بذلك دون فتاه فما أشركه معه في الضمير وهو ضمير نسبة الفعل إليه فكان كما قلت أعلاه محمولا أعني فتاه وهو يوشع بن نون بهمّة موسى من حيث المصاحبة في هذا السفر لا من حيث المراد منه لذا أختصّ الفتى بهذا السفر مع شيخه وهو موسى وما أختصّ بمصاحبته للخضر لأنّ الفتوّة مقام صفاتي وليس مقام ذاتي فهو ليس مقام حضرة علمية بل هو مقام مجلس نوراني كما حكى عن أصحاب الكهف في ذكر مراتبهم فذكر أوّلا صفتهم وهي صفة الفتوّة فقال ( إنهم فتية ) ثمّ ذكر صفتهم الإيمانية من حيث الإيمان الخاص فقال ( آمنوا بربّهم ) ففهمنا بأنّ هذا إيمان زائد عن الإيمان الأوّل الذي يسبق مقام الفتوّة ثمّ ذكر حضرات الإختصاص في قوله ( وزدناهم هدى ) فذكر الزيادة وهي النظر في دار المزيد وهذه حقيقة الزيادة التي هو الهدى وذلك بمحو السوى وليس بعد هذا الهدى من هدى ( وأن إلى ربّك المنتهى ) وهكذا شأن صراط الهدى المستقيم
فعلمنا بأنّ الرحلة مع فتاه كانت في مقام نوراني وهو عالم لطيف من حيث حقائق هذه الرحلة لذا صاحبه معه وهكذا هي مقام الصحبة كما صحب أبو بكر الصدّيق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هجرته في مقام فتوّة أبي بكر رضي الله عنه وسنشرح في يوم ما ما حقيقة الفتوّة ودرجاتها وحضراتها إن شاء الله تعالى
فهنا نعلم بأنّ ذكر الفتى في الآيات كان بخصوص هذا السفر ومن حيث ما يتطلّبه فكان ذكر فتاه مجموعا دائما كناية وإشارة ولم يخرج إلى حيز الظهور كما خرج موسى فموسى أظهره الله تعالى أمّا فتاه أو الخضر فلم يظهراهما وإنما وصف الأوّل بالفتوّة ووصف الثاني بالعبودية والإختصاص فما ظهر يقينا في هذه القصّة غير موسى بإسمه لعدم قدرة فتاه والخضر على الظهور في ذلك المظهر فلو ظهرا فيه لكان ما كان من حقائق موسى لذا قال عليه الصلاة والسلام ( لو كان موسى بن عمران حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني ) أي لو وجد ذاتا وصفاتا في زماني ما وسعه إلا أن يكون تحت إمرتي وجند من جنودي ونصيرا من أنصاري
قال تعالى : ( فلمّا بلغا ) فأخفى هنا ذكر موسى وسوّى فيما بينه وبين فتاه في صفة الفتوّة لأنّها فتوّة واحدة في الحقيقة فليستا مفترقتين لذا نسب إليهما فعل البلوغ وفعل التجاوز وفعل النسيان وذلك بذكر المقام الذي يستوجب ذلك لذا ما قال ( فلمّا بلغ موسى وفتاه ..) بل قال ( فلمّا بلغا ) فخفي ذكر موسى تعيينا ليعلمك ببرزخية هذا السفر وأنّه بصفة غير إعتيادية وكأنّ موسى رجع في هذا السفر إلى صفة فتاه التي في حقيقتها صفته هو أو تقول تنزّل موسى إلى حكم مقام فتوّته الذي أوكل التقديم فيه لفتاه فكان فتاه مقدّم الحضرة الموسوية وهو الذي خوّله الله تعالى في قضاء حوائج موسى لأنّ موسى لا يتنزّل إلى ذلك المقام إلا بوجود من من يتقدّم فيه وهو فتاه لأنّ حقيقته عليه السلام مصونة ومعصومة من التنزّل , وقد حاولت في هذا قدر المستطاع أن أقرّب لك ما قصدته وهذا عليه شواهد كثيرة في قصص الأنبياء والأولياء في قضاء الحاجات
قال علماء التفسير أنّ الضمير في قوله تعالى ( مجمع بينهما ) يعود على البحرين أي مجمع البحرين هذا بخصوص ما تعطيه أحكام اللغة من حيث أنّها لغة عربية لها أحكامها وأصولها وقواعدها التي يتحاكم إليها القوم لكنّهم قالوا أيضا بأنّ اللغة العربية تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي : لغة النثر , ولغة الشعر , ولغة القرآن
فاللغة تبقى لغة من حيث قواعدها وأصولها لكنّها تختلف معانيها بإختلاف متعلّقها هذا متى علمت بأنّ اللغة
القرآنية هي أصل العربية لأنّها أعمّ وأشمل من حيث مدلولاتها من النثر والشعر لذا كان القرآن معجزا في لغته ولو إجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما أتوا به رغم أنّه مكتوبا بلغة العرب فعلمنا مورد الإعجاز اللغوي فيه وذلك لكونه محيط بجميع المعاني الظاهرة والباطنة فنزلت لغة القرآن على العقل أوّلا رسما ومعنى يعضد هذا الرسم ولا تتجاوز مرتبته معنى فهم العقل وإستنباطه منها من غير تجاوز لما تعطيه القواعد الشرعية الظاهرة فهي محفوظة بهذا الظاهر من حيث أنّه ظاهر ولا تختلف فيه العقول بداهة وهو الجمع الأوّل على الله فيه ( أفلا يعقلون ) ثمّ نزلت لغة القرآن على القلب ثانيا نورا ومعنى لطيف ولا تتجاوز مرتبته فهم القلب من حيث التدبّر والتفكّر النوراني وجولان بصيرة الإيمان فيه بقواعد وشرع وأحكام الطريقة وهو المعبّر عنه بالجمع الثاني وهي الحضرة المحمدية كما كانت الحضرة الأولى الحضرة الآدمية وكلّكم من آدم وآدم من تراب فافهم لذا قال تعالى في هذا الجمع الثاني( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) وكأنّها مرتبة عسيرة نوعا ما عن المرتبة الأولى فأشار أنّ هذه المرتبة لا بدّ فيها من توجّه وهذا التوجّه هو التدبّر فذكر تدبّر القلب وأنّ التدبّر مرتبة القلب لا مرتبة العقل من حيث تخصيص كلمة العقل فيما نقصده لا في مطلق العقل من حيث الإحاطة والكليّة العلمية الغير متناهية ثمّ نزل القرآن على الروح ثالثا وهو الجمع الثالث على الله لذا أخطأ النصارى في تثليثهم خطأ علميا فادحا تبرأ منه عيسى في هذه المرتبة لأنّ الوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى العلم به لا شيء آخر لذا كانت معجزة القرآن معجزة علمية وهذه أعلى وأعظم المعجزات لأنّها مجمع المعجزات والحضرات فكان عليه الصلاة والسلام جامعا لما في الوجود في مختلف مراتب الشهود وهذا هو الخلق العظيم الذي مدح به ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) في المقامات الثلاثة فلا حجّة لأحد على الله تعالى بعد هذا الرسول والرسل من قبله ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) إلخ...
وعليه ندرك غور لغة الخطاب في القرآن وهي اللغة العربية وهي أمّ اللغات كما كانت مكّة أمّ القرى فكان تفسير القرآن يصدر من حضرة كلّ مفسّر له ( وما يعلم تأويله إلا الله ) فوجب الإيمان به وهو دليل العلم ومن لم يؤمن به فهو في جهله يسعى ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا به ) فدلّ على أنّ الإيمان قرين العلم بالقرآن ( اللهم إجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) دلّنا على فصل الجمع والإعتدال وليس بعد هذا الكمال من كمال ( الرحمان علّم القرآن) فقال له ( إقرأ ) وليس بعد هذا التعليم من تعليم ( وخيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) أهل القرآن هم أهل الله وخاصته فالصفة لا تدلّ إلا على الموصوف
فنقول : القرآن حكما على اللغة العربية في مستوى النور والسرّ أي في جمع القلب على الله تعالى وجمع الروح عليه وهو الجمع الثالث , وكذلك في مرتبة العقل لمن فهم عن الله تعالى لأنّ القرآن جاء مصحّحا ولم يأتي متحكّما عليه فنريد أن نطوّع القرآن بحسب مرادات عقولنا وتفسيراتها الشاذة فمن عرف القرآن عرف الله تعالى ومن عرف الله تعالى عرف معاني القرآن في ظاهره وباطنه إلى غير تناهي معلوماته التي هي معجزاته فليست هناك معجزة أعظم من معجزة الصفات محلّ إطمئنان القلب
قلت : تفسير القرآن لفظا ولغة وإعرابا في علومها المتوفّرة الآن هو في مرتبة العقل وليس هو التفسير الأصلي ولا تكون البداية في حقيقتها من هنا بل يبدأ التفسير روحا ثمّ قلبا ثمّ عقلا فيجتمع أهل الله مع غيرهم في هذه المرتبة فيكون اللفظ من حيث هو لفظا قرآنيا فيفترق بينه وبين لغة الشعر أو النثر في المدلولات العربية والأحكام اللغوية لأنّ الكلام يكون بحسب مرتبة المتكلّم به في العلم لذا نبّهك بقوله
( أنزله بعلمه ) كي تستوفي حقّ هذا العلم متى علمت بأنه أحاط بكلّ شيء علما وقد قال لك تنبيها ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) فدلّك على جمعه لكلّ شيء وهكذا المقياس في كلّ آية آية فلا تستنكر ولا تستغرب متى رأيت القوم يأتون بما لم تحط به علما وخبرا من معاني القرآن لأنّهم أهل الإحسان ثمّ غاية تفسير القرآن ما كان فيضا ولم يكن ملفّقا من هنا وهناك وهكذا يتجدّد الدين بتجدّد الفيوضات بحسب الحال والمكان والزمان لتعلم وسع القرآن والله واسع عليم وقد نبّهك إلى هذا بأن القرآن والسنّة لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض يوم القيامة فمن فهم القرآن في غير منازله الثلاث فأنّى يكون سنيّا أو حصل له قدم في إتّباع السنّة إذا علمت بأنّه قرآن يمشي على رجلين وبأنّ خلقه القرآن وبأنّه أوتي القرآن ومثله معه فمتى غاب القرآن غاب هذا المثل أي غابت صورته وهل يثبت صورتك غير ذاتك فهل تقوم الصفات بغير الذات فافهم فهذا معنى ( فاتّبعوني يحببكم الله ) فدلّك على الجمع والجذب في هذا المقام وهو مقام الإتّباع الذي سنتكلّم فيه في قصة الخضر مع موسى وهل طلب القوم غير الجذب نحو مولاهم الذي يتولاّهم
قال تعالى ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (
فقال ( بينهما ) وهذا يعطي كتابته هكذا ( مجمع بين البحرين ) ولا يعطي قوله ( مجمع البحرين )
فما قال ( مجمعهما ) أو ( فلمّا بلغا مجمع البحرين ) أو ( فلما بلغا مجمعهما ) أي البحرين
بل قال ( مجمع بينهما ) هذا لتعلم دقّة القرآن في لغته لأنّها موضوعة بحسب أسراره ومراداته المعنوية
فموسى جزم ببلوغه مجمع البحرين فخصّ نفسه بذلك دون فتاه فما أشركه معه في الضمير وهو ضمير نسبة الفعل إليه فكان كما قلت أعلاه محمولا أعني فتاه وهو يوشع بن نون بهمّة موسى من حيث المصاحبة في هذا السفر لا من حيث المراد منه لذا أختصّ الفتى بهذا السفر مع شيخه وهو موسى وما أختصّ بمصاحبته للخضر لأنّ الفتوّة مقام صفاتي وليس مقام ذاتي فهو ليس مقام حضرة علمية بل هو مقام مجلس نوراني كما حكى عن أصحاب الكهف في ذكر مراتبهم فذكر أوّلا صفتهم وهي صفة الفتوّة فقال ( إنهم فتية ) ثمّ ذكر صفتهم الإيمانية من حيث الإيمان الخاص فقال ( آمنوا بربّهم ) ففهمنا بأنّ هذا إيمان زائد عن الإيمان الأوّل الذي يسبق مقام الفتوّة ثمّ ذكر حضرات الإختصاص في قوله ( وزدناهم هدى ) فذكر الزيادة وهي النظر في دار المزيد وهذه حقيقة الزيادة التي هو الهدى وذلك بمحو السوى وليس بعد هذا الهدى من هدى ( وأن إلى ربّك المنتهى ) وهكذا شأن صراط الهدى المستقيم
فعلمنا بأنّ الرحلة مع فتاه كانت في مقام نوراني وهو عالم لطيف من حيث حقائق هذه الرحلة لذا صاحبه معه وهكذا هي مقام الصحبة كما صحب أبو بكر الصدّيق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هجرته في مقام فتوّة أبي بكر رضي الله عنه وسنشرح في يوم ما ما حقيقة الفتوّة ودرجاتها وحضراتها إن شاء الله تعالى
فهنا نعلم بأنّ ذكر الفتى في الآيات كان بخصوص هذا السفر ومن حيث ما يتطلّبه فكان ذكر فتاه مجموعا دائما كناية وإشارة ولم يخرج إلى حيز الظهور كما خرج موسى فموسى أظهره الله تعالى أمّا فتاه أو الخضر فلم يظهراهما وإنما وصف الأوّل بالفتوّة ووصف الثاني بالعبودية والإختصاص فما ظهر يقينا في هذه القصّة غير موسى بإسمه لعدم قدرة فتاه والخضر على الظهور في ذلك المظهر فلو ظهرا فيه لكان ما كان من حقائق موسى لذا قال عليه الصلاة والسلام ( لو كان موسى بن عمران حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني ) أي لو وجد ذاتا وصفاتا في زماني ما وسعه إلا أن يكون تحت إمرتي وجند من جنودي ونصيرا من أنصاري
قال تعالى : ( فلمّا بلغا ) فأخفى هنا ذكر موسى وسوّى فيما بينه وبين فتاه في صفة الفتوّة لأنّها فتوّة واحدة في الحقيقة فليستا مفترقتين لذا نسب إليهما فعل البلوغ وفعل التجاوز وفعل النسيان وذلك بذكر المقام الذي يستوجب ذلك لذا ما قال ( فلمّا بلغ موسى وفتاه ..) بل قال ( فلمّا بلغا ) فخفي ذكر موسى تعيينا ليعلمك ببرزخية هذا السفر وأنّه بصفة غير إعتيادية وكأنّ موسى رجع في هذا السفر إلى صفة فتاه التي في حقيقتها صفته هو أو تقول تنزّل موسى إلى حكم مقام فتوّته الذي أوكل التقديم فيه لفتاه فكان فتاه مقدّم الحضرة الموسوية وهو الذي خوّله الله تعالى في قضاء حوائج موسى لأنّ موسى لا يتنزّل إلى ذلك المقام إلا بوجود من من يتقدّم فيه وهو فتاه لأنّ حقيقته عليه السلام مصونة ومعصومة من التنزّل , وقد حاولت في هذا قدر المستطاع أن أقرّب لك ما قصدته وهذا عليه شواهد كثيرة في قصص الأنبياء والأولياء في قضاء الحاجات
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
سألني أحد الإخوة من المتابعين لما أحاول كتابته هذا السؤال بخصوص هذا الموضوع :
( قلتم سيدي فيما سبق القول به : ( (فلمّا بلغا ) فخفي ذكر موسى تعيينا ليعلمك ببرزخية هذا السفر وأنّه بصفة غير إعتيادية وكأنّ موسى رجع في هذا السفر إلى صفة فتاه )
لو تفضلتم سيدي بشرح بسيط لمعنى السفر البرزخي وما المقصود به في الشاهد ليعلمك ببرزخية هذا السفر )
فأجبته بهذا الجواب :
البرزخ سيدي كما هو معلوم مستقرّ الأرواح بعد الموت فلست أقصد هذا المعنى لكنّها لفظة نجدها كثيرا في كلام أهل الله فهي بحسب قرينتها في الكلام وما تدلّ عليه بحسب السياق
أقول : متى كان الحكم للأرواح واللقاء فيها فالمشهد مشهدا برزخيّا أي أنّ حكم الروح مسيطرا على المشهد فهو برزخ من حيث أنّه ليس من أحكام الآخرة في شيء وليس هو من أحكام عالم الشهادة في شيء أي عالم الأجساد فهو أمر بين أمرين يكون فيه الحكم للروح وعندما سنتوغّل إن شاء الله في ذكر أذواق الآيات اللاحقة من هذه القصّة وخاصّة عند إنفراد موسى مع الخضر وما دار بينهما من أحوال وعلوم وفهوم وآداب ومحبّة وصدق ووو... إلخ سيتّضح لنا الكثير من المشاهد التي غابت عن المتصدّرين إلى تفسير هذه القصّة وذكر أذواقها فنحن مذهبنا أنّ كلّ معنى حمله اللفظ فلا يخرج عن اللفظ حتما شيء من المعنى بل ها هي المعاني راشحة في القرآن العظيم بل وكأنّها غيث حتى يقول القائل ( حوالينا ولا علينا ) فافهم
وإنّما ذكرت البرزخ في هذه القصّة لأنّ قوله ( مجمع البحرين ) أو قوله ( مجمع بينهما ) يوحي بأنّ البرزخ الذي بينهما هو محلّ الإجتماع وهذا ما سنتطرّق إليه لاحقا في القصّة فالأمر ليس هو جسمانيا محضا ولا هو روحيّا بحتا بل بينهما ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) وإنّما الغلبة للروح وهو عالم الحياة وهذا رباط الخضر حتى أنّ الحوت سرت فيه الحياة ورجعت وهو أيضا بحر فيه من حقائق عيسى من ناحية إحياء الموتى ونفخ الروح وهنا تتشابك الخيوط وتضحى دقيقة جدّا وهكذا العلوم تصبح مثل الشبكة شبكة الصياد فهي في هذا المجمع متداخلة جدّا لكنّها لا يبغي بعضها على بعض
وهذا البرزخ سيدي هو ما يفصل بين أمرين فلا يكون الحكم فيه لأحدهما على الآخر كما قال تعالى ( بينهما برزخ لا يبغيان ) فالبرزخ حدّ الإعتدال والعدل وعلومه من علوم الإستواء ( الرحمان على العرش إستوى)
( ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان ) فالبرزخية من معاني الإستواء لأنّه : الأوّل والآخر , والظاهر والباطن ) فلا يبغي هذا على هذا ولا هذا على هذا ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) فافهم فهذا من هذا المعنى فلا نخلط
فقلنا بأنّ اللقاء بينهما كان لقاءا برزخيا وهو اللقاء بين الحقيقة والشريعة وسنخرج بحول الله تعالى كنوز هذا الأمر في القادم من الكتابة
والسؤال الأهمّ هو هذا : كيف يلتقي بحر موسى مع بحر الخضر وهذا مأمور بشرع وهذا مأمور بتصريف ؟
لذا كان لقاؤهما في مجمع البحرين أو تقول في مجمع بينهما , فمكان اللقاء يشعرك بحقيقة القصّة وعلومها فليس المكان بمعزل عن حقيقتيهما وكذلك الفتى والحوت فكلّه من جنس هذا البرزخ وكلّ طلب حقيقته هناك
والسؤال : كيف يلتقي الظاهر الباطن مع الباطن الظاهر ؟ وهذا السؤال فيه أسرار التوحيد بأسرها متى علمت ذلك
والحضرات بين السادة هي حضرات علمية وليست سلوكية بل موسى والخضر كاملان في سلوكهما فاللقاء سار بهما سيرا عظيما في الحقائق وإن في القصّة أسرارا عظاما وعلوما وفهوما كثيرة لا تكيّف ولا تطاق
هذا جواب كي يصبّرك قليلا والبقية في الأيام القادة تأتي إن شاء الله تعالى وكان في أجلنا مهلة
والسلام
( قلتم سيدي فيما سبق القول به : ( (فلمّا بلغا ) فخفي ذكر موسى تعيينا ليعلمك ببرزخية هذا السفر وأنّه بصفة غير إعتيادية وكأنّ موسى رجع في هذا السفر إلى صفة فتاه )
لو تفضلتم سيدي بشرح بسيط لمعنى السفر البرزخي وما المقصود به في الشاهد ليعلمك ببرزخية هذا السفر )
فأجبته بهذا الجواب :
البرزخ سيدي كما هو معلوم مستقرّ الأرواح بعد الموت فلست أقصد هذا المعنى لكنّها لفظة نجدها كثيرا في كلام أهل الله فهي بحسب قرينتها في الكلام وما تدلّ عليه بحسب السياق
أقول : متى كان الحكم للأرواح واللقاء فيها فالمشهد مشهدا برزخيّا أي أنّ حكم الروح مسيطرا على المشهد فهو برزخ من حيث أنّه ليس من أحكام الآخرة في شيء وليس هو من أحكام عالم الشهادة في شيء أي عالم الأجساد فهو أمر بين أمرين يكون فيه الحكم للروح وعندما سنتوغّل إن شاء الله في ذكر أذواق الآيات اللاحقة من هذه القصّة وخاصّة عند إنفراد موسى مع الخضر وما دار بينهما من أحوال وعلوم وفهوم وآداب ومحبّة وصدق ووو... إلخ سيتّضح لنا الكثير من المشاهد التي غابت عن المتصدّرين إلى تفسير هذه القصّة وذكر أذواقها فنحن مذهبنا أنّ كلّ معنى حمله اللفظ فلا يخرج عن اللفظ حتما شيء من المعنى بل ها هي المعاني راشحة في القرآن العظيم بل وكأنّها غيث حتى يقول القائل ( حوالينا ولا علينا ) فافهم
وإنّما ذكرت البرزخ في هذه القصّة لأنّ قوله ( مجمع البحرين ) أو قوله ( مجمع بينهما ) يوحي بأنّ البرزخ الذي بينهما هو محلّ الإجتماع وهذا ما سنتطرّق إليه لاحقا في القصّة فالأمر ليس هو جسمانيا محضا ولا هو روحيّا بحتا بل بينهما ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) وإنّما الغلبة للروح وهو عالم الحياة وهذا رباط الخضر حتى أنّ الحوت سرت فيه الحياة ورجعت وهو أيضا بحر فيه من حقائق عيسى من ناحية إحياء الموتى ونفخ الروح وهنا تتشابك الخيوط وتضحى دقيقة جدّا وهكذا العلوم تصبح مثل الشبكة شبكة الصياد فهي في هذا المجمع متداخلة جدّا لكنّها لا يبغي بعضها على بعض
وهذا البرزخ سيدي هو ما يفصل بين أمرين فلا يكون الحكم فيه لأحدهما على الآخر كما قال تعالى ( بينهما برزخ لا يبغيان ) فالبرزخ حدّ الإعتدال والعدل وعلومه من علوم الإستواء ( الرحمان على العرش إستوى)
( ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان ) فالبرزخية من معاني الإستواء لأنّه : الأوّل والآخر , والظاهر والباطن ) فلا يبغي هذا على هذا ولا هذا على هذا ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) فافهم فهذا من هذا المعنى فلا نخلط
فقلنا بأنّ اللقاء بينهما كان لقاءا برزخيا وهو اللقاء بين الحقيقة والشريعة وسنخرج بحول الله تعالى كنوز هذا الأمر في القادم من الكتابة
والسؤال الأهمّ هو هذا : كيف يلتقي بحر موسى مع بحر الخضر وهذا مأمور بشرع وهذا مأمور بتصريف ؟
لذا كان لقاؤهما في مجمع البحرين أو تقول في مجمع بينهما , فمكان اللقاء يشعرك بحقيقة القصّة وعلومها فليس المكان بمعزل عن حقيقتيهما وكذلك الفتى والحوت فكلّه من جنس هذا البرزخ وكلّ طلب حقيقته هناك
والسؤال : كيف يلتقي الظاهر الباطن مع الباطن الظاهر ؟ وهذا السؤال فيه أسرار التوحيد بأسرها متى علمت ذلك
والحضرات بين السادة هي حضرات علمية وليست سلوكية بل موسى والخضر كاملان في سلوكهما فاللقاء سار بهما سيرا عظيما في الحقائق وإن في القصّة أسرارا عظاما وعلوما وفهوما كثيرة لا تكيّف ولا تطاق
هذا جواب كي يصبّرك قليلا والبقية في الأيام القادة تأتي إن شاء الله تعالى وكان في أجلنا مهلة
والسلام
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
بسم الله الواحد الماجد الواجد
قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا )
قلت : تحقّق بلوغ موسى وفتاه إلى مجمع بينهما من غير شعور منهما إلى أنّ ذلك المكان هو المكان المطلوب أي أنّهما لا يعلمان تحديدا نقطة اللقاء والإجتماع بالخضر لذا تجاوزا ذلك المكان ففهمنا من هذا أنّ اللقاء لا يكون إلا بوجود علامة وهي علامة القبول أو تقول علامة الوصول إلى المقصد وهذه العلامة هي علامة نسيان الحوت وقد أختصّ موسى بالعلم بهذه العلامة فالظاهر أنّه أخفاها عن فتاه وما حكاها له إلا عندما قال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي أنّ تلك العلامة هي المرادة لتحديد مكان اللقاء ففهمنا أيضا أنّ الحوت إنما حمله فتى موسى فأخذ الحوت من حال هذا الفتى فكان طعاما لهما وفي نفس الوقت دليلا وعلامة لهما على المكان وهذا من باب الفتوّة فكان الحوت لا حياة له من حيث ظاهر حسّيته لأنّه في عالم الأسماء كان طعاما حسيّا لا حراك له ولا حياة ومن حيث روحانيته في هذا الباب وهذه القصّة كان يشارك القوم ما هم فيه ويتلوّن معهم بتلوّن المقام لذا بمجرّد أن نسيا الحوت وتركاه عند الصخرة بعد أن إتخذ سبيله في البحر سربا أحسّا بالجوع والتعب والنصب فكأنّ الحوت كان قائما مقام الزاد ظاهرا وباطنا من حيثية وذلك أنّه طعام في الظاهر وأنّه علامة ومرشد في الباطن وهذا في الحقيقة ما يعطيه كلّ طعام ومنها طعام أهل الجنّة في الجنّة فهو غذاء لطيف من حيث أنّ الجنّة كلّها نور والنور يعطي قانون اللذّة والنار تعطي قانون الألم وليس هناك إلا لذّة أو ألم وحقيقة اللذّة هي اللذّة الروحيّة لأنّ الروح جوهر تسري فيها اللذّة وكذلك من هذا القبيل كالذوق والعلم ..إلخ
فكان الحوت طعاما في هذا السفر وكان علامة فكانت له وظيفتان بما أنّه إتّخذه موسى علامة وبذلك أمر فكان أمر الحوت غريبا فقد تلوّن بحال موسى وفتاه فسرى حالهما في الحوت وهكذا الحال فإنّه يسري في كلّ شيء حتى في لباسه وفي نعله وفي أكله وشربه فكيفما كان الحال سرى وقد وردت حكاية أحكيها : كان فقير لسيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ذهب إلى مجلس الذكر في زاوية شيخه سيدي العلاوي رضي الله عنه وكا قد إنتعل نعل أخيه وكان أخوه من المنكرين على أهل الله تعالى وعلى الشيخ العلاوي فلمّا قامت الحضرة العلاوية لم يجدوا شيئا من المدد _ فقال لهم سيدي أحمد العلاوي من هنا معنا من المنكرين فما أجابه أحد إلا أنّ الفقير تفطّن فقال : يا سيدي نعم أنا قد أتيت إليكم وكنت قد إنتعلت بنعل أخي وهو منكر عليكم _فقال سيدي العلاوي : نعم الآن قد إتضح الأمر .
والمقصود أنّ الحال يسري وقد عبّر عنه اللسان النبوي بحامل المسك ونافخ الكير هذا واعلم بأن ديننا كلّه حال وذوق وسير وصدق ومحبة وتواضع وتصديق وهمّة ومجاهدة وفطنة وإيثار ورحمة وشدّة في الحقّ مع لين فالصوفية في الحقيقة هم الذين ورثوا الأنبياء في جواهر علومهم وحقائق أرواحهم وإنّما أعني الصوفية أهل الحقّ والعلم والشريعة والحقيقة لا غيرهم من أهل التبرّك حتى أنّهم اليوم يريدون أن يبدّلوا الطريق فيجعلونه طريق تبرّك , فما كان قطّ طريق الصوفية طريق تبرّك بل هو طريق سلوك ومجاهدة وعزم وحزم وركوب أهوال , كلّ هذا مع صفاء قلب ورقّة روح ونقاء فكر وفطنة عقل فالصوفي الحقيقي لا يكون بليدا بل في منتهى النباهة والفهم عن الله ورسوله مع موت نفس وفناء مراداتها مع حمله لنوائب الأمّة كلّها على عاتقه فكأنّه ما وجد إلا لخدمة الأمّة ظاهرا وباطنا فيعمل ولا ينتظر أجرا على عمله ولا نفعا عاجلا فيعرف مرتبته فلا يتعدّاها وينزل الناس منازلهم ولا يقف ما ليس له به علم ولا يتعالم ولا يتكبّر ولا يتجبّر ولا يطلب المناصب أصلا بل يفرّ منها فراره من الأسد وقد هرب أبو حنيفة من توليته القضاء هروبا وقد قبل عمر الخلافة وقال إنّما قبلتها كما يضطرّ المشرف على الهلاك إلى أكل الميّتة وهكذا أهل الله تعالى رضي الله عنهم جميعا
فمن كان بمثل هذه المثابة سرى حاله في غيره ولا بدّ من ذلك قال الإمام الشافعي : صحبت الصوفية فما إستفدت منهم غير أمرين : الوقت سيف , ونفسك إن لم تشغلها بالطاعة أشغلتك بالمعصية , وكأنّه يقول : من أجود وأحسن ما إستفدته منهم هما هذين الأمرين فدلّ على أهمّيتهما , وفي طي كلامه أيضا وكأنّه يقول : أنا لم أستفد منهم غير أمرين عزيزين وهم إستفادوا منّي أكثر من أمرين لسريان حالي ولكن ما إستفدته منهم لا يعادل بوجه ما إستفادوه منّي فدلّ على نجابته وعلى فطانته وإنّه رضي الله عنه ما ذكر شيئا عمّا إستفادوه منه لفناء نفسه رضي الله عنه فنسب الإستفادة منهم وما نسب لهم الإستفادة منه تبجيلا لمقام القوم فانظر إلى حسن أدبه تعلم فضله , وكأنّه يقول في طي كلامه : القوم ليسوا أهل كلام بل هم أهل عمل وما إستفدته منهم دلّت عليه أحوالهم قبل أقوالهم ومن فعل ما فعلوه فأنّي يكون له وقت لغير ربّه لذا إستخلصت منهم عزيز وقتهم وشدّة مجاهدتهم لنفوسهم , وكأنّه يقول : هؤلاء القوم لا تستفيد منهم غير هذا فهم يراقبون الله في الأنفاس ويزنون خواطرهم بالقسطاس , وكأنّه يقول : هؤلاء القوم كاتمون لأحوالهم ومهما صاحبتهم ما أحسنت إلا أن أستفيد منهم هذين الأمرين , وكأنّه يقول : أنا مطالب بستر حال هؤلاء القوم فلا أخرج لكم إلا ما دلّت عليه الحقيقة في مقام الشريعة , وكأنّه يقول : أنا ما ذهبت لهؤلاء القوم إلا متعلّما مستفيدا وهذه نيّتي في صحبتهم لعلمي بما يستوجبه المقام معهم , وإنّ في قصّة موسى صاحب الشريعة خير مثال وهكذا من هذه الحقائق ....
فلا تستغرب متى قلت لك بأنّ الطعام والشراب واللباس يسري فيه حال صاحبه وأنت تعلم في السنّة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعمّم أصحابه وألبس عليّا عمامته وكذلك قلّده سيفه , فسريان الحال أمر ثابت شرعا وعقلا
لذا قلت بأنّ الحوت إكتسب بصحبته لموسى وفتاه من حاليهما وإنّما إكتسب من حال فتاه وفتاه من حال موسى والحال في الحقيقة في هذا السفر حال واحد وهو حال موسى في مقام فتوّته فانظر كيف يخدم الحال صاحبه وكيف تصل مبتغاك بتعلّق الهمّة قال شيخنا : قد يأتيني الفقير إلى الزاوية وفي نيّته فقط أن يتناول العشاء ويأكل اللحم ثمّ ينصرف ومنهم من يأتي ليشرب بعض الشاي ويستمع لبعض الإنشاد ومن ثمّ يذهب بعد أن روّح عن نفسه قليلا ولكن قال شيخنا نحن لا نتركه على هذه الحالة بل نرفع له همّته قليلا فقليلا ونقوم بتربيته من غير شعور منه حتى نرجع له مرغوبه ومطلوبه التوجه لمولاه سبحانه وتعالى فهذه هي التربية في طريق الله
قلت : وكذلك هناك في طريق الله من يأتي ويذكر وفي نيّته أن يصبح قطبا أو غوثا أو صاحب علوم كثيرة ينشرها بين الناس وهكذا من هذه العلل العويصة فما جعل قطّ طريق الله لهذه العلل بل طالب الله يجده أينما كان ومن طلب غير الله تعالى فقد كلّ شيء
جرّني الحديث فخرجت عن الموضوع الأصلي فلعلّ في الزيادة خير وخاصة أن هذه القصّة عليها مدار الطريقة في أغلب الأحيان
يتبع...
قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا )
قلت : تحقّق بلوغ موسى وفتاه إلى مجمع بينهما من غير شعور منهما إلى أنّ ذلك المكان هو المكان المطلوب أي أنّهما لا يعلمان تحديدا نقطة اللقاء والإجتماع بالخضر لذا تجاوزا ذلك المكان ففهمنا من هذا أنّ اللقاء لا يكون إلا بوجود علامة وهي علامة القبول أو تقول علامة الوصول إلى المقصد وهذه العلامة هي علامة نسيان الحوت وقد أختصّ موسى بالعلم بهذه العلامة فالظاهر أنّه أخفاها عن فتاه وما حكاها له إلا عندما قال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي أنّ تلك العلامة هي المرادة لتحديد مكان اللقاء ففهمنا أيضا أنّ الحوت إنما حمله فتى موسى فأخذ الحوت من حال هذا الفتى فكان طعاما لهما وفي نفس الوقت دليلا وعلامة لهما على المكان وهذا من باب الفتوّة فكان الحوت لا حياة له من حيث ظاهر حسّيته لأنّه في عالم الأسماء كان طعاما حسيّا لا حراك له ولا حياة ومن حيث روحانيته في هذا الباب وهذه القصّة كان يشارك القوم ما هم فيه ويتلوّن معهم بتلوّن المقام لذا بمجرّد أن نسيا الحوت وتركاه عند الصخرة بعد أن إتخذ سبيله في البحر سربا أحسّا بالجوع والتعب والنصب فكأنّ الحوت كان قائما مقام الزاد ظاهرا وباطنا من حيثية وذلك أنّه طعام في الظاهر وأنّه علامة ومرشد في الباطن وهذا في الحقيقة ما يعطيه كلّ طعام ومنها طعام أهل الجنّة في الجنّة فهو غذاء لطيف من حيث أنّ الجنّة كلّها نور والنور يعطي قانون اللذّة والنار تعطي قانون الألم وليس هناك إلا لذّة أو ألم وحقيقة اللذّة هي اللذّة الروحيّة لأنّ الروح جوهر تسري فيها اللذّة وكذلك من هذا القبيل كالذوق والعلم ..إلخ
فكان الحوت طعاما في هذا السفر وكان علامة فكانت له وظيفتان بما أنّه إتّخذه موسى علامة وبذلك أمر فكان أمر الحوت غريبا فقد تلوّن بحال موسى وفتاه فسرى حالهما في الحوت وهكذا الحال فإنّه يسري في كلّ شيء حتى في لباسه وفي نعله وفي أكله وشربه فكيفما كان الحال سرى وقد وردت حكاية أحكيها : كان فقير لسيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ذهب إلى مجلس الذكر في زاوية شيخه سيدي العلاوي رضي الله عنه وكا قد إنتعل نعل أخيه وكان أخوه من المنكرين على أهل الله تعالى وعلى الشيخ العلاوي فلمّا قامت الحضرة العلاوية لم يجدوا شيئا من المدد _ فقال لهم سيدي أحمد العلاوي من هنا معنا من المنكرين فما أجابه أحد إلا أنّ الفقير تفطّن فقال : يا سيدي نعم أنا قد أتيت إليكم وكنت قد إنتعلت بنعل أخي وهو منكر عليكم _فقال سيدي العلاوي : نعم الآن قد إتضح الأمر .
والمقصود أنّ الحال يسري وقد عبّر عنه اللسان النبوي بحامل المسك ونافخ الكير هذا واعلم بأن ديننا كلّه حال وذوق وسير وصدق ومحبة وتواضع وتصديق وهمّة ومجاهدة وفطنة وإيثار ورحمة وشدّة في الحقّ مع لين فالصوفية في الحقيقة هم الذين ورثوا الأنبياء في جواهر علومهم وحقائق أرواحهم وإنّما أعني الصوفية أهل الحقّ والعلم والشريعة والحقيقة لا غيرهم من أهل التبرّك حتى أنّهم اليوم يريدون أن يبدّلوا الطريق فيجعلونه طريق تبرّك , فما كان قطّ طريق الصوفية طريق تبرّك بل هو طريق سلوك ومجاهدة وعزم وحزم وركوب أهوال , كلّ هذا مع صفاء قلب ورقّة روح ونقاء فكر وفطنة عقل فالصوفي الحقيقي لا يكون بليدا بل في منتهى النباهة والفهم عن الله ورسوله مع موت نفس وفناء مراداتها مع حمله لنوائب الأمّة كلّها على عاتقه فكأنّه ما وجد إلا لخدمة الأمّة ظاهرا وباطنا فيعمل ولا ينتظر أجرا على عمله ولا نفعا عاجلا فيعرف مرتبته فلا يتعدّاها وينزل الناس منازلهم ولا يقف ما ليس له به علم ولا يتعالم ولا يتكبّر ولا يتجبّر ولا يطلب المناصب أصلا بل يفرّ منها فراره من الأسد وقد هرب أبو حنيفة من توليته القضاء هروبا وقد قبل عمر الخلافة وقال إنّما قبلتها كما يضطرّ المشرف على الهلاك إلى أكل الميّتة وهكذا أهل الله تعالى رضي الله عنهم جميعا
فمن كان بمثل هذه المثابة سرى حاله في غيره ولا بدّ من ذلك قال الإمام الشافعي : صحبت الصوفية فما إستفدت منهم غير أمرين : الوقت سيف , ونفسك إن لم تشغلها بالطاعة أشغلتك بالمعصية , وكأنّه يقول : من أجود وأحسن ما إستفدته منهم هما هذين الأمرين فدلّ على أهمّيتهما , وفي طي كلامه أيضا وكأنّه يقول : أنا لم أستفد منهم غير أمرين عزيزين وهم إستفادوا منّي أكثر من أمرين لسريان حالي ولكن ما إستفدته منهم لا يعادل بوجه ما إستفادوه منّي فدلّ على نجابته وعلى فطانته وإنّه رضي الله عنه ما ذكر شيئا عمّا إستفادوه منه لفناء نفسه رضي الله عنه فنسب الإستفادة منهم وما نسب لهم الإستفادة منه تبجيلا لمقام القوم فانظر إلى حسن أدبه تعلم فضله , وكأنّه يقول في طي كلامه : القوم ليسوا أهل كلام بل هم أهل عمل وما إستفدته منهم دلّت عليه أحوالهم قبل أقوالهم ومن فعل ما فعلوه فأنّي يكون له وقت لغير ربّه لذا إستخلصت منهم عزيز وقتهم وشدّة مجاهدتهم لنفوسهم , وكأنّه يقول : هؤلاء القوم لا تستفيد منهم غير هذا فهم يراقبون الله في الأنفاس ويزنون خواطرهم بالقسطاس , وكأنّه يقول : هؤلاء القوم كاتمون لأحوالهم ومهما صاحبتهم ما أحسنت إلا أن أستفيد منهم هذين الأمرين , وكأنّه يقول : أنا مطالب بستر حال هؤلاء القوم فلا أخرج لكم إلا ما دلّت عليه الحقيقة في مقام الشريعة , وكأنّه يقول : أنا ما ذهبت لهؤلاء القوم إلا متعلّما مستفيدا وهذه نيّتي في صحبتهم لعلمي بما يستوجبه المقام معهم , وإنّ في قصّة موسى صاحب الشريعة خير مثال وهكذا من هذه الحقائق ....
فلا تستغرب متى قلت لك بأنّ الطعام والشراب واللباس يسري فيه حال صاحبه وأنت تعلم في السنّة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعمّم أصحابه وألبس عليّا عمامته وكذلك قلّده سيفه , فسريان الحال أمر ثابت شرعا وعقلا
لذا قلت بأنّ الحوت إكتسب بصحبته لموسى وفتاه من حاليهما وإنّما إكتسب من حال فتاه وفتاه من حال موسى والحال في الحقيقة في هذا السفر حال واحد وهو حال موسى في مقام فتوّته فانظر كيف يخدم الحال صاحبه وكيف تصل مبتغاك بتعلّق الهمّة قال شيخنا : قد يأتيني الفقير إلى الزاوية وفي نيّته فقط أن يتناول العشاء ويأكل اللحم ثمّ ينصرف ومنهم من يأتي ليشرب بعض الشاي ويستمع لبعض الإنشاد ومن ثمّ يذهب بعد أن روّح عن نفسه قليلا ولكن قال شيخنا نحن لا نتركه على هذه الحالة بل نرفع له همّته قليلا فقليلا ونقوم بتربيته من غير شعور منه حتى نرجع له مرغوبه ومطلوبه التوجه لمولاه سبحانه وتعالى فهذه هي التربية في طريق الله
قلت : وكذلك هناك في طريق الله من يأتي ويذكر وفي نيّته أن يصبح قطبا أو غوثا أو صاحب علوم كثيرة ينشرها بين الناس وهكذا من هذه العلل العويصة فما جعل قطّ طريق الله لهذه العلل بل طالب الله يجده أينما كان ومن طلب غير الله تعالى فقد كلّ شيء
جرّني الحديث فخرجت عن الموضوع الأصلي فلعلّ في الزيادة خير وخاصة أن هذه القصّة عليها مدار الطريقة في أغلب الأحيان
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
نسب الله تعالى إليهما فعل بلوغ مجمع بينهما رغم أنّ موسى في البداية جزم ببلوغه وحده لمجمع البحرين حينما أخبر فتاه بذلك لمّا عزم على طلب الخضر إلا أنّ الله تعالى أخبر في الآية أنّ بلوغ مجمع بينهما حصل من الإثنين ولم يختصّ به موسى لحاله فعلمنا بأنّ إخبار موسى لفتاه في حقيقته لا يتعلّق بذات المكان وإنّما تعلّق بحال وبعلم من لا يمكنه أن يجده في غير ذلك المكان وهو الخضر فظهر بذلك أنّ جزم موسى ببلوغ مجمع البحرين هو في الحقيقة جزم بملاقاة الخضر وإلا فالعارف تطوى له الأرض في لمحة فضلا عن غير ذلك ويكفي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى موسى يصلّي في قبره بعد موته وكذلك صلّى خلفه في المسجد الأقصى مع جميع الأنبياء والمرسلين ففهمنا بأنّ قول موسى لمّا أراد طلب الخضر ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) وكأنّه يقول ( لا أبرح حتى أجتمع بالخضر ) أو أمضيا حقبا في طلبه فقوله ( أو أمضي حقبا ) لا يتعلّق بالمكان بقدر ما هو متعلّق بالخضر فهذا وجه آخر في الآية الأولى وهي قوله تعالى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) مع الوجوه الأخرى التي ذكرتها في تفسير نفس الآية فهي وجوه متعدّدة وكلّها يعطيها ظاهر اللفظ أو مفهومه فلا يحجبك هذا عن هذا أو تزعم وجود تناقض فيما بينهما فتخرج من مجمع البحرين فلا تهتدي إليه إن كنت فهمت والسلام
وإنّما ذهبنا هذا المذهب الجديد لما يعطيه مدلول قوله تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما) فعلمنا بأنّه ما قال : ( فلمّا بلغا مجمع البحرين ) أو ( فلمّا بلغا مجمعهما ) كما ذكرت هذا سالفا لأنّه لو قال هذا لكان هناك تناقضا علميا في القرآن وهذا محال على الله تعالى ( ومن أصدق من الله قيلا ) أي لفظا ومعنى أو تقول حسّا ومعنى فافهم لذا أخذنا في تفسيرنا الآية الأولى ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق من غير توسّع في دلالة المعنى لأنّ المعنى مقيّد في اللفظ الدال عليه هذا من وجه ومن وجه آخر غير مقيّد به بل اللفظ مقيّد في المعنى وبه كان محمولا فحيثما حلّ المعنى حلّ معه اللفظ .فافهم
فلا بدّ أن توفّق في إعطاء المرتبتين حقّهما فهذا هو حكم النسب فلا بدّ من مراعاته والقرآن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات , فالمحكمات عندي هو المعنى الحقيقي للقرآن أمّا المتشابهات فهو اللفظ الظاهري فأمّا أهل اللفظ وهم أهل الظاهر فيتّبعون ما تشابه منه فأوقعهم ذلك في الشرك لمرض في قلوبهم وأمّا أهل رسوخ القدم في حضرة القدم فيقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا لأنّهم لا يرون سواه حسّا ومعنى , هذا ولا أنكر الفهم العام من الآية الذي نتشارك فيه جميعا ولكن القرآن لا تنقضي عجائبه لأنّه معجزة , فمتى كان معجزة في كلّ زمان فأين وجه إعجازه عندك إذا كنت لا تعوّل إلا على معجزته القديمة بل هو معجزة على غير مثال فتظهر أوصافها في كلّ زمان بوجه جديد وإن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، فهناك فرق بين تجديد الدين وبين إحياء الدين والقوم الآن حملوا التجديد بمعنى الإحياء وهذا خطأ فالتجديد شيء وإحياء الدين شيء آخر
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
هذا الوصف الإلهي للقصّة لا يعطي تناقضا بينه وبين قوله تعالى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) بمعنى أنّ موسى عليه السلام نسب فعل البلوغ له لوحده من غير أن يشرك معه فتاه في نسبة فعل البلوغ إليه وقد حكى الله ذلك على لسان موسى , لكن الله تعالى نسب في قوله ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) الفعل أي فعل البلوغ إليهما جميعا رغم أنّ موسى نسب الفعل عند إخبار فتاه إليه فقط ففهمنا هنا لماذا قال الله تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) ولم يقل مجمع البحرين أو مجمعهما , والجواب فلأنّ مجمع البحرين وبلوغه خاصّ بموسى وليس لفتاه فيه حظّ ونصيب
فعلمنا بأنّ قول موسى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) يشير إلى لقائه بالخضر أي يريد به الخضر ولن يجده إلا في مجمع البحرين فدلّ على أنّ مجمع البحرين أمر برزخي أو تقول روحي أو قدسي فهو معنى أكثر منه مكانا وجهة ووجهة وهذا المجمع لا بدّ فيه من علامة تدلّ عليه وهي نسيان الحوت ولا بدّ لفتى يقوم بحمل هذا الحوت كي ينساه فلو حمله موسى لربّما لا ينساه فذهبت الحضرة الموسوية بمقدّمها في هذا السفر وهذا غاية الأدب من سيدنا موسى عليه السلام فإنّه ذهب كلّه في هذا السفر ولم يترك منه بقيّة ظاهرا وباطنا لما يستوجبه المقام مع الله تعالى فقوله عليه السلام ( حتى أبلغ مجمع البحرين) يعطي عدم مشاركة فتاه فيه وفيه بيان الإختصاص به أي أنّه موقوف على موسى بخلاف قول الله تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) فهو ليس خاص بموسى لأنّ قوله ( مجمع بينهما ) ليس هو نفس قول موسى ( مجمع البحرين ) لذا قال الله تعالى ( مجمع بينهما ) وما قال ( مجمعهما) فانظر إلى تدقيق القرآن وحكمته في الوصف هذا يعطيك متى فهمت ما قصدته ترتيب المعاني والمراتب ترتيبا محكما نهاية في الإبداع لتعرف قدر القرآن إجمالا وتفصيلا
هنا في هذه الآية والآية التي قبلها تدرك بأنّهما من جنس مجمع البحرين أي أنّ الآيات في قصّة موسى والخضر إنقسمت إلى هذه القسمة فهي من مجمع البحرين أي من حقائق مجمع البحرين وأنت تعلم بأنّ هذا المجمع أختصّ به موسى دون فتاه ودون الخضر أيضا وسنبيّن في الصفحات القادمة كيف أنّ الخضر لم يكن مختصّا بمجمع البحرين فلو كان مختصّا به لأخذ بأقوال موسى وأقواله في نفس الوقت وهذا ما أحسنه لذا قال له ( ما فعلته عن أمري) فاعتذر في الأخير وردّ الحكمة إلى الله تعالى
فبلوغ موسى وفتاه مجمع بينهما أعطاه مقام الفتوّة فهذا حدّها خلاف ظهور موسى بإسمه زيادة عن فتوّته التي قام بها فتاه فهذا يتجاوز تعلّق همّة الفتوّة لأنّها بحار كبار وأين مقام الفتوّة من مقام موسى لذا غاب ذكر فتاه بمجرّد لقاء موسى بالخضر رغم أن هذا الفتى رأى الخضر ووجده مع موسى فرؤية الخضر خاصّة من هذا الوجه بمن بلغ مقام الفتوّة أمّا غير ذلك فلا بل هو خاصّ بالكبار
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
هنا إختفى ذكر البحرين وكنّى عنهما بضمير التثنية الغائب ولفظة هما لو تمعّنت فيها أخرجت منها علوما وفهوما فهي حرف الهاء - وحرف الميم - وحرف الألف أو تقول حرف الألف والهاء ثمّ حرف الميم وإنّما تأخّر حرف الألف لأنّه لا قيام للميم بغيره في هذا الوجه وقد ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال للخطيب لمّا جمعه في ضمير واحد مع الله تعالى ( بئس الخطيب أنت أتسوّيني بالله تعالى )
فليس المقصود في الحقيقة البحرين وإنّما المقصود هو مجمعهما والوصول لهذا محال وإنّما الوصول فقط لمجمع بينهما أي من وجه دون وجه فليس الأمر على إحاطته لذا جزم موسى ببلوغ هذا المجمع أي مجمع البحرين لكنّه لم يحسن فيه شيئا بل قيل له ( هذا فراق بيني وبينك) فطلب موسى هذه الوحدة بين البحرين فقيل له هذا محال أن يتحقّق لك لذا أرجعه الله تعالى في قوله ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) فهو مجمع بينهما وليس مجمعهما فهذا حال موسى كما قال سابقا ( ربّ أرني أنظر إليك) فهو طالب دوما عليه السلام وكلّ مرّة يقال له ( خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) ولو شئنا لذكرنا تفسير هذا النوع من الهمم الذين هم على أقدام موسى وكيف أنّهم يطلبون ما لا ينالون وهم يعلمون ذلك يقينا فهممهم لا تصبر ( لن تستطيع معي صبرا) هكذا قالت الفراسة العارفة بتوجّه الهمم
يتبع...
نسب الله تعالى إليهما فعل بلوغ مجمع بينهما رغم أنّ موسى في البداية جزم ببلوغه وحده لمجمع البحرين حينما أخبر فتاه بذلك لمّا عزم على طلب الخضر إلا أنّ الله تعالى أخبر في الآية أنّ بلوغ مجمع بينهما حصل من الإثنين ولم يختصّ به موسى لحاله فعلمنا بأنّ إخبار موسى لفتاه في حقيقته لا يتعلّق بذات المكان وإنّما تعلّق بحال وبعلم من لا يمكنه أن يجده في غير ذلك المكان وهو الخضر فظهر بذلك أنّ جزم موسى ببلوغ مجمع البحرين هو في الحقيقة جزم بملاقاة الخضر وإلا فالعارف تطوى له الأرض في لمحة فضلا عن غير ذلك ويكفي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى موسى يصلّي في قبره بعد موته وكذلك صلّى خلفه في المسجد الأقصى مع جميع الأنبياء والمرسلين ففهمنا بأنّ قول موسى لمّا أراد طلب الخضر ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) وكأنّه يقول ( لا أبرح حتى أجتمع بالخضر ) أو أمضيا حقبا في طلبه فقوله ( أو أمضي حقبا ) لا يتعلّق بالمكان بقدر ما هو متعلّق بالخضر فهذا وجه آخر في الآية الأولى وهي قوله تعالى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) مع الوجوه الأخرى التي ذكرتها في تفسير نفس الآية فهي وجوه متعدّدة وكلّها يعطيها ظاهر اللفظ أو مفهومه فلا يحجبك هذا عن هذا أو تزعم وجود تناقض فيما بينهما فتخرج من مجمع البحرين فلا تهتدي إليه إن كنت فهمت والسلام
وإنّما ذهبنا هذا المذهب الجديد لما يعطيه مدلول قوله تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما) فعلمنا بأنّه ما قال : ( فلمّا بلغا مجمع البحرين ) أو ( فلمّا بلغا مجمعهما ) كما ذكرت هذا سالفا لأنّه لو قال هذا لكان هناك تناقضا علميا في القرآن وهذا محال على الله تعالى ( ومن أصدق من الله قيلا ) أي لفظا ومعنى أو تقول حسّا ومعنى فافهم لذا أخذنا في تفسيرنا الآية الأولى ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق من غير توسّع في دلالة المعنى لأنّ المعنى مقيّد في اللفظ الدال عليه هذا من وجه ومن وجه آخر غير مقيّد به بل اللفظ مقيّد في المعنى وبه كان محمولا فحيثما حلّ المعنى حلّ معه اللفظ .فافهم
فلا بدّ أن توفّق في إعطاء المرتبتين حقّهما فهذا هو حكم النسب فلا بدّ من مراعاته والقرآن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات , فالمحكمات عندي هو المعنى الحقيقي للقرآن أمّا المتشابهات فهو اللفظ الظاهري فأمّا أهل اللفظ وهم أهل الظاهر فيتّبعون ما تشابه منه فأوقعهم ذلك في الشرك لمرض في قلوبهم وأمّا أهل رسوخ القدم في حضرة القدم فيقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا لأنّهم لا يرون سواه حسّا ومعنى , هذا ولا أنكر الفهم العام من الآية الذي نتشارك فيه جميعا ولكن القرآن لا تنقضي عجائبه لأنّه معجزة , فمتى كان معجزة في كلّ زمان فأين وجه إعجازه عندك إذا كنت لا تعوّل إلا على معجزته القديمة بل هو معجزة على غير مثال فتظهر أوصافها في كلّ زمان بوجه جديد وإن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، فهناك فرق بين تجديد الدين وبين إحياء الدين والقوم الآن حملوا التجديد بمعنى الإحياء وهذا خطأ فالتجديد شيء وإحياء الدين شيء آخر
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
هذا الوصف الإلهي للقصّة لا يعطي تناقضا بينه وبين قوله تعالى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) بمعنى أنّ موسى عليه السلام نسب فعل البلوغ له لوحده من غير أن يشرك معه فتاه في نسبة فعل البلوغ إليه وقد حكى الله ذلك على لسان موسى , لكن الله تعالى نسب في قوله ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) الفعل أي فعل البلوغ إليهما جميعا رغم أنّ موسى نسب الفعل عند إخبار فتاه إليه فقط ففهمنا هنا لماذا قال الله تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) ولم يقل مجمع البحرين أو مجمعهما , والجواب فلأنّ مجمع البحرين وبلوغه خاصّ بموسى وليس لفتاه فيه حظّ ونصيب
فعلمنا بأنّ قول موسى ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) يشير إلى لقائه بالخضر أي يريد به الخضر ولن يجده إلا في مجمع البحرين فدلّ على أنّ مجمع البحرين أمر برزخي أو تقول روحي أو قدسي فهو معنى أكثر منه مكانا وجهة ووجهة وهذا المجمع لا بدّ فيه من علامة تدلّ عليه وهي نسيان الحوت ولا بدّ لفتى يقوم بحمل هذا الحوت كي ينساه فلو حمله موسى لربّما لا ينساه فذهبت الحضرة الموسوية بمقدّمها في هذا السفر وهذا غاية الأدب من سيدنا موسى عليه السلام فإنّه ذهب كلّه في هذا السفر ولم يترك منه بقيّة ظاهرا وباطنا لما يستوجبه المقام مع الله تعالى فقوله عليه السلام ( حتى أبلغ مجمع البحرين) يعطي عدم مشاركة فتاه فيه وفيه بيان الإختصاص به أي أنّه موقوف على موسى بخلاف قول الله تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) فهو ليس خاص بموسى لأنّ قوله ( مجمع بينهما ) ليس هو نفس قول موسى ( مجمع البحرين ) لذا قال الله تعالى ( مجمع بينهما ) وما قال ( مجمعهما) فانظر إلى تدقيق القرآن وحكمته في الوصف هذا يعطيك متى فهمت ما قصدته ترتيب المعاني والمراتب ترتيبا محكما نهاية في الإبداع لتعرف قدر القرآن إجمالا وتفصيلا
هنا في هذه الآية والآية التي قبلها تدرك بأنّهما من جنس مجمع البحرين أي أنّ الآيات في قصّة موسى والخضر إنقسمت إلى هذه القسمة فهي من مجمع البحرين أي من حقائق مجمع البحرين وأنت تعلم بأنّ هذا المجمع أختصّ به موسى دون فتاه ودون الخضر أيضا وسنبيّن في الصفحات القادمة كيف أنّ الخضر لم يكن مختصّا بمجمع البحرين فلو كان مختصّا به لأخذ بأقوال موسى وأقواله في نفس الوقت وهذا ما أحسنه لذا قال له ( ما فعلته عن أمري) فاعتذر في الأخير وردّ الحكمة إلى الله تعالى
فبلوغ موسى وفتاه مجمع بينهما أعطاه مقام الفتوّة فهذا حدّها خلاف ظهور موسى بإسمه زيادة عن فتوّته التي قام بها فتاه فهذا يتجاوز تعلّق همّة الفتوّة لأنّها بحار كبار وأين مقام الفتوّة من مقام موسى لذا غاب ذكر فتاه بمجرّد لقاء موسى بالخضر رغم أن هذا الفتى رأى الخضر ووجده مع موسى فرؤية الخضر خاصّة من هذا الوجه بمن بلغ مقام الفتوّة أمّا غير ذلك فلا بل هو خاصّ بالكبار
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
هنا إختفى ذكر البحرين وكنّى عنهما بضمير التثنية الغائب ولفظة هما لو تمعّنت فيها أخرجت منها علوما وفهوما فهي حرف الهاء - وحرف الميم - وحرف الألف أو تقول حرف الألف والهاء ثمّ حرف الميم وإنّما تأخّر حرف الألف لأنّه لا قيام للميم بغيره في هذا الوجه وقد ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال للخطيب لمّا جمعه في ضمير واحد مع الله تعالى ( بئس الخطيب أنت أتسوّيني بالله تعالى )
فليس المقصود في الحقيقة البحرين وإنّما المقصود هو مجمعهما والوصول لهذا محال وإنّما الوصول فقط لمجمع بينهما أي من وجه دون وجه فليس الأمر على إحاطته لذا جزم موسى ببلوغ هذا المجمع أي مجمع البحرين لكنّه لم يحسن فيه شيئا بل قيل له ( هذا فراق بيني وبينك) فطلب موسى هذه الوحدة بين البحرين فقيل له هذا محال أن يتحقّق لك لذا أرجعه الله تعالى في قوله ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) فهو مجمع بينهما وليس مجمعهما فهذا حال موسى كما قال سابقا ( ربّ أرني أنظر إليك) فهو طالب دوما عليه السلام وكلّ مرّة يقال له ( خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) ولو شئنا لذكرنا تفسير هذا النوع من الهمم الذين هم على أقدام موسى وكيف أنّهم يطلبون ما لا ينالون وهم يعلمون ذلك يقينا فهممهم لا تصبر ( لن تستطيع معي صبرا) هكذا قالت الفراسة العارفة بتوجّه الهمم
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
تتمّة :
قال الله تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
فدلّ على أنّ بلوغ مجمع بينهما فيما تعطيه الإشارة ليس هو ذاتا مجمع البحرين الذي سأله موسى من سفره وطلبه من حيث المكان بل هو مكان للقاء الخضر فحسب من حيث إتّحاد المكان والزمان والحال وهذا لا يكون إلا بأمر إلهي ولا يحسن أحدا أن يصل إليه مجرّدا عن ذلك , ومجمع البحرين الذي هو عبارة عن إجتماع علوم الظاهر مع علوم الباطن في الأحكام والأوامر وهذا محال , وتفصيل هذا يطول إلاّ أنّي أذكر منه قليلا يفي بالغرض مع الفهم الجيّد للقارئ وفهم الأشائر الظاهرة من غير إلزام كلامي ما لا يحتمله بحسب سياق الموضوع : وذلك كون الأمر الشرعي المعبّر عنه بوحي الأحكام وهذا لا يكون إلا ببعثة رسول إلى قومه أو إلى الناس كافة فيأتيهم بشرع عامّ يجب على كلّ الناس ويتمثّل هذا الشرع في ركن الظاهر وهو ركن الإسلام , وركن الباطن وهو ركن الإيمان , وركن الإحسان وهو ركن العلوم والمعارف الإلهية من حيث التحقّق بحقيقة الإسلام والإيمان فالركن الثالث كالنتيجة أو خلاصة مقامي الإسلام والإيمان فهو في حقيقته الجزاء الموعود به على ألسنة الرسل فالإحسان هو الجزاء ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فهو حضرة الثواب وفي هذا المقام تعرف الأجور لأنّها بحسب النور , لذا هناك من ساداتنا من أهل الله من ذهب هذا المذهب في الدين أو نقول في التصوّف وذلك كونه قال بأنّ الإحسان فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة وبهذا قال الغزالي ومن نحا منحاه في هذا لذا حشر الإمام الغزالي في كتابه الإحياء جميع علوم الدين فسمّاه بإسمه الإحياء كي لا تنسى مقامات الدين أصولا وفروعا
وقد ذهب أيضا إلى هذا سيدي الشيخ أحمد زرّوق الفاسي رضي الله عنه في كتابه قواعد التصوّف وجعل أنّ الإحسان هو صدق التوجّه إلى الله تعالى فكلّ من حصل له شئ من هذا التوجّه حصل له نصيب من الإحسان وعليه يجازى بما أنّ الإحسان هو نتيجة العمل بالإسلام والإيمان لذا عمّم التصوّف سيدي أحمد زرّوق رضي الله عنه وجعل ضوابطه شرعية لهذا قعّد بتقعيده للتصوّف قواعد كلّ علم فأخذ الظاهر بمقياس الباطن والباطن بمقياس الظاهر حتى أنّه أشتهر عنه بالسلوك بالكتاب والسنّة وقد قالوا بأنّه قال بإنقطاع التربية فما بقي إلا التربية بالهمّة والحال والتمسّك بالكتاب والسنّة , وهذا القول خالفه فيه بعض أهل الله ومنهم من حمله وأوّله على وجوه كسدّ للباب على المدّعين في زمنه أو شئ من هذا القبيل , والذي أميل إليه أنّ الشيخ زرّوق رضي الله عنه ما قال هذا القول على ظاهره وإنّما على إفتراض قوله وإرادة ظاهره فإنّه بسبب ما عليه طريقته من حيث تفسيرة ومنهاجه في التصوّف وأنّه ليس خاصّ بأحد دون أحد بل جميع الأمّة لها منه حظّا ونصيبا فدمج مقامات الدين الثلاث مع بعضها وأنّ لكلّ مؤمن له فيها حظّ ونصيب
فإنّ القوم قالوا في التصوّف أقوالا بحسب مدارسهم وفهمهم للدين وهذه تعتبر مذاهب في التصوّف أو تقول طرق ونظريات في التربية والإرشاد ومن نحا أيضا هذا المنحى في العصر الحديث الشيخ أحمد كفتارو النقشبندي رحمه الله تعالى فأراد بالقوم ما أراده الشيخ زرّوق رضي الله عنه وكذلك الغزالي ومن جرى مجراهم رضي الله عنهم أجمعين
فهذه الأحكام الشرعية التي أمر الله بها ورسوله عن طريق وحي الأحكام وتنزيل الكتب هي المرادة لموسى بما أنّه يستمدّ من حضرة هذا الوحي وهو وحي التشريع بحسب الحوادث والوقائع وهذا الوحي حجّة لله تعالى على عباده وهو الأصل الذي يرجع إليه كلّما إختلف القوم وهذا ما نحن مأمورون به في الآية وذلك قوله تعالى : (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول )
أي ردّوه إلى الحضرتين : الحضرة الإلهية والحضرة المحمدية لأنّهما محلّ الهداية والعصمة من الضلال لذا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( متى خالف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فدع الكشف جانبا واعمل بالكتاب والسنّة وقل إنّ الله ضمن لي العصمة في الكتاب والسنّة ولم يضمنها لي في جانب الكشف )
فانظر ورع الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه كيف قال ( كشفك الصحيح ) مع العلم بأنّ الكشف الصحيح لا يمكن أن يخالف الكتاب والسنّة فرغم هذا ولو حدث هذا وهذا محال فاعمل بالكتاب والسنّة ودع الكشف جانبا وهذا ما ذهب إليه موسى في قصّته مع الخضر فما بالك بكشف غيره فافهم لأنّ الحجّة هي الأحكام الشرعية وبهذا حاجج موسى الخضر ومن حاجج بهما بنيّة صادقة نجا فما بالك بالرسول وهو صاحب الشرع وقطب زمانه والقوم يريدونه أن يسكت فانظر إلى علم سيدنا موسى عليه السلام تفهم رسوخ قدمه في الحقائق والأدب
قلت : موسى بعدما عوتب لعدم إرجاعه العلم إلى الله تعالى وأوحى الله إليه بأنّه ما جمع العلم كلّه لذا ما صبر موسى كعادته في طلب المزيد فكان لن يسكت حتى يطلب العالم في زمنه ولا يستنكف أن يتعلّم منه , فعلم عليه السلام حقيقة هذا العلم الذي غاب عنه لذا عرف مكانه فرمز إليه في قوله ( مجمع البحرين ) فأشار إليه الله تعالى في قوله ( مجمع بينهما ) وكأنّه ردّه إلى أنّ ذلك الأمر الذي طلبته يا موسى صعب التحقيق فكلّ عبد وله علومه الخاصّة وأنّ تلك المرتبة التي طلبها موسى في قوله ( مجمع البحرين ) خاصّة بسيّد الوجود صلى الله عليه وسلّم فطلب موسى عوالي العلم بعالي الهمّة فما فهمه موسى ما فهمه لا الخضر ولا فتاه فموسى كان في كلّ سفره يعامل الله تعالى وما عامل الخضر ولا فتاه وكيف لا وهو لا يرى في الوجود سواه
وإنّما ردّه إلى حكم النسب العلمية من حيث التجليات وأنّه كلّ يوم في شأن فكان موسى عالي العلم حاذق الفهم كيف لا وهو من أولي العزم من الرسل , فعلى قدر فرعون الذي بعث إليه في الكفر كان قدر موسى في الإيمان والرسوخ فيه وزيادة
قلت : الأحكام الشرعية التي وردت وحيا ونصّا موقوفا لها الغلبة هنا وهناك ( لئلاّ يكون للناّس حجّة بعد الرسل ) فما قال بعد الأنبياء لأنّ علوم الحجّة وقعت بالرسالة وليست بالنبوّة فافهم
فالأحكام الشرعية هي حجّة الله البالغة وهي التي حاجج بها موسى وكذلك جميع الرسل
أمّا : حجّة الخضر فهي من وحي الإلهام أو تقول من الواردات الصافية وهو الأمر بالوارد لأنّ حقيقة الأمر الإلهي فيه تفصيل في التحقيق : هناك الأمر الإلهي الوارد بالنصّ وهي الأحكام الشرعية , وهناك الأمر بالوارد القلبي بالنسبة للعارفين ثمّ هناك الأمر بالهاتف الكوني وهو خاص أيضا بالعارفين أهل اليقين فكيف تحسن أن توفّق بين هذه الثلاثة متى جاءتك في وقت واحد وجاءت مختلفة لذا حذّرك من هذا الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه رغم أنّ هذا محال لأنّه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ,ولكنّه لعلمنا أنّ الأمر من عند الله فليس فيه إختلاف البتّة وإنّما هو مجرّد مثال نسوقه لنبيّن حقيقة تناسق الأوامر حضراتها وترتيبها والعارف الحقيقي يدور مع الحقّ حيثما دار ولا يتّبع هوى أحد من الناس مهما كان لأنّ العلم يدلّ على الله تعالى والهوى يدلّ على النفس فلو أنّك إتّبعت أحدا في هواه فإنّك دللته على نفسك فأحبّها وأنت مأمور بالدلالة على الله تعالى
فموسى رام الجمع بين الظاهر والباطن في نفس الوقت فيخرج بهذين الحكمين في نفس الوقت في باب طاعة الأوامر من حضرة الإسلام والإيمان والإحسان وهذا الأمر لا يحسنه أحدا من الناس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودليل هذا أنّه عرج به جسما وروحا يقظة ومشافهة فانجمع ظاهره مع باطنه وباطنه مع ظاهره في الإسراء والمعراج أمّا ما يحدث لأولياء أمّته فهو أمر روحانيّا ليس فيه من أحكام الجسم من شيء فظهر أنّ أهل الولاية هم ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأين الظلّ من الأصل.
قلت : الرسول من حيث هو رسول لا يمكنه أن يجمع التشريع الظاهري والباطني هنا في الحياة الدنيا لذا أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولّى السرائر وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد قال ( ما أمرني الله تعالى أن أخرق قلوب الناس...) أو كما قال عليه السلام
فطلب موسى إتّحاد العلمين والظهور بالنسبتين لذا رام بلوغ ( مجمع البحرين ) فردّه الله تعالى في قوله ( فلمّا بلغ مجمع بينهما) إشارة خفيّة وعبارة جليّة لمن فهم سرّ الخطاب وكان بسرّه مع الأحباب
فمجمع بينهما ليس هو مجمع البحرين على ما تعطيه الإشارة لأنّه لو كان المقصود كما سأل موسى لقال ( فلمّا بلغا مجمعهما ) بل ولأفرد موسى بالخطاب فقال ( فلمّا بلغ مجمعهما) فإستثنى فتاه , أمّا وأنّه لم يستثن فتاه وما قال مجمعهما بل قال ( مجمع بينهما ) علمنا الإشارة في الآية فبنينا عليها ذلك الفهم ومع ما تعطيه طبيعة الخضر وموسى من حيث التحقيق في العلوم ومن حيث الحضرات والنسب فافهم
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) بلوغ مجمع بينهما ليس مختصّا بموسى دون فتاه لذا أشركه معه في الضمير في البلوغ وفي نسيان الحوت وفي نسبة الحوت إليهما جميعا فعلمنا أنّ فتاه ما زال مع موسى في حضرته بل إنّما في حضرة واحدة لذا ظهرت سلطانية روح الفتى في هذه الحضرة فصاحب روح موسى أمّا عندما لقي موسى الخضر واجتمع به غاب ذكر الفتى وكأنّه خفي أو تقول غابت روحانيته بظهور أصحاب الروحانيات الكبرى وهما الخضر وموسى أو تقول غابت الفتوّة في حضرة القطبانية والفردانية فما بقي لها أثرا فما صاحب الخضر غير موسى سواء أكان معه فتاه أم لا وهذا سنأتي عليه بالتفصيل الدقيق إن شاء الله تعالى
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
قلت : قال علماء التفسير ( مجمع بينهما ) هو مجمع البحرين أعني علماء التفسير بالمنقول والمعقول وهذا الذي عليه المعتمد
أمّا لو نظرنا إلى هذه الآية من حيث حقائقها لوجدناها تتسع إلى كثير من العلوم التي يعطيها مدلول الحرف معنى وإن لم يكن لفظا منطوقا , ( ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) كذلك هذا القول يشمل ذكر العلاقة بين موسى وفتاه من حيث المراتب أي حقيقة الفتى وحقيقة موسى وكأنّ حدّ الصحبة وما تعطيه حقائق الفتى ينتهي هنا في مجمع بينهما ولا طاقة للفتى على غير ذلك وليس مرادا ولا معنيا بما هنالك , فكان حدّ الصحبة هو هذا المجمع أعني المجمع الذي يجمع بين موسى وفتاه ينتهي في هذه النقطة وهي نقطة نسيان الحوت فإنّ الفتى لمّا نسي الحوت فهو دليل على أنّ صحبته لموسى وفي معرفة حقائقه ينتهي في هذه الدرجة ولا يتجاوزها وكأنّ : موسى يقول لفتاه : العلم الذي يجمع بيني وبينك لا يتجاوز هذه النقطة وهذا المبلغ فعلمنا مستقرّ مقام الفتوّة ونهايتها وهي مقام صفاتي نوراني ففيه سارت مع موسى لأنّ السير شيء والوصول شيء آخر , كما قال الصحابة في إنشادهم قصيدة : طلع البدر علينا حين قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما ذكروا فيها أبو بكر وكأنّه ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهل إذا طلعت الشمس بقي أثر للنجوم والقمر ومتى تجلّت الحضرة الإلهية فهل هناك بقاء للحضرة المحمدية , فالعزيمة إلهية والرخصة محمدية , والفرق بينهما كما الفرق بين الوضوء والتيمّم , متى عدم الماء جنح المسلم إلى الصعيد وإن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤدى عزائمه
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فنسب لهما البلوغ والنسيان والحوت في ضمير مثنّى واحد وهذا يعطينا حقائق ما تعطيه الصحبة في طريق الله تعالى وكلّما محشورة في حديث خير خلق الله صلى الله عليه وسلّم في حقيقة المؤمنين وأنّهم مثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى كامل الجسد للسّهر والحمّى وهذا لا يكون إلا بالفناء في المحبّة فكان نسبة الضمير في هذا إليهما جميعا لما كانوا عليه من حقائق الصحبة وما تعطيه حتّى أنّ الأولياء في هذا يطعمون بعضهم على البعد فيأكل هذا في مشرق الشمس بنيّة أن يشبع أخوه في مغربها فتنزل اللقمة في بطن أخيه على البعد هكذا وهذا من الكرامات لكنّه عند أهله من الواجبات وهذا اللون من معاني مقام الفتوّة ولا يحسنه إلا الفتيان ...
لذا عبّر عنهما بضمير واحد في البلوغ والنسيان والحوت وإنّما نسب الله لهما النسيان لأنّ القوم لا تعلّق لهم في هذا المحلّ بغذاء الأشباح ولا يخطر في هذا المكان على قلوبهم ومنه تفهم قصص الأولياء في مكوث الأزمنة الطويلة ولا يطعمون ولا يجوعون بل منهم من مكث سنة ما أكل وما شرب كأبي يزيد وغيره وهذا مشاع في الكرامات فلا إعتراض عليهم والله على كل شيء قدير
فعلامة النسيان في حقيقتهما ممدحة لهما فعلمنا شدّة إرتباطهما ببلوغ الخضر فأكرم الله فتى موسى بالإجتماع مع الخضر في قوله (فوجدا عبدا من عبادنا)
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) نسب الحوت إليهما وكأنّه ملك لهما فأعطى هذا أنّ الحوت كان من جنس حقيقتيهما لذا أحياه الله تعالى وإتّخذ سبيله في البحر سربا فدلّ على حياة قلب حامله وهو فتى موسى فانظر يا أخي حقيقة أهل الولاية حباك الله بفضله
يتبع...
قال الله تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
فدلّ على أنّ بلوغ مجمع بينهما فيما تعطيه الإشارة ليس هو ذاتا مجمع البحرين الذي سأله موسى من سفره وطلبه من حيث المكان بل هو مكان للقاء الخضر فحسب من حيث إتّحاد المكان والزمان والحال وهذا لا يكون إلا بأمر إلهي ولا يحسن أحدا أن يصل إليه مجرّدا عن ذلك , ومجمع البحرين الذي هو عبارة عن إجتماع علوم الظاهر مع علوم الباطن في الأحكام والأوامر وهذا محال , وتفصيل هذا يطول إلاّ أنّي أذكر منه قليلا يفي بالغرض مع الفهم الجيّد للقارئ وفهم الأشائر الظاهرة من غير إلزام كلامي ما لا يحتمله بحسب سياق الموضوع : وذلك كون الأمر الشرعي المعبّر عنه بوحي الأحكام وهذا لا يكون إلا ببعثة رسول إلى قومه أو إلى الناس كافة فيأتيهم بشرع عامّ يجب على كلّ الناس ويتمثّل هذا الشرع في ركن الظاهر وهو ركن الإسلام , وركن الباطن وهو ركن الإيمان , وركن الإحسان وهو ركن العلوم والمعارف الإلهية من حيث التحقّق بحقيقة الإسلام والإيمان فالركن الثالث كالنتيجة أو خلاصة مقامي الإسلام والإيمان فهو في حقيقته الجزاء الموعود به على ألسنة الرسل فالإحسان هو الجزاء ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فهو حضرة الثواب وفي هذا المقام تعرف الأجور لأنّها بحسب النور , لذا هناك من ساداتنا من أهل الله من ذهب هذا المذهب في الدين أو نقول في التصوّف وذلك كونه قال بأنّ الإحسان فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة وبهذا قال الغزالي ومن نحا منحاه في هذا لذا حشر الإمام الغزالي في كتابه الإحياء جميع علوم الدين فسمّاه بإسمه الإحياء كي لا تنسى مقامات الدين أصولا وفروعا
وقد ذهب أيضا إلى هذا سيدي الشيخ أحمد زرّوق الفاسي رضي الله عنه في كتابه قواعد التصوّف وجعل أنّ الإحسان هو صدق التوجّه إلى الله تعالى فكلّ من حصل له شئ من هذا التوجّه حصل له نصيب من الإحسان وعليه يجازى بما أنّ الإحسان هو نتيجة العمل بالإسلام والإيمان لذا عمّم التصوّف سيدي أحمد زرّوق رضي الله عنه وجعل ضوابطه شرعية لهذا قعّد بتقعيده للتصوّف قواعد كلّ علم فأخذ الظاهر بمقياس الباطن والباطن بمقياس الظاهر حتى أنّه أشتهر عنه بالسلوك بالكتاب والسنّة وقد قالوا بأنّه قال بإنقطاع التربية فما بقي إلا التربية بالهمّة والحال والتمسّك بالكتاب والسنّة , وهذا القول خالفه فيه بعض أهل الله ومنهم من حمله وأوّله على وجوه كسدّ للباب على المدّعين في زمنه أو شئ من هذا القبيل , والذي أميل إليه أنّ الشيخ زرّوق رضي الله عنه ما قال هذا القول على ظاهره وإنّما على إفتراض قوله وإرادة ظاهره فإنّه بسبب ما عليه طريقته من حيث تفسيرة ومنهاجه في التصوّف وأنّه ليس خاصّ بأحد دون أحد بل جميع الأمّة لها منه حظّا ونصيبا فدمج مقامات الدين الثلاث مع بعضها وأنّ لكلّ مؤمن له فيها حظّ ونصيب
فإنّ القوم قالوا في التصوّف أقوالا بحسب مدارسهم وفهمهم للدين وهذه تعتبر مذاهب في التصوّف أو تقول طرق ونظريات في التربية والإرشاد ومن نحا أيضا هذا المنحى في العصر الحديث الشيخ أحمد كفتارو النقشبندي رحمه الله تعالى فأراد بالقوم ما أراده الشيخ زرّوق رضي الله عنه وكذلك الغزالي ومن جرى مجراهم رضي الله عنهم أجمعين
فهذه الأحكام الشرعية التي أمر الله بها ورسوله عن طريق وحي الأحكام وتنزيل الكتب هي المرادة لموسى بما أنّه يستمدّ من حضرة هذا الوحي وهو وحي التشريع بحسب الحوادث والوقائع وهذا الوحي حجّة لله تعالى على عباده وهو الأصل الذي يرجع إليه كلّما إختلف القوم وهذا ما نحن مأمورون به في الآية وذلك قوله تعالى : (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول )
أي ردّوه إلى الحضرتين : الحضرة الإلهية والحضرة المحمدية لأنّهما محلّ الهداية والعصمة من الضلال لذا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( متى خالف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فدع الكشف جانبا واعمل بالكتاب والسنّة وقل إنّ الله ضمن لي العصمة في الكتاب والسنّة ولم يضمنها لي في جانب الكشف )
فانظر ورع الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه كيف قال ( كشفك الصحيح ) مع العلم بأنّ الكشف الصحيح لا يمكن أن يخالف الكتاب والسنّة فرغم هذا ولو حدث هذا وهذا محال فاعمل بالكتاب والسنّة ودع الكشف جانبا وهذا ما ذهب إليه موسى في قصّته مع الخضر فما بالك بكشف غيره فافهم لأنّ الحجّة هي الأحكام الشرعية وبهذا حاجج موسى الخضر ومن حاجج بهما بنيّة صادقة نجا فما بالك بالرسول وهو صاحب الشرع وقطب زمانه والقوم يريدونه أن يسكت فانظر إلى علم سيدنا موسى عليه السلام تفهم رسوخ قدمه في الحقائق والأدب
قلت : موسى بعدما عوتب لعدم إرجاعه العلم إلى الله تعالى وأوحى الله إليه بأنّه ما جمع العلم كلّه لذا ما صبر موسى كعادته في طلب المزيد فكان لن يسكت حتى يطلب العالم في زمنه ولا يستنكف أن يتعلّم منه , فعلم عليه السلام حقيقة هذا العلم الذي غاب عنه لذا عرف مكانه فرمز إليه في قوله ( مجمع البحرين ) فأشار إليه الله تعالى في قوله ( مجمع بينهما ) وكأنّه ردّه إلى أنّ ذلك الأمر الذي طلبته يا موسى صعب التحقيق فكلّ عبد وله علومه الخاصّة وأنّ تلك المرتبة التي طلبها موسى في قوله ( مجمع البحرين ) خاصّة بسيّد الوجود صلى الله عليه وسلّم فطلب موسى عوالي العلم بعالي الهمّة فما فهمه موسى ما فهمه لا الخضر ولا فتاه فموسى كان في كلّ سفره يعامل الله تعالى وما عامل الخضر ولا فتاه وكيف لا وهو لا يرى في الوجود سواه
وإنّما ردّه إلى حكم النسب العلمية من حيث التجليات وأنّه كلّ يوم في شأن فكان موسى عالي العلم حاذق الفهم كيف لا وهو من أولي العزم من الرسل , فعلى قدر فرعون الذي بعث إليه في الكفر كان قدر موسى في الإيمان والرسوخ فيه وزيادة
قلت : الأحكام الشرعية التي وردت وحيا ونصّا موقوفا لها الغلبة هنا وهناك ( لئلاّ يكون للناّس حجّة بعد الرسل ) فما قال بعد الأنبياء لأنّ علوم الحجّة وقعت بالرسالة وليست بالنبوّة فافهم
فالأحكام الشرعية هي حجّة الله البالغة وهي التي حاجج بها موسى وكذلك جميع الرسل
أمّا : حجّة الخضر فهي من وحي الإلهام أو تقول من الواردات الصافية وهو الأمر بالوارد لأنّ حقيقة الأمر الإلهي فيه تفصيل في التحقيق : هناك الأمر الإلهي الوارد بالنصّ وهي الأحكام الشرعية , وهناك الأمر بالوارد القلبي بالنسبة للعارفين ثمّ هناك الأمر بالهاتف الكوني وهو خاص أيضا بالعارفين أهل اليقين فكيف تحسن أن توفّق بين هذه الثلاثة متى جاءتك في وقت واحد وجاءت مختلفة لذا حذّرك من هذا الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه رغم أنّ هذا محال لأنّه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ,ولكنّه لعلمنا أنّ الأمر من عند الله فليس فيه إختلاف البتّة وإنّما هو مجرّد مثال نسوقه لنبيّن حقيقة تناسق الأوامر حضراتها وترتيبها والعارف الحقيقي يدور مع الحقّ حيثما دار ولا يتّبع هوى أحد من الناس مهما كان لأنّ العلم يدلّ على الله تعالى والهوى يدلّ على النفس فلو أنّك إتّبعت أحدا في هواه فإنّك دللته على نفسك فأحبّها وأنت مأمور بالدلالة على الله تعالى
فموسى رام الجمع بين الظاهر والباطن في نفس الوقت فيخرج بهذين الحكمين في نفس الوقت في باب طاعة الأوامر من حضرة الإسلام والإيمان والإحسان وهذا الأمر لا يحسنه أحدا من الناس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودليل هذا أنّه عرج به جسما وروحا يقظة ومشافهة فانجمع ظاهره مع باطنه وباطنه مع ظاهره في الإسراء والمعراج أمّا ما يحدث لأولياء أمّته فهو أمر روحانيّا ليس فيه من أحكام الجسم من شيء فظهر أنّ أهل الولاية هم ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأين الظلّ من الأصل.
قلت : الرسول من حيث هو رسول لا يمكنه أن يجمع التشريع الظاهري والباطني هنا في الحياة الدنيا لذا أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولّى السرائر وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد قال ( ما أمرني الله تعالى أن أخرق قلوب الناس...) أو كما قال عليه السلام
فطلب موسى إتّحاد العلمين والظهور بالنسبتين لذا رام بلوغ ( مجمع البحرين ) فردّه الله تعالى في قوله ( فلمّا بلغ مجمع بينهما) إشارة خفيّة وعبارة جليّة لمن فهم سرّ الخطاب وكان بسرّه مع الأحباب
فمجمع بينهما ليس هو مجمع البحرين على ما تعطيه الإشارة لأنّه لو كان المقصود كما سأل موسى لقال ( فلمّا بلغا مجمعهما ) بل ولأفرد موسى بالخطاب فقال ( فلمّا بلغ مجمعهما) فإستثنى فتاه , أمّا وأنّه لم يستثن فتاه وما قال مجمعهما بل قال ( مجمع بينهما ) علمنا الإشارة في الآية فبنينا عليها ذلك الفهم ومع ما تعطيه طبيعة الخضر وموسى من حيث التحقيق في العلوم ومن حيث الحضرات والنسب فافهم
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) بلوغ مجمع بينهما ليس مختصّا بموسى دون فتاه لذا أشركه معه في الضمير في البلوغ وفي نسيان الحوت وفي نسبة الحوت إليهما جميعا فعلمنا أنّ فتاه ما زال مع موسى في حضرته بل إنّما في حضرة واحدة لذا ظهرت سلطانية روح الفتى في هذه الحضرة فصاحب روح موسى أمّا عندما لقي موسى الخضر واجتمع به غاب ذكر الفتى وكأنّه خفي أو تقول غابت روحانيته بظهور أصحاب الروحانيات الكبرى وهما الخضر وموسى أو تقول غابت الفتوّة في حضرة القطبانية والفردانية فما بقي لها أثرا فما صاحب الخضر غير موسى سواء أكان معه فتاه أم لا وهذا سنأتي عليه بالتفصيل الدقيق إن شاء الله تعالى
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
قلت : قال علماء التفسير ( مجمع بينهما ) هو مجمع البحرين أعني علماء التفسير بالمنقول والمعقول وهذا الذي عليه المعتمد
أمّا لو نظرنا إلى هذه الآية من حيث حقائقها لوجدناها تتسع إلى كثير من العلوم التي يعطيها مدلول الحرف معنى وإن لم يكن لفظا منطوقا , ( ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) كذلك هذا القول يشمل ذكر العلاقة بين موسى وفتاه من حيث المراتب أي حقيقة الفتى وحقيقة موسى وكأنّ حدّ الصحبة وما تعطيه حقائق الفتى ينتهي هنا في مجمع بينهما ولا طاقة للفتى على غير ذلك وليس مرادا ولا معنيا بما هنالك , فكان حدّ الصحبة هو هذا المجمع أعني المجمع الذي يجمع بين موسى وفتاه ينتهي في هذه النقطة وهي نقطة نسيان الحوت فإنّ الفتى لمّا نسي الحوت فهو دليل على أنّ صحبته لموسى وفي معرفة حقائقه ينتهي في هذه الدرجة ولا يتجاوزها وكأنّ : موسى يقول لفتاه : العلم الذي يجمع بيني وبينك لا يتجاوز هذه النقطة وهذا المبلغ فعلمنا مستقرّ مقام الفتوّة ونهايتها وهي مقام صفاتي نوراني ففيه سارت مع موسى لأنّ السير شيء والوصول شيء آخر , كما قال الصحابة في إنشادهم قصيدة : طلع البدر علينا حين قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما ذكروا فيها أبو بكر وكأنّه ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهل إذا طلعت الشمس بقي أثر للنجوم والقمر ومتى تجلّت الحضرة الإلهية فهل هناك بقاء للحضرة المحمدية , فالعزيمة إلهية والرخصة محمدية , والفرق بينهما كما الفرق بين الوضوء والتيمّم , متى عدم الماء جنح المسلم إلى الصعيد وإن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤدى عزائمه
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فنسب لهما البلوغ والنسيان والحوت في ضمير مثنّى واحد وهذا يعطينا حقائق ما تعطيه الصحبة في طريق الله تعالى وكلّما محشورة في حديث خير خلق الله صلى الله عليه وسلّم في حقيقة المؤمنين وأنّهم مثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى كامل الجسد للسّهر والحمّى وهذا لا يكون إلا بالفناء في المحبّة فكان نسبة الضمير في هذا إليهما جميعا لما كانوا عليه من حقائق الصحبة وما تعطيه حتّى أنّ الأولياء في هذا يطعمون بعضهم على البعد فيأكل هذا في مشرق الشمس بنيّة أن يشبع أخوه في مغربها فتنزل اللقمة في بطن أخيه على البعد هكذا وهذا من الكرامات لكنّه عند أهله من الواجبات وهذا اللون من معاني مقام الفتوّة ولا يحسنه إلا الفتيان ...
لذا عبّر عنهما بضمير واحد في البلوغ والنسيان والحوت وإنّما نسب الله لهما النسيان لأنّ القوم لا تعلّق لهم في هذا المحلّ بغذاء الأشباح ولا يخطر في هذا المكان على قلوبهم ومنه تفهم قصص الأولياء في مكوث الأزمنة الطويلة ولا يطعمون ولا يجوعون بل منهم من مكث سنة ما أكل وما شرب كأبي يزيد وغيره وهذا مشاع في الكرامات فلا إعتراض عليهم والله على كل شيء قدير
فعلامة النسيان في حقيقتهما ممدحة لهما فعلمنا شدّة إرتباطهما ببلوغ الخضر فأكرم الله فتى موسى بالإجتماع مع الخضر في قوله (فوجدا عبدا من عبادنا)
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) نسب الحوت إليهما وكأنّه ملك لهما فأعطى هذا أنّ الحوت كان من جنس حقيقتيهما لذا أحياه الله تعالى وإتّخذ سبيله في البحر سربا فدلّ على حياة قلب حامله وهو فتى موسى فانظر يا أخي حقيقة أهل الولاية حباك الله بفضله
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
الحمد لله العليم الحكيم
والصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم وآله وصحبه
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
فمدحهما بالبلوغ وهو الشريعة , ومدحهما بالنسيان وهو الحقيقة , فكان بحر الشريعة لا يفضي إلا إلى بحر الحقيقة لذا تجرّدا في هذا المحلّ من أحكام الظاهر وهي الشريعة بمجرّد بلوغهما مجمع بينهما لذا نسيا الحوت أو تقول لمّا كملت شريعتيهما ووفيّاها حقّها تجلّت عليهما أحكام الحقيقة لذا قال عليه الصلاة والسلام ( رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما إستكرهوا عليه ) فالخطأ شريعة وفيها تميّز الصواب من الخطأ , والنسيان حقيقة لأنّه يفضي إلى التشريع لذا كان عليه الصلاة والسلام ينسيه ربّه ليقرّر أحكام الشريعة في الرخصة وجبر الفائت وهذا له حكمه
أمّا ( ما إستكرهو عليه ) فهو علم القضاء والقدر , وقد زلّ هنا جملة من المريدين أو أقول المشائخ العارفين فلم يميّزوا بين هذه المراتب
فنسيا حوتهما : بداية العرض للحقائق بعد سفر الرقائق , فكان نسيان موسى لذا قال له ( ذلك ما كنّا نبغ) وكأنّه يبحث عن النسيان فوجده وتلك بغيته لذا رجع إلى محلّ نسيانه ليس لغذاء البشرية بل لغذاء الروحانية لأنّها أمارة على مكان وجود الخضر فكانت بغيته حصول النسيان الذي ما أخبر به فتاه لذا رجع فتاه إلى الشريعة لأنّه فتاه تحت حكم وارد علومه ومنها يشرب فقال ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) فما عقّب موسى على قوله لعلمه بحضرة هذا القول وإنّما ذكر الله تعالى هذا لينبّه على حضرة الفتى فلا تجهل وحسن أدبه وفهمه لذا تنصّل الفتى من وزر النسيان فنسبه إلى الشيطان إخبارا منه أنّه مع موسى ظاهرا وباطنا وليس ما حصل تقصيرا منه أو تهاونا وكأنّه أحسّ بالذنب لفنائه في مرادات محبوبه ولإتّهامه نفسه وأنّ الشيطان لا يتركها فانظر إلى هذا الأدب العالي من الفتى وإلا فكيف يكون فتاه , فإعتذاره رقيق دقيق لأنّه فتى عليهما السلام
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
دلالة على عزمهما وحسن قصدهما فأسعفتهم الحضرة ظاهرا وباطنا وسترت عنهما النقص وجبرت والله رحيم بعباده
سترت عنهما النقص من حيث عجزهما عن بلوغ مجمع البحرين , وسترتهما من حيث قوله ( مجمع بينهما ) فتفطّن إلى رحمة الحضرة وسترها وعفوها وأنت لست بأحسن من موسى ولا فتاه فاستغفر وتب إلى الله من التقصير وإيّاك أن تدّعي شيئا أو تصول وتجول بل كن عبدا محضا وإلا فلا يقبل منك
( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) يعطي التواضع فيما بينهما والإيثارلذا ذكرهما في ضمير واحد فانظر تواضع موسى مع فتاه وحمله إيّاه بهمّته وهكذا حال الشيوخ الكبار مع مريديهم قال سيدي أبو الحسن الشاذلي أو غيره الشكّ منّي ( أنا أوصل مريدي إلى الله تعالى بنظرة ) وقال غيره ( بمذاكرة ) وهذا له تفسير ليس هذا مجاله , وهذا ما لم يقدر عليه الخضر مع موسى وهو تلميذه فما حمل عنه شيئا بل فارقه وهذا له علومه من حيث الفردانية فإنّها لا تحمل شيئا عن المريدين خلاف القطبانية فهي حمّالة لذا كان القطب خليفة خلاف الفرد فهو ليس خليفة لذا لا يحمل إلا نفسه وهذا تراه في قصّة الأفراد وأن ليس لهم مريدين أو قليلين جدا ويأتي النبيّ يوم القيامة وليس معه أحد ويأتي ومعه الرهط والرهطان .فافهم
فحمل موسى فتاه وما حمل الخضر موسى وكيف يحسن أن يحمل الوليّ نبيّا ورسول من أولي العزم وسنذكر في المستقبل بحول الله كيف كان التعليم فيما بينهما بما لم تره قطّ مسطّرا في كتاب
فظهرت في هذه الآية فتوّة موسى من حيث الإثار والتواضع والحزم والعزم ...إلخ والوارد يحدّثني بذكر فتوّة محمد صلى الله عليه وسلّم فإنّها تتيه فيها العقول لكن حكم الواردات في هذا المجال حكم الجنّة ( وفاكهة ممّا يتخيّرون ولحم طير ممّا يشتهون ) وإنّما ذكر الفاكهة لأنّها ألوان يقع فيها التخيير أمّا الطير وهو شهوة الأرواح فهو دليل الحال فلا إنفكاك عنه ...فافهم وهكذا هي الواردات وما الدين إلا الجنّة لذا علّق عليها الأجر من هذا الدين من غير إلتفات له بالنفس بل بالله تعالى وهنا بحور من الحقائق أوردتها الآيات والأحاديث
قال تعالى ( فلمّا بلغا ) إختار فعل البلوغ على غيره من الأفعال لأنّه حمّال حقائق منها الوصول ومنها الرشد الظاهري العقلي والباطني الروحي فدلّ على أنّهما من كمّل العارفين ودلّ على أنّ علم الحقيقة لا يناله إلا بالغ راشد ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) والإستواء هو الوسطية في الجمال والجلال وهو الصراط المستقيم فليس كلّ من بلغ أربعين سنة إستوى فافهم
يتبع...
والصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم وآله وصحبه
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
فمدحهما بالبلوغ وهو الشريعة , ومدحهما بالنسيان وهو الحقيقة , فكان بحر الشريعة لا يفضي إلا إلى بحر الحقيقة لذا تجرّدا في هذا المحلّ من أحكام الظاهر وهي الشريعة بمجرّد بلوغهما مجمع بينهما لذا نسيا الحوت أو تقول لمّا كملت شريعتيهما ووفيّاها حقّها تجلّت عليهما أحكام الحقيقة لذا قال عليه الصلاة والسلام ( رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما إستكرهوا عليه ) فالخطأ شريعة وفيها تميّز الصواب من الخطأ , والنسيان حقيقة لأنّه يفضي إلى التشريع لذا كان عليه الصلاة والسلام ينسيه ربّه ليقرّر أحكام الشريعة في الرخصة وجبر الفائت وهذا له حكمه
أمّا ( ما إستكرهو عليه ) فهو علم القضاء والقدر , وقد زلّ هنا جملة من المريدين أو أقول المشائخ العارفين فلم يميّزوا بين هذه المراتب
فنسيا حوتهما : بداية العرض للحقائق بعد سفر الرقائق , فكان نسيان موسى لذا قال له ( ذلك ما كنّا نبغ) وكأنّه يبحث عن النسيان فوجده وتلك بغيته لذا رجع إلى محلّ نسيانه ليس لغذاء البشرية بل لغذاء الروحانية لأنّها أمارة على مكان وجود الخضر فكانت بغيته حصول النسيان الذي ما أخبر به فتاه لذا رجع فتاه إلى الشريعة لأنّه فتاه تحت حكم وارد علومه ومنها يشرب فقال ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) فما عقّب موسى على قوله لعلمه بحضرة هذا القول وإنّما ذكر الله تعالى هذا لينبّه على حضرة الفتى فلا تجهل وحسن أدبه وفهمه لذا تنصّل الفتى من وزر النسيان فنسبه إلى الشيطان إخبارا منه أنّه مع موسى ظاهرا وباطنا وليس ما حصل تقصيرا منه أو تهاونا وكأنّه أحسّ بالذنب لفنائه في مرادات محبوبه ولإتّهامه نفسه وأنّ الشيطان لا يتركها فانظر إلى هذا الأدب العالي من الفتى وإلا فكيف يكون فتاه , فإعتذاره رقيق دقيق لأنّه فتى عليهما السلام
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما )
دلالة على عزمهما وحسن قصدهما فأسعفتهم الحضرة ظاهرا وباطنا وسترت عنهما النقص وجبرت والله رحيم بعباده
سترت عنهما النقص من حيث عجزهما عن بلوغ مجمع البحرين , وسترتهما من حيث قوله ( مجمع بينهما ) فتفطّن إلى رحمة الحضرة وسترها وعفوها وأنت لست بأحسن من موسى ولا فتاه فاستغفر وتب إلى الله من التقصير وإيّاك أن تدّعي شيئا أو تصول وتجول بل كن عبدا محضا وإلا فلا يقبل منك
( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) يعطي التواضع فيما بينهما والإيثارلذا ذكرهما في ضمير واحد فانظر تواضع موسى مع فتاه وحمله إيّاه بهمّته وهكذا حال الشيوخ الكبار مع مريديهم قال سيدي أبو الحسن الشاذلي أو غيره الشكّ منّي ( أنا أوصل مريدي إلى الله تعالى بنظرة ) وقال غيره ( بمذاكرة ) وهذا له تفسير ليس هذا مجاله , وهذا ما لم يقدر عليه الخضر مع موسى وهو تلميذه فما حمل عنه شيئا بل فارقه وهذا له علومه من حيث الفردانية فإنّها لا تحمل شيئا عن المريدين خلاف القطبانية فهي حمّالة لذا كان القطب خليفة خلاف الفرد فهو ليس خليفة لذا لا يحمل إلا نفسه وهذا تراه في قصّة الأفراد وأن ليس لهم مريدين أو قليلين جدا ويأتي النبيّ يوم القيامة وليس معه أحد ويأتي ومعه الرهط والرهطان .فافهم
فحمل موسى فتاه وما حمل الخضر موسى وكيف يحسن أن يحمل الوليّ نبيّا ورسول من أولي العزم وسنذكر في المستقبل بحول الله كيف كان التعليم فيما بينهما بما لم تره قطّ مسطّرا في كتاب
فظهرت في هذه الآية فتوّة موسى من حيث الإثار والتواضع والحزم والعزم ...إلخ والوارد يحدّثني بذكر فتوّة محمد صلى الله عليه وسلّم فإنّها تتيه فيها العقول لكن حكم الواردات في هذا المجال حكم الجنّة ( وفاكهة ممّا يتخيّرون ولحم طير ممّا يشتهون ) وإنّما ذكر الفاكهة لأنّها ألوان يقع فيها التخيير أمّا الطير وهو شهوة الأرواح فهو دليل الحال فلا إنفكاك عنه ...فافهم وهكذا هي الواردات وما الدين إلا الجنّة لذا علّق عليها الأجر من هذا الدين من غير إلتفات له بالنفس بل بالله تعالى وهنا بحور من الحقائق أوردتها الآيات والأحاديث
قال تعالى ( فلمّا بلغا ) إختار فعل البلوغ على غيره من الأفعال لأنّه حمّال حقائق منها الوصول ومنها الرشد الظاهري العقلي والباطني الروحي فدلّ على أنّهما من كمّل العارفين ودلّ على أنّ علم الحقيقة لا يناله إلا بالغ راشد ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) والإستواء هو الوسطية في الجمال والجلال وهو الصراط المستقيم فليس كلّ من بلغ أربعين سنة إستوى فافهم
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
الحمد لله المفيض على عباده الإبتلاء برحمته بقدر الإجتباء
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
ما قال الله تعالى في هذا المحلّ ( نسيا رزقهما ) بل قال ( نسيا حوتهما ) ليدلّك إشارة على المقصود بهذا الرزق الذي تكفّل الله به لهما في سفرهما هذا وهكذا حال طالب العلم فإنّ الله تعالى يتكفّل له برزقه فلو لا كفالة الله لهما به لما كانا نسياه وإنّما عيّن الله تعالى نوع الرزق فذكره بإسمه مع نسبته إليهما وإنّما نسبه إليهما لأنّهما لم ينسباه إلى أنفسهما وذلك في قول الفتى ( إنّي نسيت الحوت ) وهكذا هي الحقائق والأدب فإنّهما يعطيان ذلك فكلّ من لم ينسب لنفسه شيئا ظاهرا أو باطنا نسبه الله إليه تكريما ورحمة وتشريفا ومنّة منه وفضلا .
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فدلّ على أنّ نسيان الحوت ما كان منهما إلا بعد بلوغ المكان المحدّد إشارة إلى إعتنائهما بسفرهما وما يحتاجه من الزاد , وعليه دلّ أنّ الظاهر لا يستغنى عنه في الشريعة أبدا فلا رهبانية في الشريعة ولا في الإسلام لذا ذمّت الرهبانية بالبدعة رغم التسامح فيها إبتغاء وجه الله بها متى رعيت حقّ رعايتها بخصوص أهل الحقيقة فقط حال عيسى وأتباعه لغلبة أحكام الحقيقة عليهم ورغم هذا ذمّوا على عدم الوفاء بها وليس هذا شأن طالب علوم الحقيقة في البدعة الحسنة التي هي زيادة في الدين بما لم يشرّع ولم تدخل في حكم الواجب المفروض وإنّما ذمّوا على عدم رعايتها ولم يذمّوا عليها بنفسها فإفهم , لأنّ الرعاية من أخلاق أهل الله في الوعد والعهد ما لم يكن محرّما أو مكروها وهكذا أخلاق أهل الصلاح
لذا فإنّ حال التشرّع والظاهر يغلب على الأخذ بالعزائم في الواجبات المفروضة لأنّ العلم يعطي أنّ أهل الشريعة الحقّة هم أهل الحقيقة الحقّة وبقدر نقص العبد في شريعته تنقص حقيقته فالمشرّع إنّما شرّع الشريعة فما أعطاك منها إلا عين الحقيقة فأصل الشريعة يعطي مفهوم الفناء في الحضرة المحمدية أو في حضرة كلّ رسول بالنسبة لأتباعه في زمنه أمّا أصل الحقيقة فيعطي الفناء في الله تعالى وهكذا...فافهم
لذا ما نسي موسى وفتاه الحوت في سفرهما وإنّما نسياه لأنّه علامة جعلها الله تعالى فيما بينه وبين مكان الخضر فرجع غذاء الأشباح حيّا بحياه الأرواح وهذا مثلما قلنا غذاء أهل الجنّة في الجنّة فإنّ الطير تأكل منه ثمّ يطير وهكذا الفواكه بأسرها وكذا الحور فإنّه بمجرّد فضّ بكارتها ترجع بكرا وهكذا إلى أبد الآباد وكذا حال أهل النار فإنّه بمجرّد أن تنضج جلودهم تبدّل جلود غيرها ...فافهم
لذا كانت فاكهة الجنّة غير مفقودة ولا منقطعة وهذا الأمر له علمه من حيث الصفات والمدد الرباني الساري ويتعلّق بالروح وعالم النور أو إن شئت فقل بالمادّة والطاقة وعدم تناهيها والعارف هنا يكاشف بحقائق صنائع خلق الله تعالى فهم أعلم أهل الأرض بعلم الفيزياء والرياضيات ( ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ) أي ظاهرا وباطنا .فافهم.
فإنّ علماء الغرب الآن إقتبسوا علومهم التي بنوا عليها حضارتهم التكنولوجية من تركة المسلمين القدامى أهل العلوم الكونية وهذا له شواهد كثيرة من الكتاب والسنّة كلّها تشير إلى طبيعة العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب في هذا الذي ذكرته
لذا إنقلب الحوت بمجرّد وصولهما إلى مجمع بينهما فإتّخذ سبيله في البحر سربا فأحياه الله تعالى ودبّت فيه الروح بمجرّد محاذاته للبحر الذي هو أصل حياته ( ذكرى للذاكرين) وأنت أصلك الحضرة يا إنسان ( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة )
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
فنسب إليهما فعل البلوغ ونسب إليهما فعل النسيان جميعا رغم أنّ الذي وعد ببلوغ المكان هو موسى دون فتاه والذي نسي الحوت هو فتاه دون موسى فاشتركا في التحمّل وهكذا تكون الصحبة , فكانت المناسبات بدقائقها وحضراتها في مراتبها قال تعالى ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) لأنّ الشيء معرّف به فهو لا يدلّ إلا على الله تعالى فلا يمكن لهذا الكتاب أن يفرّط في شيء فيكون غير معروفا في ذلك الشيء الذي فرّط فيه الكتاب .فافهم. لذا ما فرّط فيه من شيء لتعرفه في كلّ شيء لأنّه خالق كلّ شيء فلا ينفصل الفعل عنه لذا قال ( خلقكم وما تعملون ) قال الأشاعرة بأنّ الله تعالى خالق أفعال العباد خلاف غيرهم فمنهم من قال يخلق العبد أفعاله وهذا لغيبتهم عن سرّ التوحيد الذي أختصّ به أهل السنّة من دون جميع الطوائف فهم الفرقة الناجية تحقيقا وقطعا , وإنّما الشبهة التي وقعت لهم في كونهم نسبوا الفعل للعبد لوجود نسبة الأفعال في القرآن والسنّة بلسان التشريع للعبد فظنّوها هكذا على ظاهرها من غير تفصيل للمراتب لإعطاء العلم حقّه والحكمة حقّها وكذلك القدرة حقّها .
فنسب الفعلين : البلوغ والنسيان إليهما ليدلّك على مقام موسى وفتاه الذي هو مقام الشريعة وهذا مذهب موسى في الحقائق خلاف مذهب الخضر فهو في الحقيقة لذا أوّل لموسى ما فعله مع أهل السفينة والغلام والجدار فقال له ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) فأخبره بالتأويل وقد قال لك تعالى لتفهم ( وما يعلم تأويله إلا الله ) أي القرآن كي لا تعترض على أفعاله سبحانه محلّ المتشابهات فلن تتمكّن من معرفة التأويل في علم الحقيقة إلا متى سرت هذا السير الشرعي في عالم الأفعال لأنّ الحقيقة هي صورة العلم والعلم هو المحيط بك من كلّ جانب , فالحقيقة تقهرك والعلم يبسطك , فصاحب الحال لا يكون إلا قاهرا لغيره خلاف صاحب العلم فهو أنيس لغيره في وحشته وجليسه في وحدته وأنت تعلم بأنّ الله تعالى معك حيثما كنت فمتى كنت في أحكام شريعتك فهو معك بصفاته ومتى غلبت حقيقتك لأنّها قاهرة فهو معك بذاته ( وهو القاهر فوق عباده) أي الذين وصلوا إلى مرتبة الحقيقة من العباد , فالعلم مرتبة صفاتية لذا كانت صورتها جمالية أمّا الحال الذي هو الحقيقة فهو مرتبة ذاتية لذا كانت صورتها جلالية , من هنا تعرف أسرار المعيّة في القرآن فتوفّق بين الأسماء والصفات من جهة وبين الذات التي لا تنفصل ولا تتصل بالأسماء والصفات من جهة أخرى
لذاك قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) بنسبة الفعلين إليهما من غير تعريف لهما إلا بضمير الغائب وهو ( هما ) أي هما بلغا ونسيا , فغاب ذكر الموسوية وذكر الفتوّة وكنّى عنهما بالضمير المثنّى الغائب لينبّهك على دقائق هذا السفر من حيث الرجوع إلى حقيقته وأنّ متعلّقه العلم ولا شيء غير العلم لأنّها رحلة علميّة صدرت عن ذنب علمي فيما يعطي الظاهر فتدخّلت الفتوّة وهي الهمّة العالية مع نورها وقدسيتها , وغارت الحقيقة وهي الخضرية فحان لقاء الكلّ كي تتضح المراتب العلمية في مجمع البحرين الذي هو برزخ يمنع الطغيان ( بينهما برزخ لا يطغيان ) فمن كان برزخا فهو حتما لا يطغى بالشريعة ولا يطغى بالحقيقة بل هو كإبرة الميزان يقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان لتعلم بعد هذا حكمة خلق هذا الوجود وبأيّ علم وصنعة ( تبارك الله أحسن الخالقين) لأنّه من طغت حقيقته أدبته الشريعة كالحلاج رضي الله عنه ومن طغت شريعته أدّبته الحقيقة وهذا في القصّة التي نحن بصددها وإنّما وردت للتعريف وليس لتنقيص سيّدنا موسى عليه السلام بل هو نبيّ مرسل معصوم من أولي العزم من الرسل وهذا يكفي تشريفا له ومنع الخواطر من الخوض في كلّ ما لا تعطيه حقيقته الموسوية فيكون منزّها عنها جملة وتفصيلا
ثمّ إنّ الإنسان كلّما رجع إلى رسم العلم وقرأ فيما يكتبه عندما يجرّه الحال لذلك يندم على ما كتب بل ويمتلكه الخجل حتّى تحمرّ منه الوجنتان فيضحى يكفّر عن ذلك غاية التكفير ويدفعه بكلّ وسيلة ولولا أنّه صادق الحال فيما كتب لعوقب وطرد قال الإمام الشافعي ( تمنيت لو أنّه لم ينسب لي شيئا كتبته في العلم مع وصوله إلى الناس والإنتفاع به ) أو ما في معنى هذا القول منه رضي الله عنه وكذلك قال رضي الله عنه ( ما ناظرت أحدا إلا وتمنّيت أن يظهر الحقّ على لسانه ) فهذه أخلاق ربانية عالية كلّها أخلاق أهل التصوّف من أهل الإحسان والعارفون , في الزمن السابق يكتب ما يرد عليه لأنّ الحال قاهر يكتب ذلك في بيته ومن ثمّ متى ذهب ذلك الحال ونظر في كتابه ذلك مزّقه وأحرقه وربّما أخفاه وقد كانت الروحانية تخطف الكتب من سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه وإلى الآن الكثير من كتبه مفقودة , فإنّ الشريعة تغار أن تنتهك حرمات الله , والحقيقة تغار أن لا تظهر كرم الله , والإنسان بين حقيقتين حقيقة شرعية وحقيقة معرفية إحسانية , لذا لمّا غلبت شريعة موسى ردّتها حقيقته فيما تراه في هذه القصّة ويالها من قصّة عظيمة جليلة , فهناك مشهد العلم وهناك مشهد الحقيقة التي في طيّات ذلك العلم فهما لا ينفصلان أبدا وإلا إنقلبت الحقائق ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) والله لا يحبّ المفسدين , فهذا معنى الإفساد حقيقة
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فأظهر نوع الغذاء بإسمه وهو الحوت وأخفى إسم موسى وصفة فتاه فغابت حقائق العبودية في هذا المحلّ وظهرت الحقائق الكونية ليظهرها في وصفها الحقيقي وأنّها تدلّ عليه هي أيضا بل وأنّها منه سبحانه ليظهر الحقائق كلّها في هذا المجمع فلا تطغى حقيقة على حقيقة أخرى مع ذكر المراتب بترتيب عظيم وبدقّة لا تكيّف
فدلّ على أنّ الكون في حياته ( لأنّه يدرك) هو ملك لهذا العبد في صفتيه اللتان هما صفة الفتوّة وصفة العبودية وأنّ الكون متى ملكته لم يدلّك إلا عليه ومتى ملكك ما دلّك على غير نفسه لأنّه حجاب فيما بينك وبينه لذا قالوا في هذا الوجود بأنّه حجاب ووهم
فأظهر الحوت بنسبته إليهما ليظهر حقائق هذا الوجود المتمثّل في كلّ ما تحتاجه لأنّه خلقه لك , وكذلك أنّ هذا الوجود يتكيّف معك بحسب حقيقتك فكلّما كثف منك الإحساس تكثّف في حقّك هذا الكون وكلّما تلطّف منك الإحساس تلطّف لك هذا الكون وكلّ هذا موجود في قصص الأنبياء لذا صوّر سبحانه في التصوير القرآني ومثّل وشبّه القلب بالحجر كقوله ( ثمّ قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة ) كلّ هذا لتفهم المعاني فإنّ الكون متى كان لك كنت لمولاك ومتى كنت أنت للكون كان حجابا عليك لأنّه فتنة لك لذا تبرّج لك مثل الزينة وهذا من حقائق النفس فالكون يتكيّف بمعناك لذا فالوليّ يحبّه الكون بأسره إلا فيما كان من مرتبة الإنس والجنّ العصاة
( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتّخذ سبيله في البحر سربا)
فعاد إلى حياته أعني الحوت وإتّخذ طريقا في البحر بعودة كلّ شيء في هذا البحر إلى حقيقته من هناك قدم الخضر قبل رجوع موسى وفتاه إليه لحقائق نذكرها في الفصل القادم ... وقد أطلت في هذه الآية فإنّ حقائقها كثيرة وما ذكرت منها إلا النزر القليل
يتبع...
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
ما قال الله تعالى في هذا المحلّ ( نسيا رزقهما ) بل قال ( نسيا حوتهما ) ليدلّك إشارة على المقصود بهذا الرزق الذي تكفّل الله به لهما في سفرهما هذا وهكذا حال طالب العلم فإنّ الله تعالى يتكفّل له برزقه فلو لا كفالة الله لهما به لما كانا نسياه وإنّما عيّن الله تعالى نوع الرزق فذكره بإسمه مع نسبته إليهما وإنّما نسبه إليهما لأنّهما لم ينسباه إلى أنفسهما وذلك في قول الفتى ( إنّي نسيت الحوت ) وهكذا هي الحقائق والأدب فإنّهما يعطيان ذلك فكلّ من لم ينسب لنفسه شيئا ظاهرا أو باطنا نسبه الله إليه تكريما ورحمة وتشريفا ومنّة منه وفضلا .
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فدلّ على أنّ نسيان الحوت ما كان منهما إلا بعد بلوغ المكان المحدّد إشارة إلى إعتنائهما بسفرهما وما يحتاجه من الزاد , وعليه دلّ أنّ الظاهر لا يستغنى عنه في الشريعة أبدا فلا رهبانية في الشريعة ولا في الإسلام لذا ذمّت الرهبانية بالبدعة رغم التسامح فيها إبتغاء وجه الله بها متى رعيت حقّ رعايتها بخصوص أهل الحقيقة فقط حال عيسى وأتباعه لغلبة أحكام الحقيقة عليهم ورغم هذا ذمّوا على عدم الوفاء بها وليس هذا شأن طالب علوم الحقيقة في البدعة الحسنة التي هي زيادة في الدين بما لم يشرّع ولم تدخل في حكم الواجب المفروض وإنّما ذمّوا على عدم رعايتها ولم يذمّوا عليها بنفسها فإفهم , لأنّ الرعاية من أخلاق أهل الله في الوعد والعهد ما لم يكن محرّما أو مكروها وهكذا أخلاق أهل الصلاح
لذا فإنّ حال التشرّع والظاهر يغلب على الأخذ بالعزائم في الواجبات المفروضة لأنّ العلم يعطي أنّ أهل الشريعة الحقّة هم أهل الحقيقة الحقّة وبقدر نقص العبد في شريعته تنقص حقيقته فالمشرّع إنّما شرّع الشريعة فما أعطاك منها إلا عين الحقيقة فأصل الشريعة يعطي مفهوم الفناء في الحضرة المحمدية أو في حضرة كلّ رسول بالنسبة لأتباعه في زمنه أمّا أصل الحقيقة فيعطي الفناء في الله تعالى وهكذا...فافهم
لذا ما نسي موسى وفتاه الحوت في سفرهما وإنّما نسياه لأنّه علامة جعلها الله تعالى فيما بينه وبين مكان الخضر فرجع غذاء الأشباح حيّا بحياه الأرواح وهذا مثلما قلنا غذاء أهل الجنّة في الجنّة فإنّ الطير تأكل منه ثمّ يطير وهكذا الفواكه بأسرها وكذا الحور فإنّه بمجرّد فضّ بكارتها ترجع بكرا وهكذا إلى أبد الآباد وكذا حال أهل النار فإنّه بمجرّد أن تنضج جلودهم تبدّل جلود غيرها ...فافهم
لذا كانت فاكهة الجنّة غير مفقودة ولا منقطعة وهذا الأمر له علمه من حيث الصفات والمدد الرباني الساري ويتعلّق بالروح وعالم النور أو إن شئت فقل بالمادّة والطاقة وعدم تناهيها والعارف هنا يكاشف بحقائق صنائع خلق الله تعالى فهم أعلم أهل الأرض بعلم الفيزياء والرياضيات ( ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ) أي ظاهرا وباطنا .فافهم.
فإنّ علماء الغرب الآن إقتبسوا علومهم التي بنوا عليها حضارتهم التكنولوجية من تركة المسلمين القدامى أهل العلوم الكونية وهذا له شواهد كثيرة من الكتاب والسنّة كلّها تشير إلى طبيعة العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب في هذا الذي ذكرته
لذا إنقلب الحوت بمجرّد وصولهما إلى مجمع بينهما فإتّخذ سبيله في البحر سربا فأحياه الله تعالى ودبّت فيه الروح بمجرّد محاذاته للبحر الذي هو أصل حياته ( ذكرى للذاكرين) وأنت أصلك الحضرة يا إنسان ( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة )
قال تعالى : ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما )
فنسب إليهما فعل البلوغ ونسب إليهما فعل النسيان جميعا رغم أنّ الذي وعد ببلوغ المكان هو موسى دون فتاه والذي نسي الحوت هو فتاه دون موسى فاشتركا في التحمّل وهكذا تكون الصحبة , فكانت المناسبات بدقائقها وحضراتها في مراتبها قال تعالى ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) لأنّ الشيء معرّف به فهو لا يدلّ إلا على الله تعالى فلا يمكن لهذا الكتاب أن يفرّط في شيء فيكون غير معروفا في ذلك الشيء الذي فرّط فيه الكتاب .فافهم. لذا ما فرّط فيه من شيء لتعرفه في كلّ شيء لأنّه خالق كلّ شيء فلا ينفصل الفعل عنه لذا قال ( خلقكم وما تعملون ) قال الأشاعرة بأنّ الله تعالى خالق أفعال العباد خلاف غيرهم فمنهم من قال يخلق العبد أفعاله وهذا لغيبتهم عن سرّ التوحيد الذي أختصّ به أهل السنّة من دون جميع الطوائف فهم الفرقة الناجية تحقيقا وقطعا , وإنّما الشبهة التي وقعت لهم في كونهم نسبوا الفعل للعبد لوجود نسبة الأفعال في القرآن والسنّة بلسان التشريع للعبد فظنّوها هكذا على ظاهرها من غير تفصيل للمراتب لإعطاء العلم حقّه والحكمة حقّها وكذلك القدرة حقّها .
فنسب الفعلين : البلوغ والنسيان إليهما ليدلّك على مقام موسى وفتاه الذي هو مقام الشريعة وهذا مذهب موسى في الحقائق خلاف مذهب الخضر فهو في الحقيقة لذا أوّل لموسى ما فعله مع أهل السفينة والغلام والجدار فقال له ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) فأخبره بالتأويل وقد قال لك تعالى لتفهم ( وما يعلم تأويله إلا الله ) أي القرآن كي لا تعترض على أفعاله سبحانه محلّ المتشابهات فلن تتمكّن من معرفة التأويل في علم الحقيقة إلا متى سرت هذا السير الشرعي في عالم الأفعال لأنّ الحقيقة هي صورة العلم والعلم هو المحيط بك من كلّ جانب , فالحقيقة تقهرك والعلم يبسطك , فصاحب الحال لا يكون إلا قاهرا لغيره خلاف صاحب العلم فهو أنيس لغيره في وحشته وجليسه في وحدته وأنت تعلم بأنّ الله تعالى معك حيثما كنت فمتى كنت في أحكام شريعتك فهو معك بصفاته ومتى غلبت حقيقتك لأنّها قاهرة فهو معك بذاته ( وهو القاهر فوق عباده) أي الذين وصلوا إلى مرتبة الحقيقة من العباد , فالعلم مرتبة صفاتية لذا كانت صورتها جمالية أمّا الحال الذي هو الحقيقة فهو مرتبة ذاتية لذا كانت صورتها جلالية , من هنا تعرف أسرار المعيّة في القرآن فتوفّق بين الأسماء والصفات من جهة وبين الذات التي لا تنفصل ولا تتصل بالأسماء والصفات من جهة أخرى
لذاك قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) بنسبة الفعلين إليهما من غير تعريف لهما إلا بضمير الغائب وهو ( هما ) أي هما بلغا ونسيا , فغاب ذكر الموسوية وذكر الفتوّة وكنّى عنهما بالضمير المثنّى الغائب لينبّهك على دقائق هذا السفر من حيث الرجوع إلى حقيقته وأنّ متعلّقه العلم ولا شيء غير العلم لأنّها رحلة علميّة صدرت عن ذنب علمي فيما يعطي الظاهر فتدخّلت الفتوّة وهي الهمّة العالية مع نورها وقدسيتها , وغارت الحقيقة وهي الخضرية فحان لقاء الكلّ كي تتضح المراتب العلمية في مجمع البحرين الذي هو برزخ يمنع الطغيان ( بينهما برزخ لا يطغيان ) فمن كان برزخا فهو حتما لا يطغى بالشريعة ولا يطغى بالحقيقة بل هو كإبرة الميزان يقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان لتعلم بعد هذا حكمة خلق هذا الوجود وبأيّ علم وصنعة ( تبارك الله أحسن الخالقين) لأنّه من طغت حقيقته أدبته الشريعة كالحلاج رضي الله عنه ومن طغت شريعته أدّبته الحقيقة وهذا في القصّة التي نحن بصددها وإنّما وردت للتعريف وليس لتنقيص سيّدنا موسى عليه السلام بل هو نبيّ مرسل معصوم من أولي العزم من الرسل وهذا يكفي تشريفا له ومنع الخواطر من الخوض في كلّ ما لا تعطيه حقيقته الموسوية فيكون منزّها عنها جملة وتفصيلا
ثمّ إنّ الإنسان كلّما رجع إلى رسم العلم وقرأ فيما يكتبه عندما يجرّه الحال لذلك يندم على ما كتب بل ويمتلكه الخجل حتّى تحمرّ منه الوجنتان فيضحى يكفّر عن ذلك غاية التكفير ويدفعه بكلّ وسيلة ولولا أنّه صادق الحال فيما كتب لعوقب وطرد قال الإمام الشافعي ( تمنيت لو أنّه لم ينسب لي شيئا كتبته في العلم مع وصوله إلى الناس والإنتفاع به ) أو ما في معنى هذا القول منه رضي الله عنه وكذلك قال رضي الله عنه ( ما ناظرت أحدا إلا وتمنّيت أن يظهر الحقّ على لسانه ) فهذه أخلاق ربانية عالية كلّها أخلاق أهل التصوّف من أهل الإحسان والعارفون , في الزمن السابق يكتب ما يرد عليه لأنّ الحال قاهر يكتب ذلك في بيته ومن ثمّ متى ذهب ذلك الحال ونظر في كتابه ذلك مزّقه وأحرقه وربّما أخفاه وقد كانت الروحانية تخطف الكتب من سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه وإلى الآن الكثير من كتبه مفقودة , فإنّ الشريعة تغار أن تنتهك حرمات الله , والحقيقة تغار أن لا تظهر كرم الله , والإنسان بين حقيقتين حقيقة شرعية وحقيقة معرفية إحسانية , لذا لمّا غلبت شريعة موسى ردّتها حقيقته فيما تراه في هذه القصّة ويالها من قصّة عظيمة جليلة , فهناك مشهد العلم وهناك مشهد الحقيقة التي في طيّات ذلك العلم فهما لا ينفصلان أبدا وإلا إنقلبت الحقائق ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) والله لا يحبّ المفسدين , فهذا معنى الإفساد حقيقة
قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) فأظهر نوع الغذاء بإسمه وهو الحوت وأخفى إسم موسى وصفة فتاه فغابت حقائق العبودية في هذا المحلّ وظهرت الحقائق الكونية ليظهرها في وصفها الحقيقي وأنّها تدلّ عليه هي أيضا بل وأنّها منه سبحانه ليظهر الحقائق كلّها في هذا المجمع فلا تطغى حقيقة على حقيقة أخرى مع ذكر المراتب بترتيب عظيم وبدقّة لا تكيّف
فدلّ على أنّ الكون في حياته ( لأنّه يدرك) هو ملك لهذا العبد في صفتيه اللتان هما صفة الفتوّة وصفة العبودية وأنّ الكون متى ملكته لم يدلّك إلا عليه ومتى ملكك ما دلّك على غير نفسه لأنّه حجاب فيما بينك وبينه لذا قالوا في هذا الوجود بأنّه حجاب ووهم
فأظهر الحوت بنسبته إليهما ليظهر حقائق هذا الوجود المتمثّل في كلّ ما تحتاجه لأنّه خلقه لك , وكذلك أنّ هذا الوجود يتكيّف معك بحسب حقيقتك فكلّما كثف منك الإحساس تكثّف في حقّك هذا الكون وكلّما تلطّف منك الإحساس تلطّف لك هذا الكون وكلّ هذا موجود في قصص الأنبياء لذا صوّر سبحانه في التصوير القرآني ومثّل وشبّه القلب بالحجر كقوله ( ثمّ قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة ) كلّ هذا لتفهم المعاني فإنّ الكون متى كان لك كنت لمولاك ومتى كنت أنت للكون كان حجابا عليك لأنّه فتنة لك لذا تبرّج لك مثل الزينة وهذا من حقائق النفس فالكون يتكيّف بمعناك لذا فالوليّ يحبّه الكون بأسره إلا فيما كان من مرتبة الإنس والجنّ العصاة
( فلمّا بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتّخذ سبيله في البحر سربا)
فعاد إلى حياته أعني الحوت وإتّخذ طريقا في البحر بعودة كلّ شيء في هذا البحر إلى حقيقته من هناك قدم الخضر قبل رجوع موسى وفتاه إليه لحقائق نذكرها في الفصل القادم ... وقد أطلت في هذه الآية فإنّ حقائقها كثيرة وما ذكرت منها إلا النزر القليل
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
إنّما نسي الفتى الحوت ونسي أن يخبر شيخه وهو موسى صاحب السفر إشارة أنّ الفتى غير مراد بهذا السفر إستقلالا فكان أمر العلامة والأمارة التي هي الحوت غير معلوم شأنها بالنسبة إليه فخفي عنه ما في باطن موسى فيما بينه وبين معرفة العلامة فكانت العلامة التي هي نسيان الحوت مرادا لموسى من دون فتاه غير أنّه لا بدّ أن يتحقّق النسيان في غيره عليه السلام لما تعطيه مرتبته وما تعطيه مرتبة الفتى حتى يظهر الفارق فيما بينهما وكذلك حتى يتحقّق السير الرباني لموسى فهو مع الوارد وما يرد به , فموسى كان وقوفه مع ما تفتح به الحضرة في أوامرها العرفانية في مثل هذا السفر الذي هو من جنس الخضر خلاف فتاه فكان وقوفه مع الحضرة الموسوية وما يجب لها من آداب فكان فانيا في شيخه وهذا ما يدلّ عليه هذا الحال فكان الفتى محمولا بهمّة موسى وحاله وكان موسى محمولا بالوارد التي هي حضرة المعرفة فإنّه لا إنفصال بين الحضرتين حضرة موسى وحضرة المعرفة وهنا يقع التمييز بين مقامات المهاجرين والأنصار من حيث الحضرتين المحمدية والربانية فإنّ المهاجرين يمثّلون في ترتيب الحقائق الحضرة الربانية فكانت هجرتهم إلى الحضرة المحمدية وهو الخروج من عالم الفناء إلى عالم البقاء أمّا الأنصار فإنّهم مع الحضرة المحمدية كيفما كانت وعلى أيّة حالة كانت لذا قال عليه الصلاة والسلام للأنصار حينما تمّت قسمة الغنائم في غزوة حنين ( أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والإبل وتذهبون أنتم برسول الله ) وقال لهم ( الحياة محياكم والممات مماتكم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اللهم إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) وقال ( تمنّيت لو كنت فردا من الأنصار ) لذا آوى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت المدينة وأهلها هم حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بخلاف مكّة فإنّها حضرة الله تعالى لذا وقعت منها الهجرة ووقع فيها الفتح وهنا أسرار كبار لذا لمّا أرادوا أن يجعلوا بداية التاريخ الإسلامي رأى سيّدنا عمر أن يؤرّخ من السنة الأولى للهجرة خلاف رأي غيره ممّن قال يكون التاريخ بداية من البعثة وقال غيرهم بداية من ميلاده عليه الصلاة والسلام وكلّها وجوه في الحقائق إلا أنّ أصوب رأي وأكثره تحقيقا هو رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب حيث ميّز بين الحضرتين : فجعل بداية التاريخ من بداية الهجرة وهذا حقّ إذ أنّ الفناء لا حساب فيه ولا زمن ولا مكان فيه ولا يبدأ العدّ التحقيقي إلا في مقام البقاء فالتاريخ الإسلامي هو التاريخ المحمّدي فكان إختياره في التأريخ إختيار أهل التحقيق وليعلم العالم أنّ سيّدنا عمر من أكابر العارفين بالله ومن أكابر أقطاب الأمّة فكان قطب زمانه وقد ورد فيه ( لو كان هناك نبيّ من بعدي لكان عمر بن الخطّاب ) وقد قال عمر رضي الله عنه ( أصابت إمرأة وأخطأ عمر ) أمّا بعض أهل البدع اليوم يقولون ( أخطأ الصحابة وأصبنا نحن ) وأين معارفنا من معارف الصحابة فلو كان الأمر كما قالوا لكانوا هم ونحن من أصحاب محمد وليس أبو بكر وعمر وبقية الصحابة فإنّ صحابته عليه الصلاة والسلام مختارون من اللوح المحفوظ وكذلك أصحاب كلّ نبيّ وكلّ رسول فليعرف الإنسان قدره ولا يترك الشيطان يستزلّه فإنّ مقام الصحابة مقام عالي مصون لا يجوز ثلبه من أي شخص ولو كان عارفا فإن الله تعالى يقول ( ومن أصدق من الله قيلا ) وهو القائل جلّ وعلا ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )
فهناك من الأولياء من هم على أقدام المهاجرين ومنهم من هم على أقدام الأنصار فهو ميراث باق إلى يوم القيامة وقد ورد عن سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه قوله ( الصحابي الغير مفتوح عليه بالفتح الكبير أفضل من كبار أقطاب الأمّة من المفتوح عليهم بالفتح الكبير ) وليس بعد هذا الكلام من كلام فنحن لا نقول بعصمة الصحابة بل منهم من إجتهد وأخطأ ومنهم من إجتهد وأصاب ورغم هذا لا يلحقهم في الفضل أحد لقوله تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
فقد وعدهم جميعا بالحسنى والله لا يخلف الميعاد , فما نظرت ووجدت أكثر تحقيقا من تحقيق أهل السنّة رضي الله عنهم وأرضاهم وقد قال المؤرّخ بن خلدون ( الصوفية خواص أهل السنّة ) فمن لم يكن من أهل السنّة فهو ليس بصوفي ولو فعل ما فعل بل ولو طار في الهواء ومشى على الماء فإنّ أهل السنّة هم أهل الله وخاصّته كما قال بن عاشر في متنه ( في عقد الأشعري وفقه مالك---وفي طريقة الجنيد السالك ) فهذا هو مذهبنا الذي هو مذهب جميع الأنبياء والرسل , فما سيدّنا عمر إلا على قدم سيدّنا موسى وسيّدنا أبو بكر على قدم سيّدنا إبراهيم وسيّدنا علي على قدم سيّنا عيسى وهكذا ( العلماء ورثة الأنبياء ) فلا يجوز متى تكلّمنا في خصوصيّة آل البيت أن نغفل ذكر خصوصيات الصحابة والأمر بعكسه أيضا فاعطوا كلّ ذي حقّ حقّه وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم
فقد خرجت عن الموضوع الأصلي من غير حول منّي ولا قوّة ...
قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
فظهر هنا حكم الفتوّة ثانيا في هذا السفر بعد أن كان مستترا لمّا بلغا مجمع بينهما وفيه أنّ هذا المجمع تجتمع فيه جميع الحقائق لذا تستتر فيه المراتب من حيث وقوع الإدراك عليها لأنّه مجمع العبودية فلا ظهور في هذا المحلّ إلا لأحكامها من حيث ظهور الربوبية لأنّها النسبة التي يجتمع فيها جميع العباد فهذا مجمعهم , فالعباد متى إجتمعوا ظهرت عين الجمع ومتى إفترقوا ظهر عين الفرق , فدلّ المجمع على جمعهم فهم لا يجتمعون في غير محلّ الإجتماع كيوم الجمعة هو يوم جمع وكذلك يد الله مع الجماعة وأعلاها صلاة الجماعة لأنّها العروج إليه من حيث الفناء فيه والبقاء به وهكذا إنقسمت الصلاة بين العبد وربّه أو تقول بين شريعة وحقيقة , فالشريعة هي الفناء فيه صلى الله عليه وسلّم أمّا الحقيقة فهي الفناء في الله تعالى , فهكذا الصلاة ففيها فرائض وأركان لا تصحّ إلا بها وفيها سنن واجبة فلا ينفصل هذا عن هذا وهكذا الأمر بالنسبة للطهارة كالغسل والوضوء وكذا في كلّ عبادة فهي بين أمرين فرض وسنّة أي بين حضرتين حضرة إلهية وحضرة محمّدية لذا نبّهك على هذا عليه الصلاة والسلام بقوله ( كتاب الله وسنّتي ) وقوله ( أوتيت القرآن ومثله معه ) لأنّ السنّة هي العصمة من الضلال في المعارف لذا نقص أجر المجاذيب كما قال سيدي الدبّاغ عن أجر السالكين بالثلث ومردّ العصمة في الأخير إلى الجماعة والجمع على الله تعالى ( لا تجتمع هذه الأمّة على ضلالة ) لذا فمن فرّق بين السنّة والقرآن فقد فرّق بين الله ورسوله فكيف تدخل حضرة الله وأنت ما وجدت الباب ولا دخلت منه لذا نبّهك على هذا بقوله ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقال ( فاتّبعوني يحببكم الله ) لذا فالمشائخ المربّين من لهم الإذن بالتسليك هم حضرات رسول الله صلى الله عليه وسلّم المتعدّدة وكذلك المذاهب الفقهية لذا سمّوا ( أهل سنّة ومعها أنّهم أهل جماعة ) ولا يهمّنا المسمّى الظاهري من حيث الوضع بل الأهمّ المعنى الذي يعضد هذا الوضع فمن عرف الحضرة المحمّدية فيوشك أن يعرف الحضرة القدسية ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ) فأخبر بإتّحاد الرؤية وإختلاف مراتبها وما محمّد إلا دال على الله تعالى من جميع أوجهه ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) لذاك قال ( جعلت لي الأرض مسجدا فحيثما أدركتكم الصلاة فصلّوا أي صلّوا فأنا إمامكم في تلك الصلاة لذا نسب الجعل إليه أي جعل الأرض بضمير المبني للمجهول ولا مجهول حقيقة ( جعلت لي الأرض مسجدا ) فهذا معنى خلافته صلى الله عليه وسلّم
فالإستتار يقع بمجرّد وجود الجماعة وهكذا كان الأمر من حيث العبودية في مجمع البحرين فإستتر الجماعة بمجرّد بلوغهما مجمع بينهما ( فلمّا تجاوزا ) أي هذا المجمع ظهرت الصفات من جديد ( قال لفتاه ) فرجع الوصف الأوّل قبل السفر لكن ليس بنفس حقيقة ذلك لأنّ موسى لم يظهر هنا بقطبانيته كما ظهر في الأوّل أدبا مع الله تعالى فظهر بأنّ موسى كان مستترا عن فتاه فما ظهر له إلا بنفس وصف الفتى لذا قال له ( آتنا غداءنا ) فجمع نفسه وفتاه في ضمير واحد مع إسناد الخدمة لفتاه من حيث حقيقة الفتى وإلا فما أعطى تلك المرتبة حقّها لأنّ مرتبة الفتوّة مرتبة خدمة وإيثار , فهي التي تقوم بمصالح الشيخ الظاهرة , وهنا نفهم وجوب خدمة المريدين شيخهم من حيث ظاهره لأنّ الشيخ يخدمهم باطنا , فخدمة بشرية الشيخ واجبة ومتعيّنة على المريد من حيث الطعام والشراب والمسكن ...إلخ وهذا الحال تراه وتشاهده في حكايات سيرة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذلك بأن يحمل المريد عن شيخه كلّه وهذا لا يناله إلا الصادقون قال ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر قال : ( تركت لهم الله ورسوله ) منتهى تحقيق المحقّقين فما قال تركت لهم الله وسكت بل قال ورسوله معرفة بالحقائق ووضه المناسبات في مراتبها لذا ما إعترض عليه بل أيّده وقرّر له ذلك في قوله ( فإنّ لهم ذلك ) وعليه فهمنا أنّ آل بيت الصدّيق لهم الله ورسوله إلى يوم القيامة فافهم , فنظرة من الشيخ تغنيك وخاطر من جميل محيّاه يفنيك
قال تعالى ( فلمّا جاوزا قال لفتاه ) ما أحلى هذا الخطاب بالأمر بالخدمة فلا يناله إلا المقرّبون وعليه فهمنا أنّ حقيقة أمر الشيخ للمريد لا يناله حقيقة إلا في مرتبة فتوّة المريد أي متى صفا وتنوّر فإنّ الشيخ يخاطب مريده قلبا ليس قالبا في أغلب الأحيان أو تقول يخاطبه قلبا ثمّ قالبا أدبا مع الحضرات في وقت دون وقت
فعلمنا أنّ قوله ( فلمّا جاوزا ) فيه أهميّة الصحبة في السرّاء والضرّاء أمّا الذي يريد أن لا يصاحب شيخه إلا في السرّاء فأنّى يكون فتى بل الشيخ يصاحب في جميع أحيانه ( قال أو قد قاله ؟ فإن قاله فقد صدق ) فهو معه بالصدق والخدمة والمحبّة ( النظر إليك والجلوس بين يديك وإنفاق جميع مالي عليك ) هكذا هي الفتوّة التي قيل فيها ( الصحبة الصحبة يا رسول الله ) فموسى سأل ومحمّد سئل فظهرت المقامات فكان أبو بكر في مقام موسى في هذا من حيث الصحبة فافهم
قال تعالى ( فلمّا جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا )
فكأنّه تجاوز واحد وجوع واحد فكأنّهما شخص واحد وهكذا شؤون المحبّة في وصف الفتوّة وكذا كان حال بدرالدين الحبشي خادم الشيخ الأكبر معه
وفي هذا من الحقائق ما يعسر جمعه أو إستقصاءه
يتبع...
إنّما نسي الفتى الحوت ونسي أن يخبر شيخه وهو موسى صاحب السفر إشارة أنّ الفتى غير مراد بهذا السفر إستقلالا فكان أمر العلامة والأمارة التي هي الحوت غير معلوم شأنها بالنسبة إليه فخفي عنه ما في باطن موسى فيما بينه وبين معرفة العلامة فكانت العلامة التي هي نسيان الحوت مرادا لموسى من دون فتاه غير أنّه لا بدّ أن يتحقّق النسيان في غيره عليه السلام لما تعطيه مرتبته وما تعطيه مرتبة الفتى حتى يظهر الفارق فيما بينهما وكذلك حتى يتحقّق السير الرباني لموسى فهو مع الوارد وما يرد به , فموسى كان وقوفه مع ما تفتح به الحضرة في أوامرها العرفانية في مثل هذا السفر الذي هو من جنس الخضر خلاف فتاه فكان وقوفه مع الحضرة الموسوية وما يجب لها من آداب فكان فانيا في شيخه وهذا ما يدلّ عليه هذا الحال فكان الفتى محمولا بهمّة موسى وحاله وكان موسى محمولا بالوارد التي هي حضرة المعرفة فإنّه لا إنفصال بين الحضرتين حضرة موسى وحضرة المعرفة وهنا يقع التمييز بين مقامات المهاجرين والأنصار من حيث الحضرتين المحمدية والربانية فإنّ المهاجرين يمثّلون في ترتيب الحقائق الحضرة الربانية فكانت هجرتهم إلى الحضرة المحمدية وهو الخروج من عالم الفناء إلى عالم البقاء أمّا الأنصار فإنّهم مع الحضرة المحمدية كيفما كانت وعلى أيّة حالة كانت لذا قال عليه الصلاة والسلام للأنصار حينما تمّت قسمة الغنائم في غزوة حنين ( أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والإبل وتذهبون أنتم برسول الله ) وقال لهم ( الحياة محياكم والممات مماتكم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اللهم إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) وقال ( تمنّيت لو كنت فردا من الأنصار ) لذا آوى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت المدينة وأهلها هم حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بخلاف مكّة فإنّها حضرة الله تعالى لذا وقعت منها الهجرة ووقع فيها الفتح وهنا أسرار كبار لذا لمّا أرادوا أن يجعلوا بداية التاريخ الإسلامي رأى سيّدنا عمر أن يؤرّخ من السنة الأولى للهجرة خلاف رأي غيره ممّن قال يكون التاريخ بداية من البعثة وقال غيرهم بداية من ميلاده عليه الصلاة والسلام وكلّها وجوه في الحقائق إلا أنّ أصوب رأي وأكثره تحقيقا هو رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب حيث ميّز بين الحضرتين : فجعل بداية التاريخ من بداية الهجرة وهذا حقّ إذ أنّ الفناء لا حساب فيه ولا زمن ولا مكان فيه ولا يبدأ العدّ التحقيقي إلا في مقام البقاء فالتاريخ الإسلامي هو التاريخ المحمّدي فكان إختياره في التأريخ إختيار أهل التحقيق وليعلم العالم أنّ سيّدنا عمر من أكابر العارفين بالله ومن أكابر أقطاب الأمّة فكان قطب زمانه وقد ورد فيه ( لو كان هناك نبيّ من بعدي لكان عمر بن الخطّاب ) وقد قال عمر رضي الله عنه ( أصابت إمرأة وأخطأ عمر ) أمّا بعض أهل البدع اليوم يقولون ( أخطأ الصحابة وأصبنا نحن ) وأين معارفنا من معارف الصحابة فلو كان الأمر كما قالوا لكانوا هم ونحن من أصحاب محمد وليس أبو بكر وعمر وبقية الصحابة فإنّ صحابته عليه الصلاة والسلام مختارون من اللوح المحفوظ وكذلك أصحاب كلّ نبيّ وكلّ رسول فليعرف الإنسان قدره ولا يترك الشيطان يستزلّه فإنّ مقام الصحابة مقام عالي مصون لا يجوز ثلبه من أي شخص ولو كان عارفا فإن الله تعالى يقول ( ومن أصدق من الله قيلا ) وهو القائل جلّ وعلا ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )
فهناك من الأولياء من هم على أقدام المهاجرين ومنهم من هم على أقدام الأنصار فهو ميراث باق إلى يوم القيامة وقد ورد عن سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه قوله ( الصحابي الغير مفتوح عليه بالفتح الكبير أفضل من كبار أقطاب الأمّة من المفتوح عليهم بالفتح الكبير ) وليس بعد هذا الكلام من كلام فنحن لا نقول بعصمة الصحابة بل منهم من إجتهد وأخطأ ومنهم من إجتهد وأصاب ورغم هذا لا يلحقهم في الفضل أحد لقوله تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
فقد وعدهم جميعا بالحسنى والله لا يخلف الميعاد , فما نظرت ووجدت أكثر تحقيقا من تحقيق أهل السنّة رضي الله عنهم وأرضاهم وقد قال المؤرّخ بن خلدون ( الصوفية خواص أهل السنّة ) فمن لم يكن من أهل السنّة فهو ليس بصوفي ولو فعل ما فعل بل ولو طار في الهواء ومشى على الماء فإنّ أهل السنّة هم أهل الله وخاصّته كما قال بن عاشر في متنه ( في عقد الأشعري وفقه مالك---وفي طريقة الجنيد السالك ) فهذا هو مذهبنا الذي هو مذهب جميع الأنبياء والرسل , فما سيدّنا عمر إلا على قدم سيدّنا موسى وسيّدنا أبو بكر على قدم سيّدنا إبراهيم وسيّدنا علي على قدم سيّنا عيسى وهكذا ( العلماء ورثة الأنبياء ) فلا يجوز متى تكلّمنا في خصوصيّة آل البيت أن نغفل ذكر خصوصيات الصحابة والأمر بعكسه أيضا فاعطوا كلّ ذي حقّ حقّه وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم
فقد خرجت عن الموضوع الأصلي من غير حول منّي ولا قوّة ...
قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
فظهر هنا حكم الفتوّة ثانيا في هذا السفر بعد أن كان مستترا لمّا بلغا مجمع بينهما وفيه أنّ هذا المجمع تجتمع فيه جميع الحقائق لذا تستتر فيه المراتب من حيث وقوع الإدراك عليها لأنّه مجمع العبودية فلا ظهور في هذا المحلّ إلا لأحكامها من حيث ظهور الربوبية لأنّها النسبة التي يجتمع فيها جميع العباد فهذا مجمعهم , فالعباد متى إجتمعوا ظهرت عين الجمع ومتى إفترقوا ظهر عين الفرق , فدلّ المجمع على جمعهم فهم لا يجتمعون في غير محلّ الإجتماع كيوم الجمعة هو يوم جمع وكذلك يد الله مع الجماعة وأعلاها صلاة الجماعة لأنّها العروج إليه من حيث الفناء فيه والبقاء به وهكذا إنقسمت الصلاة بين العبد وربّه أو تقول بين شريعة وحقيقة , فالشريعة هي الفناء فيه صلى الله عليه وسلّم أمّا الحقيقة فهي الفناء في الله تعالى , فهكذا الصلاة ففيها فرائض وأركان لا تصحّ إلا بها وفيها سنن واجبة فلا ينفصل هذا عن هذا وهكذا الأمر بالنسبة للطهارة كالغسل والوضوء وكذا في كلّ عبادة فهي بين أمرين فرض وسنّة أي بين حضرتين حضرة إلهية وحضرة محمّدية لذا نبّهك على هذا عليه الصلاة والسلام بقوله ( كتاب الله وسنّتي ) وقوله ( أوتيت القرآن ومثله معه ) لأنّ السنّة هي العصمة من الضلال في المعارف لذا نقص أجر المجاذيب كما قال سيدي الدبّاغ عن أجر السالكين بالثلث ومردّ العصمة في الأخير إلى الجماعة والجمع على الله تعالى ( لا تجتمع هذه الأمّة على ضلالة ) لذا فمن فرّق بين السنّة والقرآن فقد فرّق بين الله ورسوله فكيف تدخل حضرة الله وأنت ما وجدت الباب ولا دخلت منه لذا نبّهك على هذا بقوله ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقال ( فاتّبعوني يحببكم الله ) لذا فالمشائخ المربّين من لهم الإذن بالتسليك هم حضرات رسول الله صلى الله عليه وسلّم المتعدّدة وكذلك المذاهب الفقهية لذا سمّوا ( أهل سنّة ومعها أنّهم أهل جماعة ) ولا يهمّنا المسمّى الظاهري من حيث الوضع بل الأهمّ المعنى الذي يعضد هذا الوضع فمن عرف الحضرة المحمّدية فيوشك أن يعرف الحضرة القدسية ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ) فأخبر بإتّحاد الرؤية وإختلاف مراتبها وما محمّد إلا دال على الله تعالى من جميع أوجهه ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) لذاك قال ( جعلت لي الأرض مسجدا فحيثما أدركتكم الصلاة فصلّوا أي صلّوا فأنا إمامكم في تلك الصلاة لذا نسب الجعل إليه أي جعل الأرض بضمير المبني للمجهول ولا مجهول حقيقة ( جعلت لي الأرض مسجدا ) فهذا معنى خلافته صلى الله عليه وسلّم
فالإستتار يقع بمجرّد وجود الجماعة وهكذا كان الأمر من حيث العبودية في مجمع البحرين فإستتر الجماعة بمجرّد بلوغهما مجمع بينهما ( فلمّا تجاوزا ) أي هذا المجمع ظهرت الصفات من جديد ( قال لفتاه ) فرجع الوصف الأوّل قبل السفر لكن ليس بنفس حقيقة ذلك لأنّ موسى لم يظهر هنا بقطبانيته كما ظهر في الأوّل أدبا مع الله تعالى فظهر بأنّ موسى كان مستترا عن فتاه فما ظهر له إلا بنفس وصف الفتى لذا قال له ( آتنا غداءنا ) فجمع نفسه وفتاه في ضمير واحد مع إسناد الخدمة لفتاه من حيث حقيقة الفتى وإلا فما أعطى تلك المرتبة حقّها لأنّ مرتبة الفتوّة مرتبة خدمة وإيثار , فهي التي تقوم بمصالح الشيخ الظاهرة , وهنا نفهم وجوب خدمة المريدين شيخهم من حيث ظاهره لأنّ الشيخ يخدمهم باطنا , فخدمة بشرية الشيخ واجبة ومتعيّنة على المريد من حيث الطعام والشراب والمسكن ...إلخ وهذا الحال تراه وتشاهده في حكايات سيرة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذلك بأن يحمل المريد عن شيخه كلّه وهذا لا يناله إلا الصادقون قال ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر قال : ( تركت لهم الله ورسوله ) منتهى تحقيق المحقّقين فما قال تركت لهم الله وسكت بل قال ورسوله معرفة بالحقائق ووضه المناسبات في مراتبها لذا ما إعترض عليه بل أيّده وقرّر له ذلك في قوله ( فإنّ لهم ذلك ) وعليه فهمنا أنّ آل بيت الصدّيق لهم الله ورسوله إلى يوم القيامة فافهم , فنظرة من الشيخ تغنيك وخاطر من جميل محيّاه يفنيك
قال تعالى ( فلمّا جاوزا قال لفتاه ) ما أحلى هذا الخطاب بالأمر بالخدمة فلا يناله إلا المقرّبون وعليه فهمنا أنّ حقيقة أمر الشيخ للمريد لا يناله حقيقة إلا في مرتبة فتوّة المريد أي متى صفا وتنوّر فإنّ الشيخ يخاطب مريده قلبا ليس قالبا في أغلب الأحيان أو تقول يخاطبه قلبا ثمّ قالبا أدبا مع الحضرات في وقت دون وقت
فعلمنا أنّ قوله ( فلمّا جاوزا ) فيه أهميّة الصحبة في السرّاء والضرّاء أمّا الذي يريد أن لا يصاحب شيخه إلا في السرّاء فأنّى يكون فتى بل الشيخ يصاحب في جميع أحيانه ( قال أو قد قاله ؟ فإن قاله فقد صدق ) فهو معه بالصدق والخدمة والمحبّة ( النظر إليك والجلوس بين يديك وإنفاق جميع مالي عليك ) هكذا هي الفتوّة التي قيل فيها ( الصحبة الصحبة يا رسول الله ) فموسى سأل ومحمّد سئل فظهرت المقامات فكان أبو بكر في مقام موسى في هذا من حيث الصحبة فافهم
قال تعالى ( فلمّا جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا )
فكأنّه تجاوز واحد وجوع واحد فكأنّهما شخص واحد وهكذا شؤون المحبّة في وصف الفتوّة وكذا كان حال بدرالدين الحبشي خادم الشيخ الأكبر معه
وفي هذا من الحقائق ما يعسر جمعه أو إستقصاءه
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
لم يعلم موسى ببلوغه مجمع بينهما ولا بتجاوزه لذلك إلا حينما لقي النصب مع فتاه من سفرهما فما أحسّ بالنصب والتعب إلاّ بعد أن تجاوزا مجمع بينهما فكأنّ همّته عليه السلام أرادت أن ترجعه إلى مجمع بينهما حيث أنّها لم تكلّ من السفر إلى حين بلوغ مجمع بينهما فكان طلبها عين المكان الذي شوّرت إلى طلبه فما أحسّ موسى بالجوع والنصب قبل ذلك ولا طلب الغداء من فتاه رغم أنّ غداءهما وهو الحوت الذي أخذاه في سفرهما زادا لهما فكان يأكلان منه خلاله , وإنّما إحساسه بالنصب فطلب الغداء كان كالإشارة من الله تعالى لهما بأنّهما تجاوزا المكان المقصود فشعوره بالتعب أثار تساؤله في هذا السفر من حيث قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) رغم تعلّق همّته به لذا قلنا ساعدته همّته في الرجوع إلى مجمع بينهما لأنّ الهمّة متى تعلّقت بشيء متاح إلا بلغته كان ما كان هذا الشيء إلا متى لم تساعفها الأقدار لأنّ الهمّة في طي قبضة القدر وسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار أي لا تنال منالها فيما طلبته ولا تصل إليه رغم أنّها تصل إليه طلبا دون حصولا ( فافهم) فقد تطلب بهمّتك مقاما لم يقدّر لك ولم يجر به إلا علم الطلب لا علم القدر في الحصول عليه وأنت مطال بهذا العلم أي بعلم الطلب للحصول ولكن متى لم يقدّر لك فلا تشتغل به فأنت لست مرادا له دون الإصرار على ذلك فإنّه سوء أدب يوقع في الإعتراض هذا بخصوص الخصوصيات لا في خصوص طلب العبودية فإنّ العبودية ليست خاصّة بل هي عامّة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون فافهم .فالهمّة متى طلبت العبودية وتعلّقت بها أنتج ذلك وصول الخصوصية بحسب منالك في العبودية - السابقون السابقون أولائك المقرّبون - أي السابقون إليه وليست هناك همّة سابقة أكثر من همّة العبد الكامل وهي همّته صلى الله عليه وسلّم لأنّه سيّد بني آدم وجميع الأنبياء والمرسلين أي سيّدهم في كلّ شيء لأنّ السيادة قد تكون في وجه دون وجه كما قيل في الحسن والحسين بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة رغم أنّهما توفّيا على مشارف الستّين سنة من عمرهما , ورغم أنّ أعمار أهل الجنّة كلّها سواسية في الثلاث والثلاثين سنة فكيف يكونان سيّدا شباب أهل الجنّة وأهل الجنّة كلّهم شباب لا يبلون , فوجب فهم هذه الحقيقة المرادة من الحديث وذلك بمعرفة المقامات والأحوال وما تعطيه كلّ منزلة وأنت تعلم أنّ الأنبياء والمرسلين كلّهم وكلّ من ذكرت له خصيصة كالصحابة الكبار الخلفاء بما فيهم عليّ رضي الله عنه هم من أهل الجنّة وهم من شبابها وكذلك جميع الأقطاب كأهل الكهف والخضر وجميع أولياء الأمم وأولياء هذه الأمّة وكبار أقطابها كأويس القرني الذي استغفر لعلي وعمر ..فافهم فعلمنا أنّ قوله عليه الصلاة والسلام ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ) يكمن سرّه في قوله ( شباب أهل الجنّة ) دليل على مقام الفتوّة فيهما فلا يوجد أحد من الخلق عدا الأنبياء والمرسلين حصل له من مقام الفتوّة ما حصل للحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما السلام وسذكر هذا قليلا بما أنّ الخاطر نحا هذا المنحى : الحسن والحسين هما مدرستان في الفتوّة كلّ مدرسة هي أصالة في الدين الإسلامي , فالحسن سلّم الحكم لمعاوية رضي الله عنه وإستأثر بالخلافة الباطنة فكان فتى زمانه في الحكمة فإنّه سيّد أصلح الله به بين أهل الظاهر وأهل الباطن وهما المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام ( يصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ) فهو مصلح وحكيم فأعطى المراتب حقّها وهذا تجده فيما صار إليه الإتّفاق فيما بينه وبين معاوية وشروط الحسن في ذلك فأراد أن يقرّر السياسة الشرعية الظاهرة فسلّمهما لمن نازعه عليها بشروطه أي بشروط الحسن وهذا ما وقع ...إلخ ثمّ مات شهيدا كما هو حال أبيه وكما هو حال عثمان وكما هو حال عمر فهذه الخلافة
أمّا الحسين رضي الله عنه ففعل خلاف أخيه فقد طلب إسترجاع الخلافة الظاهرة لجعلها مع الباطن وهو محقّ في ذلك بلا ريب لعلمه بما كان عليه يزيد من المفاسد , فما قصد إلا جمع الظاهر مع الباطن فيتوحّد الإمام وتنجمع الأمّة كلّها فلا تكون فرقا ولا مذاهب فيرجع الأمر كما كان عليه في عهد الخلفاء , وما يحسن أن يتصّدى لهذا الأمر وهو جمع الظاهر مع الباطن إلا فتى نحرير يبيع الغالي والرخيص من أجل إقامة الدين بحقّ لا بباطل كالذين يريدون الآن أن يقيموا الخلافة الظاهرة دون الخلافة الباطنة فهؤلاء على أقدام معاوية رضي الله عنه وهذا ما أدّاه إليهم إجتهادهم لأنّ علوم الدين تنقسم إلى قسمين : الأوّل : علوم الرسالة : ومنها يستقي أهل الظاهر , الثاني : علوم النبوّة وهي خاصّة بالبعض دون البعض وهي خاصة بأهل الباطن دون أهل الظاهر , فطلب أهل الظاهر نصيبهم من الدين فأعطاهم الله نصيبهم ظاهرا فأقاموا الدين وفتحوا الفتوح , أمّا أهل الباطن فقد نهّج لهم الحسن نهجا ساروا عليه فيما بعد لذا فلو تلاحظ بأنّ أقطاب الصوفية أغلب إنتسابهم في طرقهم للحسن بن علي كما هي عليه طريقة الشاذلية التي هي طريقة الأقطاب وتوشك أن تكون أغلب الطرق تتصل بعلي رضي الله عنه , وقد تقع خصوصيات لعدم التقييد فيكون الإنتساب في بعض الطرق لأبي بكر ولعمر رضي الله عنهما ولكن الغالب الأشهر الذي عليه المعوّل هو أنتساب الصوفية لعلي رضي الله عنه , وأعني بالخصوصيات فقد تجتمع المقامات والأحوال في البعض من غير آل البيت ويكون حاكما مثلما وقع لسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حتى سمّوه بالخليفة الخامس , أمّا القطبانيات الحقيقية فهي من مشمولات آل البيت أعني في الجمع بين الخلافتين الظاهرة والباطنة لذا فإنّ العالم الإسلامي ينتظر المهدي عليه السلام الذي يجمع الله له الخلافتين فعندنا نحن أهل السنّة الذين ساروا على منهج الحسن رضي الله عنه نقول بأنّه من نسل الحسن , أمّا الشيعة الذين بقوا يطلبون الخلافة الظاهرة وهو قولهم في الأئمّة فيقولون بأنّه من أبناء الحسين رضي الله عنه وأنّ المهدي عندهم غائبا الآن في غيبة كبرى بعد صغرى , وقد افترق في هذا جماعة منهم أي من نفس طوائف الشيعة , فإنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مذهبين مختلفين في التحقيق أو تقول نسل الحسن يقول بأقوال الحسن وهذا رأي أهل السنّة فهم أيضا ينتظرون المهدي , أمّا الشيعة فهم يقولون بأنّه من نسل الحسين وقالوا بغيبته فهم ينتظرونه ليقاتلوا أعداءهم بحسب رأيهم وهم أهل السنّة الذين قالوا بتسليم الحكم لأهل الظاهر لورود أحاديث تدعم ذلك وهذا ما إنتهجه الحسن رضي الله عنه لذا فإنّك تراهم لا يلقون بالا للحسين في أكثر أوقاتهم فلا يحزنون عليه بل غاية أمرهم الحسين فقط , هذا ولم نتطرّق إلى ما كذبوا فيه عليه فمزجوا في ذلك الحقّ بالباطل واختلط عليهم الحابل بالنابل , فخالفناهم.
لذا ورد بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة , هذا وليس كلّ آل البيت أئمّة بل الشرف كثير منهم العوام ومنهم الخواص لكن محبّتهم وإحترامهم وجب من غير النظر في خصوصياتهم بل من حيث النصّ الإلهي والأمر النبوي بتقديمهم ومحبّتهم وهكذا .. وعليه تعرف توجيهات الأحاديث النبوية في كلّ من الصحابة وآل البيت فلا تخلط هذا مع هذا ولا تقع في هذا بسبب هذا فإنّهما بينهما برزخ لا يبغيان , ( إبني هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين بين المسلمين ) فافهم وهم أهل الظاهر وأهل الباطن
فالمذاهب الشرعية هي السياسة الشرعية في الظاهر عبادة ومعاملة وفيها وجب إقامة الصلاة ( ما أقاموا فيكم الصلاة ) أي لا تجب منازعتهم
أمّا الطرق الصوفية فهي السياسة الشرعية في الباطن عبادة ومعاملة وهي تعتني بلبّ الدين وجوهره , فلولاهم ما حفظ الدين ..وهكذا فهما لا ينفكّان عن بعضهما
( إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) أي أصلح فيما بين الأخوين : أخا الظاهر وأخا الباطن فهذا معنى الرسالة ومعنى النبوّة
فيجب معرفة أنّ آل البيت هم خلفاء النبوّة من بعد عصر الخلفاء الأربعة وعلوم النبوّة من حيث الظاهر والباطن موجودة فيهم فهم بحقّ وجود نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما بيننا لذا أمرنا بنصوص الحديث مراعاتهم لأنّه قال : ( لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) فالقرآن وآل البيت يعني وجود سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا ...وفي هذا من العلم الكثير , وإنّما أعاتب من لا يفقه هذا فيأتي يسبّ الصحابة ويعتقد فيهم السوء فيحتكر الدين كلّه ويجعله في آل البيت وكأنّ البقية كفّارا , وكذلك خلافه يأتي فيجعل كلّ الدين في الصحابة وكأنّ آل البيت لا ناقة لهم ولا جمل في الدين بل هم من أولاد النبيّ وكفى هذا قوله ( إتّقوا الله في آل بيتي ) فبماذا سنقابل رسول الله في الدنيا والآخرة إذا وقعنا في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم , فكلا الفريقين مخطىء , فما ورث أحد مقام التربية والإرشاد في الظاهر والباطن مثل آل البيت من بعد عصر الصحابة فلا يقاربهم أحد في ذلك البتّة فهم سفينة النجاة بحقّ وهذا له شواهد من الكتاب والسنّة وأقوال الأولياء والعلماء والواقع بالكشف والعلم .
فهذه نبذة في حديثه عليه الصلاة والسلام ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ) أي من حيث فتوّتهما فالفتوّة هي الشباب ( فتى يذكرهم إسمه إبراهيم ) فمزج الشباب الظاهري بالشباب الباطني وهذا حال أهل الجنّة في الجنّة من حيث أنّ الإيمان كلّه شباب فافهم
قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
فنال التعب من فتوّة موسى وفتاه بحكم فناء المريد في شيخه محبّة رغم أنّه مقام شبابي له تعلّق بالهمّة التي هي شباب الطلب فلا تكلّ ولا تملّ فهي في سير دائم وصعود متواصل فافهم فيتنافس هنا الشباب مع الشيوخ لأنّه لا شيخ في الحقيقة في مقام الهمّة ولا رخصة في الهمم وإنّما الرخصة وقعت من حيث العذر البشري بحسب ضعف هيكل البشرية أمّا الروح فلا رخصة لها بل مقامها العزيمة وهو معنى الفرض الذي لا يسقط واجبه على العبد ما دام في الدنيا.
يتبع...
لم يعلم موسى ببلوغه مجمع بينهما ولا بتجاوزه لذلك إلا حينما لقي النصب مع فتاه من سفرهما فما أحسّ بالنصب والتعب إلاّ بعد أن تجاوزا مجمع بينهما فكأنّ همّته عليه السلام أرادت أن ترجعه إلى مجمع بينهما حيث أنّها لم تكلّ من السفر إلى حين بلوغ مجمع بينهما فكان طلبها عين المكان الذي شوّرت إلى طلبه فما أحسّ موسى بالجوع والنصب قبل ذلك ولا طلب الغداء من فتاه رغم أنّ غداءهما وهو الحوت الذي أخذاه في سفرهما زادا لهما فكان يأكلان منه خلاله , وإنّما إحساسه بالنصب فطلب الغداء كان كالإشارة من الله تعالى لهما بأنّهما تجاوزا المكان المقصود فشعوره بالتعب أثار تساؤله في هذا السفر من حيث قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) رغم تعلّق همّته به لذا قلنا ساعدته همّته في الرجوع إلى مجمع بينهما لأنّ الهمّة متى تعلّقت بشيء متاح إلا بلغته كان ما كان هذا الشيء إلا متى لم تساعفها الأقدار لأنّ الهمّة في طي قبضة القدر وسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار أي لا تنال منالها فيما طلبته ولا تصل إليه رغم أنّها تصل إليه طلبا دون حصولا ( فافهم) فقد تطلب بهمّتك مقاما لم يقدّر لك ولم يجر به إلا علم الطلب لا علم القدر في الحصول عليه وأنت مطال بهذا العلم أي بعلم الطلب للحصول ولكن متى لم يقدّر لك فلا تشتغل به فأنت لست مرادا له دون الإصرار على ذلك فإنّه سوء أدب يوقع في الإعتراض هذا بخصوص الخصوصيات لا في خصوص طلب العبودية فإنّ العبودية ليست خاصّة بل هي عامّة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون فافهم .فالهمّة متى طلبت العبودية وتعلّقت بها أنتج ذلك وصول الخصوصية بحسب منالك في العبودية - السابقون السابقون أولائك المقرّبون - أي السابقون إليه وليست هناك همّة سابقة أكثر من همّة العبد الكامل وهي همّته صلى الله عليه وسلّم لأنّه سيّد بني آدم وجميع الأنبياء والمرسلين أي سيّدهم في كلّ شيء لأنّ السيادة قد تكون في وجه دون وجه كما قيل في الحسن والحسين بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة رغم أنّهما توفّيا على مشارف الستّين سنة من عمرهما , ورغم أنّ أعمار أهل الجنّة كلّها سواسية في الثلاث والثلاثين سنة فكيف يكونان سيّدا شباب أهل الجنّة وأهل الجنّة كلّهم شباب لا يبلون , فوجب فهم هذه الحقيقة المرادة من الحديث وذلك بمعرفة المقامات والأحوال وما تعطيه كلّ منزلة وأنت تعلم أنّ الأنبياء والمرسلين كلّهم وكلّ من ذكرت له خصيصة كالصحابة الكبار الخلفاء بما فيهم عليّ رضي الله عنه هم من أهل الجنّة وهم من شبابها وكذلك جميع الأقطاب كأهل الكهف والخضر وجميع أولياء الأمم وأولياء هذه الأمّة وكبار أقطابها كأويس القرني الذي استغفر لعلي وعمر ..فافهم فعلمنا أنّ قوله عليه الصلاة والسلام ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ) يكمن سرّه في قوله ( شباب أهل الجنّة ) دليل على مقام الفتوّة فيهما فلا يوجد أحد من الخلق عدا الأنبياء والمرسلين حصل له من مقام الفتوّة ما حصل للحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما السلام وسذكر هذا قليلا بما أنّ الخاطر نحا هذا المنحى : الحسن والحسين هما مدرستان في الفتوّة كلّ مدرسة هي أصالة في الدين الإسلامي , فالحسن سلّم الحكم لمعاوية رضي الله عنه وإستأثر بالخلافة الباطنة فكان فتى زمانه في الحكمة فإنّه سيّد أصلح الله به بين أهل الظاهر وأهل الباطن وهما المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام ( يصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ) فهو مصلح وحكيم فأعطى المراتب حقّها وهذا تجده فيما صار إليه الإتّفاق فيما بينه وبين معاوية وشروط الحسن في ذلك فأراد أن يقرّر السياسة الشرعية الظاهرة فسلّمهما لمن نازعه عليها بشروطه أي بشروط الحسن وهذا ما وقع ...إلخ ثمّ مات شهيدا كما هو حال أبيه وكما هو حال عثمان وكما هو حال عمر فهذه الخلافة
أمّا الحسين رضي الله عنه ففعل خلاف أخيه فقد طلب إسترجاع الخلافة الظاهرة لجعلها مع الباطن وهو محقّ في ذلك بلا ريب لعلمه بما كان عليه يزيد من المفاسد , فما قصد إلا جمع الظاهر مع الباطن فيتوحّد الإمام وتنجمع الأمّة كلّها فلا تكون فرقا ولا مذاهب فيرجع الأمر كما كان عليه في عهد الخلفاء , وما يحسن أن يتصّدى لهذا الأمر وهو جمع الظاهر مع الباطن إلا فتى نحرير يبيع الغالي والرخيص من أجل إقامة الدين بحقّ لا بباطل كالذين يريدون الآن أن يقيموا الخلافة الظاهرة دون الخلافة الباطنة فهؤلاء على أقدام معاوية رضي الله عنه وهذا ما أدّاه إليهم إجتهادهم لأنّ علوم الدين تنقسم إلى قسمين : الأوّل : علوم الرسالة : ومنها يستقي أهل الظاهر , الثاني : علوم النبوّة وهي خاصّة بالبعض دون البعض وهي خاصة بأهل الباطن دون أهل الظاهر , فطلب أهل الظاهر نصيبهم من الدين فأعطاهم الله نصيبهم ظاهرا فأقاموا الدين وفتحوا الفتوح , أمّا أهل الباطن فقد نهّج لهم الحسن نهجا ساروا عليه فيما بعد لذا فلو تلاحظ بأنّ أقطاب الصوفية أغلب إنتسابهم في طرقهم للحسن بن علي كما هي عليه طريقة الشاذلية التي هي طريقة الأقطاب وتوشك أن تكون أغلب الطرق تتصل بعلي رضي الله عنه , وقد تقع خصوصيات لعدم التقييد فيكون الإنتساب في بعض الطرق لأبي بكر ولعمر رضي الله عنهما ولكن الغالب الأشهر الذي عليه المعوّل هو أنتساب الصوفية لعلي رضي الله عنه , وأعني بالخصوصيات فقد تجتمع المقامات والأحوال في البعض من غير آل البيت ويكون حاكما مثلما وقع لسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حتى سمّوه بالخليفة الخامس , أمّا القطبانيات الحقيقية فهي من مشمولات آل البيت أعني في الجمع بين الخلافتين الظاهرة والباطنة لذا فإنّ العالم الإسلامي ينتظر المهدي عليه السلام الذي يجمع الله له الخلافتين فعندنا نحن أهل السنّة الذين ساروا على منهج الحسن رضي الله عنه نقول بأنّه من نسل الحسن , أمّا الشيعة الذين بقوا يطلبون الخلافة الظاهرة وهو قولهم في الأئمّة فيقولون بأنّه من أبناء الحسين رضي الله عنه وأنّ المهدي عندهم غائبا الآن في غيبة كبرى بعد صغرى , وقد افترق في هذا جماعة منهم أي من نفس طوائف الشيعة , فإنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مذهبين مختلفين في التحقيق أو تقول نسل الحسن يقول بأقوال الحسن وهذا رأي أهل السنّة فهم أيضا ينتظرون المهدي , أمّا الشيعة فهم يقولون بأنّه من نسل الحسين وقالوا بغيبته فهم ينتظرونه ليقاتلوا أعداءهم بحسب رأيهم وهم أهل السنّة الذين قالوا بتسليم الحكم لأهل الظاهر لورود أحاديث تدعم ذلك وهذا ما إنتهجه الحسن رضي الله عنه لذا فإنّك تراهم لا يلقون بالا للحسين في أكثر أوقاتهم فلا يحزنون عليه بل غاية أمرهم الحسين فقط , هذا ولم نتطرّق إلى ما كذبوا فيه عليه فمزجوا في ذلك الحقّ بالباطل واختلط عليهم الحابل بالنابل , فخالفناهم.
لذا ورد بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة , هذا وليس كلّ آل البيت أئمّة بل الشرف كثير منهم العوام ومنهم الخواص لكن محبّتهم وإحترامهم وجب من غير النظر في خصوصياتهم بل من حيث النصّ الإلهي والأمر النبوي بتقديمهم ومحبّتهم وهكذا .. وعليه تعرف توجيهات الأحاديث النبوية في كلّ من الصحابة وآل البيت فلا تخلط هذا مع هذا ولا تقع في هذا بسبب هذا فإنّهما بينهما برزخ لا يبغيان , ( إبني هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين بين المسلمين ) فافهم وهم أهل الظاهر وأهل الباطن
فالمذاهب الشرعية هي السياسة الشرعية في الظاهر عبادة ومعاملة وفيها وجب إقامة الصلاة ( ما أقاموا فيكم الصلاة ) أي لا تجب منازعتهم
أمّا الطرق الصوفية فهي السياسة الشرعية في الباطن عبادة ومعاملة وهي تعتني بلبّ الدين وجوهره , فلولاهم ما حفظ الدين ..وهكذا فهما لا ينفكّان عن بعضهما
( إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) أي أصلح فيما بين الأخوين : أخا الظاهر وأخا الباطن فهذا معنى الرسالة ومعنى النبوّة
فيجب معرفة أنّ آل البيت هم خلفاء النبوّة من بعد عصر الخلفاء الأربعة وعلوم النبوّة من حيث الظاهر والباطن موجودة فيهم فهم بحقّ وجود نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما بيننا لذا أمرنا بنصوص الحديث مراعاتهم لأنّه قال : ( لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) فالقرآن وآل البيت يعني وجود سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا ...وفي هذا من العلم الكثير , وإنّما أعاتب من لا يفقه هذا فيأتي يسبّ الصحابة ويعتقد فيهم السوء فيحتكر الدين كلّه ويجعله في آل البيت وكأنّ البقية كفّارا , وكذلك خلافه يأتي فيجعل كلّ الدين في الصحابة وكأنّ آل البيت لا ناقة لهم ولا جمل في الدين بل هم من أولاد النبيّ وكفى هذا قوله ( إتّقوا الله في آل بيتي ) فبماذا سنقابل رسول الله في الدنيا والآخرة إذا وقعنا في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم , فكلا الفريقين مخطىء , فما ورث أحد مقام التربية والإرشاد في الظاهر والباطن مثل آل البيت من بعد عصر الصحابة فلا يقاربهم أحد في ذلك البتّة فهم سفينة النجاة بحقّ وهذا له شواهد من الكتاب والسنّة وأقوال الأولياء والعلماء والواقع بالكشف والعلم .
فهذه نبذة في حديثه عليه الصلاة والسلام ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ) أي من حيث فتوّتهما فالفتوّة هي الشباب ( فتى يذكرهم إسمه إبراهيم ) فمزج الشباب الظاهري بالشباب الباطني وهذا حال أهل الجنّة في الجنّة من حيث أنّ الإيمان كلّه شباب فافهم
قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
فنال التعب من فتوّة موسى وفتاه بحكم فناء المريد في شيخه محبّة رغم أنّه مقام شبابي له تعلّق بالهمّة التي هي شباب الطلب فلا تكلّ ولا تملّ فهي في سير دائم وصعود متواصل فافهم فيتنافس هنا الشباب مع الشيوخ لأنّه لا شيخ في الحقيقة في مقام الهمّة ولا رخصة في الهمم وإنّما الرخصة وقعت من حيث العذر البشري بحسب ضعف هيكل البشرية أمّا الروح فلا رخصة لها بل مقامها العزيمة وهو معنى الفرض الذي لا يسقط واجبه على العبد ما دام في الدنيا.
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
فطلب الغداء وهو الطعام وما عيّن نوعه الذي هو الحوت فكنّى عنه إشارة تفهيما لفتاه , ثمّ أنّه ما تعلّقت همّته بنوع الطعام بل غاية أهل الله تعالى في مثل هذا سدّ الحاجة وإسكات الجوع فإنّهم لا يتشوّفون إلى أنواع الطعام فإنّهم يأكلون ما حضر لأنّهم في الحقيقة لا يأكلون إلا من الغيب أي يأكلون بما يفتح الله به فهم مع ربّهم في ظاهرهم وباطنهم يسيرون في الحياة الدنيا سير العبد الرباني بلا تدبير ولا إختيار ولا ميل ولا زيغ فحيثما كانوا كانوا بالله وكيفما كانوا كانوا بالله لأنّهم لا يشهدون غيره سبحانه في ظاهرهم وباطنهم فيوفّون المراتب حقّها وما يجب لها من الأدب أدبا مع الله تعالى فيها , ثمّ أنّه رجع من مقام قوّة الروحانية وتصرّفها إلى الإعتراف بمقام عجز البشرية فسكن إلى التواضع وما صدر منه شطح وهذا من الحال المحمدي حينما دخل عام الفتح متواضعا واضعا رأسه تكاد لحيته تمسّ عنق دابته تواضعا لله تعالى مع ما كان عليه في مقام العزّة والقوّة والنجدة وما فيه كفار قريش من الصغار والمذلّة والمسكنة , فما صال وجال كما صال أبو سفيان وجال في أعقاب غزوة أحد فإن الإيمان لا يدلّ إلا على التواضع والذلّ لله سبحانه وتعالى ونهاية طريق الصوفية هو التواضع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلّم ومن ثمّ بقية أهل الإمان ومهما بلغ أحدنا من التواضع فإنّه لا يصل بحال إلى تواضع الأنبياء والمرسلين وفي مقدّمتهم سيّد الوجود ورافع راية مقام الشهود إذ أنّه عليه الصلاة والسلام عين الجمع على الله تعالى , وإنّ لموسى عشقا كبيرا لما عليه المقامات النبوية المحمّدية فحام حولها فيا لله ما أرقى ذوق سيّدنا موسى الكليم عليه من الله الصلاة والتسليم وما أحسن أدبه مع الحضرات ولكنّه أدب ظاهره جلال وباطنه جمال وقد إكتسب سيّدنا عمر بن الخطاب من هذا الحال الموسوي آدابا
وإنّما إعترف بالعجز حتى يخرج من تبعة قوله ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فرجع إلى العجز لتتولّى أمره الحضرة العليّة فإنّه لا فلاح ولا نجاح إلا بها ومن رام أن يصل إلى ملح غدائه من غير توكّله على ربّه فقد رام المحال وإنقلبت النعمة في حقّه نقمة , فأسعفته الحضرة في طلبه بعد أن قال ناطقا بلسان الجمع مع فتاه كناية وإشارة إلى الحقيقة في العجز ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) وهكذا كلّ حضرة تتولّى الدفاع عن نفسها بالله تعالى بوجود أفراد تلك الحضرة ولو كانوا أهل ذنوب ومعاصي وهكذا حضرات المشائخ و ( من آذى ليا وليّا فقد آذنته بحرب ) والحرب غيرة الحضرة لأهلها وهذا له أحكامه في الحقائق من حيث المشارب في المشارق والمغارب ( وحطّ رأسك وإستغفر بلا سبب --- وقم على قدم الإنصاف معتذرا ) لأنّه ( لا ترى العيب إلا فيك معتقدا --- عيبا بدا لكنّه إستتر ) أي بستر الله تعالى , لذا ذكر معه فتاه في هذا النصب وهذا التعب فحضرة الأحباب حاشاها أن تنسى من إنتسب إليها ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فكيف بمن كان جليس موسى وخديمه وفتاه فأنّى له الشقاء , فقال له ( آتنا غداءنا ) فتوّة وعدلا بينه وبين فتاه فما تميّز عنه بشيء ولا قدّم نفسه عليه , قال سيدي محي الدين رضي الله عنه أو غيره في البيت المشهور : (وقدّم إماما كنت أنت أمامه ) أي قدّم من يقدّمك عليه دائما في الدنيا والآخرة فيتمنّى لك الخير قبل أن يتمنّاه لنفسه الذي يسهر من أجل راحتك فيربّيك ويزكّيك ويصبر عليك فيتحنّن إليك جمالا ودلالا حتى أن سيّد المرسلين لا يقرّ له قرار في المحشر وفي الدنيا أيضا حتى تدخل كلّ أمّته الجنّة فيسوقهم أمامه إلى جنان الخلد , يعني فقدّم من كان على هذه الشاكلة لأنّه الإمام والقدوة وإنّما كنت أنت أمامه لأنّه لا يتركك وراءه فلا ينساك بل يقول لك ( لا أسألك نفسي بل أسألك أمّتي أمّتي يا ربّ ) فقدّم هذا الإمام في كلّ شيء لأنّه قام مقام نفسك منك وحمل عنك ما يفيدك ويسعدك في الحياة وبعد الوفاة وهكذا حالة الأشياخ مع مريديهم الصادقين , فقرّ عينا بهم ودقّ طبول الفرح من الآن
فكان فتاه في طي حصن حضرته فذنبه مغفور وسعيه مشكور على شرط المحبّة والطاعة لأنّ الطاعة نتيجتها , فسوّى بينه وبين فتاه في العجز رغم قوّة موسى وجلادته ورفعة همّته و صلابة عزيمته ثمّ أنّ الفتى ما أشار إلى الغداء ولا طلبه من موسى رغم أنّه أعجز من موسى ولا يقوى قوّته ولكنّه لمّا كان محمولا بهمّة شيخه قائما في خدمته فانيا في محبّته أضحى حكمهما واحد فمتى أحسّ هذا بنصب وجوع أحسّ صاحبه وهكذا تكون الصحبة وإلا فلا ( إصحب شيخا عارف المسالك يقيك في طريقك المهالك ) فمن سار بنفسه تعب وخاب ومن سار بشيخه سعد وفاز
ثمّ مع الحال وجب وجود العلم والتأويل والتعليل عند المحقّق الكامل فالحال بغير علم ناقص والعلم بغير حال جمود والجمع بينهما أدب في الظاهر والباطن , لذا علّل له سبب طلبه الغداء فقال ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) لأنّ حال موسى شرعي لا بدّ فيه من تعليل يستقيم مع الظاهر لذا علم الخضر هذا منه فإشترط عليه عدم السؤال الذي يوجب التأويل والتعليل فخالف موسى في حاله , وهذا الأمر يقتل المريدين فإنّك متى خالفتهم في أحوالهم ربّما أضرّوك لذا قال أهل الله تعالى يجب تسليم لأهل الأحوال أحوالهم فلا نعترض عليهم ولا نقتدي بهم لذا كان الإقتداء بالرسل لا بأهل الولاية فيما ليس له تأويل ظاهر من ظاهر الشرع بل تسلّم لهم أحوالهم ولا يقتدى بهم وهذا علم عظيم قد يخفى فهمه على الكثيرين من أهل الولاية فضلا عن غيرهم , ثمّ إنّه علّل له السبب من غير طلب من فتاه خلاف فعل الخضر معه فكان موسى مع فتاه واقفا مع حاله عليه السلام وهكذا سرى حاله في فتاه لما علّل له أيضا نسيان الحوت بقوله ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) وهكذا من هذه المعاني ولولا وجود الخضر في سفرهما لما أحسّ بتعب ولا نصب وإنّما وقتها رجع موسى إلى أحكام حضرة الخضر , لذا علّل ذلك النصب وطلبه للغداء وكأنّه إستغرب هذا النصب في هذا المكان رغم علوّ الهمّة وتشويرها نحو قصدها فإنّ صاحب الهمّة لا تلتفت همّته لشيء البتّة حتى تصل إلى مقصودها فلا تحسّ بتعب ولا نصب لأنّ الروحانية في مثل هذا الموضع تغذّيها وتشدّها
ثمّ أنّه عيّن له علّة السبب وعينه وهو المتمثّل في قوله ( سفرنا هذا ) والسرّ في قوله ( هذا ) فعيّن بإسم الإشارة هذا السفر وكأنّه خاص بهذا السفر أعني هذا النصب على غير عادته في هذا السفر وهي إشارة واضحة لما أراد موسى قوله لفتاه فعلم أنّ الإمتحان بالخضر سيكون عسيرا فأخبر عنه من هذا المكان لذا قال للخضر كما سيأتي (و لا ترهقني من أمري عسرا ) وسيأتي الكلام على هذا وإنّما قصدنا فهم إشارات موسى في هذه الوجوه التي حكيتها بإيجاز وفي فهم إعجاز آيات القرآن وأنّ اللفظ القرآني حمل جميع الحقائق فهو معجز من جميع وجوهه لتعلم غور القرآن وبحوره فتتّخذه وردا ولا نتّخذ القرآن مهجورا
فطلب موسى الغداء من قوله ( قال لفتاه ) فعلمنا حضرة طلب الغداء وأنّها من مقام فتوّته لأنّ الصفة التي سار بها هي صفة الفتوّة وإلا فلولا فتوّته ما سار في طلب الخضر وكذلك فلو نذكر قليلا فتوّة الحبيب صلى الله عليه وسلّم في هذا المحلّ لوجدناها تفوت فتوّة موسى وتعلوها وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام ( يا ليت موسى صبر ) فأشار إلى مقام فتوّته عليه الصلاة والسلام رغم علمه عليه الصلاة والسلام بعدم صبر موسى فقال هذا إشارة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام وما هو عليه في فتوّته الشريفة صلى الله عليه وسلّم وهكذا قوله في جميع الأنبياء كقوله في سليمان ويوسف لما رفض الخروج من السجن حتى تتبيّن براءته وكذلك في بقية الأنبياء والمرسلين فما دلّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك إلا شفوف مرتبته على مراتبهم مفردة ومجتمعة فكيف لا وهو سيّدهم في الدنيا والآخرة
فكان طلبه للطعام من حيث عجزين في الحقيقة عجز في مقام الروحانية وهو الأحقّ ومنه عجز البشرية التي هي غطاء الروحانية وإنّما ملنا إلى قولنا بعجز البشرية وبقوّة الروحانية بحسب دائرة الأكوان أمّا إذا تعلّق الأمر بالمكوّن سبحانه فالعجز عجز في الدنيا والآخرة فإنّه لا إله إلا الله فمن أين لك القوّة حتى تدّعيها فإنّ صاحب الحال على خطر عظيم متى شطح ولا يعلم هذا إلا الذين قدروا الله حقّ قدره لأنّ سيف العلم قاهر متى حاكمك به فلا تسأل غير مغفرة الذنوب فيا فوزنا متى غفرت ذنوبنا فإنّه صلى الله عليه وسلّم ما فاز بشيء أكبر من فوزه بقوله تعالى ( ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) ومن صلى خلف مغفور غفر الله له والغفران عطاء من الله لا يكتسب في الحقيقة بحيلة إلا متى وفّقك الله إلى التوبة بنوعيها توبة توجّه وهي منك إليه وتوبة مواجهة وهي منه إليك لذا قال عليه الصلاة والسلام في هذا المحلّ ( إني أتوب لله وأستغفره في اليوم سبعين مرّة ) وكذلك تاب موسى بعد الصعق وتاب إبراهيم وإبنه إسماعيل عند بناء البيت وتاب يونس ويوسف وإخوته وتاب كلّ الأنبياء والمرسلين وهم المعصومون من الخطأ فما بالك بمن يجري عليه في كلّ يوم الآلاف من الذنوب ثمّ يعتقد في نفسه أنه في مقام كبير فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم
طلب الغداء غذاء البشرية فلو تناوله ما ذهب النصب ولا رجع عنهما التعب لأنّه ليس مقصودا لهما أي الطعام وذلك نجده في قوله ( قال لفتاه ) أي في مقام الروحانية لأنّ الروحانية لا تعلّق لها بطعام الأجسام لذا لما أخبره بنسيان الحوت ( قال ذلك ما كنّا نبغ ) فكأنّ عدم وجود الطعام ونسيانه بل وذهابه في البحر سربا أضحى بشرى لهما فذهب النصب بمجرّد وجود العلامة فإرتدّا على آثارهما قصصا فرجعت الهمّة إلى نشاطها وهكذا هو السير فكلّما أرادت همّة سالك أن تقف ساعفتها الحقائق ( الذي تطلبه أمامك ) كما في الحكمة العطائية وهذه هي البشر واللوائح في مختلف مراتبها تكون عونا للعبد على بلوغ مستوى مشارف همّته ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) فهما عون لنا في عبادتنا إلى ربّنا أو تقول في سيرنا إليه فمن لا سير له لا إيمان حقيقة له ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ومن كان يومه خير من أمسه فهو في زيادة ...إلخ هذه المعاني
يتبع...
فطلب الغداء وهو الطعام وما عيّن نوعه الذي هو الحوت فكنّى عنه إشارة تفهيما لفتاه , ثمّ أنّه ما تعلّقت همّته بنوع الطعام بل غاية أهل الله تعالى في مثل هذا سدّ الحاجة وإسكات الجوع فإنّهم لا يتشوّفون إلى أنواع الطعام فإنّهم يأكلون ما حضر لأنّهم في الحقيقة لا يأكلون إلا من الغيب أي يأكلون بما يفتح الله به فهم مع ربّهم في ظاهرهم وباطنهم يسيرون في الحياة الدنيا سير العبد الرباني بلا تدبير ولا إختيار ولا ميل ولا زيغ فحيثما كانوا كانوا بالله وكيفما كانوا كانوا بالله لأنّهم لا يشهدون غيره سبحانه في ظاهرهم وباطنهم فيوفّون المراتب حقّها وما يجب لها من الأدب أدبا مع الله تعالى فيها , ثمّ أنّه رجع من مقام قوّة الروحانية وتصرّفها إلى الإعتراف بمقام عجز البشرية فسكن إلى التواضع وما صدر منه شطح وهذا من الحال المحمدي حينما دخل عام الفتح متواضعا واضعا رأسه تكاد لحيته تمسّ عنق دابته تواضعا لله تعالى مع ما كان عليه في مقام العزّة والقوّة والنجدة وما فيه كفار قريش من الصغار والمذلّة والمسكنة , فما صال وجال كما صال أبو سفيان وجال في أعقاب غزوة أحد فإن الإيمان لا يدلّ إلا على التواضع والذلّ لله سبحانه وتعالى ونهاية طريق الصوفية هو التواضع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلّم ومن ثمّ بقية أهل الإمان ومهما بلغ أحدنا من التواضع فإنّه لا يصل بحال إلى تواضع الأنبياء والمرسلين وفي مقدّمتهم سيّد الوجود ورافع راية مقام الشهود إذ أنّه عليه الصلاة والسلام عين الجمع على الله تعالى , وإنّ لموسى عشقا كبيرا لما عليه المقامات النبوية المحمّدية فحام حولها فيا لله ما أرقى ذوق سيّدنا موسى الكليم عليه من الله الصلاة والتسليم وما أحسن أدبه مع الحضرات ولكنّه أدب ظاهره جلال وباطنه جمال وقد إكتسب سيّدنا عمر بن الخطاب من هذا الحال الموسوي آدابا
وإنّما إعترف بالعجز حتى يخرج من تبعة قوله ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فرجع إلى العجز لتتولّى أمره الحضرة العليّة فإنّه لا فلاح ولا نجاح إلا بها ومن رام أن يصل إلى ملح غدائه من غير توكّله على ربّه فقد رام المحال وإنقلبت النعمة في حقّه نقمة , فأسعفته الحضرة في طلبه بعد أن قال ناطقا بلسان الجمع مع فتاه كناية وإشارة إلى الحقيقة في العجز ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) وهكذا كلّ حضرة تتولّى الدفاع عن نفسها بالله تعالى بوجود أفراد تلك الحضرة ولو كانوا أهل ذنوب ومعاصي وهكذا حضرات المشائخ و ( من آذى ليا وليّا فقد آذنته بحرب ) والحرب غيرة الحضرة لأهلها وهذا له أحكامه في الحقائق من حيث المشارب في المشارق والمغارب ( وحطّ رأسك وإستغفر بلا سبب --- وقم على قدم الإنصاف معتذرا ) لأنّه ( لا ترى العيب إلا فيك معتقدا --- عيبا بدا لكنّه إستتر ) أي بستر الله تعالى , لذا ذكر معه فتاه في هذا النصب وهذا التعب فحضرة الأحباب حاشاها أن تنسى من إنتسب إليها ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فكيف بمن كان جليس موسى وخديمه وفتاه فأنّى له الشقاء , فقال له ( آتنا غداءنا ) فتوّة وعدلا بينه وبين فتاه فما تميّز عنه بشيء ولا قدّم نفسه عليه , قال سيدي محي الدين رضي الله عنه أو غيره في البيت المشهور : (وقدّم إماما كنت أنت أمامه ) أي قدّم من يقدّمك عليه دائما في الدنيا والآخرة فيتمنّى لك الخير قبل أن يتمنّاه لنفسه الذي يسهر من أجل راحتك فيربّيك ويزكّيك ويصبر عليك فيتحنّن إليك جمالا ودلالا حتى أن سيّد المرسلين لا يقرّ له قرار في المحشر وفي الدنيا أيضا حتى تدخل كلّ أمّته الجنّة فيسوقهم أمامه إلى جنان الخلد , يعني فقدّم من كان على هذه الشاكلة لأنّه الإمام والقدوة وإنّما كنت أنت أمامه لأنّه لا يتركك وراءه فلا ينساك بل يقول لك ( لا أسألك نفسي بل أسألك أمّتي أمّتي يا ربّ ) فقدّم هذا الإمام في كلّ شيء لأنّه قام مقام نفسك منك وحمل عنك ما يفيدك ويسعدك في الحياة وبعد الوفاة وهكذا حالة الأشياخ مع مريديهم الصادقين , فقرّ عينا بهم ودقّ طبول الفرح من الآن
فكان فتاه في طي حصن حضرته فذنبه مغفور وسعيه مشكور على شرط المحبّة والطاعة لأنّ الطاعة نتيجتها , فسوّى بينه وبين فتاه في العجز رغم قوّة موسى وجلادته ورفعة همّته و صلابة عزيمته ثمّ أنّ الفتى ما أشار إلى الغداء ولا طلبه من موسى رغم أنّه أعجز من موسى ولا يقوى قوّته ولكنّه لمّا كان محمولا بهمّة شيخه قائما في خدمته فانيا في محبّته أضحى حكمهما واحد فمتى أحسّ هذا بنصب وجوع أحسّ صاحبه وهكذا تكون الصحبة وإلا فلا ( إصحب شيخا عارف المسالك يقيك في طريقك المهالك ) فمن سار بنفسه تعب وخاب ومن سار بشيخه سعد وفاز
ثمّ مع الحال وجب وجود العلم والتأويل والتعليل عند المحقّق الكامل فالحال بغير علم ناقص والعلم بغير حال جمود والجمع بينهما أدب في الظاهر والباطن , لذا علّل له سبب طلبه الغداء فقال ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) لأنّ حال موسى شرعي لا بدّ فيه من تعليل يستقيم مع الظاهر لذا علم الخضر هذا منه فإشترط عليه عدم السؤال الذي يوجب التأويل والتعليل فخالف موسى في حاله , وهذا الأمر يقتل المريدين فإنّك متى خالفتهم في أحوالهم ربّما أضرّوك لذا قال أهل الله تعالى يجب تسليم لأهل الأحوال أحوالهم فلا نعترض عليهم ولا نقتدي بهم لذا كان الإقتداء بالرسل لا بأهل الولاية فيما ليس له تأويل ظاهر من ظاهر الشرع بل تسلّم لهم أحوالهم ولا يقتدى بهم وهذا علم عظيم قد يخفى فهمه على الكثيرين من أهل الولاية فضلا عن غيرهم , ثمّ إنّه علّل له السبب من غير طلب من فتاه خلاف فعل الخضر معه فكان موسى مع فتاه واقفا مع حاله عليه السلام وهكذا سرى حاله في فتاه لما علّل له أيضا نسيان الحوت بقوله ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) وهكذا من هذه المعاني ولولا وجود الخضر في سفرهما لما أحسّ بتعب ولا نصب وإنّما وقتها رجع موسى إلى أحكام حضرة الخضر , لذا علّل ذلك النصب وطلبه للغداء وكأنّه إستغرب هذا النصب في هذا المكان رغم علوّ الهمّة وتشويرها نحو قصدها فإنّ صاحب الهمّة لا تلتفت همّته لشيء البتّة حتى تصل إلى مقصودها فلا تحسّ بتعب ولا نصب لأنّ الروحانية في مثل هذا الموضع تغذّيها وتشدّها
ثمّ أنّه عيّن له علّة السبب وعينه وهو المتمثّل في قوله ( سفرنا هذا ) والسرّ في قوله ( هذا ) فعيّن بإسم الإشارة هذا السفر وكأنّه خاص بهذا السفر أعني هذا النصب على غير عادته في هذا السفر وهي إشارة واضحة لما أراد موسى قوله لفتاه فعلم أنّ الإمتحان بالخضر سيكون عسيرا فأخبر عنه من هذا المكان لذا قال للخضر كما سيأتي (و لا ترهقني من أمري عسرا ) وسيأتي الكلام على هذا وإنّما قصدنا فهم إشارات موسى في هذه الوجوه التي حكيتها بإيجاز وفي فهم إعجاز آيات القرآن وأنّ اللفظ القرآني حمل جميع الحقائق فهو معجز من جميع وجوهه لتعلم غور القرآن وبحوره فتتّخذه وردا ولا نتّخذ القرآن مهجورا
فطلب موسى الغداء من قوله ( قال لفتاه ) فعلمنا حضرة طلب الغداء وأنّها من مقام فتوّته لأنّ الصفة التي سار بها هي صفة الفتوّة وإلا فلولا فتوّته ما سار في طلب الخضر وكذلك فلو نذكر قليلا فتوّة الحبيب صلى الله عليه وسلّم في هذا المحلّ لوجدناها تفوت فتوّة موسى وتعلوها وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام ( يا ليت موسى صبر ) فأشار إلى مقام فتوّته عليه الصلاة والسلام رغم علمه عليه الصلاة والسلام بعدم صبر موسى فقال هذا إشارة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام وما هو عليه في فتوّته الشريفة صلى الله عليه وسلّم وهكذا قوله في جميع الأنبياء كقوله في سليمان ويوسف لما رفض الخروج من السجن حتى تتبيّن براءته وكذلك في بقية الأنبياء والمرسلين فما دلّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك إلا شفوف مرتبته على مراتبهم مفردة ومجتمعة فكيف لا وهو سيّدهم في الدنيا والآخرة
فكان طلبه للطعام من حيث عجزين في الحقيقة عجز في مقام الروحانية وهو الأحقّ ومنه عجز البشرية التي هي غطاء الروحانية وإنّما ملنا إلى قولنا بعجز البشرية وبقوّة الروحانية بحسب دائرة الأكوان أمّا إذا تعلّق الأمر بالمكوّن سبحانه فالعجز عجز في الدنيا والآخرة فإنّه لا إله إلا الله فمن أين لك القوّة حتى تدّعيها فإنّ صاحب الحال على خطر عظيم متى شطح ولا يعلم هذا إلا الذين قدروا الله حقّ قدره لأنّ سيف العلم قاهر متى حاكمك به فلا تسأل غير مغفرة الذنوب فيا فوزنا متى غفرت ذنوبنا فإنّه صلى الله عليه وسلّم ما فاز بشيء أكبر من فوزه بقوله تعالى ( ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) ومن صلى خلف مغفور غفر الله له والغفران عطاء من الله لا يكتسب في الحقيقة بحيلة إلا متى وفّقك الله إلى التوبة بنوعيها توبة توجّه وهي منك إليه وتوبة مواجهة وهي منه إليك لذا قال عليه الصلاة والسلام في هذا المحلّ ( إني أتوب لله وأستغفره في اليوم سبعين مرّة ) وكذلك تاب موسى بعد الصعق وتاب إبراهيم وإبنه إسماعيل عند بناء البيت وتاب يونس ويوسف وإخوته وتاب كلّ الأنبياء والمرسلين وهم المعصومون من الخطأ فما بالك بمن يجري عليه في كلّ يوم الآلاف من الذنوب ثمّ يعتقد في نفسه أنه في مقام كبير فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم
طلب الغداء غذاء البشرية فلو تناوله ما ذهب النصب ولا رجع عنهما التعب لأنّه ليس مقصودا لهما أي الطعام وذلك نجده في قوله ( قال لفتاه ) أي في مقام الروحانية لأنّ الروحانية لا تعلّق لها بطعام الأجسام لذا لما أخبره بنسيان الحوت ( قال ذلك ما كنّا نبغ ) فكأنّ عدم وجود الطعام ونسيانه بل وذهابه في البحر سربا أضحى بشرى لهما فذهب النصب بمجرّد وجود العلامة فإرتدّا على آثارهما قصصا فرجعت الهمّة إلى نشاطها وهكذا هو السير فكلّما أرادت همّة سالك أن تقف ساعفتها الحقائق ( الذي تطلبه أمامك ) كما في الحكمة العطائية وهذه هي البشر واللوائح في مختلف مراتبها تكون عونا للعبد على بلوغ مستوى مشارف همّته ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) فهما عون لنا في عبادتنا إلى ربّنا أو تقول في سيرنا إليه فمن لا سير له لا إيمان حقيقة له ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ومن كان يومه خير من أمسه فهو في زيادة ...إلخ هذه المعاني
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى ( ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
بعد أن إعترف بالعجز عن بلوغ مقصده فذكر النصب وشكى الجوع والتعب أسعفته الحضرة قبل أن يحصل له هذا وذلك بنسيان الحوت فكانت للحضرة يد خفيّة تربوية ( فإنّك بأعيننا ) وهكذا حال كلّ نبيّ ورسول وكلّ وليّ موصول فإنّه يعيش في بحبوبة العناية من غير شعور منه ولا دراية فهذا حال الفتيان أهل الإحسان في سيرهم ظاهرا وباطنا فمن لم يشهد رحمة الله وجميع صفاته ذوقا وتحقيقا فإنّه بمعزل عن المعرفة وشؤونها , فإنّه في الظاهر خاطب فتاه أمّا في الباطن فما ناجى غير ربّه ومولاه , هذا لتعلم أنّ المريد وهو يوشع بن نون ناله من التعب والنصب والجوع تبعا لموسى فلاقى ما لاقاه مستسلما سائرا بسير شيخه رغم أنّه ما عزم على هذا السفر ولا قصده فما إعترض بشيء على شيخه رغم أنّ شيخه قال له ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) فأشرك مريده الذي هو فتاه في هذا السفر رغم أنّه ما كان مرادا للفتى ولا عزم عليه ولا طلبه بل طلب موسى وقصده وسفره هو عليه السلام , فأشرك معه فتاه بنسبة السفر إليهما في هذا السفر وأشركه معه في حصول النصب وأشركه معه في الغداء فكان الإشتراك في كلّ شيء ظاهرا وباطنا فهكذا تكون الصحبة مع الشيخ وهكذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنّ من شؤون الصحبة وحقائقها قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه كما حكى القرآن ذلك ( لا تحزن إنّ الله معنا ) فأشركه معه في هذه المعية من الله له وفي هذا حقائق من التوحيد جليلة , فالصحبة في طريق الله تعالى لها شؤونها ولها مهرها الغالي من حيث الخدمة والصدق والصفاء والطاعة والإيثار والعدل والفهم والعلم والفكرة والحكمة وهكذا من بقية معانيها لذا قالوا ( ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح ) وهذه الصحبة هي مقصود القوم من سلوكهم فهذا أمر دلّت عليه النصوص والحقائق فهو من الدين فمن لم يصاحب الرجال فمحال أن يذوق الأحوال , وإن ذاقها فهي معلولة أو قد تكون وهو الغالب مدخولة فإنّ الشجرة لا تنبت بنفسها , لذا فإنّك قد ترى في الكثير من الأوقات بعض أهل الإيمان لهم علوم وفهوم وحكم ونوادر نورية ورغم هذا لكنهم ما كملوا في تربيتهم بل هم واقفون مع نفوسهم يصولون ويجولون مع الأحوال المدخولة بهوى النفس وهذا مقام يعلمه إبليس منّا ويدريه وصاحب هذا الحال غير محفوظ فلا يؤخذ عنه علما ولا فهما فإنّ القوم لا يشربون إلا الشراب الصرف التوحيدي قد علم كلّ أناس مشربهم , فعلى قدر فنائك في محبّة شيخك حقيقة وما تستوجبه تلك المحبّة من خدمة وطاعة تكون محبّة شيخك لك وخدمته لك وما تستوجبه أيضا محبّته لك من طاعة لك من غير شعور منك فلا تظنّ بأنّ شيخك ينساك فكيفما كنت معه بقلبك يكون معك وزيادة ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )
وإنّما جمع ضمير السفر والنصب بالتثنية بين موسى وفتاه رغم أنّهما في عرف الصحبة واحد من حيث المقام الصفاتي النوراني لأنّ المقام الصفاتي يستوجب الجمع فيه كما قال تعالى في حقّ الخضر ( آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما ) بضمير الجمع وهو كما أشرت مقام صفاتي ومن هنا تميّز ضمائر الخطاب في القرآن من حيث الجمع والإفراد والتثنية وما جرى مجرى هذا وفيه أيضا تعرف دلالات علوم الحركات والتصريفات في الوجود من حيث علم النحو والصرف حتى أنّ ساداتنا من الأولياء ألّفوا في ذلك كتبا ككتاب نحو القلوب من حيث التربية وكذلك هناك نحوا من حيث التصريف في الأكوان لأنّه سبحانه الخافض الرافع فأنت إمّا أن تكون حرفا لا يدلّ على معنى في نفسه لأنّك لا تحسن الدلالة في هذا المحلّ وإمّا أن تكون إسما مركّبا من ذلك الحرف بإختلاف تركيبه لأنّ أصل الحروف هو حرف واحد وهو الألف مستعملا لأنّه سبق إستعمالك في العلم , لذا فعلم النحو هو علم يعنى بحركات الحروف في أواخرها والصرف يعنى بها من حيث الإشتقاق والصنع , فأهل النحو هم أهل التربية أمّا أهل علم الصرف فهم أهل التصريف , فكانت الدلالات النحوية في القرآن والدلالات الصرفية وكذلك الإعجاز التركيبي فيه من حيث علوم اللغة ومعانيها في تفاصيلها وكذلك من حيث رسمها وكتابتها كلّها حقائق مصونة عليا ( الرحمان علّم القرآن ) أي جملة وتفصيلا يشير إلى علم نحو القلوب المقرّب إلى حضرة علاّم الغيوب فلا يدلّ هذا التعليم على غيره بل هو تعليم التوجّه إليه أو تقول تعليم الجذب إليه سبحانه لأنّه الأصل ثمّ قال ( خلق الإنسان علّمه البيان ) وهو علم النحو الظاهري في مرتبة الظهور , فالعلم الأوّل لا يستلزم الظهور لذا حدّد الإسم وهو ( الرحمان ) وعيّنه حتى تعطي جميع المراتب في هذا التعليم حقّها أو تقول بأنّ تعليم القرآن في حضرة الإحسان هو المعراج الذي ذكره لك وإختصره ساداتنا في علم السلوك الذي لا يدلّ إلا على الجذب فهو علم رؤية وكشف ومشاهدة , بخلاف العلم الثاني فهو علم إعتبار وفكر وحكمة وتأويل وتعليل وهو لأهل الظاهر أو تقول مقامه عالم الظهور وفيه تخرج الحقائق وإلا فلا خروج لها لأنّ علم الباطن الذي يعنيه الجماعة متى تعلّق بالحرف والكلمة إعرابا وإشتقاقا فقد وقع عليه الظهور من هذه الحقيقة فنقول بأنّ كلّ ما سوى الله تعالى هو من حيث إسمه الظاهر , فكلّ ما وقع عليه الإدراك بأيّة حاسّة أسمائية أو صفاتية فهو عندنا من عالم الظهور وربّما لا يكون عند غيرنا كذلك لأنّ إسمه الباطن وهو المقابل لإسمه الظاهر هو بطون في الظهور فهو ظاهر بالبطون وباطن بالظهور فهو في جميع شؤونه ظاهر أعني متى كان بهذا الشكل نقول بأنّه ظاهر غير خفيّ وعليه فكلّ ما شاهدته منه ووقع عليه العلم والإدراك فهو ظاهر وإلا كيف أدركته متى كان باطنا فيحمل هذا البطون إذن على الظهور متى أدركته وعليه فإسمه الباطن هو عين إسمه الظاهر وكذلك إسمه الظاهر فمن أين جاء هذا الظهور فهو من حيث إسمه الباطن فهو باطن أيضا أعني إسم الظهور فهو عين إسمه الباطن , فهذا الجمع المقصود الذي بين موسى وفتاه وكذلك بين الحقائق كلّها فهنا حصل ( مجمع البحرين ) وهذا مقام خاص برسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يشاركه فيه سواه إذ أنّه لا يجب لإثنين معا فهذا محال بل هو الواحد الذي يقترن به الإثنين لأنّه ليس بعد عدد واحد إلا عدد إثنين فمتى جاء عدد ثلاثة أخذ صاحب الإثنين إثنينته وترك حرف الواحد في وحدانيته من حيث الحضرات أو من حيث الصفات أو من حيث الظهور والأسماء وهكذا في بقية الأعداد فهو أعني عدد إثنين حافظ الوحدانية لعدد الواحد فهو كالحجاب عليه من أن يدخل عليه عدد آخر إلا من بابه فكان هذا العدد وهو إثنين مركّبا فيتفرّقان منه من حيث الصفة الصفتين البطون والظهور لذا قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) فما قال مجمع البحرين والدليل أنّه حشر فتاه معه في الضمير ليدلّ على بعده عن التحلي بهذا المقام المحمّدي المصون فقال ( بلغا ) فما قال ( بلغ ) بذكره منفردا بضمير البلوغ حتى تحفظ المقامات لأصحابها وتؤتى البيوت من أبوابها والدليل الثاني أنّه قال ( بينهما ) فما ذكر البحرين بصفتهما وإسمهما فكأنّهما غابا عن نظر موسى وهذا واقع فعلا إذ فلو لا أنّهما غابا أعني مجمع ( البحرين) لأدركهما موسى وما تجاوز هو وفتاه فعلمنا بأنّ المقام الذي سأله موسى وطلبه من سفره ما أدركه لذا أنكر على الخضر فتفارقا فلو أنّه أدرك مجمع البحرين لما حصل إنكار منه البتّة على الخضر بل لأسرع في تنفيذ ما عزم عليه الخضر قبل فعل الخضر ولوجد الخضر نفسه تابعا لا متبوعا وهذا خاص بسيّد الوجود صلى الله عليه وسلّم فكانت الحقائق في حقّ موسى ناقصة في المقام عن المقام المحمدي فكانت حكايته مع الخضر من الحضرتين الموسوية والخضروية وهذا من علوم القطبانية والفردانية وليس فيهما مقام الإحاطة المحمدية والجمع وهنا حقائق كثيرة عليا مصونة لا يدركها الفكر ولا تخطر على غايات العقول السليمة
يتبع...
بعد أن إعترف بالعجز عن بلوغ مقصده فذكر النصب وشكى الجوع والتعب أسعفته الحضرة قبل أن يحصل له هذا وذلك بنسيان الحوت فكانت للحضرة يد خفيّة تربوية ( فإنّك بأعيننا ) وهكذا حال كلّ نبيّ ورسول وكلّ وليّ موصول فإنّه يعيش في بحبوبة العناية من غير شعور منه ولا دراية فهذا حال الفتيان أهل الإحسان في سيرهم ظاهرا وباطنا فمن لم يشهد رحمة الله وجميع صفاته ذوقا وتحقيقا فإنّه بمعزل عن المعرفة وشؤونها , فإنّه في الظاهر خاطب فتاه أمّا في الباطن فما ناجى غير ربّه ومولاه , هذا لتعلم أنّ المريد وهو يوشع بن نون ناله من التعب والنصب والجوع تبعا لموسى فلاقى ما لاقاه مستسلما سائرا بسير شيخه رغم أنّه ما عزم على هذا السفر ولا قصده فما إعترض بشيء على شيخه رغم أنّ شيخه قال له ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) فأشرك مريده الذي هو فتاه في هذا السفر رغم أنّه ما كان مرادا للفتى ولا عزم عليه ولا طلبه بل طلب موسى وقصده وسفره هو عليه السلام , فأشرك معه فتاه بنسبة السفر إليهما في هذا السفر وأشركه معه في حصول النصب وأشركه معه في الغداء فكان الإشتراك في كلّ شيء ظاهرا وباطنا فهكذا تكون الصحبة مع الشيخ وهكذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنّ من شؤون الصحبة وحقائقها قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه كما حكى القرآن ذلك ( لا تحزن إنّ الله معنا ) فأشركه معه في هذه المعية من الله له وفي هذا حقائق من التوحيد جليلة , فالصحبة في طريق الله تعالى لها شؤونها ولها مهرها الغالي من حيث الخدمة والصدق والصفاء والطاعة والإيثار والعدل والفهم والعلم والفكرة والحكمة وهكذا من بقية معانيها لذا قالوا ( ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح ) وهذه الصحبة هي مقصود القوم من سلوكهم فهذا أمر دلّت عليه النصوص والحقائق فهو من الدين فمن لم يصاحب الرجال فمحال أن يذوق الأحوال , وإن ذاقها فهي معلولة أو قد تكون وهو الغالب مدخولة فإنّ الشجرة لا تنبت بنفسها , لذا فإنّك قد ترى في الكثير من الأوقات بعض أهل الإيمان لهم علوم وفهوم وحكم ونوادر نورية ورغم هذا لكنهم ما كملوا في تربيتهم بل هم واقفون مع نفوسهم يصولون ويجولون مع الأحوال المدخولة بهوى النفس وهذا مقام يعلمه إبليس منّا ويدريه وصاحب هذا الحال غير محفوظ فلا يؤخذ عنه علما ولا فهما فإنّ القوم لا يشربون إلا الشراب الصرف التوحيدي قد علم كلّ أناس مشربهم , فعلى قدر فنائك في محبّة شيخك حقيقة وما تستوجبه تلك المحبّة من خدمة وطاعة تكون محبّة شيخك لك وخدمته لك وما تستوجبه أيضا محبّته لك من طاعة لك من غير شعور منك فلا تظنّ بأنّ شيخك ينساك فكيفما كنت معه بقلبك يكون معك وزيادة ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )
وإنّما جمع ضمير السفر والنصب بالتثنية بين موسى وفتاه رغم أنّهما في عرف الصحبة واحد من حيث المقام الصفاتي النوراني لأنّ المقام الصفاتي يستوجب الجمع فيه كما قال تعالى في حقّ الخضر ( آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما ) بضمير الجمع وهو كما أشرت مقام صفاتي ومن هنا تميّز ضمائر الخطاب في القرآن من حيث الجمع والإفراد والتثنية وما جرى مجرى هذا وفيه أيضا تعرف دلالات علوم الحركات والتصريفات في الوجود من حيث علم النحو والصرف حتى أنّ ساداتنا من الأولياء ألّفوا في ذلك كتبا ككتاب نحو القلوب من حيث التربية وكذلك هناك نحوا من حيث التصريف في الأكوان لأنّه سبحانه الخافض الرافع فأنت إمّا أن تكون حرفا لا يدلّ على معنى في نفسه لأنّك لا تحسن الدلالة في هذا المحلّ وإمّا أن تكون إسما مركّبا من ذلك الحرف بإختلاف تركيبه لأنّ أصل الحروف هو حرف واحد وهو الألف مستعملا لأنّه سبق إستعمالك في العلم , لذا فعلم النحو هو علم يعنى بحركات الحروف في أواخرها والصرف يعنى بها من حيث الإشتقاق والصنع , فأهل النحو هم أهل التربية أمّا أهل علم الصرف فهم أهل التصريف , فكانت الدلالات النحوية في القرآن والدلالات الصرفية وكذلك الإعجاز التركيبي فيه من حيث علوم اللغة ومعانيها في تفاصيلها وكذلك من حيث رسمها وكتابتها كلّها حقائق مصونة عليا ( الرحمان علّم القرآن ) أي جملة وتفصيلا يشير إلى علم نحو القلوب المقرّب إلى حضرة علاّم الغيوب فلا يدلّ هذا التعليم على غيره بل هو تعليم التوجّه إليه أو تقول تعليم الجذب إليه سبحانه لأنّه الأصل ثمّ قال ( خلق الإنسان علّمه البيان ) وهو علم النحو الظاهري في مرتبة الظهور , فالعلم الأوّل لا يستلزم الظهور لذا حدّد الإسم وهو ( الرحمان ) وعيّنه حتى تعطي جميع المراتب في هذا التعليم حقّها أو تقول بأنّ تعليم القرآن في حضرة الإحسان هو المعراج الذي ذكره لك وإختصره ساداتنا في علم السلوك الذي لا يدلّ إلا على الجذب فهو علم رؤية وكشف ومشاهدة , بخلاف العلم الثاني فهو علم إعتبار وفكر وحكمة وتأويل وتعليل وهو لأهل الظاهر أو تقول مقامه عالم الظهور وفيه تخرج الحقائق وإلا فلا خروج لها لأنّ علم الباطن الذي يعنيه الجماعة متى تعلّق بالحرف والكلمة إعرابا وإشتقاقا فقد وقع عليه الظهور من هذه الحقيقة فنقول بأنّ كلّ ما سوى الله تعالى هو من حيث إسمه الظاهر , فكلّ ما وقع عليه الإدراك بأيّة حاسّة أسمائية أو صفاتية فهو عندنا من عالم الظهور وربّما لا يكون عند غيرنا كذلك لأنّ إسمه الباطن وهو المقابل لإسمه الظاهر هو بطون في الظهور فهو ظاهر بالبطون وباطن بالظهور فهو في جميع شؤونه ظاهر أعني متى كان بهذا الشكل نقول بأنّه ظاهر غير خفيّ وعليه فكلّ ما شاهدته منه ووقع عليه العلم والإدراك فهو ظاهر وإلا كيف أدركته متى كان باطنا فيحمل هذا البطون إذن على الظهور متى أدركته وعليه فإسمه الباطن هو عين إسمه الظاهر وكذلك إسمه الظاهر فمن أين جاء هذا الظهور فهو من حيث إسمه الباطن فهو باطن أيضا أعني إسم الظهور فهو عين إسمه الباطن , فهذا الجمع المقصود الذي بين موسى وفتاه وكذلك بين الحقائق كلّها فهنا حصل ( مجمع البحرين ) وهذا مقام خاص برسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يشاركه فيه سواه إذ أنّه لا يجب لإثنين معا فهذا محال بل هو الواحد الذي يقترن به الإثنين لأنّه ليس بعد عدد واحد إلا عدد إثنين فمتى جاء عدد ثلاثة أخذ صاحب الإثنين إثنينته وترك حرف الواحد في وحدانيته من حيث الحضرات أو من حيث الصفات أو من حيث الظهور والأسماء وهكذا في بقية الأعداد فهو أعني عدد إثنين حافظ الوحدانية لعدد الواحد فهو كالحجاب عليه من أن يدخل عليه عدد آخر إلا من بابه فكان هذا العدد وهو إثنين مركّبا فيتفرّقان منه من حيث الصفة الصفتين البطون والظهور لذا قال تعالى ( فلمّا بلغا مجمع بينهما ) فما قال مجمع البحرين والدليل أنّه حشر فتاه معه في الضمير ليدلّ على بعده عن التحلي بهذا المقام المحمّدي المصون فقال ( بلغا ) فما قال ( بلغ ) بذكره منفردا بضمير البلوغ حتى تحفظ المقامات لأصحابها وتؤتى البيوت من أبوابها والدليل الثاني أنّه قال ( بينهما ) فما ذكر البحرين بصفتهما وإسمهما فكأنّهما غابا عن نظر موسى وهذا واقع فعلا إذ فلو لا أنّهما غابا أعني مجمع ( البحرين) لأدركهما موسى وما تجاوز هو وفتاه فعلمنا بأنّ المقام الذي سأله موسى وطلبه من سفره ما أدركه لذا أنكر على الخضر فتفارقا فلو أنّه أدرك مجمع البحرين لما حصل إنكار منه البتّة على الخضر بل لأسرع في تنفيذ ما عزم عليه الخضر قبل فعل الخضر ولوجد الخضر نفسه تابعا لا متبوعا وهذا خاص بسيّد الوجود صلى الله عليه وسلّم فكانت الحقائق في حقّ موسى ناقصة في المقام عن المقام المحمدي فكانت حكايته مع الخضر من الحضرتين الموسوية والخضروية وهذا من علوم القطبانية والفردانية وليس فيهما مقام الإحاطة المحمدية والجمع وهنا حقائق كثيرة عليا مصونة لا يدركها الفكر ولا تخطر على غايات العقول السليمة
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )
وفيه بداية التجريد الذي ظهر في إبداء العجز والظهور فيه في قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) فهي بداية الإرادة الحقيقية وذلك تراه في إعترافه بالعجز فجنح إلى التحلّي بوصف الفقر وإنعدام الحول والقوّة منه فأخبر بعجزه الكامل وهذا المراد منه في هذا السفر , وإنّما حكى نصبه لفتاه وأخبره به حاكيا بلسان فتاه عن حاله وحال فتاه لفناء المريد في إرادة شيخه لأنّ الظاهر والحسّ يعطي أنّه متى قال لفتاه ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) أنّ فتاه أحسّ بما أحسّ به موسى من النصب بدليل ضمير المثنّى الذي أخبر بصيغته موسى ولقائل أن يقول : إذا كان موسى أشرك فتاه معه بهذا الإحساس بالنصب والجوع فكيف ما تذكّر الفتى نسيانه للحوت لأنّ ضرورته التي حكاها موسى تشعر أن يمرّ خاطر الطعام على فكر فتاه بحكم الضرورة المستقاة من قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) ورغم هذا ما تذكّر الفتى نسيان الحوت إلا بعد أن طلب منه موسى الغداء فكان الفتى غائبا في إرادة شيخه فهو يجوع بجوعه ويعطش بعطشه ذوقا وشعورا , ثمّ قوله ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) وكان الأظهر بحسب السياق في هذه الحالة أن يقول ( لقد لقينا من سفرنا هذا جوعا ) لأنّ الذي يقابل الغداء ويستلزمه الجوع قبل النصب والتعب لأنّ النصب تذهبه الراحة والجوع يذهبه الطعام فذكر النصب وهو معنى أعمّ من الجوع , لأنّ الجوع معنى أخصّ منه فخصّص الغداء وعمّم النصب الذي يشمل الجوع وهذا من جوامع الكلم ثمّ في نفس الوقت من وجه آخر عمّم ذكر الغداء وما خصّص نوع الطعام , وعمّم ذكر النصب وما خصّص ذكر الجوع فعلمنا أنّ الطعام ما كان مقصودا لهما لذاته وإنّما مقصودا لغيره وهكذا حال أهل الإرادة من حيث الأسباب فهي ليست مقصودة لذاتها بل مقصودة لغيرها
فهذه الآية هي بداية ذكر التمهيد لملاقاة الشيخ المعلّم وذلك بالتجريد الذي كما ذكرنا هو إظهار الفاقة والحاجة والعجز والتبرئ من الحول والقوّة وهي بداية البشائر بقرب ملاقاة الخضر إذ يعسر أن تلاقي أحد من أهل الله تعالى إلا بعد التحلي بأوصاف العبودية من عجز وفقر وإضطرار , فهناك إضطرّ موسى إضطرارا لملاقاة الخضر بعد أن حكى عجزه عن الوصول إليه فكأنّه تبرّأ من قوله السابق ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) لما يعطيه هذا الكلام من سطوة وقوّة في العزيمة والإرادة وهذا حال المتوجّهين وهو مطلوب منهم إلا أنّهم يتوبون منه سريعا بعد أن تنكشف لهم معالم الحقيقة فيضحى الطالب هو عين المطلوب فيتبرّأ العبد من فعله ومن نسبة الأسباب إليه بل هناك يعرف أنّه عاجز وإنّما لو لا توفيق الله تعالى ما أحسن أن يرفع يده إلى فمه بشربة ماء ويرى ويعاين رحمة الله في الوجود فيتوب توبة الأوّابين فيميّز هناك الحقائق كما هي عليه من غير زيادة ولا نقصان فلا يقول بما يقول به الجبري ولا ينحى منحى المعتزلي بل هو على بيّنة من ربّه فإنّ تلك المسائل التي قد تبدو شائكة في علوم التوحيد تضحى كأسهل ما يكون فهما من غير إتعاب فكر ولا تخمين ولا ظنّ فإنّ العقيدة واضحة وضوح الشمس في قارعة النهار ومتى تكلّم عارف بالله واحد خرس كلّ متكلّم في التوحيد على وجه البسيطة هكذا قال العارفون فإنّ مراقي أهل الله تعالى عالية
فحقيقة الخضر التي سنأتي على ذكرها تستوجب هذا التعب من موسى ليشعر بأهميّة ما ذهب إليه ويتذوّق ثمرات تعبه فيصبر وليعرف عسر الوصول إلى هؤلاء النوع من العلماء وأنّهم كالكبريت الأحمر لا يصل إليه إلا من باع الغالي والنفيس في سبيل الوصول إليهم وملاقاتهم والأخذ عنهم , لذاك تعيّن التجريد من كلّ شيء والتحلي بالعجز التام والوقوف فارغا مستمطرا ما يجود به الجوّاد , وهذا ما يعطيه الأدب في الصحبه فإنّك متى ذهبت لأحد من أهل الله تعالى فعليك بهذا النوع من التجريد فلا تذهب إليه بعلمك ولا بفهمك ولا بحولك وقوّتك
فموسى رجع كما ذكرناه سابقا من قوّة الروحانية في سفرها وتصرّفها فيه إلى مقام العجز والفقر وهو ما تعطيه البشرية فرجع إلى أحكامها التي هي العبودية بعد أن كان محمولا على مراكب الخصوصية فإنّك متى ذهبت إلى أحد من أهل الله بخصوصيتك لم تنل شيئا فعليك أن لا تذهب إلى هذه الطائفة إلا وأنت متحلّيا في وصف عبوديتك وإلا طردوك بقلوبهم وفي حكاية أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه خير مثال في هذا مع شيخه إبن مشيش رضي الله عنه لمّا أمره بالإغتسال والتجرّد من علمه وفهمه وكلّ ما يعوق سيره
فكان رجوعه إلى مقام العجز الذي هو مقام العبودية بداية التلمذة للخضر لذا فبعد هذا وجد الخضر في الوقت من غير إنتظار فليس العبرة بالوصول إلى المكان المقصود وإنّما العبرة بالوصول إلى صاحب المكان لأنّ المكان لا يعرّف إلا بصاحبه وهكذا الزمان وهكذا العلوم والأحوال فافهم وهنا نستنبط عدّة حقائق لا نطيل بذكرها أهمّها أنّك ببحثك عن أماكن الأولياء تطويل في السير بالنسبة إليك وإنّما تحقّق بالعجز والذلّ لله تعالى وأنت في طلبهم فستجدهم أقرب إليك من نفسك وهكذا تعرف الأولياء فإنّ الوليّ محلّ نظره على من يطلبه حالا , لا مكانا وزمانا فافهم وهذا صحيح مجرّب
فعسر وجدان الخضر المطلوب والمقصود أمّا المكان فقد وصله وتجاوزه حتّى , هنا لتعلم أنّ هؤلاء النوع من العباد أعني الخضر وأضرابه هم أهل دلال وهجر ووصال فيهجرونك من حيث أنّهم يريدونك , فظهر دلال الخضر بحسب مقامه الذي فيه فكابد موسى هذا الدلال وأحكامه فما نظر إلى نفسه ولا قيّدته خصوصيته فما أعجب هذا الأمر من الفريقين فهذا يتدلّل وهذا يسايره في دلاله فكان مقام موسى أعلى من الخضر في هذا الأمر فإنّ حاله عليه السلام في زمانه جامع كامل لذا طلب الخضر لينال من علوم الأفراد غيرة منه عليه السلام أن يفوته شيء مقرّب للحضرة ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) فنحن نظرنا لموسى بنظرين : الأوّل : نظرنا لخصوصيته وهي النبوّة والرسالة وما يستوجب لها ذلك من آداب ومعرفة بأحكامها , والثاني : نظرنا لعبوديته وتفنّنه فيها , وهكذا نظرنا لكلّ نبيّ ووليّ فإنّ الصوفي لا يستهويه شيء قطّ أكثر من العبودية لله تعالى وعلى هذه الحقيقة سار الكون بأسره فالواقف على السير والقصص عليه أن يقف على عيون العبودية فيها لا أن تستهويه فقط مراسم الخصوصية فإنّ العبودية فيها من السلامة ما ليس قطّ في الخصوصية لذا فترى ساداتنا من كمّل أهل الولاية لا يتكلّمون مطلقا في خصوصياتهم وهذا الغالب عليهم
يتبع ...
وفيه بداية التجريد الذي ظهر في إبداء العجز والظهور فيه في قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) فهي بداية الإرادة الحقيقية وذلك تراه في إعترافه بالعجز فجنح إلى التحلّي بوصف الفقر وإنعدام الحول والقوّة منه فأخبر بعجزه الكامل وهذا المراد منه في هذا السفر , وإنّما حكى نصبه لفتاه وأخبره به حاكيا بلسان فتاه عن حاله وحال فتاه لفناء المريد في إرادة شيخه لأنّ الظاهر والحسّ يعطي أنّه متى قال لفتاه ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) أنّ فتاه أحسّ بما أحسّ به موسى من النصب بدليل ضمير المثنّى الذي أخبر بصيغته موسى ولقائل أن يقول : إذا كان موسى أشرك فتاه معه بهذا الإحساس بالنصب والجوع فكيف ما تذكّر الفتى نسيانه للحوت لأنّ ضرورته التي حكاها موسى تشعر أن يمرّ خاطر الطعام على فكر فتاه بحكم الضرورة المستقاة من قوله ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) ورغم هذا ما تذكّر الفتى نسيان الحوت إلا بعد أن طلب منه موسى الغداء فكان الفتى غائبا في إرادة شيخه فهو يجوع بجوعه ويعطش بعطشه ذوقا وشعورا , ثمّ قوله ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) وكان الأظهر بحسب السياق في هذه الحالة أن يقول ( لقد لقينا من سفرنا هذا جوعا ) لأنّ الذي يقابل الغداء ويستلزمه الجوع قبل النصب والتعب لأنّ النصب تذهبه الراحة والجوع يذهبه الطعام فذكر النصب وهو معنى أعمّ من الجوع , لأنّ الجوع معنى أخصّ منه فخصّص الغداء وعمّم النصب الذي يشمل الجوع وهذا من جوامع الكلم ثمّ في نفس الوقت من وجه آخر عمّم ذكر الغداء وما خصّص نوع الطعام , وعمّم ذكر النصب وما خصّص ذكر الجوع فعلمنا أنّ الطعام ما كان مقصودا لهما لذاته وإنّما مقصودا لغيره وهكذا حال أهل الإرادة من حيث الأسباب فهي ليست مقصودة لذاتها بل مقصودة لغيرها
فهذه الآية هي بداية ذكر التمهيد لملاقاة الشيخ المعلّم وذلك بالتجريد الذي كما ذكرنا هو إظهار الفاقة والحاجة والعجز والتبرئ من الحول والقوّة وهي بداية البشائر بقرب ملاقاة الخضر إذ يعسر أن تلاقي أحد من أهل الله تعالى إلا بعد التحلي بأوصاف العبودية من عجز وفقر وإضطرار , فهناك إضطرّ موسى إضطرارا لملاقاة الخضر بعد أن حكى عجزه عن الوصول إليه فكأنّه تبرّأ من قوله السابق ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) لما يعطيه هذا الكلام من سطوة وقوّة في العزيمة والإرادة وهذا حال المتوجّهين وهو مطلوب منهم إلا أنّهم يتوبون منه سريعا بعد أن تنكشف لهم معالم الحقيقة فيضحى الطالب هو عين المطلوب فيتبرّأ العبد من فعله ومن نسبة الأسباب إليه بل هناك يعرف أنّه عاجز وإنّما لو لا توفيق الله تعالى ما أحسن أن يرفع يده إلى فمه بشربة ماء ويرى ويعاين رحمة الله في الوجود فيتوب توبة الأوّابين فيميّز هناك الحقائق كما هي عليه من غير زيادة ولا نقصان فلا يقول بما يقول به الجبري ولا ينحى منحى المعتزلي بل هو على بيّنة من ربّه فإنّ تلك المسائل التي قد تبدو شائكة في علوم التوحيد تضحى كأسهل ما يكون فهما من غير إتعاب فكر ولا تخمين ولا ظنّ فإنّ العقيدة واضحة وضوح الشمس في قارعة النهار ومتى تكلّم عارف بالله واحد خرس كلّ متكلّم في التوحيد على وجه البسيطة هكذا قال العارفون فإنّ مراقي أهل الله تعالى عالية
فحقيقة الخضر التي سنأتي على ذكرها تستوجب هذا التعب من موسى ليشعر بأهميّة ما ذهب إليه ويتذوّق ثمرات تعبه فيصبر وليعرف عسر الوصول إلى هؤلاء النوع من العلماء وأنّهم كالكبريت الأحمر لا يصل إليه إلا من باع الغالي والنفيس في سبيل الوصول إليهم وملاقاتهم والأخذ عنهم , لذاك تعيّن التجريد من كلّ شيء والتحلي بالعجز التام والوقوف فارغا مستمطرا ما يجود به الجوّاد , وهذا ما يعطيه الأدب في الصحبه فإنّك متى ذهبت لأحد من أهل الله تعالى فعليك بهذا النوع من التجريد فلا تذهب إليه بعلمك ولا بفهمك ولا بحولك وقوّتك
فموسى رجع كما ذكرناه سابقا من قوّة الروحانية في سفرها وتصرّفها فيه إلى مقام العجز والفقر وهو ما تعطيه البشرية فرجع إلى أحكامها التي هي العبودية بعد أن كان محمولا على مراكب الخصوصية فإنّك متى ذهبت إلى أحد من أهل الله بخصوصيتك لم تنل شيئا فعليك أن لا تذهب إلى هذه الطائفة إلا وأنت متحلّيا في وصف عبوديتك وإلا طردوك بقلوبهم وفي حكاية أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه خير مثال في هذا مع شيخه إبن مشيش رضي الله عنه لمّا أمره بالإغتسال والتجرّد من علمه وفهمه وكلّ ما يعوق سيره
فكان رجوعه إلى مقام العجز الذي هو مقام العبودية بداية التلمذة للخضر لذا فبعد هذا وجد الخضر في الوقت من غير إنتظار فليس العبرة بالوصول إلى المكان المقصود وإنّما العبرة بالوصول إلى صاحب المكان لأنّ المكان لا يعرّف إلا بصاحبه وهكذا الزمان وهكذا العلوم والأحوال فافهم وهنا نستنبط عدّة حقائق لا نطيل بذكرها أهمّها أنّك ببحثك عن أماكن الأولياء تطويل في السير بالنسبة إليك وإنّما تحقّق بالعجز والذلّ لله تعالى وأنت في طلبهم فستجدهم أقرب إليك من نفسك وهكذا تعرف الأولياء فإنّ الوليّ محلّ نظره على من يطلبه حالا , لا مكانا وزمانا فافهم وهذا صحيح مجرّب
فعسر وجدان الخضر المطلوب والمقصود أمّا المكان فقد وصله وتجاوزه حتّى , هنا لتعلم أنّ هؤلاء النوع من العباد أعني الخضر وأضرابه هم أهل دلال وهجر ووصال فيهجرونك من حيث أنّهم يريدونك , فظهر دلال الخضر بحسب مقامه الذي فيه فكابد موسى هذا الدلال وأحكامه فما نظر إلى نفسه ولا قيّدته خصوصيته فما أعجب هذا الأمر من الفريقين فهذا يتدلّل وهذا يسايره في دلاله فكان مقام موسى أعلى من الخضر في هذا الأمر فإنّ حاله عليه السلام في زمانه جامع كامل لذا طلب الخضر لينال من علوم الأفراد غيرة منه عليه السلام أن يفوته شيء مقرّب للحضرة ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) فنحن نظرنا لموسى بنظرين : الأوّل : نظرنا لخصوصيته وهي النبوّة والرسالة وما يستوجب لها ذلك من آداب ومعرفة بأحكامها , والثاني : نظرنا لعبوديته وتفنّنه فيها , وهكذا نظرنا لكلّ نبيّ ووليّ فإنّ الصوفي لا يستهويه شيء قطّ أكثر من العبودية لله تعالى وعلى هذه الحقيقة سار الكون بأسره فالواقف على السير والقصص عليه أن يقف على عيون العبودية فيها لا أن تستهويه فقط مراسم الخصوصية فإنّ العبودية فيها من السلامة ما ليس قطّ في الخصوصية لذا فترى ساداتنا من كمّل أهل الولاية لا يتكلّمون مطلقا في خصوصياتهم وهذا الغالب عليهم
يتبع ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيدي على المكرم جوزيت خيرا على هذا النهر الدافق من المعاني والرقائق، الذي عجزت شخصيا عن ملاحقته بالمتابعة والاطلاع، فالحمد لله أن عرفنا بأمثالكم، وأني إذ أشكركم على السؤال عن هذا العبد الضعيف أعتذر عن تغيبي لكثرة المشاغل فالله المستعان.
وإني أشجعكم على مواصلة توثيق ما يجود الله به عليكم.
ودمتم بألف خير أنتم وجميع الإخوة.
سيدي على المكرم جوزيت خيرا على هذا النهر الدافق من المعاني والرقائق، الذي عجزت شخصيا عن ملاحقته بالمتابعة والاطلاع، فالحمد لله أن عرفنا بأمثالكم، وأني إذ أشكركم على السؤال عن هذا العبد الضعيف أعتذر عن تغيبي لكثرة المشاغل فالله المستعان.
وإني أشجعكم على مواصلة توثيق ما يجود الله به عليكم.
ودمتم بألف خير أنتم وجميع الإخوة.
سلطان- عدد الرسائل : 118
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 24/04/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
أشكرك سيدي سلطان المحترم على مرورك وتشجيعك للعبد الضعيف , قد إفتقدناك كثيرا فلا نظنّك تحرمنا من مشاركاتك في المستقبل قضى الله لك سبحانه كلّ مشاغلك , وجازاك الله عنّا وعنك خيرا
والسلام
والسلام
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
نمرّ إلى الآية التي بعدها حتى لا نطيل كثيرا وإن كانت وجوه الأذواق كثيرة لا حدّ لها وإنّ ما أذكره من الأذواق والعبر هي من بعض الوجوه لا من جميع الوجوه وكذلك فهي معاني وسطية بحسب ميزان القصّة التي هي قصّة مجمع البحرين بمعنى الإعتدال والوسطية في ذلك فلا تستغرقنا الحقيقة أو تستهلكنا الشريعة فنبقى بين المقامين وهذا مسلك عزيز قلّ من يدريه أمّا الذي يفسّر من وجه دون وجه فيستغرقه ذلك الوجه الذي فسّر به فإنّما حكى مقامه من القرآن وما حكى مقام القرآن منه ثمّ إنّ حقيقة التفسير لا يمكن أن تكون إلا في ثلاثة مقامات :
المقام الأوّل : دراية القرآن تركيبا ولغة أي ظاهرا وهذا ما عليه الكثير من المفسّرين من أهل الظاهر في تفسير العبارة وما تعطيه عقلا ونقلا بحسب الظاهر
المقام الثاني : دراية القرآن إيمانا ومعنى باطني وهذا منحى الصوفية وما تعطيه الإشارة من حيث الدلالة التوحيدية
المقام الثالث : هو الإتّصاف بالقرآن وصفا ذاتيا فيكون سمعا وبصرا وهو المعبّر عنه باللسان النبوي ( إجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) وهو يشمل الوجهين الأوّلين ( فانضح البرّ بالبحر )
وسأفسّر هذا القول من حضرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم : وذلك أنّ القلب متى صلح صلح سائر الجسد كما في الحديث فالأنوار أوّل ما تنزل تنزل على القلب ومنه تتفرّق على جميع الأعضاء كالعروق واللحم والعظم وهكذا فالقلب يوزّع ما كمن فيه على كامل الجسد سواء في الإيجاب أو السلب فبحسب القلوب تكون الأجساد والأجسام لذا نقول في الأجساد النورانية بأنّها أجساد مقدّسة كأجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبحكم التبعية لهم من بعدهم الأولياء رضي الله عنهم
والمعنى الثاني أنّ القرآن منزلة قلبية أي صفاتية لأنّ القلب محلّه من العلوم الصفات لذا قال تعالى ( نزّله على قلبك ) , فكلّ ما تجده في ذكر القلوب في الآيات والأحاديث فإنّه يحمل على الصفات النورانية كقوله عليه الصلاة والسلام ( إنّه ليغان على قلبي فأستغفر الله ) وهذا الغين فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسيدي أبي الحسن الشاذلي في رؤيا منامية وهو أنّه غين أنوار لا غين أغيار وغين الأنوار مشمولاته عالم الصفات الإلهية وهي مرتبة واقعة لا محالة لأهل السلوك والصفات يقع فيها التلوين لهذا ورد بأنّ القلب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلّبه كيف يشاء وقوله أصابع (الرحمان) فيه إشارة لمستوى الرحمة أصل التجليات في الأكوان فإنّ الرحمة إمّا أن تكون لك أو أن تكون عليك فلا تخرج من الرحمة في الحالتين لذا قال تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فما قال ( أرسلناك رحمانا للعالمين ) بل قال ( رحمة للعالمين ) وأنت تعلم أنّ الرحمة وصف الرحمان لذا فنحن نعلم وصف الرحمة من حيث قوله ( بسم الله الرحمان الرحيم ) ومعناها أيضا المعكوس وهو قولنا ( نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فهي أي الرحمة إمّا تكون لك وإمّا عليك مثل القرآن فهو إمّا يكون في حقّك هدى أو أن يكون ضلالا فهو يهديك به كما أنّه يضلّك به فلا ترى صورتك إلا من القرآن وفيه فافهم وهذه معاني تكلّ من كتابتها الأيدي ولا تصل إلى شيء منها لأنّ حقيقة العلم لا يكتب أي تكلّ من كتابته لأنّه وصف ذاتي لك متى أصبح في حقّك كذلك فأنّى تحسن كتابته فأحالك في هذا المقام على الإستمداد باطنا روحا وقلبا لأنّها أمور من وراء العقل وإدراكه
المعنى الثالث أنّ فصل الربيع هو فصل الإعتدال فقوله ( ربيع قلبي ) أي الإعتدال في القرآن من حيث التفسير فلا يطغى هذا البحر على ذاك البحر الآخر من حيث الشريعة والحقيقة , لذا كنّا أمّة وسطا من حيث هذا الإعتدال وهو قوله ( إستقم كما أمرت ) الذي شيّبته صلى الله عليه وسلّم هذه الآية وذلك لأنّ فيها الإعتدال بين الشريعة والحقيقة وهذا مقام خاص على كماله بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم وليس لغيره منه غير الميراث وكان موسى عليه السلام قد طلبه في قوله ( مجمع البحرين ) فما ناله ولا كان له عليه من خبر لذا إعترض على الخضر بحسب حضرته وصاحبه الخضر من حيث مرتبة الخضر فليس له حكم الوسطية ولا الإعتدال فهذا من خصوصيات هذه الأمّة في مشاربها لذا قالوا في العارف الكامل ( لا يغلب خوفه رجاءه ولا رجاؤه خوفه )
ثمّ إنّ الإعتدال في تفسير القرآن في مراتبه الثلاث خاص بالعارفين وفي هذا بحور من العلم , فإنّ الواسطة التي بينك وبين ربّك هي القرآن وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( خلقه القرآن ) وكان ( قرآنا يمشي على رجليه ) فهو صلى الله عليه وسلّم المفسّر للقرآن ظاهرا وباطنا ثمّ وصفا جامعا فافهم
فقد يفسّر المفسّر القرآن وهو من أهل الظاهر وقد يأتي غيره من أهل الباطن فيفسّر القرآن بحسب باطنه فيخالفان بعضهما بحسب الظاهر وإن كان لكلّ واحد منهما وجهة هو مولّيها , أمّا الجامع بينهما فهو الذي لا يغلو في النحو في وجهة فتستهلكه دون الأخرى فهذا هو الإعتدال في تفسير القرآن المقول فيه ( إجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) وكذلك فالأحاديث التي تدلّ على طلب الإتّصاف بالقرآن كثيرة لأنّ أعظم السلوك هو ماكان سلوكا بالقرآن وهو خاص بالنبي ّ صلى الله عليه وسلّم لذا قال الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه كان يعلّمهم الإيمان قبل القرآن وذلك لكون القرآن هو مجال صفاتي لا بدّ من إعداد حضرته وتطهيرها ليحلّ فيها كفصل الربيع حتى يتمّ فهمه وإستيعابه في جميع وجوهه فغاية دين الله هو أن يصبح العبد نورا محضا وهو المعبّر عند السالكين في سلوكهم بمقام التنوير فمتى تنوّر القلب أصبح القرآن ربيعه وهذا مذهب أهل السنّة أمّا مذاهب غيرهم في تفسير القرآن فأغلبها سقيمة كمذاهب الشيعة في تفسير القرآن فقد حملوا أغلبه على المهدي المنتظر وآل البيت وو..إلخ أهواءهم وكذلك بقية الطوائف
فهذا تحرير وجيز
المقام الأوّل : دراية القرآن تركيبا ولغة أي ظاهرا وهذا ما عليه الكثير من المفسّرين من أهل الظاهر في تفسير العبارة وما تعطيه عقلا ونقلا بحسب الظاهر
المقام الثاني : دراية القرآن إيمانا ومعنى باطني وهذا منحى الصوفية وما تعطيه الإشارة من حيث الدلالة التوحيدية
المقام الثالث : هو الإتّصاف بالقرآن وصفا ذاتيا فيكون سمعا وبصرا وهو المعبّر عنه باللسان النبوي ( إجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) وهو يشمل الوجهين الأوّلين ( فانضح البرّ بالبحر )
وسأفسّر هذا القول من حضرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم : وذلك أنّ القلب متى صلح صلح سائر الجسد كما في الحديث فالأنوار أوّل ما تنزل تنزل على القلب ومنه تتفرّق على جميع الأعضاء كالعروق واللحم والعظم وهكذا فالقلب يوزّع ما كمن فيه على كامل الجسد سواء في الإيجاب أو السلب فبحسب القلوب تكون الأجساد والأجسام لذا نقول في الأجساد النورانية بأنّها أجساد مقدّسة كأجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبحكم التبعية لهم من بعدهم الأولياء رضي الله عنهم
والمعنى الثاني أنّ القرآن منزلة قلبية أي صفاتية لأنّ القلب محلّه من العلوم الصفات لذا قال تعالى ( نزّله على قلبك ) , فكلّ ما تجده في ذكر القلوب في الآيات والأحاديث فإنّه يحمل على الصفات النورانية كقوله عليه الصلاة والسلام ( إنّه ليغان على قلبي فأستغفر الله ) وهذا الغين فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسيدي أبي الحسن الشاذلي في رؤيا منامية وهو أنّه غين أنوار لا غين أغيار وغين الأنوار مشمولاته عالم الصفات الإلهية وهي مرتبة واقعة لا محالة لأهل السلوك والصفات يقع فيها التلوين لهذا ورد بأنّ القلب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلّبه كيف يشاء وقوله أصابع (الرحمان) فيه إشارة لمستوى الرحمة أصل التجليات في الأكوان فإنّ الرحمة إمّا أن تكون لك أو أن تكون عليك فلا تخرج من الرحمة في الحالتين لذا قال تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فما قال ( أرسلناك رحمانا للعالمين ) بل قال ( رحمة للعالمين ) وأنت تعلم أنّ الرحمة وصف الرحمان لذا فنحن نعلم وصف الرحمة من حيث قوله ( بسم الله الرحمان الرحيم ) ومعناها أيضا المعكوس وهو قولنا ( نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فهي أي الرحمة إمّا تكون لك وإمّا عليك مثل القرآن فهو إمّا يكون في حقّك هدى أو أن يكون ضلالا فهو يهديك به كما أنّه يضلّك به فلا ترى صورتك إلا من القرآن وفيه فافهم وهذه معاني تكلّ من كتابتها الأيدي ولا تصل إلى شيء منها لأنّ حقيقة العلم لا يكتب أي تكلّ من كتابته لأنّه وصف ذاتي لك متى أصبح في حقّك كذلك فأنّى تحسن كتابته فأحالك في هذا المقام على الإستمداد باطنا روحا وقلبا لأنّها أمور من وراء العقل وإدراكه
المعنى الثالث أنّ فصل الربيع هو فصل الإعتدال فقوله ( ربيع قلبي ) أي الإعتدال في القرآن من حيث التفسير فلا يطغى هذا البحر على ذاك البحر الآخر من حيث الشريعة والحقيقة , لذا كنّا أمّة وسطا من حيث هذا الإعتدال وهو قوله ( إستقم كما أمرت ) الذي شيّبته صلى الله عليه وسلّم هذه الآية وذلك لأنّ فيها الإعتدال بين الشريعة والحقيقة وهذا مقام خاص على كماله بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم وليس لغيره منه غير الميراث وكان موسى عليه السلام قد طلبه في قوله ( مجمع البحرين ) فما ناله ولا كان له عليه من خبر لذا إعترض على الخضر بحسب حضرته وصاحبه الخضر من حيث مرتبة الخضر فليس له حكم الوسطية ولا الإعتدال فهذا من خصوصيات هذه الأمّة في مشاربها لذا قالوا في العارف الكامل ( لا يغلب خوفه رجاءه ولا رجاؤه خوفه )
ثمّ إنّ الإعتدال في تفسير القرآن في مراتبه الثلاث خاص بالعارفين وفي هذا بحور من العلم , فإنّ الواسطة التي بينك وبين ربّك هي القرآن وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( خلقه القرآن ) وكان ( قرآنا يمشي على رجليه ) فهو صلى الله عليه وسلّم المفسّر للقرآن ظاهرا وباطنا ثمّ وصفا جامعا فافهم
فقد يفسّر المفسّر القرآن وهو من أهل الظاهر وقد يأتي غيره من أهل الباطن فيفسّر القرآن بحسب باطنه فيخالفان بعضهما بحسب الظاهر وإن كان لكلّ واحد منهما وجهة هو مولّيها , أمّا الجامع بينهما فهو الذي لا يغلو في النحو في وجهة فتستهلكه دون الأخرى فهذا هو الإعتدال في تفسير القرآن المقول فيه ( إجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) وكذلك فالأحاديث التي تدلّ على طلب الإتّصاف بالقرآن كثيرة لأنّ أعظم السلوك هو ماكان سلوكا بالقرآن وهو خاص بالنبي ّ صلى الله عليه وسلّم لذا قال الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه كان يعلّمهم الإيمان قبل القرآن وذلك لكون القرآن هو مجال صفاتي لا بدّ من إعداد حضرته وتطهيرها ليحلّ فيها كفصل الربيع حتى يتمّ فهمه وإستيعابه في جميع وجوهه فغاية دين الله هو أن يصبح العبد نورا محضا وهو المعبّر عند السالكين في سلوكهم بمقام التنوير فمتى تنوّر القلب أصبح القرآن ربيعه وهذا مذهب أهل السنّة أمّا مذاهب غيرهم في تفسير القرآن فأغلبها سقيمة كمذاهب الشيعة في تفسير القرآن فقد حملوا أغلبه على المهدي المنتظر وآل البيت وو..إلخ أهواءهم وكذلك بقية الطوائف
فهذا تحرير وجيز
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
الآية الرابعة من قصّة موسى مع الخضر :
قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا )
بعد أن طلب موسى من فتاه بأن يأتيه بغدائهما إعتذر الفتى عن ذلك بإعتذارين :
الإعتذار الأوّل : في قوله ( قال أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت )
والإعتذار الثاني : في قوله ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره )
فإعترف بذنبه الأوّل فنسب النسيان إلى نفسه دون موسى رغم أنّه أخبر بأنّهما آوى إلى نفس الصخرة , ثمّ إعترف بذنبه الثاني وذلك بأنّه نسي أن يذكره أي أن يخبر موسى بذلك النسيان رغم أنّ تلك الواقعة التي حدثت للحوت من حيث أنّه ( إتّخذ سبيله في البحر عجبا ) تستوجب عدم النسيان لأنّها أمر خارق للعادة يوجب التعجّب الذي ذكره الآن في إخباره لموسى ولكن رغم هذا نسي ذلك لأسباب نذكرها يعطيها مدلول الآية فمن ذلك أنّ نسيانه للحوت إنّما كان لحكمة ربّانية أرادها الله تعالى لأنّها علامة على وجود الخضر فحيثما نسي الفتى الحوت فتلك علامة على مكان وجود الخضر , ومنها أنّ أهل الصفاء من أهل الفتوّة مستغرقون في الأهمّ عن المهمّ فالكرامات والعجائب التي تقع للسائر لا يلتفت إليها ولا تقع منه موقعا في البال فهي بالنسبة إليه كأمر عادي لأنّ الأحوال الكونية لا يشاهدون فيها غير فعل الله تعالى فالله تعالى على كلّ شيء قدير فلمّا كان السفر روحانيا أكثر منه جسمانيّا كانت تلك الخارقة التي وقعت للحوت يستوجبها المقام فكانت كأمر بديهي وهذا تلحظه في قوله ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) فكان هذا العجب المذكور على لسان الفتى إنّما حصل عندما رُدّ إلى ملاحظة الأكوان عندما أحسّ هو وشيخه بالجوع والنصب لذا ذكر هنا العجب في ذكر قصّة الحوت لموسى أمّا قبل هذا فما كان إلا قوله تعالى ( فإتّخذ سبيله في البحر سربا ) فما قال في المقام الأوّل ( عجبا ) بل قال ( سربا ) وهذا المقام يستوجبه هذا النفس الإلهي خلاف المقام الثاني في قوله ( عجبا ) فإنّه يستوجبه حالة الفتى ( فافهم ) لأنّ الكرامات والعجائب إنّما تكون كرامات وعجائب بالنسبة لمقامات العقل والفكر أمّا في مقامات الروح والقلب فهي أمور عادية لأنّ المشاهدة تعطي هذا لذا لمّا تعجّبت إمرأة إبراهيم قيل لها ( أتعجبين من أمر الله ) فتساءلت هنا الملائكة عن هذا التعجّب الذي صدر من سارّة لمّا بشّرت بإسحاق ومن بعد إسحاق بيعقوب فالتعجّب مصدره من مرتبة العقل أي معرفة خرق الحكمة وما تعطيه من مقاييس ظاهرية بخلاف أمر الله الذي نبّهك عليه بقوله تعالى ( إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فهذا التعجّب الذي يصدر من الخلوقين كافّة دليل على أنّهم عبيد لا يخرجون من تقييد عبوديتهم أبدا فالأمر الإلهي يختلف بإختلاف العوالم وأنت تعلم أنّ الله تعالى لازال خافضا رافعا ومعطيا مانعا وقابضا باسطا وهكذا في جميع أسمائه وصفاته فمتى قيّدت هذا بهواجس نفسك فأنت بعيد عن معرفة الله تعالى فلا تظنّ بأنّ العارف بالله تعالى مهما كانت مرتبته في أمان في قرارة نفسه بل هو واقف مع الأدب لعلمه بما تعطيه الشؤون الإلهية وما تعطيه العلوم من العرفة الربانية لذا فنجد بأنّ أشدّ الناس خوفا من الله تعالى هم الأنبياء والمرسلون ومن بعدهم طوائف أهل الولاية من الصدّيقين وهذا دليله (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) فهو في كلّ ذلك ما شاهد غير تقصيره فكأنّه كان سببا رئيسيّا في ذلك النسيان دون موسى وكأنّه كان سببا في نصب شيخه وجوعه فما نظر إلى نفسه ولا راعى شعورها لأنّها حجاب تكون متى أوكله الله تعالى إليها طرفة عين لأنّ مهمّته خدمة شيخه في كلّ ما يحتاج إليه في هذا السفر فمهما وقع منه من تقصير حاسب نفسه حسابا عسيرا ولم يعتذر عنها البتّة لأنّه في صحبته لشيخه لا يراعي إلا جناب الله تعالى فنحن وغيرنا ما نصاحب الشيوخ إلا في الله تعالى لا من أجل ذواتهم وما هم عليه في مقاماتهم فهذه صحبة عند المحقّقين معلولة بل صاحبه لله وفي الله هناك ترى صحبتك لله تعالى ( وأنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ) فإنّ التوجّه إلى الله تعالى ليس فيه واسطة شهودية بل فيه فقط واسطة تربوية فإنّ قول العارفين بأنّ الحبيب صلى الله عليه وسلّم هو الواسطة فيما بين الله تعالى و بين خلقه إنّما يعنون بها الواسطة التربوية حتى تعرف قدرك في الشهود والمرتبة عن طريقها لأنّها القاسمة والله المعطي أمّا من حيث المحبّة والفناء فالأمر بينك وبين مولاك وما غيرك إلا خلق مثلك فالحقيقة الإلهية محيطة بجميع الحقائق ومن كان بهذه المثابة لا نهاية لإحاطته لأنّ الذي يحيط بكلّ شيء فهو حتما لا يحيط به شيء ومتى لم يحط به شيء فهمنا عدم تناهي هذه الإحاطة فهو الظاهر فليس فوقه شيء وهو الباطن فليس دونه شيء فهذه مرتبة ربوبية لا يمكن أن يحملها مخلوق لذا قلنا بعدم ظهور الواسطة في الشهود وإنّما غاية ظهورها في الوجود الذي هو كلّ ما سوى الله تعالى بحكم ظهور المراتب العالية على المراتب النازلة عنها فإنّ بصرك متى رفعته إلى فوق حيث مشاهد الإستواء عاينت هناك إمامك في هذا الرفع فالإمامة هي الواسطة التربوية التي يقصدها المرشدون وإلا فإنّه لا واسطة أصلا بل هي تجليات ربانية في الأكوان فافهم
قلت :
أنظر فهم فتى موسى وما تعطيه حقائق الخدمة من الفهم كيف تلطّف لشيخه في الخطاب غاية التلطّف فما أجابه مباشرة بقوله ( إنّي نسيت الحوت ) بل تلطّف له فذكر له القصّة من أوّلها فكأنّه ما أراد أن يزيد من معاناة شيخه الذي أصابه النصب حفاظا على مشاعره الرقيقة فكأنّه ما أراد أن يزيد من تلك المعاناة فكان جوابه من طريق بعيد فكان جوابه كالتسلية لموسى لما هو فيه من النصب والجوع أنظر خدمته لشيخه ظاهرا وكيف يراعي شعوره باطنا وقد ورد في بعض الخبر ( لئن تنهدم الكعبة سبعين مرّة ولا ينهدم قلب عبد مؤمن واحد ) فإنّه من لم يراع شعور أهل الإيمان فهو في عالم الملكوت من أكبر المجرمين لأنّ الشعور يا سادة من عالم الصفاء أقلّ شيء يخدشه ويجرحه وأعني شعور أهل الإيمان في إيمانهم لا شعور النفس في ظلامها وهناك فرق لا يميّز بينهما غير عارف محقّق لذا فأنت ترى أهل المعرفة أجمل الناس سمتا واحسنهم تلطّفا وأكثره أدبا لذا فمجالسة العارفين لا تملّ منها أبدا ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) وقد كنّا مع بعض إخواننا في مذاكراتنا وذكرنا ونجلس الساعات الطوال فلا نحسّ بمرور تلك الساعات فكأنّها تكون دقيقة أو أقلّ فما بالك بمجالسة الله تعالى أو بمجالسة حبيبه صلى الله عليه وسلّم فكيف تملّ منها فحقيقة المجالسة ما كانت في الخواطر وصفا دائما حيثما إرتحلت كانت معك ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) هذا قيل في القوم فما قولنا إذن في مجالسة الله ورسوله ؟؟؟ أي في عزلة يدخل بها ميدان فكرة ؟ فأين نعيم الجنّة من هذا فمثل هؤلاء العباد تشتاق لهم الجنّة ( اشتاقت الجنة إلى ثلاثة علي وعمار وبلال ) فافهم
فإذا أردت أن تعرف مقامك في الجنّة في الآخرة فأنظر ما تحسّه من النعيم في أرض الدنيا من حيث الإيمان والإحسان فكيفما تكون هنا تكون هناك ورحمة الله أعظم من ذلك وأشمل والله ذو الفضل العظيم , فالصحبة كصحبة يوشع بن نون لموسى هي في حدّ ذاتها كرامة له فما بالك بكرامة الخدمة وهذا ما كانت عليه أحوال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صحبته فإنّه من أعلى المقامات وأرقاها فإنّ سعي الصحابة مشكور وذنبهم مغفور أمّا الذي يتكلّم في الصحابة فهو على غير علم بما تعطيه الحقائق فهو متلوّث بلوثة السياسة والظلم والظلمة فالصحبة في حدّ ذاتها مقاما في الولاية وكذلك المحبّة في حدّ ذاتها مقاما في الولاية وكذلك الخدمة في حدّ ذاتها مقاما في الولاية فكيف بمن جمعها كلّها ثمّ ننسبه إلى الظلم والمعصية والسلب والعياذ بالله تعالى فقلقد حجّرتم واسعا في أخصّ خصوصيات هذا الوسع ثمّ إتّهمونا بالتحجير في أعمّ عموميات هذا الوسع وما ذلك إلا بالرضى عن النفس والدعاوى التي لا حدّ لها والله المستعان
فتلطّفه لشيخه في العبارة من حيث سرد القصّة من أوّلها هو إعتذار لطيف خفيّ في إشارة إلى أنّ الأمر ما كان من نفسه ولا تعمّده ولا جرى له على بال فهو ليس تهاونا منه ولا شيئا من هذا القبيل فأخفى هذا الإعتذار في إعتذاره العلني من حيث إتّهام نفسه من حيث الظاهر فوفّى المقامات حقّها وسار بحسب سير شيخه من حيث الشريعة لأنّها حال شيخه فهو متّصف بهذا الحال من حيث الظاهر وأخفى حاله الباطني الذي أشار إليه في معرض كلامه من حيث سرده للقصّة كاملة من أوّلها ففهم موسى ما أراده فتاه فأيّده على ذلك النسيان فكان الفتى خديما مطيعا بشعور منه ومن غير شعور وهذا نهاية الفناء في مرادات الشيخ فهو حمل الحوت من حيث خدمة شيخه في ظاهره فيما يحتاج إليه زاد الطريق وخدمه في الباطن من حيث أنّه نسي الحوت فكان الفتى سبب وجود العلامة التي رجع إليها موسى وبين هذه الخدمة أعني من حيث الظاهر وتلك الخدمة أعني من حيث الباطن حكما وآدابا كثيرة تشير إلى مرتبة فتى موسى في التحقيق والمعرفة
قلت :
إنّما حكى له قصّة نسيان الحوت من بدايتها فكأنّه إستشعر أن شيخه عجز عن تحديد مكان وجود مجمع البحرين وهو المكان المخصّص لوجود الخضر والإلتقاء به فحكى القصّة من بدايتها فلعلّ شيخه يجد فيها ما يبحث عنه فردّ نظره إلى نظر شيخه وأرجع فهمه إلى فهم شيخه من حيث فهم محتويات ذلك النسيان والإستنباط من ذلك فحكى له مجمل القصّة لعلّ شيخه يجد فيها مبتغاه فكأنّه يريد أن يعينه من حيث طريق الأدب فما ذكر له غير ما وقع له من حيث نسيان الحوت دون أن يستنبط من ذلك أمرا أو فهما بل أرجع كما ذكرنا فهمه إلى فهم شيخه مع أنّه فتح الباب لشيخه في هذا , لذا فلو تلاحظ فإنّه حكى القصّة بدقائقها فذكر له الصخرة ومكان الإيواء ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فأنظر رحمك الله تعالى إلى هذا الأدب العالي الرقيق المفعم بالمحبّة والصدق والشفقة والرحمة والإيناس , فحدّد له مكان الخضر يقينا فهكذا تكون الفتوّة مع الشيوخ وإلا فلا , ثمّ قال ( فإنّي نسيت الحوت ) وما قال ( نسيت غداءنا ) الذي طلبه موسى منه بل حدّد له ذكر الحوت ثمّ زاد فقال ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) فكأنّه دلّه على العلامة تدقيقا وعلى المكان تحديدا فكاّنّ الفتى يقول لشيخه ( نعم الآن تذكّرت بعد أن طلبت منّي الغداء فأقول لك إنّ مكان الخضر الذي رمت لقاءه هو عند الصخرة حيث نسيت الحوت الذي وقعت له حكاية نهاية في العجب ) لكنّه تلطّف في الخطاب من غير إعتقاد ما ذكرته الآن في نفسه ولكنّها أمور شفّافة صافية في غزل للأرواح في مراتب العلوم مع توافر الأدب وإتّهام النفس ثمّ إنّ الفتى علم الآن فقط أنّ نسيان الحوت هو علامة أي علمها بمجرّد أن طلب موسى منه الغداء لذا تمهّل وسرد القصّة من أوّلها وإنّما لم يجزم بما ذهب إليه رغم لوائحه التي بدأت تلوح في من كلام موسى في طلب الغداء وذكره للنصب والتعب فترك الأمر لتصرّف موسى بسرده للقصّة وبقي ينظر ما يرجع به موسى وما سيردّ به عليه بعد أن إستوفى الفتى المقامات حقّها من حيث الأدب ثمّ الخدمة ثمّ المساعدة بما يفتح الله به عليه وهذه الأخيرة من باب ( وشاورهم في الأمر ) فتجاوز فهم الفتى من كلام موسى مجرّد فهمه فقط الطعام ففهم كلامه على وجهه الصحيح فوفّق بين ظاهر الكلام وبين ما يعطيه مدلوله الآخر الذي يدلّ عليه وجود قرينة السفر والغاية والمقصود من كلّ ذلك فهذا السرّ في سرده للقصّة من أوّلها فإنّ كلام أهل الله تعالى يجب فهمه في مقامه المقصود فيحمل بحسب حقائقهم وفي هذا علم طويل عريض لا يمكن لأحد أن يعبّر عنه لفظا لأنّها أمور تُفهم ذوقا وحالا فهي من شؤون الروح وغورها
فهذا مدخل لتفسير الآية ذوقا
يتبع...
قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا )
بعد أن طلب موسى من فتاه بأن يأتيه بغدائهما إعتذر الفتى عن ذلك بإعتذارين :
الإعتذار الأوّل : في قوله ( قال أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت )
والإعتذار الثاني : في قوله ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره )
فإعترف بذنبه الأوّل فنسب النسيان إلى نفسه دون موسى رغم أنّه أخبر بأنّهما آوى إلى نفس الصخرة , ثمّ إعترف بذنبه الثاني وذلك بأنّه نسي أن يذكره أي أن يخبر موسى بذلك النسيان رغم أنّ تلك الواقعة التي حدثت للحوت من حيث أنّه ( إتّخذ سبيله في البحر عجبا ) تستوجب عدم النسيان لأنّها أمر خارق للعادة يوجب التعجّب الذي ذكره الآن في إخباره لموسى ولكن رغم هذا نسي ذلك لأسباب نذكرها يعطيها مدلول الآية فمن ذلك أنّ نسيانه للحوت إنّما كان لحكمة ربّانية أرادها الله تعالى لأنّها علامة على وجود الخضر فحيثما نسي الفتى الحوت فتلك علامة على مكان وجود الخضر , ومنها أنّ أهل الصفاء من أهل الفتوّة مستغرقون في الأهمّ عن المهمّ فالكرامات والعجائب التي تقع للسائر لا يلتفت إليها ولا تقع منه موقعا في البال فهي بالنسبة إليه كأمر عادي لأنّ الأحوال الكونية لا يشاهدون فيها غير فعل الله تعالى فالله تعالى على كلّ شيء قدير فلمّا كان السفر روحانيا أكثر منه جسمانيّا كانت تلك الخارقة التي وقعت للحوت يستوجبها المقام فكانت كأمر بديهي وهذا تلحظه في قوله ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) فكان هذا العجب المذكور على لسان الفتى إنّما حصل عندما رُدّ إلى ملاحظة الأكوان عندما أحسّ هو وشيخه بالجوع والنصب لذا ذكر هنا العجب في ذكر قصّة الحوت لموسى أمّا قبل هذا فما كان إلا قوله تعالى ( فإتّخذ سبيله في البحر سربا ) فما قال في المقام الأوّل ( عجبا ) بل قال ( سربا ) وهذا المقام يستوجبه هذا النفس الإلهي خلاف المقام الثاني في قوله ( عجبا ) فإنّه يستوجبه حالة الفتى ( فافهم ) لأنّ الكرامات والعجائب إنّما تكون كرامات وعجائب بالنسبة لمقامات العقل والفكر أمّا في مقامات الروح والقلب فهي أمور عادية لأنّ المشاهدة تعطي هذا لذا لمّا تعجّبت إمرأة إبراهيم قيل لها ( أتعجبين من أمر الله ) فتساءلت هنا الملائكة عن هذا التعجّب الذي صدر من سارّة لمّا بشّرت بإسحاق ومن بعد إسحاق بيعقوب فالتعجّب مصدره من مرتبة العقل أي معرفة خرق الحكمة وما تعطيه من مقاييس ظاهرية بخلاف أمر الله الذي نبّهك عليه بقوله تعالى ( إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فهذا التعجّب الذي يصدر من الخلوقين كافّة دليل على أنّهم عبيد لا يخرجون من تقييد عبوديتهم أبدا فالأمر الإلهي يختلف بإختلاف العوالم وأنت تعلم أنّ الله تعالى لازال خافضا رافعا ومعطيا مانعا وقابضا باسطا وهكذا في جميع أسمائه وصفاته فمتى قيّدت هذا بهواجس نفسك فأنت بعيد عن معرفة الله تعالى فلا تظنّ بأنّ العارف بالله تعالى مهما كانت مرتبته في أمان في قرارة نفسه بل هو واقف مع الأدب لعلمه بما تعطيه الشؤون الإلهية وما تعطيه العلوم من العرفة الربانية لذا فنجد بأنّ أشدّ الناس خوفا من الله تعالى هم الأنبياء والمرسلون ومن بعدهم طوائف أهل الولاية من الصدّيقين وهذا دليله (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) فهو في كلّ ذلك ما شاهد غير تقصيره فكأنّه كان سببا رئيسيّا في ذلك النسيان دون موسى وكأنّه كان سببا في نصب شيخه وجوعه فما نظر إلى نفسه ولا راعى شعورها لأنّها حجاب تكون متى أوكله الله تعالى إليها طرفة عين لأنّ مهمّته خدمة شيخه في كلّ ما يحتاج إليه في هذا السفر فمهما وقع منه من تقصير حاسب نفسه حسابا عسيرا ولم يعتذر عنها البتّة لأنّه في صحبته لشيخه لا يراعي إلا جناب الله تعالى فنحن وغيرنا ما نصاحب الشيوخ إلا في الله تعالى لا من أجل ذواتهم وما هم عليه في مقاماتهم فهذه صحبة عند المحقّقين معلولة بل صاحبه لله وفي الله هناك ترى صحبتك لله تعالى ( وأنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ) فإنّ التوجّه إلى الله تعالى ليس فيه واسطة شهودية بل فيه فقط واسطة تربوية فإنّ قول العارفين بأنّ الحبيب صلى الله عليه وسلّم هو الواسطة فيما بين الله تعالى و بين خلقه إنّما يعنون بها الواسطة التربوية حتى تعرف قدرك في الشهود والمرتبة عن طريقها لأنّها القاسمة والله المعطي أمّا من حيث المحبّة والفناء فالأمر بينك وبين مولاك وما غيرك إلا خلق مثلك فالحقيقة الإلهية محيطة بجميع الحقائق ومن كان بهذه المثابة لا نهاية لإحاطته لأنّ الذي يحيط بكلّ شيء فهو حتما لا يحيط به شيء ومتى لم يحط به شيء فهمنا عدم تناهي هذه الإحاطة فهو الظاهر فليس فوقه شيء وهو الباطن فليس دونه شيء فهذه مرتبة ربوبية لا يمكن أن يحملها مخلوق لذا قلنا بعدم ظهور الواسطة في الشهود وإنّما غاية ظهورها في الوجود الذي هو كلّ ما سوى الله تعالى بحكم ظهور المراتب العالية على المراتب النازلة عنها فإنّ بصرك متى رفعته إلى فوق حيث مشاهد الإستواء عاينت هناك إمامك في هذا الرفع فالإمامة هي الواسطة التربوية التي يقصدها المرشدون وإلا فإنّه لا واسطة أصلا بل هي تجليات ربانية في الأكوان فافهم
قلت :
أنظر فهم فتى موسى وما تعطيه حقائق الخدمة من الفهم كيف تلطّف لشيخه في الخطاب غاية التلطّف فما أجابه مباشرة بقوله ( إنّي نسيت الحوت ) بل تلطّف له فذكر له القصّة من أوّلها فكأنّه ما أراد أن يزيد من معاناة شيخه الذي أصابه النصب حفاظا على مشاعره الرقيقة فكأنّه ما أراد أن يزيد من تلك المعاناة فكان جوابه من طريق بعيد فكان جوابه كالتسلية لموسى لما هو فيه من النصب والجوع أنظر خدمته لشيخه ظاهرا وكيف يراعي شعوره باطنا وقد ورد في بعض الخبر ( لئن تنهدم الكعبة سبعين مرّة ولا ينهدم قلب عبد مؤمن واحد ) فإنّه من لم يراع شعور أهل الإيمان فهو في عالم الملكوت من أكبر المجرمين لأنّ الشعور يا سادة من عالم الصفاء أقلّ شيء يخدشه ويجرحه وأعني شعور أهل الإيمان في إيمانهم لا شعور النفس في ظلامها وهناك فرق لا يميّز بينهما غير عارف محقّق لذا فأنت ترى أهل المعرفة أجمل الناس سمتا واحسنهم تلطّفا وأكثره أدبا لذا فمجالسة العارفين لا تملّ منها أبدا ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) وقد كنّا مع بعض إخواننا في مذاكراتنا وذكرنا ونجلس الساعات الطوال فلا نحسّ بمرور تلك الساعات فكأنّها تكون دقيقة أو أقلّ فما بالك بمجالسة الله تعالى أو بمجالسة حبيبه صلى الله عليه وسلّم فكيف تملّ منها فحقيقة المجالسة ما كانت في الخواطر وصفا دائما حيثما إرتحلت كانت معك ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) هذا قيل في القوم فما قولنا إذن في مجالسة الله ورسوله ؟؟؟ أي في عزلة يدخل بها ميدان فكرة ؟ فأين نعيم الجنّة من هذا فمثل هؤلاء العباد تشتاق لهم الجنّة ( اشتاقت الجنة إلى ثلاثة علي وعمار وبلال ) فافهم
فإذا أردت أن تعرف مقامك في الجنّة في الآخرة فأنظر ما تحسّه من النعيم في أرض الدنيا من حيث الإيمان والإحسان فكيفما تكون هنا تكون هناك ورحمة الله أعظم من ذلك وأشمل والله ذو الفضل العظيم , فالصحبة كصحبة يوشع بن نون لموسى هي في حدّ ذاتها كرامة له فما بالك بكرامة الخدمة وهذا ما كانت عليه أحوال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صحبته فإنّه من أعلى المقامات وأرقاها فإنّ سعي الصحابة مشكور وذنبهم مغفور أمّا الذي يتكلّم في الصحابة فهو على غير علم بما تعطيه الحقائق فهو متلوّث بلوثة السياسة والظلم والظلمة فالصحبة في حدّ ذاتها مقاما في الولاية وكذلك المحبّة في حدّ ذاتها مقاما في الولاية وكذلك الخدمة في حدّ ذاتها مقاما في الولاية فكيف بمن جمعها كلّها ثمّ ننسبه إلى الظلم والمعصية والسلب والعياذ بالله تعالى فقلقد حجّرتم واسعا في أخصّ خصوصيات هذا الوسع ثمّ إتّهمونا بالتحجير في أعمّ عموميات هذا الوسع وما ذلك إلا بالرضى عن النفس والدعاوى التي لا حدّ لها والله المستعان
فتلطّفه لشيخه في العبارة من حيث سرد القصّة من أوّلها هو إعتذار لطيف خفيّ في إشارة إلى أنّ الأمر ما كان من نفسه ولا تعمّده ولا جرى له على بال فهو ليس تهاونا منه ولا شيئا من هذا القبيل فأخفى هذا الإعتذار في إعتذاره العلني من حيث إتّهام نفسه من حيث الظاهر فوفّى المقامات حقّها وسار بحسب سير شيخه من حيث الشريعة لأنّها حال شيخه فهو متّصف بهذا الحال من حيث الظاهر وأخفى حاله الباطني الذي أشار إليه في معرض كلامه من حيث سرده للقصّة كاملة من أوّلها ففهم موسى ما أراده فتاه فأيّده على ذلك النسيان فكان الفتى خديما مطيعا بشعور منه ومن غير شعور وهذا نهاية الفناء في مرادات الشيخ فهو حمل الحوت من حيث خدمة شيخه في ظاهره فيما يحتاج إليه زاد الطريق وخدمه في الباطن من حيث أنّه نسي الحوت فكان الفتى سبب وجود العلامة التي رجع إليها موسى وبين هذه الخدمة أعني من حيث الظاهر وتلك الخدمة أعني من حيث الباطن حكما وآدابا كثيرة تشير إلى مرتبة فتى موسى في التحقيق والمعرفة
قلت :
إنّما حكى له قصّة نسيان الحوت من بدايتها فكأنّه إستشعر أن شيخه عجز عن تحديد مكان وجود مجمع البحرين وهو المكان المخصّص لوجود الخضر والإلتقاء به فحكى القصّة من بدايتها فلعلّ شيخه يجد فيها ما يبحث عنه فردّ نظره إلى نظر شيخه وأرجع فهمه إلى فهم شيخه من حيث فهم محتويات ذلك النسيان والإستنباط من ذلك فحكى له مجمل القصّة لعلّ شيخه يجد فيها مبتغاه فكأنّه يريد أن يعينه من حيث طريق الأدب فما ذكر له غير ما وقع له من حيث نسيان الحوت دون أن يستنبط من ذلك أمرا أو فهما بل أرجع كما ذكرنا فهمه إلى فهم شيخه مع أنّه فتح الباب لشيخه في هذا , لذا فلو تلاحظ فإنّه حكى القصّة بدقائقها فذكر له الصخرة ومكان الإيواء ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فأنظر رحمك الله تعالى إلى هذا الأدب العالي الرقيق المفعم بالمحبّة والصدق والشفقة والرحمة والإيناس , فحدّد له مكان الخضر يقينا فهكذا تكون الفتوّة مع الشيوخ وإلا فلا , ثمّ قال ( فإنّي نسيت الحوت ) وما قال ( نسيت غداءنا ) الذي طلبه موسى منه بل حدّد له ذكر الحوت ثمّ زاد فقال ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) فكأنّه دلّه على العلامة تدقيقا وعلى المكان تحديدا فكاّنّ الفتى يقول لشيخه ( نعم الآن تذكّرت بعد أن طلبت منّي الغداء فأقول لك إنّ مكان الخضر الذي رمت لقاءه هو عند الصخرة حيث نسيت الحوت الذي وقعت له حكاية نهاية في العجب ) لكنّه تلطّف في الخطاب من غير إعتقاد ما ذكرته الآن في نفسه ولكنّها أمور شفّافة صافية في غزل للأرواح في مراتب العلوم مع توافر الأدب وإتّهام النفس ثمّ إنّ الفتى علم الآن فقط أنّ نسيان الحوت هو علامة أي علمها بمجرّد أن طلب موسى منه الغداء لذا تمهّل وسرد القصّة من أوّلها وإنّما لم يجزم بما ذهب إليه رغم لوائحه التي بدأت تلوح في من كلام موسى في طلب الغداء وذكره للنصب والتعب فترك الأمر لتصرّف موسى بسرده للقصّة وبقي ينظر ما يرجع به موسى وما سيردّ به عليه بعد أن إستوفى الفتى المقامات حقّها من حيث الأدب ثمّ الخدمة ثمّ المساعدة بما يفتح الله به عليه وهذه الأخيرة من باب ( وشاورهم في الأمر ) فتجاوز فهم الفتى من كلام موسى مجرّد فهمه فقط الطعام ففهم كلامه على وجهه الصحيح فوفّق بين ظاهر الكلام وبين ما يعطيه مدلوله الآخر الذي يدلّ عليه وجود قرينة السفر والغاية والمقصود من كلّ ذلك فهذا السرّ في سرده للقصّة من أوّلها فإنّ كلام أهل الله تعالى يجب فهمه في مقامه المقصود فيحمل بحسب حقائقهم وفي هذا علم طويل عريض لا يمكن لأحد أن يعبّر عنه لفظا لأنّها أمور تُفهم ذوقا وحالا فهي من شؤون الروح وغورها
فهذا مدخل لتفسير الآية ذوقا
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيدي الحبيب علي
بارك الله فيك على ما تتحفنا وتنورنا به
والعبد الضعيف أنشرح جدا لهكذا فهوم فهذه المجالس وإلاّ فلا...
وإني أشجعكم على مواصلة توثيق ما يجود الله به عليكم كما قال سيدي سلطان أعانه الله في تدريسه...
ودمتم وجميع الإخوة بين الرقائق والحقائق ترتعون....
أبو أويس- عدد الرسائل : 1577
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
جازاك الله عنّا وعنك خيرا سيدي محسن الحبيب
إن شاء الله تعالى سنكمل خواطرنا في هذه القصّة التي وبكلّ تواضع أقول ما رأيت من شفا لي فيها غليلا في كتب التفاسير رغم أنّها قصّة عظيمة ويكفي أنّ المناظرة كانت بين قطبين كبيرين في العلوم والفهوم من حيث الحقائق العليا المصونة لذا فالعبد الفقير يستعمل فكرته في ذلك علّني أضيف فيها جديدا أو ذوقا محمودا ولا أدّعي بأنّي من المفسّرين ولا لي ذلك الباع ولكن هكذا تعلّق قلبي بهؤلاء القوم فلا أقدر على مفارقتهم
إن شاء الله تعالى سنكمل خواطرنا في هذه القصّة التي وبكلّ تواضع أقول ما رأيت من شفا لي فيها غليلا في كتب التفاسير رغم أنّها قصّة عظيمة ويكفي أنّ المناظرة كانت بين قطبين كبيرين في العلوم والفهوم من حيث الحقائق العليا المصونة لذا فالعبد الفقير يستعمل فكرته في ذلك علّني أضيف فيها جديدا أو ذوقا محمودا ولا أدّعي بأنّي من المفسّرين ولا لي ذلك الباع ولكن هكذا تعلّق قلبي بهؤلاء القوم فلا أقدر على مفارقتهم
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
الحمد لله الذي ليس كمثله شيء
والصلاة والسلام على من كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما وآله وصحبه
قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا )
قد ظهر فيما سبق من الكلام أنّ موسى وفتاه في بادئ أمرهما آوى إلى الصخرة حيث نسيا حوتهما وهنا لا بدّ من وقفة نقفها نثبت خلالها ونبيّن فيها إعجاز القرآن في وصفه ولغته في مثل هذه القصص وجمعه للمعاني كلّها والإحاطة بدقائقها الظاهرة والباطنة فردا فردا ومجموعا مجموعا لأدلّك هنا على بعض خفايا العلوم في القرآن وأنّ معانيه وعجائبه لا تنقضي ولتعلم أنّه المعجزة الخالدة ذوقا وشهودا وليس مجرّد علم وتصديق لأنّ التصديق مقامه التسليم بمحبّة وشوق وعشق فالتصديق هو مقام الأميّة المنعوت فعلى قدر أميّتك تكون صدّيقيتك , والأميّة ليست مقاما علميا ولا صفاتيا بل هي مقام ذاتي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أميّا ظاهرا في الأكوان بمعنى أنّه ذاتي التوجّه باطنا وكذلك في هذا العالم وهو عالم الظهور فهو أميّ أي ذاتي التوجّه فيه بمعنى أنّه أظهر وصف الذّات في جميع أوجه التجلّيات في الظاهر والباطن فمن شدّه تعلّقه بالذات ظهرت أميّته في الأكوان ظاهرها وباطنها فمقام الأميّة فيه مقامات ذاتية بحتة فلا يدلّ هذا المقام إلا على الذات فكن أميّا في هذا التوجّه تسعد وهذا هو مقام التصديق الحقيقي , لذا فمن كان في مثل هذه الأميّة طالبته الحضرة بالقراءة أي بقراءة جميع أحكام الصفات والأسماء بشهود أنوار الذات فيها فها إنّي أخبرتك عن معنى الأميّة في أجلى مظهر لتفتخر بهذا المقام متى رزقك الله ذرّة منه , ومنه تعرف مقامات من كان أميّا من الأولياء فإنّ أغلبهم ليس له علم عن شيء إلا متى شهده بالذات في جميع تجلياتها فهؤلاء هم الذاتيون جعلنا الله منهم بمنّه وكرمهم , فالأميّة هي سرّ التوحيد الذي لا تكون التربية إلا به وأعني بالتربية أي تجاوز الخيالات الكونية والفناء في حضرة الجمع ومن ثمّ الخروج بالنفس الإلهي الذي أوجدك به في الحقيقة من حيث قوله ( ونفخت فيه من روحي ) فأنت الآن نائم عن معرفة أو إستشعار هذا النفخ ولا يمكنك أن تستيقظ فتعرفه إلا في عالم البقاء فترجع الصورة كما كانت فإنمحى وصف الخيال منك فأضحى الخيال يطلبك ليقتدي بك فلا يستطيع لأنّك صرت حقيقة قدسية مقدّسة عن الوهم والخيال فكان بقاؤك بالله وليس بقاؤك بإبقاء الله , وفي هذا المعنى الخفيّ فسد قول بعض أهل الفلسفة من حيث الدلالة فتصرّفوا في المعنى من غير معرفة به فوضعوه في غير موضعه وقد أمرنا أن نضع الأشياء في موضعها وأن نؤدّي الآمانات إلى أهلها كما فعلت السماوات والأرض في الأمانة
قلت : وجه الإعجاز من حيث إتّحاد اللفظ مع المعنى الشامل المحيط ظاهرا وباطنا في هذه الآية المتعلّقة بقصّة موسى مع الخضر هو قوله تعالى في الآية السابقة : (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) فنسب النسيان إليهما جميعا رغم أنّ الفتى هو الذي نسي الحوت فكيف يمكن في هذه الحالة أن ينسب الله تعالى النسيان إلى موسى مع فتاه رغم أنّ موسى يبحث عن العلامة وهي النسيان فلو أنّه شعر بهذا النسيان عند الصخرة التي آوى إليها مع فتاه لإستدلّ بذلك على أنّ ذلك المكان هو مكان وجود الخضر وهو المكان المقصود للإلتقاء به فعلمنا أنّ موسى ما نسي الحوت وما إستشعر هذا النسيان إذ لو أنّه إستشعر ذاك النسيان لمكث هناك ينتظر الخضر ولما كان تجاوز مجمع بينهما , ورغم هذا نسب الله تعالى له النسيان فقال تعالى (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) فماذ نقول متى وقفنا مع هذا الكلام الربّاني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وعليه قلنا بعلوم الحضرات وما تعطيه من حيث أنّ الفتى وهو مقدّم الحضرة الموسوية نسي الحوت فإنّما نساه من حيث حقيقته الموسوية فهو في الشاهد كأنّه موسى من حيث هذا النسيان وكأنّ موسى هو فتاه من حيث هذا النسيان لأنّ الفتى متحقّق بحقائق موسى أي ساري مدده فيه وهكذا كلّ نبيّ في أتباعه وكلّ شيخ في مريديه فكان الحضرة الموسوية هي صاحبة هذا النسيان من حيث مرتبة صفاتها لأنّه كما قدّمنا سابقا فلسان الجمع هو لسان صفاتي فيتمّ ذكره بلسان جمع الصفات وهي حضرة الأنوار كقوله تعالى في حقّ الخضر ( فوجد عبدا من عبادنا ) فقوله عبدا من عبادنا هو جمع صفاتي إذ لو لم يكن جمع صفاتي لقال ( عبد من عبيدي ) وهذا لا يصحّ في علوم الحضرات والمراتب لذا جمع مفرد عبد من قوله ( عباد ) فجمعهم في وصف الصفات القائمة بالذات وهذا مقام البقاء به سبحانه وهكذا في قوله تعالى ( إنّ الله وملائكته يصلون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما ) فدلّنا على الجمع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم وليس في حضرة الرسول لأنّ حضرة النبوّة هي حضرة صفاتية ولمّا كان صلى الله عليه وسلّم جامع حضرات الصفات قال عن نفسه بأنّه كان نبّيا وآدم بين الروح والجسد ليدلّك على جمعه بعد أن دلّك الله تعالى على ذلك في قوله ( إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ ) فهي حضرة الجمع في الحقيقة المحمّدية بالنسبة الإلهية الذاتية لذاك ذكر الإسم الجامع ليدلّك على الجمع به عليه وأنّ طريقه هو هذا الجمع في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم من حيث الحضرة المحمّدية , فدلّ على شمول هذه الحضرة كلّ حضرة وإحاطتها بها فلا يحيط بها إلا الإسم الجامع لذا عبّر به وذكره بقوله ( إنّ الله ...الآية )
لذاك نسب إلى موسى النسيان ليدلّك على أنّ حضرته التي جمعت فتاه فهو مقدّمها إنّما هي حضرة موسوية فنسب إلنسيان إليهما جميعا من حيث حقيقتين : الأولى : حقيقة المقدّم فيها الذي كان إستمداده من موسى فنزل مقامه عن مقام سيّد الحضرة فيها وهو موسى وهكذا الحضرات فإنّ رؤساءها هم أسيادها وهذا مقام السيادة في المراتب فاعلم ذلك
والحقيقة الثانية : أنّ النسيان سرى في الفتى بحكم حال شيخه في النسيان لذا قال شيخه للخضر كما سيأتي لاحقا ( لا تؤاخذني بما نسيت ) فهو ينسى سريعا ولو تقرأ في القرآن ترى هذا الحال الموسوي في النسيان وكذلك السؤال الذي سرى أيضا في أمّته فقال تعالى ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) فحذّرنا من التشبّه بهم لعدم وجود الشبه بين نبيّنا صلى الله عليه وسلم وبين موسى في هذا الأمر , وإنّما ذمّ قوم موسى بالسؤال دون موسى لأنّ سؤال موسى كان بحقّ خلاف سؤال قومه فهو بكذب ونفاق فأخذ قومه صورة موسى مقلوبه فحرّفوا دينه وهذه حقائق متقلّبة يعسر إستيفاؤها وإستقصاؤها فلا بدّ فيها من تفسير عريض وتبسيط دقيق
ثمّ السؤال الآخر : فإن قلتَ : متى كان الأمر كما قلت هكذا في هذا النسيان من حيث أنّ الله تعالى نسبه إليهما جميعا فكيف بالفتى نسبه لنفسه فقط من دون موسى رغم أنّ الحقيقة تعطي أنّ هذا النسيان نشأ من حال موسى ومن أحكام حضرته في عالم فتوّتها وفي مرتبة صفائها بالأنوار
قلت لك : هذا ما يعطيه الأدب أوّلا وهو المقام الذي لا ينفكّ عن الحقيقة بحال فإنّ تقديم الأدب مقدّم على تقديم العلم والتفسير فهو كالشافع بين يديك فهو أصل العلوم ورئيسها فمن فقد الأدب وقع في العطب فأوّل ما يسلب السالك يسلب الأدب متى أخلّ به فإنّ هذا السلب واقع قبل سلب العلوم بل وقبل سلب الكشف وجميع المقامات فإبليس أوّل ما سلب منه مقام الأدب وهكذا تعرف المسلوب من غيره فإنّ سلب الأدب مقدّم عن جميع أنواع السلب فإنّه لا يحميك مقام من المقامات أكثر من حماية مقام الأدب لك
فلو أنّ الفتى نسب النسيان لموسى وجمعه معه فيه لكان سوء أدب منه كبير ولسلب فإنّ إساءة الأدب مع الأنبياء والأولياء خطير لذا عاتبنا مفتي سوريا عمّا صدر منه وطلبنا كما طلب غيرنا منه التوبة قبل العقوبة فإنّ ما صدر منه سوء أدب مع رسول الله , فسوء الأدب لا يؤوّل ولا عذر له فيه البتّة مهما حملنا حسن نيّته على محاملها الحسنة ومهما رجونا له خيرا فمن علم باب الأدب وأحكامه راقب خواطره وأنفاسه فضلا عن أقواله وأعماله
لمّا حسن أدب الفتى فسّر علمه فخرج تفسيره على غاية من الجمال والحسن لأنّه سبّق تفسيره بمدد الأدب وحليته وزينته فوفّق في الشرح والوصف فنادته هواتف العلوم من كلّ مكان بعد أن أناخت له مطالبه فإستخدمها بحسن أدبه وهكذا حال أهل الأدب فإنّ علمهم يخرج فيزيّن الوجود فيعطي الحكم والفهم والفطانة والبديهة وكلّ هذا وصف جمالي هائم في وصف المحبّة ورقيّها من تصديق وصدق فجمع مقامات الفتوّة كلّها وهكذا يكون الجمع وإلا فلا , فجمع المقامات يكون مجموعا في مقام واحد وهو سرّ التوحيد فمتى كنت موحّدا أتتك العلوم راكعة وساجدة ( وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا )
قلت : الأدب الصادر من الفتى أعطاه سرعة الفهم عن موسى لذا فإنّه فهم ما قصده موسى وما جال في باطنه لمّا قال له ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) فهذا تلاحظه في قوله ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فعند هذا القول فهم ما أراده موسى منه أن يفهمه فرتّب الفتى على هذا القول ما جاء بعده من الأقوال فأشار إليه بقوله ( إنّي نسيت الحوت ) بعد أن قال له ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فجمعه معه هنا في الضمير أي عند الصخرة حيث لجآ ثمّ أفرد نفسه بهذا النسيان فإتّهم نفسه بعدم توفية الحضرة الموسوية أدبها فإعترف بالنقص في عدم توفية ذلك المقام إذ أنّه مقدّم الحضرة الموسوية في هذا السفر ما يجب له من اليقظة والحزم والنشاط والخدمة , فذكر له في البداية الصخرة وهو المكان المحدّد ليشير إلى موسى بتحديد المكان فيرضى عنه موسى سريعا فلا يوقعه في الغضب عليه إذا ما علمت حال موسى في الغضب كما وقع فيما بينه وبين أخيه هارون لمّا أخذ بلحيته ورأسه رغم وجود الفارق بين هذا وذاك من حيث الحضرات التوحيدية والحضرات العلمية وبين الفرائض وحضرات النوافل وفي هذا تفصيل آخر , فاحتمى الفتى بقوله ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) من قوله ( إنّي نسيت الحوت ) فذهب بفكر شيخه ونظره إلى تحديد وجود المكان فأدخل الفرح والسرور بهذا على قلب شيخه فإحتمى بذلك السرور والفرح من الغضب والعتاب لأنّه غلب على ظنّ الفتى إن لم أقل قد جزم بأن ذلك المكان هو مبتغى موسى ومقصده لذا فتفهم هنا شدّة إعتناء الفتى بخدمة شيخه فمن يحسن أن يصبر على هذا أو يكون في هذا المستوى من العلم والفهم لذا نعته بالفتى ( وإذ قال موسى لفتاه ) فما إختار موسى إلا لمن يساعده فيكون في مستوى ما عزم عليه وهكذا أهل الله فإنّهم لا يختارون إلا الرجل المناسب في المكان المناسب هذا إذا لم نتطرّق إلى قوله تعالى ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته )
يتبع ...
والصلاة والسلام على من كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما وآله وصحبه
قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا )
قد ظهر فيما سبق من الكلام أنّ موسى وفتاه في بادئ أمرهما آوى إلى الصخرة حيث نسيا حوتهما وهنا لا بدّ من وقفة نقفها نثبت خلالها ونبيّن فيها إعجاز القرآن في وصفه ولغته في مثل هذه القصص وجمعه للمعاني كلّها والإحاطة بدقائقها الظاهرة والباطنة فردا فردا ومجموعا مجموعا لأدلّك هنا على بعض خفايا العلوم في القرآن وأنّ معانيه وعجائبه لا تنقضي ولتعلم أنّه المعجزة الخالدة ذوقا وشهودا وليس مجرّد علم وتصديق لأنّ التصديق مقامه التسليم بمحبّة وشوق وعشق فالتصديق هو مقام الأميّة المنعوت فعلى قدر أميّتك تكون صدّيقيتك , والأميّة ليست مقاما علميا ولا صفاتيا بل هي مقام ذاتي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أميّا ظاهرا في الأكوان بمعنى أنّه ذاتي التوجّه باطنا وكذلك في هذا العالم وهو عالم الظهور فهو أميّ أي ذاتي التوجّه فيه بمعنى أنّه أظهر وصف الذّات في جميع أوجه التجلّيات في الظاهر والباطن فمن شدّه تعلّقه بالذات ظهرت أميّته في الأكوان ظاهرها وباطنها فمقام الأميّة فيه مقامات ذاتية بحتة فلا يدلّ هذا المقام إلا على الذات فكن أميّا في هذا التوجّه تسعد وهذا هو مقام التصديق الحقيقي , لذا فمن كان في مثل هذه الأميّة طالبته الحضرة بالقراءة أي بقراءة جميع أحكام الصفات والأسماء بشهود أنوار الذات فيها فها إنّي أخبرتك عن معنى الأميّة في أجلى مظهر لتفتخر بهذا المقام متى رزقك الله ذرّة منه , ومنه تعرف مقامات من كان أميّا من الأولياء فإنّ أغلبهم ليس له علم عن شيء إلا متى شهده بالذات في جميع تجلياتها فهؤلاء هم الذاتيون جعلنا الله منهم بمنّه وكرمهم , فالأميّة هي سرّ التوحيد الذي لا تكون التربية إلا به وأعني بالتربية أي تجاوز الخيالات الكونية والفناء في حضرة الجمع ومن ثمّ الخروج بالنفس الإلهي الذي أوجدك به في الحقيقة من حيث قوله ( ونفخت فيه من روحي ) فأنت الآن نائم عن معرفة أو إستشعار هذا النفخ ولا يمكنك أن تستيقظ فتعرفه إلا في عالم البقاء فترجع الصورة كما كانت فإنمحى وصف الخيال منك فأضحى الخيال يطلبك ليقتدي بك فلا يستطيع لأنّك صرت حقيقة قدسية مقدّسة عن الوهم والخيال فكان بقاؤك بالله وليس بقاؤك بإبقاء الله , وفي هذا المعنى الخفيّ فسد قول بعض أهل الفلسفة من حيث الدلالة فتصرّفوا في المعنى من غير معرفة به فوضعوه في غير موضعه وقد أمرنا أن نضع الأشياء في موضعها وأن نؤدّي الآمانات إلى أهلها كما فعلت السماوات والأرض في الأمانة
قلت : وجه الإعجاز من حيث إتّحاد اللفظ مع المعنى الشامل المحيط ظاهرا وباطنا في هذه الآية المتعلّقة بقصّة موسى مع الخضر هو قوله تعالى في الآية السابقة : (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) فنسب النسيان إليهما جميعا رغم أنّ الفتى هو الذي نسي الحوت فكيف يمكن في هذه الحالة أن ينسب الله تعالى النسيان إلى موسى مع فتاه رغم أنّ موسى يبحث عن العلامة وهي النسيان فلو أنّه شعر بهذا النسيان عند الصخرة التي آوى إليها مع فتاه لإستدلّ بذلك على أنّ ذلك المكان هو مكان وجود الخضر وهو المكان المقصود للإلتقاء به فعلمنا أنّ موسى ما نسي الحوت وما إستشعر هذا النسيان إذ لو أنّه إستشعر ذاك النسيان لمكث هناك ينتظر الخضر ولما كان تجاوز مجمع بينهما , ورغم هذا نسب الله تعالى له النسيان فقال تعالى (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) فماذ نقول متى وقفنا مع هذا الكلام الربّاني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وعليه قلنا بعلوم الحضرات وما تعطيه من حيث أنّ الفتى وهو مقدّم الحضرة الموسوية نسي الحوت فإنّما نساه من حيث حقيقته الموسوية فهو في الشاهد كأنّه موسى من حيث هذا النسيان وكأنّ موسى هو فتاه من حيث هذا النسيان لأنّ الفتى متحقّق بحقائق موسى أي ساري مدده فيه وهكذا كلّ نبيّ في أتباعه وكلّ شيخ في مريديه فكان الحضرة الموسوية هي صاحبة هذا النسيان من حيث مرتبة صفاتها لأنّه كما قدّمنا سابقا فلسان الجمع هو لسان صفاتي فيتمّ ذكره بلسان جمع الصفات وهي حضرة الأنوار كقوله تعالى في حقّ الخضر ( فوجد عبدا من عبادنا ) فقوله عبدا من عبادنا هو جمع صفاتي إذ لو لم يكن جمع صفاتي لقال ( عبد من عبيدي ) وهذا لا يصحّ في علوم الحضرات والمراتب لذا جمع مفرد عبد من قوله ( عباد ) فجمعهم في وصف الصفات القائمة بالذات وهذا مقام البقاء به سبحانه وهكذا في قوله تعالى ( إنّ الله وملائكته يصلون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما ) فدلّنا على الجمع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم وليس في حضرة الرسول لأنّ حضرة النبوّة هي حضرة صفاتية ولمّا كان صلى الله عليه وسلّم جامع حضرات الصفات قال عن نفسه بأنّه كان نبّيا وآدم بين الروح والجسد ليدلّك على جمعه بعد أن دلّك الله تعالى على ذلك في قوله ( إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ ) فهي حضرة الجمع في الحقيقة المحمّدية بالنسبة الإلهية الذاتية لذاك ذكر الإسم الجامع ليدلّك على الجمع به عليه وأنّ طريقه هو هذا الجمع في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم من حيث الحضرة المحمّدية , فدلّ على شمول هذه الحضرة كلّ حضرة وإحاطتها بها فلا يحيط بها إلا الإسم الجامع لذا عبّر به وذكره بقوله ( إنّ الله ...الآية )
لذاك نسب إلى موسى النسيان ليدلّك على أنّ حضرته التي جمعت فتاه فهو مقدّمها إنّما هي حضرة موسوية فنسب إلنسيان إليهما جميعا من حيث حقيقتين : الأولى : حقيقة المقدّم فيها الذي كان إستمداده من موسى فنزل مقامه عن مقام سيّد الحضرة فيها وهو موسى وهكذا الحضرات فإنّ رؤساءها هم أسيادها وهذا مقام السيادة في المراتب فاعلم ذلك
والحقيقة الثانية : أنّ النسيان سرى في الفتى بحكم حال شيخه في النسيان لذا قال شيخه للخضر كما سيأتي لاحقا ( لا تؤاخذني بما نسيت ) فهو ينسى سريعا ولو تقرأ في القرآن ترى هذا الحال الموسوي في النسيان وكذلك السؤال الذي سرى أيضا في أمّته فقال تعالى ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) فحذّرنا من التشبّه بهم لعدم وجود الشبه بين نبيّنا صلى الله عليه وسلم وبين موسى في هذا الأمر , وإنّما ذمّ قوم موسى بالسؤال دون موسى لأنّ سؤال موسى كان بحقّ خلاف سؤال قومه فهو بكذب ونفاق فأخذ قومه صورة موسى مقلوبه فحرّفوا دينه وهذه حقائق متقلّبة يعسر إستيفاؤها وإستقصاؤها فلا بدّ فيها من تفسير عريض وتبسيط دقيق
ثمّ السؤال الآخر : فإن قلتَ : متى كان الأمر كما قلت هكذا في هذا النسيان من حيث أنّ الله تعالى نسبه إليهما جميعا فكيف بالفتى نسبه لنفسه فقط من دون موسى رغم أنّ الحقيقة تعطي أنّ هذا النسيان نشأ من حال موسى ومن أحكام حضرته في عالم فتوّتها وفي مرتبة صفائها بالأنوار
قلت لك : هذا ما يعطيه الأدب أوّلا وهو المقام الذي لا ينفكّ عن الحقيقة بحال فإنّ تقديم الأدب مقدّم على تقديم العلم والتفسير فهو كالشافع بين يديك فهو أصل العلوم ورئيسها فمن فقد الأدب وقع في العطب فأوّل ما يسلب السالك يسلب الأدب متى أخلّ به فإنّ هذا السلب واقع قبل سلب العلوم بل وقبل سلب الكشف وجميع المقامات فإبليس أوّل ما سلب منه مقام الأدب وهكذا تعرف المسلوب من غيره فإنّ سلب الأدب مقدّم عن جميع أنواع السلب فإنّه لا يحميك مقام من المقامات أكثر من حماية مقام الأدب لك
فلو أنّ الفتى نسب النسيان لموسى وجمعه معه فيه لكان سوء أدب منه كبير ولسلب فإنّ إساءة الأدب مع الأنبياء والأولياء خطير لذا عاتبنا مفتي سوريا عمّا صدر منه وطلبنا كما طلب غيرنا منه التوبة قبل العقوبة فإنّ ما صدر منه سوء أدب مع رسول الله , فسوء الأدب لا يؤوّل ولا عذر له فيه البتّة مهما حملنا حسن نيّته على محاملها الحسنة ومهما رجونا له خيرا فمن علم باب الأدب وأحكامه راقب خواطره وأنفاسه فضلا عن أقواله وأعماله
لمّا حسن أدب الفتى فسّر علمه فخرج تفسيره على غاية من الجمال والحسن لأنّه سبّق تفسيره بمدد الأدب وحليته وزينته فوفّق في الشرح والوصف فنادته هواتف العلوم من كلّ مكان بعد أن أناخت له مطالبه فإستخدمها بحسن أدبه وهكذا حال أهل الأدب فإنّ علمهم يخرج فيزيّن الوجود فيعطي الحكم والفهم والفطانة والبديهة وكلّ هذا وصف جمالي هائم في وصف المحبّة ورقيّها من تصديق وصدق فجمع مقامات الفتوّة كلّها وهكذا يكون الجمع وإلا فلا , فجمع المقامات يكون مجموعا في مقام واحد وهو سرّ التوحيد فمتى كنت موحّدا أتتك العلوم راكعة وساجدة ( وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا )
قلت : الأدب الصادر من الفتى أعطاه سرعة الفهم عن موسى لذا فإنّه فهم ما قصده موسى وما جال في باطنه لمّا قال له ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) فهذا تلاحظه في قوله ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فعند هذا القول فهم ما أراده موسى منه أن يفهمه فرتّب الفتى على هذا القول ما جاء بعده من الأقوال فأشار إليه بقوله ( إنّي نسيت الحوت ) بعد أن قال له ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فجمعه معه هنا في الضمير أي عند الصخرة حيث لجآ ثمّ أفرد نفسه بهذا النسيان فإتّهم نفسه بعدم توفية الحضرة الموسوية أدبها فإعترف بالنقص في عدم توفية ذلك المقام إذ أنّه مقدّم الحضرة الموسوية في هذا السفر ما يجب له من اليقظة والحزم والنشاط والخدمة , فذكر له في البداية الصخرة وهو المكان المحدّد ليشير إلى موسى بتحديد المكان فيرضى عنه موسى سريعا فلا يوقعه في الغضب عليه إذا ما علمت حال موسى في الغضب كما وقع فيما بينه وبين أخيه هارون لمّا أخذ بلحيته ورأسه رغم وجود الفارق بين هذا وذاك من حيث الحضرات التوحيدية والحضرات العلمية وبين الفرائض وحضرات النوافل وفي هذا تفصيل آخر , فاحتمى الفتى بقوله ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) من قوله ( إنّي نسيت الحوت ) فذهب بفكر شيخه ونظره إلى تحديد وجود المكان فأدخل الفرح والسرور بهذا على قلب شيخه فإحتمى بذلك السرور والفرح من الغضب والعتاب لأنّه غلب على ظنّ الفتى إن لم أقل قد جزم بأن ذلك المكان هو مبتغى موسى ومقصده لذا فتفهم هنا شدّة إعتناء الفتى بخدمة شيخه فمن يحسن أن يصبر على هذا أو يكون في هذا المستوى من العلم والفهم لذا نعته بالفتى ( وإذ قال موسى لفتاه ) فما إختار موسى إلا لمن يساعده فيكون في مستوى ما عزم عليه وهكذا أهل الله فإنّهم لا يختارون إلا الرجل المناسب في المكان المناسب هذا إذا لم نتطرّق إلى قوله تعالى ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته )
يتبع ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا )
بعد أن قدّمنا ما يتوافق مع هذه الآية من الإشارات والأذواق التي يدلّ عليها مفهومها في مضمونها إذ أنّ القرآن كما أسلفنا القول بأنّه المعجزة الخالدة من حيث أنّه كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفاته فهو القرآن الجامع لما في الكتب السماوية الأخرى فكان مهيمنا على ما كان قبله من الكتب والتشاريع والنبوّات فكلّ ما كان في الماضي أو يكون في الحاضر أو سيكون في المستقبل فهو مذكور في القرآن , ففي القرآن جميع الحقائق والعلوم الظاهرة والباطنة , وتفسير ذلك وشرحه يطول إذ ليس كلّ ما هو مذكور في القرآن ظاهرا للنّاس يعرفونه أو يفهمونه لأنّ الكلام صفة المتكلّم وهو الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) مهما كان هذا الشيء الذي سبق به العلم أن يكون ففي القرآن إخبارا بأهل الدنيا في دنياهم وأحوالهم فيها إلى يوم القيامة وفيه ذكر أهل الآخرة في الآخرة وأحوالهم فيها وفيه ذكر ما كان في الأزل وما يكون إلى الأبد هذا لتعلم بأنّ الإخبار متى كان من الله تعالى فإنّه يحيط بمعلومات كلّ شيء وكيفيته وتركيبته وما يؤول إليه أمره وهكذا في كلّ قصّة أو حال أو مقام أو عالم لأنّ الله تعالى متى أخبرنا عن شيء مثلا في قرآنه الكريم فإنّه يخبر عنه بحسب علم الله فيه وإدراكه له وأنت تعلم أنّ هذا الإدراك وهذا العلم محيط بذلك الشيء من كلّ ناحية ظاهرا وباطنا فوقع الإخبار به بحسب علمه الله فيه وإطّلاعه عليه وبصره فيه وسمعه له وهكذا ... فافهم
فكان إخبار الله تعالى ليس كإخبار أحد متى أخبرنا بشيء أو عن شيء فيجب حمل هذا الإخبار بما يليق بمقام المخبر به وهو الله تعالى كالحال هنا في قصّة موسى مع الخضر فإنّ الله تعالى مطّلع على حال موسى وفتاه ظاهرا وباطنا وكذلك حال الحوت وحال الخضر ظاهرا وباطنا فوقع الإخبار بحسب علم الله في ذلك وأنت تعلم إحاطة علم الله تعالى في كلّ ذلك وعليه يجب أن تعطي ما يليق بكلام الله تعالى من العناية والفهم لذا نبّهك بقوله تعالى ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) والتدبّر كما تدري معنى شامل في أوجهه بمعنى أنّك تتدبّر القرآن في حالك ومقامك الشخصي فتأخذ منه ما يتناسب مع حالك لأنّه شفاء لما في الصدور في جميع أوجه المقامات والأحوال وكذلك تأخذ منه حقائق الكون علويّه وسفليّه ومن ثمّ تعرج فيه لتستدلّ بهذا القرآن على هذا العالم الذي فهمته من معلومات القرآن فتنقلب الصورة لديك فأهل القرآن هم أهل الله وخاصّته وهذا مقام القطب الفرد الغوث الجامع فهو قرآنا يمشي على رجليه خلافة محمّدية في صورتها المهيمنة الكاملة الشاملة فيصلّي المهدي بعيسى إماما فيقتدي به عيسى فيركع بركوع هذا الإمام ويسجد بسجوده ( لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني ) ففي قوله حيّا إنّما يشير ويرمز إلى عالم الظهور لأنّ الزمن زمنه هو عليه الصلاة والسلام ولا يقصد الحياة حياة الأرواح فإن موسى حيّ في قبره كما أخبر هو عنه صلى الله عليه وسلّم فافهم أشائر الخطاب فإنّ القطب لا يكون إلا حيّا موجودا بجسمه وعينه في الدنيا وهكذا لسان حال كلّ قطب في زمانه للأقطاب السابقين وقد سمعت قطبا مرّة يقول عندما سألته عن الواردات فقال ( إذا كان الكون بأسره يسير بحسب الواردات فما بالك بمحور الكون ) هذا لتعلم أنّ الكون يسير بحسب ما يخطر في بال كلّ أحد من الواردات والخواطر , فإنّ هذه الواردات هي القبضة الإلهية من إسمه القهّار فوق عباده فهذا القهر لا يشمل فقط الإنس والجنّ فإنّ العباد في هذا المحلّ هو قوله ( إن كلّ من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا ) أعني بما فيهم القطب فلا تظنّ أنّ القطب يخرج عن العبودية وإنّما لمّا كان الإطلاق للأرواح وموسى حيّا بروحه فإنّه غير مقيم في عبوديته الظاهرة بجسمه والباطنة بروحه فكان القطب الحيّ أعلى مقاما في العبودية من القطب المنتقل إلاّ سيّدنا محمّد فإنّه منتقل فلا نبيّ بعده فهو القطب الشامل فلا قطبانية إلا به فافهم أمّا الرسل والأنبياء الآخرين فليسوا كذلك بما أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاتمهم والخاتم له الدوام فليس لأحد بعده أمر في هذا بما أنّ القطب يجب أن يكون شريعة مع حقيقة فلا يستقلّ قطب من الأقطاب عن الشريعة المحمدية وعليه فليس للقطب الحي في كلّ زمان غير الخلافة المحمدية فهو تابع للشرع المحمّدي وهذا ما تراه في عيسى عند إتّباعه بعد نزوله الشرع المحمدي , فمعنى العباد أشمل من تخصيصه بالإنس والجان فإنّ الربوبية لا يقابلها غير العبودية لتعلم أنّ الكون بأسره عبد لله تعالى لذا قال لك ( وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ) لأنّ معنى الحمد معنى إستفتاح الكون بإسمه الرحمان فهم يحمدون ويسبّحون طوعا وكرها ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) هذا لتعلم وسع علم الله تعالى فيك وبك فتبكي على نفسك بكاء الأبد ولا ينجيك من هذا غير الفناء عن نفسك فتبقى بربّك فتموت جميع دعاويك التي هي وهم النفس وخيال الوجود
قلت :
لا تستغرب متى أتى أحد من العباد مفاهيم خفيّة من القرآن لم يسبق إليها فتقيسها بنفسك على ما سبق من الفهوم فإنّ القرآن لا تنقضي عجائبه وإنّما غاية ما تأتي به في هذا القرآن من الفهم لا يتجاوز مقامك وحالك مع الله تعالى فلن تفهم فيه أكثر من حالك مع ربّك فكلّ أحد أخرج ما فهمه بحاله الصحيح الشرعي المستقيم فإنّ المعلومات متى كانت غير موافقة تكون معلومة لأهل البصيرة ومرّة عرضت صلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم ألّفها أحد الأولياء ونشرها بين مريديه يقرؤونها في وردهم اليومي على أحد الأقطاب المتمكّنين فقال لي ( هذه الصلاة غير دقيقة علميّا ...) وهكذا فليس كلّ الأولياء على علم واحد ولا مقام واحد بل هم ( رفع بعضهم درجات في العلم ) ومرّة أخرى قمت بزيارة وليّ عارف بالله تعالى ثمّ بعد الزيارة إلتقيت أحد الأولياء أعلى منه في مقام الولاية والمعرفة فسألته عنه فقال لي ( نعم هو عارف ولكنّه ليس كما يجب في المعرفة ) رغم أنّ هذا الوليّ يدّعي القطبانية ومرّة أخرى زار أحد الأولياء وليّا آخر له من الفقراء ألوفا وزوايا كثيرة فمكث في مجلسه ولم يطّلع ذلك الوليّ المنعوت على حال ومقام الوليّ الزائر له فكان يتجوّل في باطنه أعني أنّ الوليّ المزور يتجوّل في باطن الوليّ الزائر والوليّ الزائر يرى ويشاهد ما يفعله ذلك الوليّ المزور ورغم هذا ما بيّن له شيئا من أحواله ولا درى عليه من خبر ثمّ حين إنتهاء مجلس الذكر ودّع الوليّ المزور ذلك الوليّ الزائر وإعتذر له بأنّه في شغل أكيد مع أضياف جاؤوه من بلد بعيد فجنى هذا الوليّ حرمانا من بركة ذلك الوليّ لتجسّسه عليه في باطنه فما كلّ مرّة تسلم الجرّة وهكذا فالأولياء مشربهم من القرآن ليس على شاكلة واحدة ولا غوص واحد فإنّ للقرآن رجاله (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون) ولو يستقيم الوقت لي لحكيت من أخبار أهل الولاية أنوارا ولأخرجت من زمازم علومهم عيونا وأنهارا وإنّما حكيت هذا تقديما لقصّة إجتماع الوليّين موسى والخضر لأنّ موسى كان تلميذا في مقام الولاية والخضر كان وليّا في زمنه فدارت بينهما هذه القصّة التي حكاها الله تعالى عنهما وإنّما أعني بتلميذ في الولاية أي أنّه ما ذهب للخضر بصفة نبوّته ورسوليته وإنّما ذهب إليه بصفته تلميذا جاء طالبا للعلم كما في الآيات فهناك فرق حتى لا يلتبس عليك الأمر أو تظنّ القدح في نبوّة موسى ورسالته وأنّه من أولي العزم من الرسل فإنّ القرآن عندما يحكي قصّة أو قصصا فإنّ فيها من العبر الكثير فهي مقامات سلوكية ولا تظنّ أنّ الله تعالى حكاها لنا لمجرّد التاريخ والمعرفة بل للإعتبار (فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فرخّص لغيرهم بعد أن ذمّهم لعدم وجود البصيرة فافهم
وسنتناول ما بقي من تلك الآية من حيث حقائق أخرى ما ذكرتها إلى الآن لتعلم غور القرآن فتتخذه سندا وصاحبا
يتبع...
بعد أن قدّمنا ما يتوافق مع هذه الآية من الإشارات والأذواق التي يدلّ عليها مفهومها في مضمونها إذ أنّ القرآن كما أسلفنا القول بأنّه المعجزة الخالدة من حيث أنّه كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفاته فهو القرآن الجامع لما في الكتب السماوية الأخرى فكان مهيمنا على ما كان قبله من الكتب والتشاريع والنبوّات فكلّ ما كان في الماضي أو يكون في الحاضر أو سيكون في المستقبل فهو مذكور في القرآن , ففي القرآن جميع الحقائق والعلوم الظاهرة والباطنة , وتفسير ذلك وشرحه يطول إذ ليس كلّ ما هو مذكور في القرآن ظاهرا للنّاس يعرفونه أو يفهمونه لأنّ الكلام صفة المتكلّم وهو الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) مهما كان هذا الشيء الذي سبق به العلم أن يكون ففي القرآن إخبارا بأهل الدنيا في دنياهم وأحوالهم فيها إلى يوم القيامة وفيه ذكر أهل الآخرة في الآخرة وأحوالهم فيها وفيه ذكر ما كان في الأزل وما يكون إلى الأبد هذا لتعلم بأنّ الإخبار متى كان من الله تعالى فإنّه يحيط بمعلومات كلّ شيء وكيفيته وتركيبته وما يؤول إليه أمره وهكذا في كلّ قصّة أو حال أو مقام أو عالم لأنّ الله تعالى متى أخبرنا عن شيء مثلا في قرآنه الكريم فإنّه يخبر عنه بحسب علم الله فيه وإدراكه له وأنت تعلم أنّ هذا الإدراك وهذا العلم محيط بذلك الشيء من كلّ ناحية ظاهرا وباطنا فوقع الإخبار به بحسب علمه الله فيه وإطّلاعه عليه وبصره فيه وسمعه له وهكذا ... فافهم
فكان إخبار الله تعالى ليس كإخبار أحد متى أخبرنا بشيء أو عن شيء فيجب حمل هذا الإخبار بما يليق بمقام المخبر به وهو الله تعالى كالحال هنا في قصّة موسى مع الخضر فإنّ الله تعالى مطّلع على حال موسى وفتاه ظاهرا وباطنا وكذلك حال الحوت وحال الخضر ظاهرا وباطنا فوقع الإخبار بحسب علم الله في ذلك وأنت تعلم إحاطة علم الله تعالى في كلّ ذلك وعليه يجب أن تعطي ما يليق بكلام الله تعالى من العناية والفهم لذا نبّهك بقوله تعالى ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) والتدبّر كما تدري معنى شامل في أوجهه بمعنى أنّك تتدبّر القرآن في حالك ومقامك الشخصي فتأخذ منه ما يتناسب مع حالك لأنّه شفاء لما في الصدور في جميع أوجه المقامات والأحوال وكذلك تأخذ منه حقائق الكون علويّه وسفليّه ومن ثمّ تعرج فيه لتستدلّ بهذا القرآن على هذا العالم الذي فهمته من معلومات القرآن فتنقلب الصورة لديك فأهل القرآن هم أهل الله وخاصّته وهذا مقام القطب الفرد الغوث الجامع فهو قرآنا يمشي على رجليه خلافة محمّدية في صورتها المهيمنة الكاملة الشاملة فيصلّي المهدي بعيسى إماما فيقتدي به عيسى فيركع بركوع هذا الإمام ويسجد بسجوده ( لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني ) ففي قوله حيّا إنّما يشير ويرمز إلى عالم الظهور لأنّ الزمن زمنه هو عليه الصلاة والسلام ولا يقصد الحياة حياة الأرواح فإن موسى حيّ في قبره كما أخبر هو عنه صلى الله عليه وسلّم فافهم أشائر الخطاب فإنّ القطب لا يكون إلا حيّا موجودا بجسمه وعينه في الدنيا وهكذا لسان حال كلّ قطب في زمانه للأقطاب السابقين وقد سمعت قطبا مرّة يقول عندما سألته عن الواردات فقال ( إذا كان الكون بأسره يسير بحسب الواردات فما بالك بمحور الكون ) هذا لتعلم أنّ الكون يسير بحسب ما يخطر في بال كلّ أحد من الواردات والخواطر , فإنّ هذه الواردات هي القبضة الإلهية من إسمه القهّار فوق عباده فهذا القهر لا يشمل فقط الإنس والجنّ فإنّ العباد في هذا المحلّ هو قوله ( إن كلّ من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا ) أعني بما فيهم القطب فلا تظنّ أنّ القطب يخرج عن العبودية وإنّما لمّا كان الإطلاق للأرواح وموسى حيّا بروحه فإنّه غير مقيم في عبوديته الظاهرة بجسمه والباطنة بروحه فكان القطب الحيّ أعلى مقاما في العبودية من القطب المنتقل إلاّ سيّدنا محمّد فإنّه منتقل فلا نبيّ بعده فهو القطب الشامل فلا قطبانية إلا به فافهم أمّا الرسل والأنبياء الآخرين فليسوا كذلك بما أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاتمهم والخاتم له الدوام فليس لأحد بعده أمر في هذا بما أنّ القطب يجب أن يكون شريعة مع حقيقة فلا يستقلّ قطب من الأقطاب عن الشريعة المحمدية وعليه فليس للقطب الحي في كلّ زمان غير الخلافة المحمدية فهو تابع للشرع المحمّدي وهذا ما تراه في عيسى عند إتّباعه بعد نزوله الشرع المحمدي , فمعنى العباد أشمل من تخصيصه بالإنس والجان فإنّ الربوبية لا يقابلها غير العبودية لتعلم أنّ الكون بأسره عبد لله تعالى لذا قال لك ( وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ) لأنّ معنى الحمد معنى إستفتاح الكون بإسمه الرحمان فهم يحمدون ويسبّحون طوعا وكرها ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) هذا لتعلم وسع علم الله تعالى فيك وبك فتبكي على نفسك بكاء الأبد ولا ينجيك من هذا غير الفناء عن نفسك فتبقى بربّك فتموت جميع دعاويك التي هي وهم النفس وخيال الوجود
قلت :
لا تستغرب متى أتى أحد من العباد مفاهيم خفيّة من القرآن لم يسبق إليها فتقيسها بنفسك على ما سبق من الفهوم فإنّ القرآن لا تنقضي عجائبه وإنّما غاية ما تأتي به في هذا القرآن من الفهم لا يتجاوز مقامك وحالك مع الله تعالى فلن تفهم فيه أكثر من حالك مع ربّك فكلّ أحد أخرج ما فهمه بحاله الصحيح الشرعي المستقيم فإنّ المعلومات متى كانت غير موافقة تكون معلومة لأهل البصيرة ومرّة عرضت صلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم ألّفها أحد الأولياء ونشرها بين مريديه يقرؤونها في وردهم اليومي على أحد الأقطاب المتمكّنين فقال لي ( هذه الصلاة غير دقيقة علميّا ...) وهكذا فليس كلّ الأولياء على علم واحد ولا مقام واحد بل هم ( رفع بعضهم درجات في العلم ) ومرّة أخرى قمت بزيارة وليّ عارف بالله تعالى ثمّ بعد الزيارة إلتقيت أحد الأولياء أعلى منه في مقام الولاية والمعرفة فسألته عنه فقال لي ( نعم هو عارف ولكنّه ليس كما يجب في المعرفة ) رغم أنّ هذا الوليّ يدّعي القطبانية ومرّة أخرى زار أحد الأولياء وليّا آخر له من الفقراء ألوفا وزوايا كثيرة فمكث في مجلسه ولم يطّلع ذلك الوليّ المنعوت على حال ومقام الوليّ الزائر له فكان يتجوّل في باطنه أعني أنّ الوليّ المزور يتجوّل في باطن الوليّ الزائر والوليّ الزائر يرى ويشاهد ما يفعله ذلك الوليّ المزور ورغم هذا ما بيّن له شيئا من أحواله ولا درى عليه من خبر ثمّ حين إنتهاء مجلس الذكر ودّع الوليّ المزور ذلك الوليّ الزائر وإعتذر له بأنّه في شغل أكيد مع أضياف جاؤوه من بلد بعيد فجنى هذا الوليّ حرمانا من بركة ذلك الوليّ لتجسّسه عليه في باطنه فما كلّ مرّة تسلم الجرّة وهكذا فالأولياء مشربهم من القرآن ليس على شاكلة واحدة ولا غوص واحد فإنّ للقرآن رجاله (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون) ولو يستقيم الوقت لي لحكيت من أخبار أهل الولاية أنوارا ولأخرجت من زمازم علومهم عيونا وأنهارا وإنّما حكيت هذا تقديما لقصّة إجتماع الوليّين موسى والخضر لأنّ موسى كان تلميذا في مقام الولاية والخضر كان وليّا في زمنه فدارت بينهما هذه القصّة التي حكاها الله تعالى عنهما وإنّما أعني بتلميذ في الولاية أي أنّه ما ذهب للخضر بصفة نبوّته ورسوليته وإنّما ذهب إليه بصفته تلميذا جاء طالبا للعلم كما في الآيات فهناك فرق حتى لا يلتبس عليك الأمر أو تظنّ القدح في نبوّة موسى ورسالته وأنّه من أولي العزم من الرسل فإنّ القرآن عندما يحكي قصّة أو قصصا فإنّ فيها من العبر الكثير فهي مقامات سلوكية ولا تظنّ أنّ الله تعالى حكاها لنا لمجرّد التاريخ والمعرفة بل للإعتبار (فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فرخّص لغيرهم بعد أن ذمّهم لعدم وجود البصيرة فافهم
وسنتناول ما بقي من تلك الآية من حيث حقائق أخرى ما ذكرتها إلى الآن لتعلم غور القرآن فتتخذه سندا وصاحبا
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا )
وفيه تحمّل الشيخ خطأ المريد سواء أكان هذا الخطأ متعمّدا أم غير متعمّد , فنسيان الفتى أن يخبر شيخه بنسيانه للحوت أوقعهما في النصب وفي تجاوز مجمع بينهما فلو أنّ الفتى أخبر شيخه بقصّة الحوت لمّا وقعت وشاهدها من حيث أن الحوت ( إتّخذ سبيله في البحر عجبا ) ما كان موسى وفتاه تجاوزا المكان ولما حصلت لهما المشقّة إذ أنّ الفتى وهو مقدّم الحضرة الموسوية أوكل بالخدمة في هذا السفر فمتى أخلّ بشيء من معانيها الظاهرة أو الباطنة دفعا جميعا ثمن ذلك وهذا ما يجهله المريدون اليوم مع مشائخهم فإنّك متى أخللت بشيء من شروط الخدمة حمّلت شيخك التعب والنصب بشعور منك أو من غير شعور لذا فهم الفتى هذا التقصير فقال ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) أي لا تلمني يا شيخي على هذا التقصير الذي دفعت معي ثمنه من حيث حصول التعب لك والنصب فتحمّل الفتى لوحده في كلامه وزر ذلك وما حمّل معه شيخه شيئا من ذلك الأمر أدبا وحقيقة في نفس الوقت وإعتقادا بحسب شروط الصحبة والطريق فافهم
ويجب أن يعلم أنّه هناك فرق بين قوله تعالى ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) فهذا إخبار من الله تعالى عن آية من آياته أمّا قوله تعالى على لسان الفتى ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) أي عجبا بالنسبة للفتى وموسى وليس عجبا عند الله تعالى فإنّ الله تعالى لمّا حكى عن الحوت قال ( سربا ) فحكى مشهد القدرة من غير عجب لأنّه على كلّ شيء قدير بخلاف القول الثاني على لسان الفتى ففيه وجود العجب لتعلم أسرار القرآن ودقّته
قلت : ما حصل لهما من حيث نسيان الحوت ومن حيث أنّهما تجاوزا مجمع البحرين ومن حيث ما نالهما من النصب كلّ هذا وغيره إشارة ربّانية لهما أنّ ما قصده موسى من عزمه على لقاء الخضر لن يكون كما أراد موسى فهو مقدّمة على أنّه لن يمكث في صحبة الخضر وقتا طويلا فإنّ الفاهمين عن الله تعالى يعرفون ما يؤول إليه أمر من الأمور بمجرّد تمعّنهم في بدايته وهذا علم آخر يتناول معرفة ما يؤول إليه الأمر مع التمادي فيه كما سيحصل لإبراهيم لمّا سيخاطب الله في أبيه يوم القيامة كما حدث في الدنيا فيستغفر له بحسب ما وعده رغم أنّه على علم بأنّه لن ينفعه له ذلك الإستغفار شيئا , وهكذا موسى فإنّه أراد أن يصل إلى ما وعد به من حيث قوله ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فأراد أن يتمّ له هذا الوعد لأنّ كلامهم ليس ككلام غيرهم من الخلق وقد حدث هذا الحال لسيّدنا محمّد لمّا إستغفر للمنافقين فقيل له (سواء عليهم أاستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) مع الفارق في القياس حتى لا تفقد ترتيب الحضرات
إعتذر الفتى لعلمه بأنّه كان سببا في نصب شيخه وتعبه وفي تجاوزه لمجمع بينهما فردّه شيخه إلى ذلك التذكّر فلولا شيخه ما كان تذكّر قصّة الحوت ولما تكلّم بشيء فهذا وجه أوّل ذكرته سابقا , أمّا الوجه الآخر الذي لم أذكره وهو ما نجده في قلوبنا لقربه بحسب ذوقنا أنّ الفتى تذكّر الحوت قبل أن يأمره شيخه بأن يأتيه بغدائهما فبمجرّد أن تذكّر أسعفته الحضرة على لسان موسى بطلبه للغداء فسترته الحضرة سترا كبيرا لما للحضرة من شؤون فيهما في هذا السفر من حيث التربية والتفهيم وما إلى ذلك من حقائق الأدب لذا قال لشيخه ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فهذا يشير إلى أنّه رتّب الكلام ترتيبا منذ بدايته وأنّه كان ينتظر فقط الإشارة من موسى بهذا الإخبار لأنّ العبد متى طلب منك شيئا من الشؤون ثمّ إعتذرت له بتقصيرك ونقصك فإنّه يردّ الأمر لله ويقول لك : هذا ما أراده الله , خلاف متى ما أعلمته أنت بتقصيرك بداية فلربّما عوقبت في الوقت فإنّك متى أخطأت إنتظر الحضرة حتى تسعفك بعد أن تعزم على التوبة وتعترف بالتقصير وهذا كلّه أدب راقي عالي لا يفهمه إلا أهله وله شواهد في الكتاب والسنّة في قصص الأنبياء والأولياء فهذه أمور شفّافة روحانية أدبية عالية
قلت : أنظر جواب موسى الذي سنأتي عليه من بعد وإلى رفعة أدبه عليه السلام وتحقيقه فكيف أنّه إتّبع الحضرة في سترها للفتى فقال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) فما عاتبه بل مدحه بهذا الإخبار فأخرج فتاه من اليأس ومن القنوط ومن جميع توابع ما فعله فرقي به وعرج به وما تركه مع ذلك الحال وهكذا الشيوخ وكلّ وارث فإنّهم مع وجود الخطأ منك يرفعونك فيغفرون لك ذلك وهذا وغيره من مقام الإحسان فتهيم الروح عشقا ووجدا فتضحى أسيرة هذه الأخلاق والآداب مع ما تلقاه النفس في نفسها من تقصير وغيره فانظر تحمّل موسى لفتاه فليس بشيخ من لا يتحمّل عن مريده شؤون الدنيا والآخرة وليس بمريد من لم يتحمّل عن شيخه كلّه وكيفما تكونوا يولّ عليكم
ففي خطاب الفتى لموسى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) تحفة من جمال الأدب والتواضع والأخلاق والرقّة واللطف والعلم والمعرفة والحكمة ... فلمّا رأى موسى هذا وعلمه أسعفه وهكذا فالصدق يوصل المريد إلى أن تغفر جميع ذنوبه في الدنيا والآخرة فهذا الفتى مريد صوفي محقّق شعلة من نور فهل خدمت شيخك مثل هذه الخدمة ؟ غفر الله لنا في تقصيرنا بل قل في عقوقنا مع مشائخنا قال شيخنا لنا مرّة ( من يأتي عندنا لا يرى إلا جمالا ) فقلت في قلبي ( وهو بدوره لا يرى منّا غير الخدمة وشهودنا التقصير فيها ) فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان
ففي قول الفتى ( إنّي نسيت الحوت ) أدب أوّل فقد نسب لنفسه النسيان تحقيقا ثمّ قال ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) فنسب للشيطان أنّه سبب النسيان فحكى بالحقيقة المرتّبة من غير إخلال بمرتبة من المراتب وتفسير هذا أنّ فعل النسيان وقع منه لكنّه ما تعمّده ولا جرى له على خاطر وهكذا حال أهل الفتوّة فإنّهم لا يتعمّدون فعل النقائص ثمّ في نسبته فعل النسيان للشيطان فيه نوع من اللوم والغضب والحرقة الباطنة على سبب هذا النسيان فنسبه للشيطان لأنّه محلّ وجود وفعل هذه الأمور فلا يمكن أن يفسد الله تعالى عليهما هذا بوجه من الوجوه فما بقي إلا الشيطان الذي أراد أن يفسد عليهما ما هم فيه فنسب فعل النسيان للشيطان وما برأ نفسه بل إعترف بقبولها هذا النسيان من الشيطان فهو متّهم لنفسه على الدوام وهكذا حال أهل الله تعالى فهم متّهمون لنفوسهم في كل نقص حتى أنّ أيّوب عليه السلام نسب للشيطان بأنّه سبب المرض والنصب لأنّ الله تعالى منزّه عن فعل الشرّ جملة وتفصيلا حقيقة وأدبا لأنّه الرحمان الرحيم في الدنيا والآخرة
ثمّ يعطي الفهم أنّ الفتى كان من أصحاب الأحوال القويّة نسخة من شيخه فتكلّم بحاله فنسب للشيطان فعل النسيان بحرقة وغيظ لذا فإنّ الحال أخذه فلم يذكر من أمر الحوت إلا بعد أن إستفرغ ما أملاه عليه الحال فكان صاحب رعاية وعناية لحاله أكثر من أيّ شيء فإنّ قصّة الحوت أجّل ذكرها لحين أن يستوفي معالجة حقائق ما حدث له في هذا النسيان فما أجابه شيخه في هذا الحال الصادر منه غير التخفيف عنه في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) فكأنّه يقول له : هوّن على نفسك في هذا فإنّ النسيان في ذاته كان مطلوبا , فخفّف عنه من ناحية أنّ هذا مبتغى موسى أيضا أعني النسيان لأنّه علامة على وجود الخضر ومكان اللقاء فأرجعه إلى مراعاة العلم وأنّ هذا الأمر مبتغاهما فما أخرج فتاه من الخطاب فذكر له أنّ هذا النسيان هو مبتغانا فلولاك ما حدث هذا النسيان لذا قال تعالى ( فإرتدّا على آثارهما قصصا ) أي مباشرة وسنأتي على هذا بالتفصيل
وفي هذه الآية الكثير من أوجه الأذواق والعبر من حيث الأدب والتربية ومعرفة الأحوال والمقامات والمراتب القلبية في حقائق الأنوار والأسرار وهكذا لكن نكتفي بهذا حتى ندخل في صميم ما جعلنا هذا الموضوع من أجله وهو لقاء موسى مع الخضر فهذا مقصدنا لأنّ ما ذكرته سابقا هي بعض وجوه التربية والأدب والحقائق أمّا الذي يعنينا فهو اللقاء بين القطبين
يتبع ...
وفيه تحمّل الشيخ خطأ المريد سواء أكان هذا الخطأ متعمّدا أم غير متعمّد , فنسيان الفتى أن يخبر شيخه بنسيانه للحوت أوقعهما في النصب وفي تجاوز مجمع بينهما فلو أنّ الفتى أخبر شيخه بقصّة الحوت لمّا وقعت وشاهدها من حيث أن الحوت ( إتّخذ سبيله في البحر عجبا ) ما كان موسى وفتاه تجاوزا المكان ولما حصلت لهما المشقّة إذ أنّ الفتى وهو مقدّم الحضرة الموسوية أوكل بالخدمة في هذا السفر فمتى أخلّ بشيء من معانيها الظاهرة أو الباطنة دفعا جميعا ثمن ذلك وهذا ما يجهله المريدون اليوم مع مشائخهم فإنّك متى أخللت بشيء من شروط الخدمة حمّلت شيخك التعب والنصب بشعور منك أو من غير شعور لذا فهم الفتى هذا التقصير فقال ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) أي لا تلمني يا شيخي على هذا التقصير الذي دفعت معي ثمنه من حيث حصول التعب لك والنصب فتحمّل الفتى لوحده في كلامه وزر ذلك وما حمّل معه شيخه شيئا من ذلك الأمر أدبا وحقيقة في نفس الوقت وإعتقادا بحسب شروط الصحبة والطريق فافهم
ويجب أن يعلم أنّه هناك فرق بين قوله تعالى ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) فهذا إخبار من الله تعالى عن آية من آياته أمّا قوله تعالى على لسان الفتى ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) أي عجبا بالنسبة للفتى وموسى وليس عجبا عند الله تعالى فإنّ الله تعالى لمّا حكى عن الحوت قال ( سربا ) فحكى مشهد القدرة من غير عجب لأنّه على كلّ شيء قدير بخلاف القول الثاني على لسان الفتى ففيه وجود العجب لتعلم أسرار القرآن ودقّته
قلت : ما حصل لهما من حيث نسيان الحوت ومن حيث أنّهما تجاوزا مجمع البحرين ومن حيث ما نالهما من النصب كلّ هذا وغيره إشارة ربّانية لهما أنّ ما قصده موسى من عزمه على لقاء الخضر لن يكون كما أراد موسى فهو مقدّمة على أنّه لن يمكث في صحبة الخضر وقتا طويلا فإنّ الفاهمين عن الله تعالى يعرفون ما يؤول إليه أمر من الأمور بمجرّد تمعّنهم في بدايته وهذا علم آخر يتناول معرفة ما يؤول إليه الأمر مع التمادي فيه كما سيحصل لإبراهيم لمّا سيخاطب الله في أبيه يوم القيامة كما حدث في الدنيا فيستغفر له بحسب ما وعده رغم أنّه على علم بأنّه لن ينفعه له ذلك الإستغفار شيئا , وهكذا موسى فإنّه أراد أن يصل إلى ما وعد به من حيث قوله ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فأراد أن يتمّ له هذا الوعد لأنّ كلامهم ليس ككلام غيرهم من الخلق وقد حدث هذا الحال لسيّدنا محمّد لمّا إستغفر للمنافقين فقيل له (سواء عليهم أاستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) مع الفارق في القياس حتى لا تفقد ترتيب الحضرات
إعتذر الفتى لعلمه بأنّه كان سببا في نصب شيخه وتعبه وفي تجاوزه لمجمع بينهما فردّه شيخه إلى ذلك التذكّر فلولا شيخه ما كان تذكّر قصّة الحوت ولما تكلّم بشيء فهذا وجه أوّل ذكرته سابقا , أمّا الوجه الآخر الذي لم أذكره وهو ما نجده في قلوبنا لقربه بحسب ذوقنا أنّ الفتى تذكّر الحوت قبل أن يأمره شيخه بأن يأتيه بغدائهما فبمجرّد أن تذكّر أسعفته الحضرة على لسان موسى بطلبه للغداء فسترته الحضرة سترا كبيرا لما للحضرة من شؤون فيهما في هذا السفر من حيث التربية والتفهيم وما إلى ذلك من حقائق الأدب لذا قال لشيخه ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) فهذا يشير إلى أنّه رتّب الكلام ترتيبا منذ بدايته وأنّه كان ينتظر فقط الإشارة من موسى بهذا الإخبار لأنّ العبد متى طلب منك شيئا من الشؤون ثمّ إعتذرت له بتقصيرك ونقصك فإنّه يردّ الأمر لله ويقول لك : هذا ما أراده الله , خلاف متى ما أعلمته أنت بتقصيرك بداية فلربّما عوقبت في الوقت فإنّك متى أخطأت إنتظر الحضرة حتى تسعفك بعد أن تعزم على التوبة وتعترف بالتقصير وهذا كلّه أدب راقي عالي لا يفهمه إلا أهله وله شواهد في الكتاب والسنّة في قصص الأنبياء والأولياء فهذه أمور شفّافة روحانية أدبية عالية
قلت : أنظر جواب موسى الذي سنأتي عليه من بعد وإلى رفعة أدبه عليه السلام وتحقيقه فكيف أنّه إتّبع الحضرة في سترها للفتى فقال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) فما عاتبه بل مدحه بهذا الإخبار فأخرج فتاه من اليأس ومن القنوط ومن جميع توابع ما فعله فرقي به وعرج به وما تركه مع ذلك الحال وهكذا الشيوخ وكلّ وارث فإنّهم مع وجود الخطأ منك يرفعونك فيغفرون لك ذلك وهذا وغيره من مقام الإحسان فتهيم الروح عشقا ووجدا فتضحى أسيرة هذه الأخلاق والآداب مع ما تلقاه النفس في نفسها من تقصير وغيره فانظر تحمّل موسى لفتاه فليس بشيخ من لا يتحمّل عن مريده شؤون الدنيا والآخرة وليس بمريد من لم يتحمّل عن شيخه كلّه وكيفما تكونوا يولّ عليكم
ففي خطاب الفتى لموسى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) تحفة من جمال الأدب والتواضع والأخلاق والرقّة واللطف والعلم والمعرفة والحكمة ... فلمّا رأى موسى هذا وعلمه أسعفه وهكذا فالصدق يوصل المريد إلى أن تغفر جميع ذنوبه في الدنيا والآخرة فهذا الفتى مريد صوفي محقّق شعلة من نور فهل خدمت شيخك مثل هذه الخدمة ؟ غفر الله لنا في تقصيرنا بل قل في عقوقنا مع مشائخنا قال شيخنا لنا مرّة ( من يأتي عندنا لا يرى إلا جمالا ) فقلت في قلبي ( وهو بدوره لا يرى منّا غير الخدمة وشهودنا التقصير فيها ) فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان
ففي قول الفتى ( إنّي نسيت الحوت ) أدب أوّل فقد نسب لنفسه النسيان تحقيقا ثمّ قال ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) فنسب للشيطان أنّه سبب النسيان فحكى بالحقيقة المرتّبة من غير إخلال بمرتبة من المراتب وتفسير هذا أنّ فعل النسيان وقع منه لكنّه ما تعمّده ولا جرى له على خاطر وهكذا حال أهل الفتوّة فإنّهم لا يتعمّدون فعل النقائص ثمّ في نسبته فعل النسيان للشيطان فيه نوع من اللوم والغضب والحرقة الباطنة على سبب هذا النسيان فنسبه للشيطان لأنّه محلّ وجود وفعل هذه الأمور فلا يمكن أن يفسد الله تعالى عليهما هذا بوجه من الوجوه فما بقي إلا الشيطان الذي أراد أن يفسد عليهما ما هم فيه فنسب فعل النسيان للشيطان وما برأ نفسه بل إعترف بقبولها هذا النسيان من الشيطان فهو متّهم لنفسه على الدوام وهكذا حال أهل الله تعالى فهم متّهمون لنفوسهم في كل نقص حتى أنّ أيّوب عليه السلام نسب للشيطان بأنّه سبب المرض والنصب لأنّ الله تعالى منزّه عن فعل الشرّ جملة وتفصيلا حقيقة وأدبا لأنّه الرحمان الرحيم في الدنيا والآخرة
ثمّ يعطي الفهم أنّ الفتى كان من أصحاب الأحوال القويّة نسخة من شيخه فتكلّم بحاله فنسب للشيطان فعل النسيان بحرقة وغيظ لذا فإنّ الحال أخذه فلم يذكر من أمر الحوت إلا بعد أن إستفرغ ما أملاه عليه الحال فكان صاحب رعاية وعناية لحاله أكثر من أيّ شيء فإنّ قصّة الحوت أجّل ذكرها لحين أن يستوفي معالجة حقائق ما حدث له في هذا النسيان فما أجابه شيخه في هذا الحال الصادر منه غير التخفيف عنه في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) فكأنّه يقول له : هوّن على نفسك في هذا فإنّ النسيان في ذاته كان مطلوبا , فخفّف عنه من ناحية أنّ هذا مبتغى موسى أيضا أعني النسيان لأنّه علامة على وجود الخضر ومكان اللقاء فأرجعه إلى مراعاة العلم وأنّ هذا الأمر مبتغاهما فما أخرج فتاه من الخطاب فذكر له أنّ هذا النسيان هو مبتغانا فلولاك ما حدث هذا النسيان لذا قال تعالى ( فإرتدّا على آثارهما قصصا ) أي مباشرة وسنأتي على هذا بالتفصيل
وفي هذه الآية الكثير من أوجه الأذواق والعبر من حيث الأدب والتربية ومعرفة الأحوال والمقامات والمراتب القلبية في حقائق الأنوار والأسرار وهكذا لكن نكتفي بهذا حتى ندخل في صميم ما جعلنا هذا الموضوع من أجله وهو لقاء موسى مع الخضر فهذا مقصدنا لأنّ ما ذكرته سابقا هي بعض وجوه التربية والأدب والحقائق أمّا الذي يعنينا فهو اللقاء بين القطبين
يتبع ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
بسم الله
وبعد :
نكمل إن شاء الله تعالى بذكر أذواق الآية الخامسة وعلومها لأنّ في قوله تعالى حاكيا عن القرآن ( أنزله بعلمه ) يعطي أنّ كلّ آية سرى فيها من العلم الإلهي ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى فليس القرآن مجرّد سرد للقصص بل هو أعظم من ذلك وأكبر لأنّه هدى وعبرة للنّاس لذا تعيّن علينا أن نستشعر ماهية القرآن في علومه الظاهرة والباطنة فإنّ منكر علوم الأذواق في القرآن عنده خلل في العقائد من حيث صفات الله تعالى وأسمائه وبذلك فهو حتما منكر لعلوم الأحوال والمقامات التي تعدّ لبّ الدين وحقيقته فإنّ القرآن نزل على النبيّ الأمّي صلى الله عليه وسلّم الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة فأضحت دلالته على الذات لأنّه كما قدّمنا فالأميّة هي مقام ذاتي وهو أشرف مقام وأعلى حال وأحسن رتبة فمن لم يكن أميّا فلا حظّ له في معرفة الذات لأنّه هناك لا حرف ولا كتابة ولا قراءة وهذا ما رمز إليه الحبيب صلى الله عليه وسلّم في قوله لمّا جاءه جبريل بالوحي ( لست بقارئ ) أي في مقام الذات ثمّ قال له بعد أن تنزّل له جبريل إلى مقام الصفات ( لست بقارئ ) فتنزّل له ثالثة ولم يمهله أن يجيب بل قال له ( إقرأ باسم ربّك الذي خلق ) أي لا بدّ لك من القراءة في مرتبة الأسماء فانظر أدب النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم وفهمه تعلم ماهية هذا القرآن من حيث قوله ( أنزله بعلمه ) وهنا بحور تتلاطم من الحقائق , لذا لمّا علم عليه الصلاة والسلام أن ليس كلّ الخلق له هذا المقام تنزّل إليهم إلى مرتبة الأسماء فأمرهم بتعلّم القراءة والكتابة رحمة بهم وترتيبا للمراتب ولما يصلح له الكون والوجود فقوله تعالى ( هو الذي بعث في الأمّيين رسولا ) أي بعث في الذاتيين رسولا يوصلهم إليه فمدحهم بالأميّة فكانوا خير أمّة أخرجت للنّاس لأنّهم أصحاب السبق وهذا تشهده في قوله بعدها ( تؤمنون بالله ) فذكر هذا المقام الذاتي فهو سيّد المقامات فهنا تكون السيادة وإلا فلا لذا كان عليه الصلاة والسلام سيّد الوجود في معرفة الصفات وسيّد بني آدم في القرب من الذات وهذا تلمحه إشارة في قوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداع ) فانظر قوله ( وإذا سألك عبادي عنّي ) فلا بدّ أن تسأل عنه عند جبيبه وإلا فالباب موصود وقوله ( فإني قريب ) أي إذا ما سألوا عنّي عندك أمّا إذا سألوا عنّي من غير طريقك فإنّي بعيد ولا أجيب دعوة الداع إذا دعان فهذا يا من تنكر الوسيلة العظمى وهي النبي صلى الله عليه وسلّم فقد بيّن الله لك أنّ قربك منه وإستجابة دعائك لا تناله إلا بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم أمّا أنّه لم يقل كما قال العلماء ( قل ) عند الجواب كما فعل في غير هذه الآية فلأنّه متى سألت عن الذات غابت في نظرك جميع الصفات وإنّما لم يقل ( قل ) فإنّك متى سألت عنه عند حبيبه لم تجد غيره ( فمن كان يعبد محمّدا فإنّ محمّد قد مات ) أي وبقي الحيّ الذي لا يموت فإنّ ما تمتاز به هذه الأمّة عن غيرها هو هذا التوحيد الصرف الذي ما ناله أحد مثلما نالته هذه الأمّة الشريفة وكذلك ففي قوله ( إذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب ) فأوّل سائل عنه من العباد هو النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه وقبل كلّ أحد فليس بينه وبين الله تعالى واسطة أمّا نحن فإنّه صلى الله عليه وسلّم الواسطة العظمى لنا فافهم أفهمك الله تعالى لتعلم قدر نبيّك ورسولك فتقتدي بهذا الحبيب ظاهرا وباطنا فإنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وسلّم لا يدلّ في ظاهره وباطنه إلا على الله تعالى فهو العبد الربّاني الفريد في الوجود وفي مقام الشهود صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين
قال تعالى : (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )
قلت : فما قال ذلك ما كنّا نريد لأنّهما لم يكونا يريدان هذا النصب وهذا الجوع والتعب بل كان يريدان فقط مكان ذهاب الحوت فكانت إرادة الله تعالى لهما أن يتجاوزا وأن ينالهما من النصب لحكمة لأنّه العليم الحكيم فقال ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي نحبّ وننتظر , وإنّما ذكر هنا البغية ( ذلك ما كنّا نبغ ) وما قال ( ذلك ما كنّا نريد ) لأمرين : الأوّل : أنّ الإرادة لله وحده فليس لهما إرادة في غير ما أراده الله تعالى لأنّ الإرادة متى نسبت لذات أحدنا فهو دليل على وجود التدبير والإختيار اللذان هما من هوس الأفكار والخواطر أمّا البغية فهي ليست الإرادة وإنّما هي باب الرجاء والأمل في الله تعالى وإنتظار الرحمة وكلّ ما هو من صفات الجمال أو تقول هو ميل الحبيب إلى المحبوب وميله إلى كلّ ما يحبّه المحبوب وهذه بغية كلّ أحد
الثاني : أنّهما ما أرادا إلا ملاقاة الخضر فليس لهما إرادة لذات ذهاب الحوت أي لذات وجود العلامة فلم يقفا مع الأسباب دون الوصول إلى نوال المقاصد والنهايات فتحقّق العلامة كانت بعية لهما وما كانت مرادة لهما بل إرادتهما متوجّهة صوب الخضر والإجتماع به وليس لمجرّد وجود العلامة لذا عبّر موسى بقوله ( ذلك ما كنّا نبغ )
وهناك أمر ثالث قد يقترب من التحقيق : وهو أنّ لقاء الخضر ومصاحبته إرادة موسى دون فتاه فكانت الإرادة متعلّقها موسى وليس الفتى أمّا تحقّق العلامة فيشتركان فيها من حيث أنّ الفتى هو حامل الحوت وقائم في الخدمة وما تستوجبه من أحكامها
فجمع معه فتاه في ضمير المثنّى للبغية فكأنّه يقول له : نعم هذا ما أردته منك أن يحصل فتخبرني به فكان يشتركان في كلّ شيء ثمّ لو نلاحظ أنّ الفتى عندما تكلّم ما ذكر شيئا غير تحقّق العلامة وما جمع موسى معه في الضمير إلا في قوله ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) أمّا غير هذا فما تكلّم بشيء فعلمنا أنّه في مقام الأخذ عن شيخه ما دام في صحبته فنال من شيخه علوما جمّة إذ أنّه الذي أخبره بوجود الخضر وهو الذي أخبره بعزمه على السفر وهو الذي إصطفاه لهذا السفر وهو الذي أخبره بوجود علامة نسيان الحوت وبسببه رأى الفتى كرامة ذهاب الحوت في البحر فعدّه ( عجبا) وبسببه رأى الفتى الخضر وإجتمع به وهو الذي أخبره بالنصب والجوع فتذكّر الفتى نسيانه للحوت فردّه شيخه إلى الحزم والنشاط والعلم والفهم ...فافهم
أمّا موسى عليه السلام فقد أشرك معه فتاه في كلّ شيء إلا في العزيمة على السفر فقد إستشاره ليصطفيه صاحبا إذ لا يعقل أن يكرهه على مثل هذا السفر لذا خاطب فتاه في مقام فتوّته فليس لكلّ أحد هذه الفتوّة
قلت : لمّا علم الفتى بتلك البغية لهما عن طريق موسى هنا نال من العلم الأمر الكثير ففهم من السفر ودقائقه بعد نسيانه للحوت جملة من العلوم والنوادر والحكم ما كان يناله لو لا هذا السفر مع موسى فكان نعم الفتى ونعم الخديم ونعم الصاحب وكان موسى نعم الشيخ ونعم المربّي ونعم العازم والقاصد ونعم التواضع ونعم اللطف مع تلميذه ونعم الناصح , فما تميّز عن فتاه بشيء وهكذا هي الأخوّة والصحبة وهكذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم مع صحابته حتّى أنّه كان يخدمهم بنفسه وهكذا الوارثون فقد رأيت شيخنا يخدمنا بنفسه فيجلب لنا الطعام والشراب فيقوم بكلّ ذلك بنفسه حتّى أنّه كنّا مرّة معه في سيّارة لأحد الفقراء فتعطّل محرّكها عن الدوران فنزلنا كلّنا ندفعها فإذا بشخنا يضع رداءه على عاتقه ويدفع السيارة معنا بكلّ جهد رغم مرضه رضي الله عنه وعندنا أنّ أكثر الأولياء نوال من العلوم أكثرهم تواضعا لخلق الله تعالى وقد شاهدت من تواضع شيخنا ما جعلني أعتقد بكبري وسوء نفسي وما هي عليه في سوادها فليس الشيخ إلا من دلّك على الله تعالى حاله وهداك إليه سبيل مقاله فهذه قاعدة واضحة لمن يبحث عن شيخ تربية في أيّ بلد فإنّ علامة الشيخ ( الدلالة على الله تعالى في قاله وحاله وأفعاله )
قال تعالى ( ذلك ما كنّا نبغ ) رغم أنّه طلب الغداء فلم يجده ففرح بوجود غذاء الروحانية مكانه فأنشطه هذا فكان بحثهما عن غذاء الروحانية مقدّما عن غذاء البشرية وهكذا الفقير الصادق فإنّه لا يبحث ولا يقصد في حياته إلا سبب حياته الروحانية لأنّ الروح سبب حياتك الإنسانية بخلاف البشرية فإنّها سبب حياتك الحيوانية لذا أوصانا الإسلام بالصوم شهرا في السنة وفي السنّة يومين في الأسبوع وثلاثة أيّام في الشهر وأيّام شوّال وعرفة ..إلخ وفي النوافل صوم داود إفطار يوم وصوم يوم وكذا أوصانا الإسلام بتقليل غذاء الأشباح كقوله في الحديث ( ...فضيّقوا مجاريه بالجوع ) وقوله ( فإن كان ولا بدّ آكلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لتنفّسه ) حتّى تتقوّى الروحانية في توجّهها لربّها فإنّه قد قيل في الخبر ( ما ملئ وعاء شرّ من البطن ) فتقليل الطعام والشراب من السنّة النبويّة ويكفي أنّه يبقى صلى الله عليه وسلّم يواصل أيّاما وقلت عائشة رضي الله عنها ( يهلّ الهلال والهلالان ولا يوقد في بيت رسول الله نار ) أي نار للطبخ وقد شدّ الحجر من الجوع على بطنه صلى الله عليه وسلّم فتقليل الطعام والشراب سنّة نبوية شريفة وليس كما يدّعيه بعض الناس من أنّه رهبانية في الإسلام فلا يجب الخلط والتوسّط في كلّ شيء عليه المعوّل أمّا اليوم فنجد الموائد المستديرة تملأ الآفاق في كلّ البلاد فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم
فالذي عليه المعوّل في طريق الله تعالى غذاء الروحانية فهو مقدّم على طعام البشرية وهذا ما فعله موسى في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي نسيان الحوت غذاء البشرية ليجد الخضر وعلومه طعام الروحانية فترك المفضول على الأفضل وقد أكلت مرّة مع شيخنا طعاما وكنّا منفردين فتناول من الطعام ما سدّ به رمقه ( لقيمات يقمن صلبه ) كما في الحديث أمّا العبد الضعيف فقد أكلت أضعافا مضاعفة ممّا أكله حتى خجلت من نفسي في شرهها وكثرة غفلتها وليس هذا من سنن الصالحين الذين ندّعي محبّتهم وقد توارد عن القوم السابقين من أهل الله شدّة عزوفهم عن الدنيا أمّا اليوم فحال أهل التصوّف كما ترى حتّى شيّدوا القصور وتوسّعوا في الدنيا غاية التوسّع بحجج واهية وما هو إلا ميل النفس وللقوم أوجه في هذا لا يجب أن تنسى وأحسنهم من كان على قدم أبي ذرّ الغفاري وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وكذلك من التابعين أويس القرني رضي الله عنه أمّا حال عمر بن الخطّاب فمعلوم رضي الله عنه من التقشّف وكذلك حال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وبالجملة علينا أن نعترف بنقصنا الكبير في الوصول إلى مقامات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في هذا الباب فلو عايشنا أحدا منهم في هذا الزمان لقال فينا ( ليس لكم من الدين إلا رسمه ) فالله يرحمنا بفضله
فما عاتب مريده على نسيان الطعام لأنّ الطعام أضحى في حكم الآيات البيّنات فطوبى لمن كان طعامه دليله على الله تعالى وهكذا قالوا : - كل لتحيا فتعمل ولا تأكل لتشبع فتسمن - حتّى أنّ رؤساءنا اليوم يفتخرون بالموائد والأطعمة لذا ترى عليهم مظاهر ذلك في أبدانهم مع سواد وقتمة في وجوههم والظاهر دليل الباطن وكيفما تكونوا يولّ عليكم وهو ميزان صحيح
قال تعالى : (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )
فشارك فتاه معه في هذه البغية من حيث طلب غذاء الروحانية فكان مقتديا بشيخه في حاله فلولا أنّه كان كذلك ما تكلّم موسى بضمير جمع المثنّى لأنّه متى كنت تابعا في الحال لشيخك جمعك معه في حاله وفي بغيته وفي إرادته قال لنا شيخنا ( متى وجدت نسختي فتلك علامة على إقتراب أجلي ) فقال من كان من الحاضرين : ( اللطف عليك يا سيدنا ) وقال العبد الضعيف في باطنه ( بل اللطف عليكم أنتم الذين قيّدكم شكله الظاهري فكيف تقولون هذا وهو يخبركم أنّه سيترك نسخته التحقيقية فهل سيغيب عنكم بعد أن يترك فيكم نسخته فلا جرم أنّكم ستنقلبون بعد وفاته فلا تتّبعون من بعده أحدا لأنّكم تقيّدتم بظاهره وما تجاوزتم إلى باطنه ومن كان يعبد محمّدا فإنّ محمد قد مات ) – وعند وفاة الشيخ يظهر كمثله ___ فهذه سنّة الله جرت فلا بدلا . كما قال سيدي أحمد العلاوي فإذا كنت معتقدا هذا المثل الذي سيظهر فابحث عنه إذن ودعك من التأويل والتدجيل
قال ( ذلك ) إسم إشارة يفيد الإشارة إلى البعيد لذا قال (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) يتّبعان آثارهما في طريقهما قصصا , بحثا عن مكان ذهاب الحوت عند الصخرة فكان الحوت وفيّا في صحبته لهما فدلّهما على مكان الخضر منذ البداية بمشاهدة الفتى بل وجعل لنفسه طريقا في البحر ذهب فيه بمشاهدة الفتى حتى يوقظ فيه العجب والدهشة فيخبر شيخه بذلك فلا يتجاوزان ذلك المكان فأراد الحوت التخفيف عنهما فوفّى حقّ الصحبة فكان الحوت قائدا والفتى خادما وموسى طالبا فتكفّل الله تعالى لطالب العلم برزقه وبمن يخدمه ( الناس في مساجدهم والله في قضاء حوائجهم )
يتبع...
وبعد :
نكمل إن شاء الله تعالى بذكر أذواق الآية الخامسة وعلومها لأنّ في قوله تعالى حاكيا عن القرآن ( أنزله بعلمه ) يعطي أنّ كلّ آية سرى فيها من العلم الإلهي ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى فليس القرآن مجرّد سرد للقصص بل هو أعظم من ذلك وأكبر لأنّه هدى وعبرة للنّاس لذا تعيّن علينا أن نستشعر ماهية القرآن في علومه الظاهرة والباطنة فإنّ منكر علوم الأذواق في القرآن عنده خلل في العقائد من حيث صفات الله تعالى وأسمائه وبذلك فهو حتما منكر لعلوم الأحوال والمقامات التي تعدّ لبّ الدين وحقيقته فإنّ القرآن نزل على النبيّ الأمّي صلى الله عليه وسلّم الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة فأضحت دلالته على الذات لأنّه كما قدّمنا فالأميّة هي مقام ذاتي وهو أشرف مقام وأعلى حال وأحسن رتبة فمن لم يكن أميّا فلا حظّ له في معرفة الذات لأنّه هناك لا حرف ولا كتابة ولا قراءة وهذا ما رمز إليه الحبيب صلى الله عليه وسلّم في قوله لمّا جاءه جبريل بالوحي ( لست بقارئ ) أي في مقام الذات ثمّ قال له بعد أن تنزّل له جبريل إلى مقام الصفات ( لست بقارئ ) فتنزّل له ثالثة ولم يمهله أن يجيب بل قال له ( إقرأ باسم ربّك الذي خلق ) أي لا بدّ لك من القراءة في مرتبة الأسماء فانظر أدب النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم وفهمه تعلم ماهية هذا القرآن من حيث قوله ( أنزله بعلمه ) وهنا بحور تتلاطم من الحقائق , لذا لمّا علم عليه الصلاة والسلام أن ليس كلّ الخلق له هذا المقام تنزّل إليهم إلى مرتبة الأسماء فأمرهم بتعلّم القراءة والكتابة رحمة بهم وترتيبا للمراتب ولما يصلح له الكون والوجود فقوله تعالى ( هو الذي بعث في الأمّيين رسولا ) أي بعث في الذاتيين رسولا يوصلهم إليه فمدحهم بالأميّة فكانوا خير أمّة أخرجت للنّاس لأنّهم أصحاب السبق وهذا تشهده في قوله بعدها ( تؤمنون بالله ) فذكر هذا المقام الذاتي فهو سيّد المقامات فهنا تكون السيادة وإلا فلا لذا كان عليه الصلاة والسلام سيّد الوجود في معرفة الصفات وسيّد بني آدم في القرب من الذات وهذا تلمحه إشارة في قوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداع ) فانظر قوله ( وإذا سألك عبادي عنّي ) فلا بدّ أن تسأل عنه عند جبيبه وإلا فالباب موصود وقوله ( فإني قريب ) أي إذا ما سألوا عنّي عندك أمّا إذا سألوا عنّي من غير طريقك فإنّي بعيد ولا أجيب دعوة الداع إذا دعان فهذا يا من تنكر الوسيلة العظمى وهي النبي صلى الله عليه وسلّم فقد بيّن الله لك أنّ قربك منه وإستجابة دعائك لا تناله إلا بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم أمّا أنّه لم يقل كما قال العلماء ( قل ) عند الجواب كما فعل في غير هذه الآية فلأنّه متى سألت عن الذات غابت في نظرك جميع الصفات وإنّما لم يقل ( قل ) فإنّك متى سألت عنه عند حبيبه لم تجد غيره ( فمن كان يعبد محمّدا فإنّ محمّد قد مات ) أي وبقي الحيّ الذي لا يموت فإنّ ما تمتاز به هذه الأمّة عن غيرها هو هذا التوحيد الصرف الذي ما ناله أحد مثلما نالته هذه الأمّة الشريفة وكذلك ففي قوله ( إذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب ) فأوّل سائل عنه من العباد هو النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه وقبل كلّ أحد فليس بينه وبين الله تعالى واسطة أمّا نحن فإنّه صلى الله عليه وسلّم الواسطة العظمى لنا فافهم أفهمك الله تعالى لتعلم قدر نبيّك ورسولك فتقتدي بهذا الحبيب ظاهرا وباطنا فإنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وسلّم لا يدلّ في ظاهره وباطنه إلا على الله تعالى فهو العبد الربّاني الفريد في الوجود وفي مقام الشهود صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين
قال تعالى : (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )
قلت : فما قال ذلك ما كنّا نريد لأنّهما لم يكونا يريدان هذا النصب وهذا الجوع والتعب بل كان يريدان فقط مكان ذهاب الحوت فكانت إرادة الله تعالى لهما أن يتجاوزا وأن ينالهما من النصب لحكمة لأنّه العليم الحكيم فقال ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي نحبّ وننتظر , وإنّما ذكر هنا البغية ( ذلك ما كنّا نبغ ) وما قال ( ذلك ما كنّا نريد ) لأمرين : الأوّل : أنّ الإرادة لله وحده فليس لهما إرادة في غير ما أراده الله تعالى لأنّ الإرادة متى نسبت لذات أحدنا فهو دليل على وجود التدبير والإختيار اللذان هما من هوس الأفكار والخواطر أمّا البغية فهي ليست الإرادة وإنّما هي باب الرجاء والأمل في الله تعالى وإنتظار الرحمة وكلّ ما هو من صفات الجمال أو تقول هو ميل الحبيب إلى المحبوب وميله إلى كلّ ما يحبّه المحبوب وهذه بغية كلّ أحد
الثاني : أنّهما ما أرادا إلا ملاقاة الخضر فليس لهما إرادة لذات ذهاب الحوت أي لذات وجود العلامة فلم يقفا مع الأسباب دون الوصول إلى نوال المقاصد والنهايات فتحقّق العلامة كانت بعية لهما وما كانت مرادة لهما بل إرادتهما متوجّهة صوب الخضر والإجتماع به وليس لمجرّد وجود العلامة لذا عبّر موسى بقوله ( ذلك ما كنّا نبغ )
وهناك أمر ثالث قد يقترب من التحقيق : وهو أنّ لقاء الخضر ومصاحبته إرادة موسى دون فتاه فكانت الإرادة متعلّقها موسى وليس الفتى أمّا تحقّق العلامة فيشتركان فيها من حيث أنّ الفتى هو حامل الحوت وقائم في الخدمة وما تستوجبه من أحكامها
فجمع معه فتاه في ضمير المثنّى للبغية فكأنّه يقول له : نعم هذا ما أردته منك أن يحصل فتخبرني به فكان يشتركان في كلّ شيء ثمّ لو نلاحظ أنّ الفتى عندما تكلّم ما ذكر شيئا غير تحقّق العلامة وما جمع موسى معه في الضمير إلا في قوله ( أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة ) أمّا غير هذا فما تكلّم بشيء فعلمنا أنّه في مقام الأخذ عن شيخه ما دام في صحبته فنال من شيخه علوما جمّة إذ أنّه الذي أخبره بوجود الخضر وهو الذي أخبره بعزمه على السفر وهو الذي إصطفاه لهذا السفر وهو الذي أخبره بوجود علامة نسيان الحوت وبسببه رأى الفتى كرامة ذهاب الحوت في البحر فعدّه ( عجبا) وبسببه رأى الفتى الخضر وإجتمع به وهو الذي أخبره بالنصب والجوع فتذكّر الفتى نسيانه للحوت فردّه شيخه إلى الحزم والنشاط والعلم والفهم ...فافهم
أمّا موسى عليه السلام فقد أشرك معه فتاه في كلّ شيء إلا في العزيمة على السفر فقد إستشاره ليصطفيه صاحبا إذ لا يعقل أن يكرهه على مثل هذا السفر لذا خاطب فتاه في مقام فتوّته فليس لكلّ أحد هذه الفتوّة
قلت : لمّا علم الفتى بتلك البغية لهما عن طريق موسى هنا نال من العلم الأمر الكثير ففهم من السفر ودقائقه بعد نسيانه للحوت جملة من العلوم والنوادر والحكم ما كان يناله لو لا هذا السفر مع موسى فكان نعم الفتى ونعم الخديم ونعم الصاحب وكان موسى نعم الشيخ ونعم المربّي ونعم العازم والقاصد ونعم التواضع ونعم اللطف مع تلميذه ونعم الناصح , فما تميّز عن فتاه بشيء وهكذا هي الأخوّة والصحبة وهكذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم مع صحابته حتّى أنّه كان يخدمهم بنفسه وهكذا الوارثون فقد رأيت شيخنا يخدمنا بنفسه فيجلب لنا الطعام والشراب فيقوم بكلّ ذلك بنفسه حتّى أنّه كنّا مرّة معه في سيّارة لأحد الفقراء فتعطّل محرّكها عن الدوران فنزلنا كلّنا ندفعها فإذا بشخنا يضع رداءه على عاتقه ويدفع السيارة معنا بكلّ جهد رغم مرضه رضي الله عنه وعندنا أنّ أكثر الأولياء نوال من العلوم أكثرهم تواضعا لخلق الله تعالى وقد شاهدت من تواضع شيخنا ما جعلني أعتقد بكبري وسوء نفسي وما هي عليه في سوادها فليس الشيخ إلا من دلّك على الله تعالى حاله وهداك إليه سبيل مقاله فهذه قاعدة واضحة لمن يبحث عن شيخ تربية في أيّ بلد فإنّ علامة الشيخ ( الدلالة على الله تعالى في قاله وحاله وأفعاله )
قال تعالى ( ذلك ما كنّا نبغ ) رغم أنّه طلب الغداء فلم يجده ففرح بوجود غذاء الروحانية مكانه فأنشطه هذا فكان بحثهما عن غذاء الروحانية مقدّما عن غذاء البشرية وهكذا الفقير الصادق فإنّه لا يبحث ولا يقصد في حياته إلا سبب حياته الروحانية لأنّ الروح سبب حياتك الإنسانية بخلاف البشرية فإنّها سبب حياتك الحيوانية لذا أوصانا الإسلام بالصوم شهرا في السنة وفي السنّة يومين في الأسبوع وثلاثة أيّام في الشهر وأيّام شوّال وعرفة ..إلخ وفي النوافل صوم داود إفطار يوم وصوم يوم وكذا أوصانا الإسلام بتقليل غذاء الأشباح كقوله في الحديث ( ...فضيّقوا مجاريه بالجوع ) وقوله ( فإن كان ولا بدّ آكلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لتنفّسه ) حتّى تتقوّى الروحانية في توجّهها لربّها فإنّه قد قيل في الخبر ( ما ملئ وعاء شرّ من البطن ) فتقليل الطعام والشراب من السنّة النبويّة ويكفي أنّه يبقى صلى الله عليه وسلّم يواصل أيّاما وقلت عائشة رضي الله عنها ( يهلّ الهلال والهلالان ولا يوقد في بيت رسول الله نار ) أي نار للطبخ وقد شدّ الحجر من الجوع على بطنه صلى الله عليه وسلّم فتقليل الطعام والشراب سنّة نبوية شريفة وليس كما يدّعيه بعض الناس من أنّه رهبانية في الإسلام فلا يجب الخلط والتوسّط في كلّ شيء عليه المعوّل أمّا اليوم فنجد الموائد المستديرة تملأ الآفاق في كلّ البلاد فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم
فالذي عليه المعوّل في طريق الله تعالى غذاء الروحانية فهو مقدّم على طعام البشرية وهذا ما فعله موسى في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي نسيان الحوت غذاء البشرية ليجد الخضر وعلومه طعام الروحانية فترك المفضول على الأفضل وقد أكلت مرّة مع شيخنا طعاما وكنّا منفردين فتناول من الطعام ما سدّ به رمقه ( لقيمات يقمن صلبه ) كما في الحديث أمّا العبد الضعيف فقد أكلت أضعافا مضاعفة ممّا أكله حتى خجلت من نفسي في شرهها وكثرة غفلتها وليس هذا من سنن الصالحين الذين ندّعي محبّتهم وقد توارد عن القوم السابقين من أهل الله شدّة عزوفهم عن الدنيا أمّا اليوم فحال أهل التصوّف كما ترى حتّى شيّدوا القصور وتوسّعوا في الدنيا غاية التوسّع بحجج واهية وما هو إلا ميل النفس وللقوم أوجه في هذا لا يجب أن تنسى وأحسنهم من كان على قدم أبي ذرّ الغفاري وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وكذلك من التابعين أويس القرني رضي الله عنه أمّا حال عمر بن الخطّاب فمعلوم رضي الله عنه من التقشّف وكذلك حال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وبالجملة علينا أن نعترف بنقصنا الكبير في الوصول إلى مقامات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في هذا الباب فلو عايشنا أحدا منهم في هذا الزمان لقال فينا ( ليس لكم من الدين إلا رسمه ) فالله يرحمنا بفضله
فما عاتب مريده على نسيان الطعام لأنّ الطعام أضحى في حكم الآيات البيّنات فطوبى لمن كان طعامه دليله على الله تعالى وهكذا قالوا : - كل لتحيا فتعمل ولا تأكل لتشبع فتسمن - حتّى أنّ رؤساءنا اليوم يفتخرون بالموائد والأطعمة لذا ترى عليهم مظاهر ذلك في أبدانهم مع سواد وقتمة في وجوههم والظاهر دليل الباطن وكيفما تكونوا يولّ عليكم وهو ميزان صحيح
قال تعالى : (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )
فشارك فتاه معه في هذه البغية من حيث طلب غذاء الروحانية فكان مقتديا بشيخه في حاله فلولا أنّه كان كذلك ما تكلّم موسى بضمير جمع المثنّى لأنّه متى كنت تابعا في الحال لشيخك جمعك معه في حاله وفي بغيته وفي إرادته قال لنا شيخنا ( متى وجدت نسختي فتلك علامة على إقتراب أجلي ) فقال من كان من الحاضرين : ( اللطف عليك يا سيدنا ) وقال العبد الضعيف في باطنه ( بل اللطف عليكم أنتم الذين قيّدكم شكله الظاهري فكيف تقولون هذا وهو يخبركم أنّه سيترك نسخته التحقيقية فهل سيغيب عنكم بعد أن يترك فيكم نسخته فلا جرم أنّكم ستنقلبون بعد وفاته فلا تتّبعون من بعده أحدا لأنّكم تقيّدتم بظاهره وما تجاوزتم إلى باطنه ومن كان يعبد محمّدا فإنّ محمد قد مات ) – وعند وفاة الشيخ يظهر كمثله ___ فهذه سنّة الله جرت فلا بدلا . كما قال سيدي أحمد العلاوي فإذا كنت معتقدا هذا المثل الذي سيظهر فابحث عنه إذن ودعك من التأويل والتدجيل
قال ( ذلك ) إسم إشارة يفيد الإشارة إلى البعيد لذا قال (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) يتّبعان آثارهما في طريقهما قصصا , بحثا عن مكان ذهاب الحوت عند الصخرة فكان الحوت وفيّا في صحبته لهما فدلّهما على مكان الخضر منذ البداية بمشاهدة الفتى بل وجعل لنفسه طريقا في البحر ذهب فيه بمشاهدة الفتى حتى يوقظ فيه العجب والدهشة فيخبر شيخه بذلك فلا يتجاوزان ذلك المكان فأراد الحوت التخفيف عنهما فوفّى حقّ الصحبة فكان الحوت قائدا والفتى خادما وموسى طالبا فتكفّل الله تعالى لطالب العلم برزقه وبمن يخدمه ( الناس في مساجدهم والله في قضاء حوائجهم )
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )
قلنا في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) دليل على أنّ هذا السفر كان نافلة وما كان فرضا على موسى وفتاه وذلك تستشعره في قوله ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فكان نسيان الحوت بغية لهما ينتظران حصولها إذ أنّها علامة على وجود مكان الخضر ثمّ يمكننا متى دقّقنا أكثر في الآيات أن نقول بأنّ العلامة الحقيقيّة ليست فقط في نسيان الحوت بل العلامة موجودة في ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) أي عندما يذهب الحوت في البحر ويأخذ طريقه فيه ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) فتلك هي العلامة على وجود مكان الخضر أو وجود المكان الذي سيخرج منه الخضر أمّا مجرّد النسيان فما كان في ذاته علامة لذا قال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي لا نبغي غير وجود تلك العلامة من حيث أنّ الحوت ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) إذ لو كان نسيان الحوت بغية لهما من حيث مجرّد النسيان لما شعر بالتقصير الفتى ولما لام نفسه ثمّ أنّ الفتى ما نسي الحوت في الحقيقة ولكنّه نسي أن يذكر قصّته لموسى حينما رآها لذا فقوله ( إنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) فيه إستدراك بالتحقيق وذلك أنّه لو قال ( إني نسيت الحوت أن أذكره ) لما وفّى حقّ الخدمة وحقّ الصحبة من آداب لأنّه نسب النسيان فقط إلى نفسه فجهل المراتب في التحقيق فنسي الفتى أن يذكر قصّة الحوت لموسى التي هي دليل على وجود العلامة فتأخّر تذكّر الفتى للقصّة هو الذي أوقعهما في النصب في هذا السفر فقوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي ذلك ما كنّا نبغيه من إتّخاذ الحوت سبيلا في البحر سربا لا أنّ ما كنّا نبغيه من النسيان فإنّ النقائص لا تبتغى وكذلك لا يبتغي أحد النصب والجوع فهذا وجه آخر من الذوق وهو الأقرب وإنّما قال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) كما قلنا تخفيفا عن الفتى وتربية وفي نفس الوقت شهود إرادة الله تعالى وفعله وما سبق به القدر من حيث أنّ علم القدر في حقيقته هو علم تربوي للنفس ليدخلها في بحر الرضا والتسليم .
ثمّ بقيت حقائق نذكرها للفائدة :
في هذه الآية دليل على أن الشيخ لا يعلم ما خفي من أحوال مريده في كلّ الأحيان جملة وتفصيلا فإنّ علم الغيب المطلق خاصّ بالله تعالى فما علم موسى بقصّة الحوت ولا علم بنسيان فتاه إلا عندما أخبره بذلك لمّا سأل الغداء بما ناله من النصب في سفره فخفي عليه الأمر من أوّله ولولا وجود ذلك النصب والجوع لكان واصل المسير هو وفتاه فعلمنا أنّ الشيخ لا يحيط بجميع أحوال مريده في مختلف مراحل سيره أي شؤونه الظاهرة والباطنة فهو يعلم في بعض الأحيان لا في كلّ الأحيان قال لنا شيخنا رضي الله عنه ( متى أردنا أن نعرف عن فقيرنا شيئا ركّزنا رادارنا عليه ...وهذا يكون في وقت دون وقت ) ومرّة في وقت الظهيرة إتّصلت بشيخنا فوجدته في غيبة تكاد تكون شبه تامّة فقال لي ( الآن أنا متعب قليلا إّتصل بي غدا في يوم الخميس ..) وكان وقتها يوم الأحد فسكتّ وعلمت بغيبة الشيخ وإلاّ فيوم غد هو يوم الإثنين وهكذا يكون حال الشيخ فهو بين جذب وصحو وبين محبّة ومودّة وبين مشاهدة ومراقبة كالليل والنهار يتقلّبان فيطول الليل والنهار بحسب الفصول وكان مرّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم مارّا ببعض الصحابة في قصّة تأبير النخل فسألهم عن عملهم فقالوا : نؤبّر النخل – فقال : ما أرى أنّ ذلك يغني شيئا – فتركوا ذلك ذلك العام فجاءت الثمرة شيصا – فلا نقول أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يعرف فاعلية تأبير النخل ولا أهميته بل الأمر أكبر من ذلك فعندما يكون العارف غارقا في بحر الشهود فأنّى له أن يرى غير فعل المشهود في أسرار الوجود من غير وجود للكون في مشاهدة النظر وهكذا فليس نقصا أن يحجب الشيخ عن أحوال مريديه في البعض من الأحيان لأنّ الشيخ عبد وليس ربّا له الإطّلاع الكامل الأكمل بل هو مرشد يرشد المريد وقد فهم هذا الحال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعض المنافقين على غير مرماه في قصّة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي أضلّت الوادي فاستغربوا كيف يكون رسول الله لا يعرف مكان ناقته وقالوا لو كان هذا رسول الله حقّا لعلم مكان ناقته فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال ( والله لا أعلم إلا ما علّمني ربّي ) وهكذا في قصص الأنبياء فليس الإحاطة العلمية إلا لله تعالى أمّا ما عداه فكلّهم عبيد لا يعلمون إلاّ ما علّمهم الله تعالى وقد وقع زمرة من المريدين في هذا الخلط فنسبوا لشيوخهم ما هم منه برآء أمّا عن الشيعة فحدّث ولا حرج من نسبتهم لآل البيت وخاصّة لعليّ رضي الله عنه ما هو من شؤون الخالق جلّ وعلا وكذلك يحدث هذا الأمر كثيرا عند العوام فينسبون للأشياخ ما لا يحقّ لهم فالشيوخ عباد قبل كلّ شيء وليسوا أربابا من دون الله فيجب الحذر في هذا فإنّ الأمر ليس على إطلاقه إلاّ أنّه ( إتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ) فالفراسة ليست هي العلم المطلق وهذه حضرات متنوّعة من حيث طرق الكشف فإنّ لكلّ وليّ طريقة في هذا وأعلاهم من كان نظره بالله تعالى لا بنظر غيره كمن يستعمل الجنّ في كشفه وإنّ لنعرف منهم طرفا فإنّه هناك الكشف الربّاني وهناك الكشف الروحاني فأهل الله يتنزّهون عن الكشف الروحاني لأنّه كشف ظلماني قد يدخله الكذب والشرك الخفي ...فافهم وهذه مباحث نتناولها كلّما سنحت الفرصة لنبيّن للمسلمين حقائق دين الله تعالى , فعلى هذا قلنا بأنّ موسى ما كان مطّلعا على ما حدث لفتاه في شؤون خدمته عند نسيانه للحوت ونسيانه أن يذكره له ...وهكذا
والأمر الآخر في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ )
وإنّما في الإشارة إلى قوله ( نبغ ) كما قدّمنا غير قوله ( نريد ) لأنّ الإرادة في أفوى حقائقها ووجوهها لا تعلّق لها إلا بالله تعالى ( يريدون وجهه ) فكلّ من تعلّقت إرادته بغير هذه الوجهة فهو مدبر عن الله تعالى فإنّ كلّ ما تناله أو تريد أن تناله إنّما هو بغية لك وليس إرادة لأنّ الإرادة لا تعلّق لها حقيقة إلا إرادة وجه الله تعالى حتى تفنى إرادتك في إرادته فتكون عبد ربّانيا محضا لهذا سمّى ساداتنا العبد الصوفي ( بالمريد ) وسمّوه ( بالفقير ) فمرتبة الفقر أعلى من مرتبة الإرادة فالإرادة سلوك والفقر وصول فالمريد سالك والفقير واصل وهكذا الفقر معنى يشمل جميع أهل النسبة برغم تنوّع صفاتهم فنقول ( هذا فقير عارف مرشد , وهذا فقير عارف مقدّم , وهذا فقير خادم , وهذا فقير سائح ..وهكذا ) فهم فقراء مهما كانت صفة الفقير فأنت فقير في الطريق وشيخك أيضا فقير في الطريق فليس بعد الوصول إلا التأدّب مع الصفة ..فافهم
فالإرادة من معانيها الفرائض أمّا النوافل فمن معانيها البغية والأمنية ( واسألوا الله من فضله ) ..فافهم
قال تعالى ( فارتدّا على آثارهما قصصا ) وهكذا شأن وحال طالب العلم وهذه علامته من حيث الحرص والعزيمة وعدم اليأس وقرب التيسير والفرح والسرور ( بفاء السرعة )
وفيه أنّهما إرتدا على آثارهما من غير توجيه ولا كلام فقد عرف كلّ أناس مشربهم فكأنّ الفتى نشط أيضا بنشاط شيخه فذهبت الحضرة الموسوية بمقدّمها كاملة للإجتماع بالخضر ما ترك منها شيء في صفة الطالب والمريد فليس بعد هذا التواضع من تواضع لعلمه عليه السلام بما عليه الحضرة في إطلاقاتها فلم يحجّر رحمة الله تعالى على نفسه فهذا نبيّ ورسول من أولي العزم بل وكليم الله وصاحب التوراة ذهب متعلّما من عبد لا يصله في المرتبة ولا في العلم تحقيقا وقد قال عليه الصلاة والسلام ( لو كان موسى حيّا ما وسعه إلاّ أن يتّبعني ) أي موسى وما أدراك من موسى ما وسعه إلا أن يتّبعني رغم أنّه لم يتّبع الخضر في علومه ولا وافقه عليها فهذا الحديث إشارة منه عليه السلام إلى رفعته ومن ثمّ إلى رفعة علم موسى عليه السلام
قلت : هنا إنتهى الكلام فيما بين موسى وفتاه وذلك بقوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) فلمّا وصل موسى إلى مناه تجرّد تجرّدا فريدا فرجع من توّه وهكذا أحوال العارفين وهذا الحال نجده من حيث العلوم عند الشيخ الأكبر فهكذا كان حاله في البعض من أسفاره وسياحاته لذا فإنّه يذكر طرفا من علومه من الحضرة الموسوية وكذا في الكثير من الحضرات لتعلم قدر الشيخ الأكبر وإنّ لهذا الشيخ علوم وفنون قلّما سمعت عنها الأذن أو خطرت على قلوب غير أهل الله تعالى
وسنخرج بحول الله تعالى من قصّتهما أذواقا وحنينا وأشواقا قلّما سمعت عنها الأذن أو رأيناها مسطّرة في كتاب وكلّ ذلك من فتح العليم الوهّاب
يتبع...
قلنا في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) دليل على أنّ هذا السفر كان نافلة وما كان فرضا على موسى وفتاه وذلك تستشعره في قوله ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) فكان نسيان الحوت بغية لهما ينتظران حصولها إذ أنّها علامة على وجود مكان الخضر ثمّ يمكننا متى دقّقنا أكثر في الآيات أن نقول بأنّ العلامة الحقيقيّة ليست فقط في نسيان الحوت بل العلامة موجودة في ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) أي عندما يذهب الحوت في البحر ويأخذ طريقه فيه ( وإتّخذ سبيله في البحر عجبا ) فتلك هي العلامة على وجود مكان الخضر أو وجود المكان الذي سيخرج منه الخضر أمّا مجرّد النسيان فما كان في ذاته علامة لذا قال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي لا نبغي غير وجود تلك العلامة من حيث أنّ الحوت ( إتّخذ سبيله في البحر سربا ) إذ لو كان نسيان الحوت بغية لهما من حيث مجرّد النسيان لما شعر بالتقصير الفتى ولما لام نفسه ثمّ أنّ الفتى ما نسي الحوت في الحقيقة ولكنّه نسي أن يذكر قصّته لموسى حينما رآها لذا فقوله ( إنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) فيه إستدراك بالتحقيق وذلك أنّه لو قال ( إني نسيت الحوت أن أذكره ) لما وفّى حقّ الخدمة وحقّ الصحبة من آداب لأنّه نسب النسيان فقط إلى نفسه فجهل المراتب في التحقيق فنسي الفتى أن يذكر قصّة الحوت لموسى التي هي دليل على وجود العلامة فتأخّر تذكّر الفتى للقصّة هو الذي أوقعهما في النصب في هذا السفر فقوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) أي ذلك ما كنّا نبغيه من إتّخاذ الحوت سبيلا في البحر سربا لا أنّ ما كنّا نبغيه من النسيان فإنّ النقائص لا تبتغى وكذلك لا يبتغي أحد النصب والجوع فهذا وجه آخر من الذوق وهو الأقرب وإنّما قال له ( ذلك ما كنّا نبغ ) كما قلنا تخفيفا عن الفتى وتربية وفي نفس الوقت شهود إرادة الله تعالى وفعله وما سبق به القدر من حيث أنّ علم القدر في حقيقته هو علم تربوي للنفس ليدخلها في بحر الرضا والتسليم .
ثمّ بقيت حقائق نذكرها للفائدة :
في هذه الآية دليل على أن الشيخ لا يعلم ما خفي من أحوال مريده في كلّ الأحيان جملة وتفصيلا فإنّ علم الغيب المطلق خاصّ بالله تعالى فما علم موسى بقصّة الحوت ولا علم بنسيان فتاه إلا عندما أخبره بذلك لمّا سأل الغداء بما ناله من النصب في سفره فخفي عليه الأمر من أوّله ولولا وجود ذلك النصب والجوع لكان واصل المسير هو وفتاه فعلمنا أنّ الشيخ لا يحيط بجميع أحوال مريده في مختلف مراحل سيره أي شؤونه الظاهرة والباطنة فهو يعلم في بعض الأحيان لا في كلّ الأحيان قال لنا شيخنا رضي الله عنه ( متى أردنا أن نعرف عن فقيرنا شيئا ركّزنا رادارنا عليه ...وهذا يكون في وقت دون وقت ) ومرّة في وقت الظهيرة إتّصلت بشيخنا فوجدته في غيبة تكاد تكون شبه تامّة فقال لي ( الآن أنا متعب قليلا إّتصل بي غدا في يوم الخميس ..) وكان وقتها يوم الأحد فسكتّ وعلمت بغيبة الشيخ وإلاّ فيوم غد هو يوم الإثنين وهكذا يكون حال الشيخ فهو بين جذب وصحو وبين محبّة ومودّة وبين مشاهدة ومراقبة كالليل والنهار يتقلّبان فيطول الليل والنهار بحسب الفصول وكان مرّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم مارّا ببعض الصحابة في قصّة تأبير النخل فسألهم عن عملهم فقالوا : نؤبّر النخل – فقال : ما أرى أنّ ذلك يغني شيئا – فتركوا ذلك ذلك العام فجاءت الثمرة شيصا – فلا نقول أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يعرف فاعلية تأبير النخل ولا أهميته بل الأمر أكبر من ذلك فعندما يكون العارف غارقا في بحر الشهود فأنّى له أن يرى غير فعل المشهود في أسرار الوجود من غير وجود للكون في مشاهدة النظر وهكذا فليس نقصا أن يحجب الشيخ عن أحوال مريديه في البعض من الأحيان لأنّ الشيخ عبد وليس ربّا له الإطّلاع الكامل الأكمل بل هو مرشد يرشد المريد وقد فهم هذا الحال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعض المنافقين على غير مرماه في قصّة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي أضلّت الوادي فاستغربوا كيف يكون رسول الله لا يعرف مكان ناقته وقالوا لو كان هذا رسول الله حقّا لعلم مكان ناقته فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال ( والله لا أعلم إلا ما علّمني ربّي ) وهكذا في قصص الأنبياء فليس الإحاطة العلمية إلا لله تعالى أمّا ما عداه فكلّهم عبيد لا يعلمون إلاّ ما علّمهم الله تعالى وقد وقع زمرة من المريدين في هذا الخلط فنسبوا لشيوخهم ما هم منه برآء أمّا عن الشيعة فحدّث ولا حرج من نسبتهم لآل البيت وخاصّة لعليّ رضي الله عنه ما هو من شؤون الخالق جلّ وعلا وكذلك يحدث هذا الأمر كثيرا عند العوام فينسبون للأشياخ ما لا يحقّ لهم فالشيوخ عباد قبل كلّ شيء وليسوا أربابا من دون الله فيجب الحذر في هذا فإنّ الأمر ليس على إطلاقه إلاّ أنّه ( إتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ) فالفراسة ليست هي العلم المطلق وهذه حضرات متنوّعة من حيث طرق الكشف فإنّ لكلّ وليّ طريقة في هذا وأعلاهم من كان نظره بالله تعالى لا بنظر غيره كمن يستعمل الجنّ في كشفه وإنّ لنعرف منهم طرفا فإنّه هناك الكشف الربّاني وهناك الكشف الروحاني فأهل الله يتنزّهون عن الكشف الروحاني لأنّه كشف ظلماني قد يدخله الكذب والشرك الخفي ...فافهم وهذه مباحث نتناولها كلّما سنحت الفرصة لنبيّن للمسلمين حقائق دين الله تعالى , فعلى هذا قلنا بأنّ موسى ما كان مطّلعا على ما حدث لفتاه في شؤون خدمته عند نسيانه للحوت ونسيانه أن يذكره له ...وهكذا
والأمر الآخر في قوله ( ذلك ما كنّا نبغ )
وإنّما في الإشارة إلى قوله ( نبغ ) كما قدّمنا غير قوله ( نريد ) لأنّ الإرادة في أفوى حقائقها ووجوهها لا تعلّق لها إلا بالله تعالى ( يريدون وجهه ) فكلّ من تعلّقت إرادته بغير هذه الوجهة فهو مدبر عن الله تعالى فإنّ كلّ ما تناله أو تريد أن تناله إنّما هو بغية لك وليس إرادة لأنّ الإرادة لا تعلّق لها حقيقة إلا إرادة وجه الله تعالى حتى تفنى إرادتك في إرادته فتكون عبد ربّانيا محضا لهذا سمّى ساداتنا العبد الصوفي ( بالمريد ) وسمّوه ( بالفقير ) فمرتبة الفقر أعلى من مرتبة الإرادة فالإرادة سلوك والفقر وصول فالمريد سالك والفقير واصل وهكذا الفقر معنى يشمل جميع أهل النسبة برغم تنوّع صفاتهم فنقول ( هذا فقير عارف مرشد , وهذا فقير عارف مقدّم , وهذا فقير خادم , وهذا فقير سائح ..وهكذا ) فهم فقراء مهما كانت صفة الفقير فأنت فقير في الطريق وشيخك أيضا فقير في الطريق فليس بعد الوصول إلا التأدّب مع الصفة ..فافهم
فالإرادة من معانيها الفرائض أمّا النوافل فمن معانيها البغية والأمنية ( واسألوا الله من فضله ) ..فافهم
قال تعالى ( فارتدّا على آثارهما قصصا ) وهكذا شأن وحال طالب العلم وهذه علامته من حيث الحرص والعزيمة وعدم اليأس وقرب التيسير والفرح والسرور ( بفاء السرعة )
وفيه أنّهما إرتدا على آثارهما من غير توجيه ولا كلام فقد عرف كلّ أناس مشربهم فكأنّ الفتى نشط أيضا بنشاط شيخه فذهبت الحضرة الموسوية بمقدّمها كاملة للإجتماع بالخضر ما ترك منها شيء في صفة الطالب والمريد فليس بعد هذا التواضع من تواضع لعلمه عليه السلام بما عليه الحضرة في إطلاقاتها فلم يحجّر رحمة الله تعالى على نفسه فهذا نبيّ ورسول من أولي العزم بل وكليم الله وصاحب التوراة ذهب متعلّما من عبد لا يصله في المرتبة ولا في العلم تحقيقا وقد قال عليه الصلاة والسلام ( لو كان موسى حيّا ما وسعه إلاّ أن يتّبعني ) أي موسى وما أدراك من موسى ما وسعه إلا أن يتّبعني رغم أنّه لم يتّبع الخضر في علومه ولا وافقه عليها فهذا الحديث إشارة منه عليه السلام إلى رفعته ومن ثمّ إلى رفعة علم موسى عليه السلام
قلت : هنا إنتهى الكلام فيما بين موسى وفتاه وذلك بقوله ( ذلك ما كنّا نبغ ) فلمّا وصل موسى إلى مناه تجرّد تجرّدا فريدا فرجع من توّه وهكذا أحوال العارفين وهذا الحال نجده من حيث العلوم عند الشيخ الأكبر فهكذا كان حاله في البعض من أسفاره وسياحاته لذا فإنّه يذكر طرفا من علومه من الحضرة الموسوية وكذا في الكثير من الحضرات لتعلم قدر الشيخ الأكبر وإنّ لهذا الشيخ علوم وفنون قلّما سمعت عنها الأذن أو خطرت على قلوب غير أهل الله تعالى
وسنخرج بحول الله تعالى من قصّتهما أذواقا وحنينا وأشواقا قلّما سمعت عنها الأذن أو رأيناها مسطّرة في كتاب وكلّ ذلك من فتح العليم الوهّاب
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
بعد قوله تعالى ( فارتدّا على آثارهما قصصا ) وجدا هذا العبد الذي هو الخضر عليه السلام بعد طول سفرهما وعنائهما عليهما السلام
قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) فعرّف هذا العبد في غيره ثمّ عرّف هذا الغير به سبحانه لذا ورد لفظ العبد غير معرّف وكذلك لفظ العباد ورد غير معرّف إلا به سبحانه فلولاه ما عرفنا هذا ولا ذاك من العباد الآخرين الأخفياء فورد التعريف بنسبة الإضافة فتستّر هذا المضاف بالمضاف إليه ثمّ أنّ المضاف إليه كان مجهولا في هذا المقام من حيث نسبة حرف الضمير ( نحن ) فقال ( عبدا من عبادنا ) فهو مجهول في هذا الحضور والقرب من حيث مرتبته المطلقة الحقيقية وإنّما عرّف هنا بالقرب فقط أي عرّف نفسه صفاتا في هذا المحلّ وما عرّف نفسه ذاتا لتفهم مرامي الخطاب بذكر حضرة الجمع التي لا يتمّ فيها التعريف إلا بالإضافة وفيها أنّها حضرة لا تعرف في أفرادها إلا بمجموعها فكأنّها في هذا الشأن حركة واحدة وفعل واحد وعبد واحد أي حضرة واحدة لذا إستعدّ موسى إلى هذه الحقائق حيث أنّه قدم بحضرته كاملة ما تخلّف من حضرة موسى شيء فتصير المناظرة بين الحضرتين من حيث الحقيقتين : الأولى الحقيقة الأسمائية الذاتية , والثانية : الحقيقة الصفاتية الذاتية , فكانت لموسى الأولى , ولهذا العبد الذي هو الخضر الثانية فتقول هي مناظرة بين الإسم و بين الصفة من حيث القطبية للإسم ومن حيث الفردانية للصفة أو تقول من حيث النبوّة في الخلافة ومن حيث التصريف في الولاية أو تقول من حيث الشريعة التي هي عين الحقيقة ومن حيث الطريقة في الحقيقة أو تقول من حيث أحكام الألوهية ومن حيث أحكام الربوبية ...وهكذا
فقال تعالى ( عبدا من عبادنا ) فوجداه على هذا الوصف الذي هو وصف العبودية بنسبتين : الأولى : عبوديته الظاهرة : فوجداه واضعا رأسه ملتحفا جالسا في هيئة العبيد ظاهرا فوقعت عيناهما عليه في هذا الوصف الظاهري من حيث عبوديته الظاهرة وهي الذلّ والعجز والتواضع وعدم الظهور فقد ورد ذكر هيئته وجلوسه في الحديث النبوي لذا قال ( فوجدا عبدا من عبادنا ) فاتّحد نظر موسى ونظر فتاه من حيث المعاينة والفراسة فما وجدا غير وصفه الذي هو العبودية وهذا المشهد يعطي أمرين لا ثالث لهما : إمّا أن تنكر على من كانت هذه حالته فلا يأخذ منك بالا ولا إعتناءا لمغالطته للظواهر إذ أنّه لا يؤبه له في هذا الشكل وعلى هذا أغلب الناس اليوم فإنّه لا يستهويهم مقام العبودية في شيء فمن قام من العباد في زمنهم في وصفها إحتقروه ومنعوه فلا يسمعونه ولا يقدّمونه مدفوع في الأبواب وهذا وصف الملامتية في طريق الله تعالى لذا ترى أكثر الناس إجتماعا بالخضر هم الملامتية في طريق الله تعالى
والأمر الثاني : أن تتأدّب معه غاية التأدّب وتتواضع له غاية التواضع لما تفهمه من غور معاني العبودية وخطر وصفها وأنّ أمرها بأمر الله تعالى فإمّا أن ترتقي بسببها إلى أعلى الدرجات وإمّا أن تسلب وتطرد إلى أسفل الدركات فليس لك متى جمعك الله مع أهلها إلا هذين الأمرين فإمّا شقيّا أو سعيدا لذا كان الخضر في سياحته مع موسى لا يقيم إلا منارات الإيمان فكان يمحي علائم الكفر والظلم عن طريق كشف الصفات كما حدث في قتله للغلام فنظر للسابقة وعليها صار الحكم عنده لأنّها مرتبة صفات ربّانية , والصفات لا تفارق الذات ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) فأدخل الفعل في الصفة
أمّا النسبة الثانية : فعبوديته الباطنة وهذا سنأتي عليه من حيث قوله لموسى ( وما فعلته عن أمري ) فكان عبدا لله تعالى ظاهرا وباطنا فإنّ مشهد عبودية الظاهر يشعرك بوصف عبودية الباطن متى قرأت قوله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما ) فإنّ علامتهم التواضع الذي هو ضدّ التفاخر أو الشطح أو إظهار الخصوصيات ...إلخ وهذا سنأتي على ذكره مفصّلا أثناء أحداث القصّة
فهؤلاء النوع من العباد إنّما علومهم وأحوالهم وجميع شؤونهم في حركاتهم وسكناته به سبحانه وتعالى ( عبدا من عبادنا ) هكذا قال تعالى فما نسبهم لغيره لا وصفا ولا فعلا ولا ذاتا
فقال تعالى ( عبدا من عبادنا ) فذكره بوصف العبودية التي هي نقيض الألوهية في كلّ وجه إشارة إلى عالم الفناء أي أنّ هذا العبد قائم بالله قولا وفعلا وحالا وذاتا فليس له من أمره من شيء لذا قال ( فوجد عبدا من عبادنا ) فكأنّه يشير سبحانه ( فوجدا حقيقة من حقائقنا ) فعلم موسى الأمر وجلالته بعد أن تمكّن شهوده من معاينة هذا المقام ( فوجدا عبدا من عبادنا ) وإنّما ذكره بوصف العبودية لما يعطيه هذا المشهد في أخصّ خصوصياته من الدلالة على الذات لأنّ مشهد العبودية متى كان فعلا كان صفاتيا ومتى كان عبودية وتوجّها كان مشهدا ذاتيا فهو بين الذات والصفات بخلاف الأنبياء فهم بين إسم وذات فوقعت المناظرة في مرتبة الصفات التي هي مرتبة الولاية وما فيها من علوم فهي مرتبة عبودية فوقعت المناظرة في حضرة الصفات فافهم فهذا بين إسم وذات والآخر وهو الخضر بين صفة وذات لأنّها مرتبة حاليّة إضطرارية إلاّ النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم فهو جامع لجميع المراتب لذا كان ينعته في أخصّ خصوصياته بقوله ( سبحان الذي أسرى بعبده ) فنسبه إليه بتعريفه بالإضافة في مقام الهوية المجهولة وهو قوله ( هو ) أي هاء الضمير المجهول الذي لا يعرف فيعيّن تحديدا ... وهكذا في الأنبياء في القرآن فإنّه يقول في الصفة ( واذكر عبادنا ) ثمّ يخرجهم بوصف الإسم فيعيّنهم في مراتبهم فيخرجهم من مرتبة البطون إلى مرتبة الظهور فيكونون بين إسم ومسمّى به بخلاف غيرهم من الأولياء فيكونون بين صفات ومتّصف بها فكان حكم الأنبياء أعلى مرقى علما وذوقا فإنّهم أعلم الخلق بالله على الإطلاق وسنأتي على ذكر شيء من ذلك إن شاء الله تعالى
قال تعالى ( عبدا من عبادنا ) فليست له حقيقة أسمائية بل له حقيقة صفاتية لذا ما قال في حقّه ( فوجدا الخضر ) بل قال ( عبدا من عبادنا ) فهذه الصفة مشتركة بين الناس جميعهم فإنّهم كلّهم عبيد لله تعالى وإنّما قصدنا خصائص هذا الوصف في المراتب الصفاتية لأنّ الإنسان يكون إسما ثمّ صفة فلا يكون الإسم إلا بذات فسبقت الذات الإسم أمّا الصفة فهي لا تتقيّد بالإسم بالنسبة للمخلوقين أمّا الذات فتتقيّد بالصفة فهي التي تظهرها أو تظهر بها إلا الله تعالى فإنّ أسماءه وصفاته مقيّدة بذاته فهي تحت حكمها والذات لا نهاية لها أبدا فكانت مقيّدة من حيث إطلاقات الذات وليست مقيّدة من حيث تكييفها أو تحديدها بل هي أزلية قديمة لهذا عنينا هذا الوصف من حيث العبودية التي ذكرها هنا من أنّها عبودية من حيث الصفات لا من حيث الأسماء فأضحت هذه العبودية تابعة لذات المسمّى بها وأضحى الإسم كذلك تبعا للمسمّى به لذا كان إسمه الخضر من حيث إخضرار كلّ مكان يجلس فيه فقيل فيه عبد من حيث هذا الوصف وإلاّ فالعبودية مراتب فليست عبودية الخضر هي نفس عبودية موسى إلاّ أنّه هناك قاسم مشترك من حيث الألوهية يجمعها
لذا سمّى الله تعالى سيّدنا يحيى بحسب حقيقته الصفاتية (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ) وكذلك عيسى حيث قالت الملائكة لأمّه مريم ( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم ) لذا نطق عيسى بإسم سيّد الوجود في صفته الأحمدية فقال (و مبشّرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد ) فنطق عيسى وصفا أي سمّى الوصف لذا أخبر القرآن بهذا وذكر هذا الإسم بلسان عيسى لتفهم الإشارة عنه سبحانه وكذا قالت الملائكة لسارّة ( فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق بيعقوب ) لذا سمّى عليه الصلاة والسلام الحسن والحسين من حيث حقيقتيهما الصفاتية لذا نعتهما ( بأنّهما سيدا شباب أهل الجنّة ) فهؤلاء نطقت الحضرة بأسمائهم قبل وجود ذواتهم فأخبرت عن حقائق أرواحهم فلهم بعض حقائق أهل الولاية يخرجون فيها وهذا تلاحظة في عيسى خاتم الولاية العامّة فلا وليّ بعده وكذلك تلاحظ هذا في يحيى من حيث أنّه يذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار أمّا غيرهم من حيث الولاية فلم تخرجهم الحضرة بأسمائهم الذاتية بل أخرجت لنا أسماءهم الصفاتية فهذا الفرق بين الأنبياء وبين غيرهم من الأولياء , فإنّ النبيّ في الشاهد مثل البحر أمّا الوليّ فهو مثل النهر , قيل ( قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر) وهذا ما عزم موسى على إدراكه فليست هناك أفضلية للنهر على البحر أبدا بل لولا البحر لما كان هناك نهر فإنّ مصبّ الأنهار في البحار وهذا متعلّقه أعني متى وجد في النهر ما لا يوجد في البحر علوم الأكوان من حيث التصريف الإلهي فيه فإنّ الإحاطة في ذلك لله تعالى وليس لعبد من العبيد حتى لا يفسد الكون فيشترك مع الله غيره في هذه الربوبية والألوهية ولو بوجه من الوجود وهذا حرام ولا يجوز ولا يمكنه أن يكون البتّة
قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) فيه حنان ورحمة لهذا العبد بنسبته إليه إذ ليس له قوّة ولا غنى إلاّ بربّه وليست له مرتبة خصوصية فيقوم فيها فيحميه الله بها بل هو مع الله كيفما حكمت الصفات ومن كان على هذه الشاكلة كأويس القرني رضي الله عنه يكون حكمه حكم الواردات والإلهام وهو وحي الأولياء فيسير بحسب هذا السير وقوانينه إذ أنّه في حصن اللطف والستر فلا طاقة له على مجاراة الحقائق لذا قيل في الصوفية ( هم أطفال في حجر الحقّ ) أي في لطفه ورحمته فهم كالأطفال أقلّ شيء يبكيهم وأقلّ شيء يفرحهم
قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) ومن يحسن أن يجد هذا العبد غير عبد فاق هذا العبد وهو موسى ففي الخطاب بالعبودية ذكر لأوصاف الخضر وذكر أيضا لأوصاف موسى وفتاه من حيث أنّهما عثرا على هذا العبد الفريد فهذا دليل على رفعة مقاميهما وإلا فأنّى لك أن تجد أو تلتقي هذا النوع من العباد فقد يكون جارك ولا تدري به وقد كانت بغية الشيخ الأكبر البحث عن هذه الأصناف من العباد لذا فأوّل ما وجد موسى الخضر عرف مناحي توجّهات هذا العبد وفي أيّ مقام هو ونوعية علومه وحضراتها وماهية أحواله لذا لمّا طلب منه عدم السؤال ( قال ستجدني إن شاء الله صابرا ) فذكر المشيئة فهي إشارة إلى أنّه فهم وعلم أحوال الخضر وماهية حضرات علومه وأنّها ليس من نفس جنس حال موسى الأعلى والأرقى من ذلك فإنّ فوق كلّ ذي علم عليم فكان موسى خبيرا بالمقامات وما تعطيه التجليات
يتبع...
بعد قوله تعالى ( فارتدّا على آثارهما قصصا ) وجدا هذا العبد الذي هو الخضر عليه السلام بعد طول سفرهما وعنائهما عليهما السلام
قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) فعرّف هذا العبد في غيره ثمّ عرّف هذا الغير به سبحانه لذا ورد لفظ العبد غير معرّف وكذلك لفظ العباد ورد غير معرّف إلا به سبحانه فلولاه ما عرفنا هذا ولا ذاك من العباد الآخرين الأخفياء فورد التعريف بنسبة الإضافة فتستّر هذا المضاف بالمضاف إليه ثمّ أنّ المضاف إليه كان مجهولا في هذا المقام من حيث نسبة حرف الضمير ( نحن ) فقال ( عبدا من عبادنا ) فهو مجهول في هذا الحضور والقرب من حيث مرتبته المطلقة الحقيقية وإنّما عرّف هنا بالقرب فقط أي عرّف نفسه صفاتا في هذا المحلّ وما عرّف نفسه ذاتا لتفهم مرامي الخطاب بذكر حضرة الجمع التي لا يتمّ فيها التعريف إلا بالإضافة وفيها أنّها حضرة لا تعرف في أفرادها إلا بمجموعها فكأنّها في هذا الشأن حركة واحدة وفعل واحد وعبد واحد أي حضرة واحدة لذا إستعدّ موسى إلى هذه الحقائق حيث أنّه قدم بحضرته كاملة ما تخلّف من حضرة موسى شيء فتصير المناظرة بين الحضرتين من حيث الحقيقتين : الأولى الحقيقة الأسمائية الذاتية , والثانية : الحقيقة الصفاتية الذاتية , فكانت لموسى الأولى , ولهذا العبد الذي هو الخضر الثانية فتقول هي مناظرة بين الإسم و بين الصفة من حيث القطبية للإسم ومن حيث الفردانية للصفة أو تقول من حيث النبوّة في الخلافة ومن حيث التصريف في الولاية أو تقول من حيث الشريعة التي هي عين الحقيقة ومن حيث الطريقة في الحقيقة أو تقول من حيث أحكام الألوهية ومن حيث أحكام الربوبية ...وهكذا
فقال تعالى ( عبدا من عبادنا ) فوجداه على هذا الوصف الذي هو وصف العبودية بنسبتين : الأولى : عبوديته الظاهرة : فوجداه واضعا رأسه ملتحفا جالسا في هيئة العبيد ظاهرا فوقعت عيناهما عليه في هذا الوصف الظاهري من حيث عبوديته الظاهرة وهي الذلّ والعجز والتواضع وعدم الظهور فقد ورد ذكر هيئته وجلوسه في الحديث النبوي لذا قال ( فوجدا عبدا من عبادنا ) فاتّحد نظر موسى ونظر فتاه من حيث المعاينة والفراسة فما وجدا غير وصفه الذي هو العبودية وهذا المشهد يعطي أمرين لا ثالث لهما : إمّا أن تنكر على من كانت هذه حالته فلا يأخذ منك بالا ولا إعتناءا لمغالطته للظواهر إذ أنّه لا يؤبه له في هذا الشكل وعلى هذا أغلب الناس اليوم فإنّه لا يستهويهم مقام العبودية في شيء فمن قام من العباد في زمنهم في وصفها إحتقروه ومنعوه فلا يسمعونه ولا يقدّمونه مدفوع في الأبواب وهذا وصف الملامتية في طريق الله تعالى لذا ترى أكثر الناس إجتماعا بالخضر هم الملامتية في طريق الله تعالى
والأمر الثاني : أن تتأدّب معه غاية التأدّب وتتواضع له غاية التواضع لما تفهمه من غور معاني العبودية وخطر وصفها وأنّ أمرها بأمر الله تعالى فإمّا أن ترتقي بسببها إلى أعلى الدرجات وإمّا أن تسلب وتطرد إلى أسفل الدركات فليس لك متى جمعك الله مع أهلها إلا هذين الأمرين فإمّا شقيّا أو سعيدا لذا كان الخضر في سياحته مع موسى لا يقيم إلا منارات الإيمان فكان يمحي علائم الكفر والظلم عن طريق كشف الصفات كما حدث في قتله للغلام فنظر للسابقة وعليها صار الحكم عنده لأنّها مرتبة صفات ربّانية , والصفات لا تفارق الذات ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) فأدخل الفعل في الصفة
أمّا النسبة الثانية : فعبوديته الباطنة وهذا سنأتي عليه من حيث قوله لموسى ( وما فعلته عن أمري ) فكان عبدا لله تعالى ظاهرا وباطنا فإنّ مشهد عبودية الظاهر يشعرك بوصف عبودية الباطن متى قرأت قوله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما ) فإنّ علامتهم التواضع الذي هو ضدّ التفاخر أو الشطح أو إظهار الخصوصيات ...إلخ وهذا سنأتي على ذكره مفصّلا أثناء أحداث القصّة
فهؤلاء النوع من العباد إنّما علومهم وأحوالهم وجميع شؤونهم في حركاتهم وسكناته به سبحانه وتعالى ( عبدا من عبادنا ) هكذا قال تعالى فما نسبهم لغيره لا وصفا ولا فعلا ولا ذاتا
فقال تعالى ( عبدا من عبادنا ) فذكره بوصف العبودية التي هي نقيض الألوهية في كلّ وجه إشارة إلى عالم الفناء أي أنّ هذا العبد قائم بالله قولا وفعلا وحالا وذاتا فليس له من أمره من شيء لذا قال ( فوجد عبدا من عبادنا ) فكأنّه يشير سبحانه ( فوجدا حقيقة من حقائقنا ) فعلم موسى الأمر وجلالته بعد أن تمكّن شهوده من معاينة هذا المقام ( فوجدا عبدا من عبادنا ) وإنّما ذكره بوصف العبودية لما يعطيه هذا المشهد في أخصّ خصوصياته من الدلالة على الذات لأنّ مشهد العبودية متى كان فعلا كان صفاتيا ومتى كان عبودية وتوجّها كان مشهدا ذاتيا فهو بين الذات والصفات بخلاف الأنبياء فهم بين إسم وذات فوقعت المناظرة في مرتبة الصفات التي هي مرتبة الولاية وما فيها من علوم فهي مرتبة عبودية فوقعت المناظرة في حضرة الصفات فافهم فهذا بين إسم وذات والآخر وهو الخضر بين صفة وذات لأنّها مرتبة حاليّة إضطرارية إلاّ النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم فهو جامع لجميع المراتب لذا كان ينعته في أخصّ خصوصياته بقوله ( سبحان الذي أسرى بعبده ) فنسبه إليه بتعريفه بالإضافة في مقام الهوية المجهولة وهو قوله ( هو ) أي هاء الضمير المجهول الذي لا يعرف فيعيّن تحديدا ... وهكذا في الأنبياء في القرآن فإنّه يقول في الصفة ( واذكر عبادنا ) ثمّ يخرجهم بوصف الإسم فيعيّنهم في مراتبهم فيخرجهم من مرتبة البطون إلى مرتبة الظهور فيكونون بين إسم ومسمّى به بخلاف غيرهم من الأولياء فيكونون بين صفات ومتّصف بها فكان حكم الأنبياء أعلى مرقى علما وذوقا فإنّهم أعلم الخلق بالله على الإطلاق وسنأتي على ذكر شيء من ذلك إن شاء الله تعالى
قال تعالى ( عبدا من عبادنا ) فليست له حقيقة أسمائية بل له حقيقة صفاتية لذا ما قال في حقّه ( فوجدا الخضر ) بل قال ( عبدا من عبادنا ) فهذه الصفة مشتركة بين الناس جميعهم فإنّهم كلّهم عبيد لله تعالى وإنّما قصدنا خصائص هذا الوصف في المراتب الصفاتية لأنّ الإنسان يكون إسما ثمّ صفة فلا يكون الإسم إلا بذات فسبقت الذات الإسم أمّا الصفة فهي لا تتقيّد بالإسم بالنسبة للمخلوقين أمّا الذات فتتقيّد بالصفة فهي التي تظهرها أو تظهر بها إلا الله تعالى فإنّ أسماءه وصفاته مقيّدة بذاته فهي تحت حكمها والذات لا نهاية لها أبدا فكانت مقيّدة من حيث إطلاقات الذات وليست مقيّدة من حيث تكييفها أو تحديدها بل هي أزلية قديمة لهذا عنينا هذا الوصف من حيث العبودية التي ذكرها هنا من أنّها عبودية من حيث الصفات لا من حيث الأسماء فأضحت هذه العبودية تابعة لذات المسمّى بها وأضحى الإسم كذلك تبعا للمسمّى به لذا كان إسمه الخضر من حيث إخضرار كلّ مكان يجلس فيه فقيل فيه عبد من حيث هذا الوصف وإلاّ فالعبودية مراتب فليست عبودية الخضر هي نفس عبودية موسى إلاّ أنّه هناك قاسم مشترك من حيث الألوهية يجمعها
لذا سمّى الله تعالى سيّدنا يحيى بحسب حقيقته الصفاتية (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ) وكذلك عيسى حيث قالت الملائكة لأمّه مريم ( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم ) لذا نطق عيسى بإسم سيّد الوجود في صفته الأحمدية فقال (و مبشّرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد ) فنطق عيسى وصفا أي سمّى الوصف لذا أخبر القرآن بهذا وذكر هذا الإسم بلسان عيسى لتفهم الإشارة عنه سبحانه وكذا قالت الملائكة لسارّة ( فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق بيعقوب ) لذا سمّى عليه الصلاة والسلام الحسن والحسين من حيث حقيقتيهما الصفاتية لذا نعتهما ( بأنّهما سيدا شباب أهل الجنّة ) فهؤلاء نطقت الحضرة بأسمائهم قبل وجود ذواتهم فأخبرت عن حقائق أرواحهم فلهم بعض حقائق أهل الولاية يخرجون فيها وهذا تلاحظة في عيسى خاتم الولاية العامّة فلا وليّ بعده وكذلك تلاحظ هذا في يحيى من حيث أنّه يذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار أمّا غيرهم من حيث الولاية فلم تخرجهم الحضرة بأسمائهم الذاتية بل أخرجت لنا أسماءهم الصفاتية فهذا الفرق بين الأنبياء وبين غيرهم من الأولياء , فإنّ النبيّ في الشاهد مثل البحر أمّا الوليّ فهو مثل النهر , قيل ( قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر) وهذا ما عزم موسى على إدراكه فليست هناك أفضلية للنهر على البحر أبدا بل لولا البحر لما كان هناك نهر فإنّ مصبّ الأنهار في البحار وهذا متعلّقه أعني متى وجد في النهر ما لا يوجد في البحر علوم الأكوان من حيث التصريف الإلهي فيه فإنّ الإحاطة في ذلك لله تعالى وليس لعبد من العبيد حتى لا يفسد الكون فيشترك مع الله غيره في هذه الربوبية والألوهية ولو بوجه من الوجود وهذا حرام ولا يجوز ولا يمكنه أن يكون البتّة
قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) فيه حنان ورحمة لهذا العبد بنسبته إليه إذ ليس له قوّة ولا غنى إلاّ بربّه وليست له مرتبة خصوصية فيقوم فيها فيحميه الله بها بل هو مع الله كيفما حكمت الصفات ومن كان على هذه الشاكلة كأويس القرني رضي الله عنه يكون حكمه حكم الواردات والإلهام وهو وحي الأولياء فيسير بحسب هذا السير وقوانينه إذ أنّه في حصن اللطف والستر فلا طاقة له على مجاراة الحقائق لذا قيل في الصوفية ( هم أطفال في حجر الحقّ ) أي في لطفه ورحمته فهم كالأطفال أقلّ شيء يبكيهم وأقلّ شيء يفرحهم
قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) ومن يحسن أن يجد هذا العبد غير عبد فاق هذا العبد وهو موسى ففي الخطاب بالعبودية ذكر لأوصاف الخضر وذكر أيضا لأوصاف موسى وفتاه من حيث أنّهما عثرا على هذا العبد الفريد فهذا دليل على رفعة مقاميهما وإلا فأنّى لك أن تجد أو تلتقي هذا النوع من العباد فقد يكون جارك ولا تدري به وقد كانت بغية الشيخ الأكبر البحث عن هذه الأصناف من العباد لذا فأوّل ما وجد موسى الخضر عرف مناحي توجّهات هذا العبد وفي أيّ مقام هو ونوعية علومه وحضراتها وماهية أحواله لذا لمّا طلب منه عدم السؤال ( قال ستجدني إن شاء الله صابرا ) فذكر المشيئة فهي إشارة إلى أنّه فهم وعلم أحوال الخضر وماهية حضرات علومه وأنّها ليس من نفس جنس حال موسى الأعلى والأرقى من ذلك فإنّ فوق كلّ ذي علم عليم فكان موسى خبيرا بالمقامات وما تعطيه التجليات
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فدلّ على أنّ هذا الصنف من العبيد لا يعرفون إلا به سبحانه ولا يمكن أن تعرفهم أو تجتمع بهم إلاّ بالدلالة من الله تعالى لك عليهم من طريق التربية والأدب كما حدث لموسى نبيّ زمانه فإنّه ما سمع بالخضر ولا عرفه إلا بإخبار الله تعالى لمّا نسي أن ينسب العلم ويرجعه إلى الله تعالى , فدلّ على أنّ شأنهم غريب في هذا إذ لا يمكن أن تعرفهم أو تجتمع بهم إلاّ من هذا الطريق أي طريق الدلالة من الله مباشرة سبحانه فدلّ على أنّهم حرّاس حضرة العبودية فكلّ من خرج عنها ولو مقدار ذرّة ردّه الله إليها عن طريقهم لذا قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) أي عبدا خالصا من عبادنا فليس له حول ولا قوّة إلا به سبحانه فهو في كلّ شؤونه وأحواله قائم بالله لله فليس له من نفسه من شيء بل هو فاني في عين إرادة الله وأوامره لذا قال له في معرض الكلام بعد الصحبة عند التأويل ( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) فوحّد هنا الإرادة بضمير الجمع كما أنّه نسب ضمير الإرادة في أوّل القصّة لنفسه عندما تعلّق الأمر بالعيب فقال ( فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ) ثمّ في الأخير أرجع الإرادة لله في الفعل الأخير فقال ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) فقد ذكر أنواع الإرادة وحضراتها بالترتيب فجعل توحّد الإرادة في وسطها بين إرادته هو وبين إرادة الله تعالى فدلّ على مقام الصفات كما أنّه في الأوّل دلّ على مقام الأسماء أمّا في الأخير فدلّ على مقام الذات فسلك بموسى مقامات العبودية الثلاثة ليرجعه إليها في التشريع والتحقيق وسنأتي على هذا مفصّلا إن شاء الله تعالى فهو في هذا يذكر حقائق الخلافة بلا مثيل عليه ويفسّر علوم التحقيق التي سنستخرج منها قبسا نستضيء به
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
لم ينسب له شيئا من الخصوصية بل نعته ووصفه بشرف العبودية وأنّها أعلى المقامات لذا يأتي العالم إليها متعلّما ليس إلاّ لأنّ العبودية تستلزم الإحاطة بمقاماتها أي التحقّق بها قولا وفعلا وحالا فهذا ما أشار إليه في قوله ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فذكر وصفي الإحاطة وهما الرحمة والعلم وسنأتي على هذا لاحقا
فدلّ على رفعة وشرف وحقيقة مقام العبودية وأنّه أعلى وأرقى بكثير من مقام الخصوصية إذ أنّه أصل المقامات لذا كان عليه الصلاة والسلام ينعت نفسه دائما بأنّه العبد وهكذا فقد إختار أن يكون نبيّا عبدا أمّا الذي يفرح بالخصوصية فهو ممكور به إلا متى كان فرحه بها بالله تعالى وهذا لا يتأتّى له إلا بالعبودية الكاملة فدلّ على أنّ الحقيقة التي يعنيها القوم ليست غير حقيقة العبودية فمن رجع إلى حقيقته إستقامت خصوصيته إذ أنّ الخصوصية هي تاج العبودية فالعبودية ملك والخصوصية تاجها فلن تلبس التاج حتى تكون ملكا , فالتاج في حقيقته لا يدلّ الناس إلا على وصفك وأنّك ملك فهو معرّف لك وهو عنوان تلك المرتبة التي أنت فيها وأنت تعلم أنّ التاج محلّ وضعه من جوارحك يكون فوق الرأس وهو أعلى مكان فيك فتستوي خصوصيتك على عرش عبوديتك وإلاّ فمتى لم تكن بهذا الميزان لا تعتبر خصوصية وإنّما هي إستدراج بك ومكر من حيث لا تشعر فغيبة الشعور منك هو هذا العقاب المقول فيه ( سنستدرجهم من حيث لا يشعرون ) ولا يعلمون لأنّ الشعور هو خاصيّة العلم وهو وصف الحال الذي أنت فيه وقد ورد في الحكمة أنّه لا يجوز لك أن تظهر ما لم يرده الله منك في الوقت كالخضر فإنّه ما ظهر لموسى إلاّ بعد أن أراده الله منه لأنّه فاني في إرادة الله تعالى فهذا عبارة عن إنسان إستعجل الثمرة فجناها قبل أن تنضج ثمّ باعها للناس فأكيد أنّه سيسخطهم عليه وكذلك فمتى كان خروجك بالله تعالى فإنّك لا تخرج إلا في وصف العبودية لله تعالى ( ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) فمن لم يدخل للعبودية بصدق فإنّه سيخرج في وصف الخصوصية من غير صدق فيكون حاله إبليسيّا لذا قال تعالى ( فوجد عبدا من عبادنا ) فدلّ على أنّه ما أختصّ بغير العبودية فرفعته فوق مقام أهل زمانه فجاءه نبيّ وقته يطلب منه علما فدلّ على أنّ العبودية مطلقة أي بإطلاقات الألوهية فحيثما كان الله ربّا كنت له عبدا فحكمت هنا بدوام عبوديتك ظاهرا وباطنا من الأبد وإلى الأزل فمهما نلت أو عرفت أو قدّمت أو صرت فأنت أوّلا وأخيرا عبد من عباد الله فإنّه لا يصاحبك حال مثلما يصاحبك حال العبودية ولا يرقّيك حال مثلما يرقّيك حال العبودية ولا يحميك حال مثلما يحميك حال العبودية فكن لله عبدا يكون لك ربّا , فمن كان الله تعالى له ربّا كان أسعد عبد فلا تتخذ غير الله تعالى صاحبا ( وأنت الصاحب في السفر ) ونحن في الدنيا مسافرون إلى الآخرة , لذا ظهر الفرق بين موسى وبين الخضر من هذه الناحية أي من ناحية الصحبة فإنّ موسى إتّخذ فتاه صاحبا في هذا السفر لذا رافقه في سرّائه وضرّائه أمّا الخضر فلم يكن معه غير ربّه لذا وجده وحيدا قال تعالى ( فوجد عبدا من عبادنا ) أي عبدا واحدا من حيث فعله وقوله وحاله لذا فإنّ الخضر لا يقول إلاّ قولا واحدا كما قال له ( إنّك لن تستطيع معي صبرا ) فثبت الخضر على هذا القول إلى النهاية أمّا موسى فتنوّعت أقواله فدار معه حيثما دارت الحقائق أمّا الخضر فوقف على حقيقة واحدة وهي حقيقة العبودية فهذا هو القول الثابت في الدنيا والآخرة وهذا معنى الثبات في طريق الله في أعلى مقاماته وقد قال عليه الصلاة والسلام لجبل أحد لمّا رجّ بهم ( أثبت أحد ) من الأحدية لأنّها لا بدّ لها من الثبات فهذا عنوان الثبات فظهر هنا الفرق بين المراتب في هذا الشأن فكانت الألوهية لا تقبل الشريك فصحّت تفريد العبودية أيضا عن الشريك كي تقابل بها هذه الألوهية من كلّ وجه لقوله تعالى ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله )
قال تعالى (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
بمجرّد أنّهما وجداه يعدّ هذا منقبة لهما إذ يعزّ أن تجد هذا النوع من العبيد لذا قال ( فوجدا ) إشارة إلى هذه الكرامة وإنّما المعروف عن الخضر أنّه يأتي للعباد ولا يذهبون هم إليه أي أنّ الله متى أراد بعبد خيرا أو قضاء حاجة من حوائجه في مرتبة من مراتبه بعث له الخضر , هنا تعلم الفرق بين موسى وبين غيره من الأولياء إذ أنّ موسى ذهب للخضر بنفسه ووجده بنفسه بعد تعب ومشقّة فإرتقت عبودية موسى على عبودية غيره من أهل الخضر الذين هم على مثل شاكلته لأنّ الخضر هو رمز من رموز العبودية فمتى جاءك فهو دليل مجيء العبودية إليك وهذا يعدّ نقص منك بل الكمال أن تذهب أنت إليه كما ذهب من قبل عمر وعلي إلى أويس القرني رضي الله عنهم أجمعين لأنّ موسى ذهب إلى أرض الخضر وإلى حضرته ليتعلّم منه لأنّه لا يمكنك أن تتعلّم من الخضر إلاّ في حضرته أمّا إذا جاءك إلى حضرتك فلا يمكنه أن يسدي إليك إلا قضاء حاجة من حاجات نفسك التي عجزت عنها فهو في ذلك مسعف لك خلاف موسى فقد ذهب إليه مع فتاه ليدلّ أيضا على رفعة مكانته وعلوّ رتبته لذا فإنّه جمع فتاه بالخضر فدلّ على أنّ مقام الخضر مقام صفاتي فهذا محلّه من الحضرات وأنّه لولا فتاه لما أحسن موسى أن يتنزّل للخضر في هذا التعليم فكان الواسطة بين موسى والخضر في هذا هو فتاه من حيث ما رأيته من حمله للحوت وتذكّره وهكذا من هذه الأذواق والحقائق ...
قال تعالى ( فوجد عبدا من عبادنا ) فإتّضح أنّ هذا الصنف من العبيد هم أكثر من واحد وذلك في قوله ( عبدا من عبادنا ) فدلّ على أنّ موسى كان يريد أن يجتمع بهذا العبد دون غيره من العباد الآخرين لحكمة فيما بينه وبين ربّه , ودلّ على أنّ هذا النوع من العباد عزيز وجوده متى طلبته وبحث عنه أمّا وجودهم من حيث أنّهم موجودون فهم كثر لذا قال ( فوجد عبدا من عبادنا ) فإذا كان موسى بعد هذا السفر وذلك النصب والمشقّة وجد الخضر الذي هو عبد واحد في مثل هذا النوع من العبيد فما بالك بأحدنا لو أراد أن يجتمع بهم كلّهم لذا كان الشيخ الأكبر حثيث الطلب لأهل الولاية في مشارق الأرض ومغاربها وهذا ما يعطيه حال الفرد بخلاف القطب فإنّ الأولياء يأتون إليه , أمّا موسى وهو قطب زمانه فقد ذهب بنفسه إلى الفرد وهو الخضر لتعلم قدر موسى وتواضعه ولهفته أن يفوته من الله شيء فهنا ذهبت مدرسة القطبانية إلى مدرسة الفردانية أو تقول ذهبت مدرسة التربية إلى مدرسة أهل التصريف
يتبع...
فدلّ على أنّ هذا الصنف من العبيد لا يعرفون إلا به سبحانه ولا يمكن أن تعرفهم أو تجتمع بهم إلاّ بالدلالة من الله تعالى لك عليهم من طريق التربية والأدب كما حدث لموسى نبيّ زمانه فإنّه ما سمع بالخضر ولا عرفه إلا بإخبار الله تعالى لمّا نسي أن ينسب العلم ويرجعه إلى الله تعالى , فدلّ على أنّ شأنهم غريب في هذا إذ لا يمكن أن تعرفهم أو تجتمع بهم إلاّ من هذا الطريق أي طريق الدلالة من الله مباشرة سبحانه فدلّ على أنّهم حرّاس حضرة العبودية فكلّ من خرج عنها ولو مقدار ذرّة ردّه الله إليها عن طريقهم لذا قال تعالى ( فوجدا عبدا من عبادنا ) أي عبدا خالصا من عبادنا فليس له حول ولا قوّة إلا به سبحانه فهو في كلّ شؤونه وأحواله قائم بالله لله فليس له من نفسه من شيء بل هو فاني في عين إرادة الله وأوامره لذا قال له في معرض الكلام بعد الصحبة عند التأويل ( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) فوحّد هنا الإرادة بضمير الجمع كما أنّه نسب ضمير الإرادة في أوّل القصّة لنفسه عندما تعلّق الأمر بالعيب فقال ( فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ) ثمّ في الأخير أرجع الإرادة لله في الفعل الأخير فقال ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) فقد ذكر أنواع الإرادة وحضراتها بالترتيب فجعل توحّد الإرادة في وسطها بين إرادته هو وبين إرادة الله تعالى فدلّ على مقام الصفات كما أنّه في الأوّل دلّ على مقام الأسماء أمّا في الأخير فدلّ على مقام الذات فسلك بموسى مقامات العبودية الثلاثة ليرجعه إليها في التشريع والتحقيق وسنأتي على هذا مفصّلا إن شاء الله تعالى فهو في هذا يذكر حقائق الخلافة بلا مثيل عليه ويفسّر علوم التحقيق التي سنستخرج منها قبسا نستضيء به
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
لم ينسب له شيئا من الخصوصية بل نعته ووصفه بشرف العبودية وأنّها أعلى المقامات لذا يأتي العالم إليها متعلّما ليس إلاّ لأنّ العبودية تستلزم الإحاطة بمقاماتها أي التحقّق بها قولا وفعلا وحالا فهذا ما أشار إليه في قوله ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فذكر وصفي الإحاطة وهما الرحمة والعلم وسنأتي على هذا لاحقا
فدلّ على رفعة وشرف وحقيقة مقام العبودية وأنّه أعلى وأرقى بكثير من مقام الخصوصية إذ أنّه أصل المقامات لذا كان عليه الصلاة والسلام ينعت نفسه دائما بأنّه العبد وهكذا فقد إختار أن يكون نبيّا عبدا أمّا الذي يفرح بالخصوصية فهو ممكور به إلا متى كان فرحه بها بالله تعالى وهذا لا يتأتّى له إلا بالعبودية الكاملة فدلّ على أنّ الحقيقة التي يعنيها القوم ليست غير حقيقة العبودية فمن رجع إلى حقيقته إستقامت خصوصيته إذ أنّ الخصوصية هي تاج العبودية فالعبودية ملك والخصوصية تاجها فلن تلبس التاج حتى تكون ملكا , فالتاج في حقيقته لا يدلّ الناس إلا على وصفك وأنّك ملك فهو معرّف لك وهو عنوان تلك المرتبة التي أنت فيها وأنت تعلم أنّ التاج محلّ وضعه من جوارحك يكون فوق الرأس وهو أعلى مكان فيك فتستوي خصوصيتك على عرش عبوديتك وإلاّ فمتى لم تكن بهذا الميزان لا تعتبر خصوصية وإنّما هي إستدراج بك ومكر من حيث لا تشعر فغيبة الشعور منك هو هذا العقاب المقول فيه ( سنستدرجهم من حيث لا يشعرون ) ولا يعلمون لأنّ الشعور هو خاصيّة العلم وهو وصف الحال الذي أنت فيه وقد ورد في الحكمة أنّه لا يجوز لك أن تظهر ما لم يرده الله منك في الوقت كالخضر فإنّه ما ظهر لموسى إلاّ بعد أن أراده الله منه لأنّه فاني في إرادة الله تعالى فهذا عبارة عن إنسان إستعجل الثمرة فجناها قبل أن تنضج ثمّ باعها للناس فأكيد أنّه سيسخطهم عليه وكذلك فمتى كان خروجك بالله تعالى فإنّك لا تخرج إلا في وصف العبودية لله تعالى ( ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) فمن لم يدخل للعبودية بصدق فإنّه سيخرج في وصف الخصوصية من غير صدق فيكون حاله إبليسيّا لذا قال تعالى ( فوجد عبدا من عبادنا ) فدلّ على أنّه ما أختصّ بغير العبودية فرفعته فوق مقام أهل زمانه فجاءه نبيّ وقته يطلب منه علما فدلّ على أنّ العبودية مطلقة أي بإطلاقات الألوهية فحيثما كان الله ربّا كنت له عبدا فحكمت هنا بدوام عبوديتك ظاهرا وباطنا من الأبد وإلى الأزل فمهما نلت أو عرفت أو قدّمت أو صرت فأنت أوّلا وأخيرا عبد من عباد الله فإنّه لا يصاحبك حال مثلما يصاحبك حال العبودية ولا يرقّيك حال مثلما يرقّيك حال العبودية ولا يحميك حال مثلما يحميك حال العبودية فكن لله عبدا يكون لك ربّا , فمن كان الله تعالى له ربّا كان أسعد عبد فلا تتخذ غير الله تعالى صاحبا ( وأنت الصاحب في السفر ) ونحن في الدنيا مسافرون إلى الآخرة , لذا ظهر الفرق بين موسى وبين الخضر من هذه الناحية أي من ناحية الصحبة فإنّ موسى إتّخذ فتاه صاحبا في هذا السفر لذا رافقه في سرّائه وضرّائه أمّا الخضر فلم يكن معه غير ربّه لذا وجده وحيدا قال تعالى ( فوجد عبدا من عبادنا ) أي عبدا واحدا من حيث فعله وقوله وحاله لذا فإنّ الخضر لا يقول إلاّ قولا واحدا كما قال له ( إنّك لن تستطيع معي صبرا ) فثبت الخضر على هذا القول إلى النهاية أمّا موسى فتنوّعت أقواله فدار معه حيثما دارت الحقائق أمّا الخضر فوقف على حقيقة واحدة وهي حقيقة العبودية فهذا هو القول الثابت في الدنيا والآخرة وهذا معنى الثبات في طريق الله في أعلى مقاماته وقد قال عليه الصلاة والسلام لجبل أحد لمّا رجّ بهم ( أثبت أحد ) من الأحدية لأنّها لا بدّ لها من الثبات فهذا عنوان الثبات فظهر هنا الفرق بين المراتب في هذا الشأن فكانت الألوهية لا تقبل الشريك فصحّت تفريد العبودية أيضا عن الشريك كي تقابل بها هذه الألوهية من كلّ وجه لقوله تعالى ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله )
قال تعالى (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
بمجرّد أنّهما وجداه يعدّ هذا منقبة لهما إذ يعزّ أن تجد هذا النوع من العبيد لذا قال ( فوجدا ) إشارة إلى هذه الكرامة وإنّما المعروف عن الخضر أنّه يأتي للعباد ولا يذهبون هم إليه أي أنّ الله متى أراد بعبد خيرا أو قضاء حاجة من حوائجه في مرتبة من مراتبه بعث له الخضر , هنا تعلم الفرق بين موسى وبين غيره من الأولياء إذ أنّ موسى ذهب للخضر بنفسه ووجده بنفسه بعد تعب ومشقّة فإرتقت عبودية موسى على عبودية غيره من أهل الخضر الذين هم على مثل شاكلته لأنّ الخضر هو رمز من رموز العبودية فمتى جاءك فهو دليل مجيء العبودية إليك وهذا يعدّ نقص منك بل الكمال أن تذهب أنت إليه كما ذهب من قبل عمر وعلي إلى أويس القرني رضي الله عنهم أجمعين لأنّ موسى ذهب إلى أرض الخضر وإلى حضرته ليتعلّم منه لأنّه لا يمكنك أن تتعلّم من الخضر إلاّ في حضرته أمّا إذا جاءك إلى حضرتك فلا يمكنه أن يسدي إليك إلا قضاء حاجة من حاجات نفسك التي عجزت عنها فهو في ذلك مسعف لك خلاف موسى فقد ذهب إليه مع فتاه ليدلّ أيضا على رفعة مكانته وعلوّ رتبته لذا فإنّه جمع فتاه بالخضر فدلّ على أنّ مقام الخضر مقام صفاتي فهذا محلّه من الحضرات وأنّه لولا فتاه لما أحسن موسى أن يتنزّل للخضر في هذا التعليم فكان الواسطة بين موسى والخضر في هذا هو فتاه من حيث ما رأيته من حمله للحوت وتذكّره وهكذا من هذه الأذواق والحقائق ...
قال تعالى ( فوجد عبدا من عبادنا ) فإتّضح أنّ هذا الصنف من العبيد هم أكثر من واحد وذلك في قوله ( عبدا من عبادنا ) فدلّ على أنّ موسى كان يريد أن يجتمع بهذا العبد دون غيره من العباد الآخرين لحكمة فيما بينه وبين ربّه , ودلّ على أنّ هذا النوع من العباد عزيز وجوده متى طلبته وبحث عنه أمّا وجودهم من حيث أنّهم موجودون فهم كثر لذا قال ( فوجد عبدا من عبادنا ) فإذا كان موسى بعد هذا السفر وذلك النصب والمشقّة وجد الخضر الذي هو عبد واحد في مثل هذا النوع من العبيد فما بالك بأحدنا لو أراد أن يجتمع بهم كلّهم لذا كان الشيخ الأكبر حثيث الطلب لأهل الولاية في مشارق الأرض ومغاربها وهذا ما يعطيه حال الفرد بخلاف القطب فإنّ الأولياء يأتون إليه , أمّا موسى وهو قطب زمانه فقد ذهب بنفسه إلى الفرد وهو الخضر لتعلم قدر موسى وتواضعه ولهفته أن يفوته من الله شيء فهنا ذهبت مدرسة القطبانية إلى مدرسة الفردانية أو تقول ذهبت مدرسة التربية إلى مدرسة أهل التصريف
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فمدحه بالعبودية وفيه إشارة إلى رفعتها وأنّ موسى ردّ من الخصوصية التي حكى عن طريقها ما قاله لمّا سئل فلم يرجع العلم إلى الله تعالى فردّ من شهود تقييدات الخصوصية إلى شهود إطلاقات العبودية وأنّها الأولى فهي المقدّمة وهي الإمامة فكلّ من إقتدى بها على أيّة حالة كان كانت صلاته صحيحة ومشهده صحيحا وقوله مهما كان صحيحا أمّا من قدّم شهود خصوصيته على شهود عبوديته فإن كان معصوما كما هو حال موسى فلا كلام عنه وإنّما تذكر هكذا قصص للإعتبار فإنّ فيهم لنا أسوة حسنة في التشريع وفي التحقيق , أمّا إذا لم يكن معصوما فهو في خطر متى تكلّم من منطلق خصوصيته لأنّ الخصوصية في حقيقتها فيها شبهة من شبهات مزاحمة الربوبية لذا خاف منها السابقون لذا فهم لا ينطقون بذكرها إلاّ بإذن تام كامل أمّا من ذكر خصوصيته من غير إذن فهو مستدرج بهوى نفسه الخفيّ فكان كلامه ظلمانيّا .فافهم.
قلت :
ردّ موسى من شهود خصوصيته لمّا أعلن بأنّه أعلم أهل الأرض لأنّ مشهد الخصوصية مشهد شهود خزائن الفضل , وبما أنّ تلك المرتبة من حيث الشهود تستغرق الإنسان فلا يرى أحدا أكثر منه نوالا وهذا في جميع المقامات لأنّ بحر الكرم والجود متى غمر الإنسان قد ينسيه عبوديته فقد يكون ذلك إختبارا لأنّ العطاء الحقيقي هو عطاء العبودية فليس هناك كرم من الله عليك أكثر من كرم العبودية فإذا نلت هذا الكرم ثمّ تطلّعت إلى غيره فأنت في فتنة يجب الإنتباه فلا تطلب من الله سواه لذا ردّه إليها أيضا في قوله ( فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) فهذا المشهد في شهود الخصوصية هو الذي أوقع الخلق في عدم فهم المراتب فأساؤوا الأدب في الكثير من الأحيان مع أهل الولاية الآخرين من غير شعور منهم لذا وجب أن يكون السالك لا يغلب سكره صحوه ولا صحوه سكره حتى يقيم الميزان بالعدل ويسير السير المستقيم فيكون علمه وحاله محفوظين من الزغل والدخل وهذا عزيز في الوجود
فهدا الأمر هو الذي دعا موسى أن يصحب معه فتاه وأن يأتي بالحضرة الموسوية كاملة إلى الخضر لذا فإنّ في صحبته لفتاه خير شاهد ومثال إذ أن يتعلّم نبيّ مرسل من أولي العزم من الرسل من عبد من عباد الله بحضور فتاه ومشاهدته لشيخه وهو في مقام الطالب المتعلّم يشعرك أنّ موسى أراد أن يعطي المقامات حقّها فيستوفي عبوديته فيها لذا حكم على خصوصيته أي حضرته كلّها بهذا السفر وهذا التعليم فيرجعها كلّها من وصف الخصوصية التي ظهرت فيه إلى وصف العبودية عن طريق الخضر لأنّ الرجوع من وصف إلى وصف لا يمكنه أن يكون لك إلاّ عن طريق غيرك وهذا له شواهد كثيرة من الكتاب والسنّة
فذهب موسى إلى حضرة العبودية التي هي حضرة مطلقة ليس فيها خصوصيات ولا تدخل فيها أسماء ولا ألقاب وهي حضرة الولاية , أعني أنّ جميع الخلق يلتقون في حضرة الولاية لله تعالى لأنّ الولاية معناها سلب النفس ولايتها فيكون قيامها وصيامها بالله تعالى فهذا مقام أخطأ فيه الكثير من الناس وذلك بأنّهم خلطوا بين النبوّة والولاية فذهب قوم مذهبا بعيدا حتى إدّعوا أنّ الولي أعلى مقاما من النبيّ فخلطوا بين الحضرتين أي حضرة الخصوصية وحضرة العبودية فحملوا هذا على هذا وفي هذا تفصيل طويل دقيق يلزمه أحمال من الكتب لتفسيره وتبيينه
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
وفيها أنّ حضرة العبودية لا يمكنك أن تأتيها إلاّ بالرفيق كما فعل موسى بإصطحابه معه فتاه فكان موسى خلال السفر تبعا لفتاه من هذه الحيثية لأنّه لو ذهب بنفسه ففي ذلك شبهة التقدّم وشبهة الظهور بأوصاف النفس وأنّها قادرة وعازمة لذا فقد تبع فتاه رغم أنّه الذي شوّر نحو هذا السفر فكان فتاه كالحصن والحرز له فافهم ذلك , لذا فالطريق إلى الله تعالى لا يكون إلاّ بالرفيق هذا من حيث الجمع عليه وكذلك في كلّ مرتبة من مراتب هذا الجمع كطلب العلم اللدني والسرّ في هذا أنّ أهل الله يقتلهم الحياء من الله تعالى فيقدّمون دائما من يقوم بشؤونهم حتّى أنّك تجد الكثير من مشائخ التربية والأولياء لا يتقدّمون في الصلاة بل يوكلون تلك الوظيفة إلى أحد من مريديهم فيأتون إلى الله تعالى في تلك الحلية من العبودية والمذلّة لله فكأنّهم يقدّمون شفيعا بين يديه حتى يقبلهم ربّهم رغم ما هم عليه في المعرفة والقرب من الله تعالى وهذا الحال ساري في الأولياء فكان سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه لا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا إلا عن طريق أحد مريديه حياء من رسول الله ومحبّة له وهيبة وهذا الحال يسري في العارفين حتى في المقام الشرعي لذا فإنّك تلاحظ أنّ صحابة رسول الله كانوا يتريّثون في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فينتظرون قدوم إعرابي فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيستفيدون من جوابه فهذا الحال لا يكون إلا في مرتبة المعرفة أمّا من يفعله في غيرها فهو مقتد مقلّد فقد يصحّ له هذا الأمر وقد لا يصحّ متى تستوجب مرتبته وحاله السؤال والطلب والتقدّم فهي مقامات دقيقة خاصة بالعارفين أهل الأدب واليقين
لهذا أخذ موسى معه فتاه بعد أن إستشاره لتعلم قدر موسى وفهمه عن الله تعالى وما أعطاه من حقيقة المراتب في الأنفاس والخواطر وإنّ ما نذكره في هذه القصّة لا يفي مطلقا بالغرض بل هي بعض أذواق من هنا وهناك وإلاّ فحاشا أن نحيط بمقام سيدنا موسى أو بمقام الخضر عليهما السلام
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فلم يذكر لهذا العبد إسما ولا صفة خاصّة به بل ما ذكر من أوصافه غير وصف العبودية الذي يشارك فيه غيره من حيث قوله ( من عبادنا ) فما تميّز عنهم بشيء في الإسم أو الوصف , فلو أنّ الله تعالى ذكر هذا ( فوجدا عبدا من عبادنا ) من غير أن يقول ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) لما أحسن موسى من أمره شيئا بل لوجده غارقا في بحر العبودية أي عالم الفناء وإنّما أحسن أن يكلّمه ويسأله العلم لما في قوله تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) من خروج إلى مقام البقاء في عالم الصفات , فقوله ( عبدا من عبادنا ) هي حضرة الجمع فهم كلّهم مجموعون في هذه الحضرة فلا كلام فيها ولا رفث ولا فسوق ولا جدال فموسى من جملة هؤلاء العباد الذين ذكرهم فكان نظر موسى لهذا العبد يفيد أنّ موسى أوّل ما وقع نظره إنّما وقع على إستشعار الذات الإلهية لأنّ العبودية لا تقابل أصلا إلا الألوهية فكان محلّ نظره أحكام الذات من حيث أنّها لا تقيّد البتّة في أيّ شأن من شؤونها فلا يجب معها سوى الأدب فكان هذا مشهده مع فتاه إذ لو كان هذا فقط مشهده هو دون فتاه لقلنا بأنّ فتاه ليس فتى موسى وإلاّ فأين حقائق هذا الفتى التي هي من حقائق موسى فصحّ سلوك الفتى وكماله فرأى ما رآه موسى في هذا المشهد من العبودية وفيه أنّ الشيخ الذي لا يوصل مريده حيث منتهى نظره فليس بشيخ أعني منتهى نظر المريد فلا يخرج المريد عن نظر الشيخ إلاّ متى فاق المريد شيخه في المقام والحال وهذا وجوده عزيز اليوم إلاّ لأفراد قلائل وقد فات سيدي محمّد البوزيدي شيخه سيدي العربي الدرقاوي في المقام من حيث العلم التفريدي إذ أنّه كان من الأفراد وبهذا صرّح سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنهما – قال لي شيخنا رضي الله عنه : لم يحسد سيدي العربي الدرقاوي مريده لمّا رآه إعتلاه في المقام – قال فيه سيدي العربي الدرقاوي ( هو سيّدنا في الدنيا والآخرة ) فسيدي العربي كان قطبا وكان سيدي محمّد مريده فردا من الأفراد
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
قلت :
إنّما وجداه قائما في العبودية في وصف الخصوصية لمّا قال (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فإنقلبت الصورة إذ أنّ موسى قام قبل سفره في الخصوصية في وصف العبودية فردّته الحضرة إلى الإقامة في العبودية في غير وصف فمنعه الإقامة في الخصوصية من حيث العلم لأنّه لمّا كان قائما فيها لم يرجع العلم إليه سبحانه فعاتبته الحضرة فإنقلب المشهد هنا فما كان عند موسى هناك صار في نظره معكوسا هنا , فكان مشهد موسى في الخضر ونظره فيه أنّه كامل العبودية في وصف الخصوصية فسرت عبوديته الخضر التامّة في خصوصيته فسار الخضر في عبودية الخصوصية وهذا مقام الأفراد والأبدال
يتبع...
فمدحه بالعبودية وفيه إشارة إلى رفعتها وأنّ موسى ردّ من الخصوصية التي حكى عن طريقها ما قاله لمّا سئل فلم يرجع العلم إلى الله تعالى فردّ من شهود تقييدات الخصوصية إلى شهود إطلاقات العبودية وأنّها الأولى فهي المقدّمة وهي الإمامة فكلّ من إقتدى بها على أيّة حالة كان كانت صلاته صحيحة ومشهده صحيحا وقوله مهما كان صحيحا أمّا من قدّم شهود خصوصيته على شهود عبوديته فإن كان معصوما كما هو حال موسى فلا كلام عنه وإنّما تذكر هكذا قصص للإعتبار فإنّ فيهم لنا أسوة حسنة في التشريع وفي التحقيق , أمّا إذا لم يكن معصوما فهو في خطر متى تكلّم من منطلق خصوصيته لأنّ الخصوصية في حقيقتها فيها شبهة من شبهات مزاحمة الربوبية لذا خاف منها السابقون لذا فهم لا ينطقون بذكرها إلاّ بإذن تام كامل أمّا من ذكر خصوصيته من غير إذن فهو مستدرج بهوى نفسه الخفيّ فكان كلامه ظلمانيّا .فافهم.
قلت :
ردّ موسى من شهود خصوصيته لمّا أعلن بأنّه أعلم أهل الأرض لأنّ مشهد الخصوصية مشهد شهود خزائن الفضل , وبما أنّ تلك المرتبة من حيث الشهود تستغرق الإنسان فلا يرى أحدا أكثر منه نوالا وهذا في جميع المقامات لأنّ بحر الكرم والجود متى غمر الإنسان قد ينسيه عبوديته فقد يكون ذلك إختبارا لأنّ العطاء الحقيقي هو عطاء العبودية فليس هناك كرم من الله عليك أكثر من كرم العبودية فإذا نلت هذا الكرم ثمّ تطلّعت إلى غيره فأنت في فتنة يجب الإنتباه فلا تطلب من الله سواه لذا ردّه إليها أيضا في قوله ( فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) فهذا المشهد في شهود الخصوصية هو الذي أوقع الخلق في عدم فهم المراتب فأساؤوا الأدب في الكثير من الأحيان مع أهل الولاية الآخرين من غير شعور منهم لذا وجب أن يكون السالك لا يغلب سكره صحوه ولا صحوه سكره حتى يقيم الميزان بالعدل ويسير السير المستقيم فيكون علمه وحاله محفوظين من الزغل والدخل وهذا عزيز في الوجود
فهدا الأمر هو الذي دعا موسى أن يصحب معه فتاه وأن يأتي بالحضرة الموسوية كاملة إلى الخضر لذا فإنّ في صحبته لفتاه خير شاهد ومثال إذ أن يتعلّم نبيّ مرسل من أولي العزم من الرسل من عبد من عباد الله بحضور فتاه ومشاهدته لشيخه وهو في مقام الطالب المتعلّم يشعرك أنّ موسى أراد أن يعطي المقامات حقّها فيستوفي عبوديته فيها لذا حكم على خصوصيته أي حضرته كلّها بهذا السفر وهذا التعليم فيرجعها كلّها من وصف الخصوصية التي ظهرت فيه إلى وصف العبودية عن طريق الخضر لأنّ الرجوع من وصف إلى وصف لا يمكنه أن يكون لك إلاّ عن طريق غيرك وهذا له شواهد كثيرة من الكتاب والسنّة
فذهب موسى إلى حضرة العبودية التي هي حضرة مطلقة ليس فيها خصوصيات ولا تدخل فيها أسماء ولا ألقاب وهي حضرة الولاية , أعني أنّ جميع الخلق يلتقون في حضرة الولاية لله تعالى لأنّ الولاية معناها سلب النفس ولايتها فيكون قيامها وصيامها بالله تعالى فهذا مقام أخطأ فيه الكثير من الناس وذلك بأنّهم خلطوا بين النبوّة والولاية فذهب قوم مذهبا بعيدا حتى إدّعوا أنّ الولي أعلى مقاما من النبيّ فخلطوا بين الحضرتين أي حضرة الخصوصية وحضرة العبودية فحملوا هذا على هذا وفي هذا تفصيل طويل دقيق يلزمه أحمال من الكتب لتفسيره وتبيينه
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
وفيها أنّ حضرة العبودية لا يمكنك أن تأتيها إلاّ بالرفيق كما فعل موسى بإصطحابه معه فتاه فكان موسى خلال السفر تبعا لفتاه من هذه الحيثية لأنّه لو ذهب بنفسه ففي ذلك شبهة التقدّم وشبهة الظهور بأوصاف النفس وأنّها قادرة وعازمة لذا فقد تبع فتاه رغم أنّه الذي شوّر نحو هذا السفر فكان فتاه كالحصن والحرز له فافهم ذلك , لذا فالطريق إلى الله تعالى لا يكون إلاّ بالرفيق هذا من حيث الجمع عليه وكذلك في كلّ مرتبة من مراتب هذا الجمع كطلب العلم اللدني والسرّ في هذا أنّ أهل الله يقتلهم الحياء من الله تعالى فيقدّمون دائما من يقوم بشؤونهم حتّى أنّك تجد الكثير من مشائخ التربية والأولياء لا يتقدّمون في الصلاة بل يوكلون تلك الوظيفة إلى أحد من مريديهم فيأتون إلى الله تعالى في تلك الحلية من العبودية والمذلّة لله فكأنّهم يقدّمون شفيعا بين يديه حتى يقبلهم ربّهم رغم ما هم عليه في المعرفة والقرب من الله تعالى وهذا الحال ساري في الأولياء فكان سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه لا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا إلا عن طريق أحد مريديه حياء من رسول الله ومحبّة له وهيبة وهذا الحال يسري في العارفين حتى في المقام الشرعي لذا فإنّك تلاحظ أنّ صحابة رسول الله كانوا يتريّثون في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فينتظرون قدوم إعرابي فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيستفيدون من جوابه فهذا الحال لا يكون إلا في مرتبة المعرفة أمّا من يفعله في غيرها فهو مقتد مقلّد فقد يصحّ له هذا الأمر وقد لا يصحّ متى تستوجب مرتبته وحاله السؤال والطلب والتقدّم فهي مقامات دقيقة خاصة بالعارفين أهل الأدب واليقين
لهذا أخذ موسى معه فتاه بعد أن إستشاره لتعلم قدر موسى وفهمه عن الله تعالى وما أعطاه من حقيقة المراتب في الأنفاس والخواطر وإنّ ما نذكره في هذه القصّة لا يفي مطلقا بالغرض بل هي بعض أذواق من هنا وهناك وإلاّ فحاشا أن نحيط بمقام سيدنا موسى أو بمقام الخضر عليهما السلام
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فلم يذكر لهذا العبد إسما ولا صفة خاصّة به بل ما ذكر من أوصافه غير وصف العبودية الذي يشارك فيه غيره من حيث قوله ( من عبادنا ) فما تميّز عنهم بشيء في الإسم أو الوصف , فلو أنّ الله تعالى ذكر هذا ( فوجدا عبدا من عبادنا ) من غير أن يقول ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) لما أحسن موسى من أمره شيئا بل لوجده غارقا في بحر العبودية أي عالم الفناء وإنّما أحسن أن يكلّمه ويسأله العلم لما في قوله تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) من خروج إلى مقام البقاء في عالم الصفات , فقوله ( عبدا من عبادنا ) هي حضرة الجمع فهم كلّهم مجموعون في هذه الحضرة فلا كلام فيها ولا رفث ولا فسوق ولا جدال فموسى من جملة هؤلاء العباد الذين ذكرهم فكان نظر موسى لهذا العبد يفيد أنّ موسى أوّل ما وقع نظره إنّما وقع على إستشعار الذات الإلهية لأنّ العبودية لا تقابل أصلا إلا الألوهية فكان محلّ نظره أحكام الذات من حيث أنّها لا تقيّد البتّة في أيّ شأن من شؤونها فلا يجب معها سوى الأدب فكان هذا مشهده مع فتاه إذ لو كان هذا فقط مشهده هو دون فتاه لقلنا بأنّ فتاه ليس فتى موسى وإلاّ فأين حقائق هذا الفتى التي هي من حقائق موسى فصحّ سلوك الفتى وكماله فرأى ما رآه موسى في هذا المشهد من العبودية وفيه أنّ الشيخ الذي لا يوصل مريده حيث منتهى نظره فليس بشيخ أعني منتهى نظر المريد فلا يخرج المريد عن نظر الشيخ إلاّ متى فاق المريد شيخه في المقام والحال وهذا وجوده عزيز اليوم إلاّ لأفراد قلائل وقد فات سيدي محمّد البوزيدي شيخه سيدي العربي الدرقاوي في المقام من حيث العلم التفريدي إذ أنّه كان من الأفراد وبهذا صرّح سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنهما – قال لي شيخنا رضي الله عنه : لم يحسد سيدي العربي الدرقاوي مريده لمّا رآه إعتلاه في المقام – قال فيه سيدي العربي الدرقاوي ( هو سيّدنا في الدنيا والآخرة ) فسيدي العربي كان قطبا وكان سيدي محمّد مريده فردا من الأفراد
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
قلت :
إنّما وجداه قائما في العبودية في وصف الخصوصية لمّا قال (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فإنقلبت الصورة إذ أنّ موسى قام قبل سفره في الخصوصية في وصف العبودية فردّته الحضرة إلى الإقامة في العبودية في غير وصف فمنعه الإقامة في الخصوصية من حيث العلم لأنّه لمّا كان قائما فيها لم يرجع العلم إليه سبحانه فعاتبته الحضرة فإنقلب المشهد هنا فما كان عند موسى هناك صار في نظره معكوسا هنا , فكان مشهد موسى في الخضر ونظره فيه أنّه كامل العبودية في وصف الخصوصية فسرت عبوديته الخضر التامّة في خصوصيته فسار الخضر في عبودية الخصوصية وهذا مقام الأفراد والأبدال
يتبع...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
إنّما قلنا أنّ ثمرة العبودية هي ما تراه في قوله (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )فذلك نتيجتها فهذا متى خرج في حكمها أي حكم خصوصيتها وإلاّ فالعبودية في حقيقتها مقام عجزي في كلّ وجه وهي مقام التسليم وعدم الظهور بالعلم أو الحال بل هي خفاء في خفاء لذا قلنا بأنّ الخضر خرج بعبوديته في وصف خصوصيته بخلاف موسى في قصّته حينما لم يردّ العلم لله تعالى فقد خرج بخصوصيته في وصف عبوديته فسبّق الخصوصية على العبودية , فكلّ من سبّق الخصوصية وإستشعرها قبل إستشعار عبوديته فهو في خطر لأنّه ظهر في شبهة صفات الربوبية لذا فإنّ الله تعالى يسبّق دائما في القرآن ذكر العبودية قبل ذكر إسم أيّ نبيّ من الأنبياء متى أراد أن يذكر خصوصياتهم وما حدث في تقلّباتهم لأنّه لا يمكنك أن تعرف تلك الخصوصية إلاّ في قالب تلك العبودية حتى لا يختلط عليك الأمر فتنسب للعبد ما لا يجوز له , فإنّ الخصوصية إذا لم تخرج في وصف العبودية فقد زاحمت الربوبية فلربّما حصل اللبس عند الناس فنسبوا إليك ما لا يجوز لك بل قد يصل الأمر أن ينسبوا له الربوبية والألوهية لما رأوا ما رأوا من شؤون الخصوصية فلذا إذا قال لك أحد مثلا مثل الشيعة في حقّ علي رضي الله عنه بأنّه (مبرق البروق) فنقول لهم : هذا غير صحيح بل مبرق البروق هو الله تعالى فلا تنسب الخصوصية بالنسبة للعبد إلا في وصف عبوديته وإلاّ إختلطت الحقائق وفسد الكون لأنّ تلك الخصوصية التي نالها ذلك الإنسان مهما كان شكلها أو وصفها التي تلوّنت فيه فهي من أوصاف العبودية ونتائجها فهي خصوصية عبيد وليست خصوصية خالق للعبيد لذا ورد في الحديث قوله ( ... حتى أحبّه فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ...الحديث )فإنّه ما قال ( يصبح بصر العبد بصري الذي أبصر به أو يصبح سمعي الذي أسمع به ...)بل قال ( أنا أصبح بصره وسمعه ويده ورجله ..)هذا لتعلم خصائص الخصوصية فلا تقلب الآيات أو تحرّف معانيها فإنّ تحريف المعنى هو تحريف للحقائق نعم قد يكون لك علم باللغة من حيث قواعد إعرابها وعلوم أدبها لكنّه قد تكون لغتك الدينية مضمحلّة ضعيفة من حيث فهم المعاني , ففهم المعاني هو الفصاحة في عرف أهل الله فمتى قصدت المعنى فعبّر عنه بأيّ لغة لذا إتّحدت البشرية في قصود المعاني رغم إختلاف لغاتهم ولهجاتهم لأنّ عوالم المعاني هي عوالم جمعية فهي لغة قلبية أكثر منها ذهنية أو تقول بأنّ لغة المعنى لم يحرم الله منها أحدا ولم يمنع منها أحدا أي هي متاحة لمن كان صافي القلب ونقيّه , فلا تظنّ مثلا أن قوله في الحديث بأنّه يصبح بصرك وسمعك يعني أنّك أنت الذي تصبح سمعه وبصره هو فهناك فرق كبير كالفرق بين التوحيد والشرك لذا وجب إتّباع المشائخ والعارفين في الأخذ عنهم بخصوص علوم المعاني فهم روّادها وقوادها فإنّ الربّ ربّ والعبد عبد فلا تختلط الربوبية مع العبودية مطلقا فلا إتّحاد ولا حلول ظاهرا وباطنا لفظا ومعنى فهذه الحقيقة التي ليست بعدها حقيقة فيا خيبتك متى زاحمت في أقوالك جناب الألوهية فتوشك أن تهلك أو أن تسوّي العبد بالخالق في كلّ وجه زمانا ومكانا , فموسى لمّا ظهر في وصف الخصوصية فسبّقه على العبودية وهو المعصوم نسي أن ينسب العلم لله تعالى فأضحى قوله محلّ شبهة عند السامع ومحلّ شبهة لفظية ولو كانت عند السامع مفهومة على وجهها الصحيح فهذا أيضا لا يشفع له فإنّ أهل الله الكبار يؤاخذهم الله تعالى في أقلّ القليل هذا لتفهم إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ذلك الخطيب لمّا جمعه مع الله تعالى في ضمير واحد جمع المثنّى فقال له ( أتسوّيني بالله تعالى )رغم أنّه ما سوّاه حقيقة مع الله تعالى ورغم ورود هذا الجمع للمثنّى هذا لتعرف أنّ مراقبة الله تعالى أي مراقبة وإستشعار عبوديتهم في الأنفاس حاصلة ظاهرا وباطنا فالرخصة في حقيقتها في الدين هي الرخصة في عجز الظاهر وخطأ الظاهر أمّا عجز الباطن الذي هو الإيمان وخطئه فليس فيه رخصة أصلا لأنّ الرخصة تتناول أحكام الظاهر من حيث عالم الفرق في الأسماء والمسميات من حيث إختلاف الخلائق وألسنتهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم وبلدانهم وأزمنتهم أمّا من حيث الباطن أي عوالم المعاني فليس لأحد من الخلق رخصة أصلا قولا وفعلا وفي هذا تجد أحكام علم الأعذار والتجاوز والمسامحة والتوسيع والتيسير وهذا العلم من شؤون الفقهاء الكبار الذين وقفوا على حقيقته وهو خاص بمشائخ الإسلام الذين هم الصوفية رضي الله عنهم فإنّه في عرفنا لا يوجد عالم حقيقي في الشريعة أو الحقيقة وإلا ووجب أن يكون صوفيّا أي جامعا بين علوم الشريعة والطريقة والحقيقة فهو على بيّنة من أمره ويدعو إلى الله تعالى على بصيرة علمية ويقينية بشكليها( ألم نجعل له عينين )ينظر بها في الشريعة والحقيقة
فخرج الخضر في وصف عبوديته لذا قال ( عبدا من عبادنا )فهذا الأصل الذي ظهر فيه ومكث فإنّه أسلم من أي شيء لذا يطلب المقرّبون دائما من الله تعالى إقالتهم من المسؤوليات فهذا سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم لمّا قيل له إقرأ قال : ما أنا بقارئ , وعلى نهجه هذا من حيث هذا الوجه إقتدى به حالا من جاء من بعده من أهل الله تعالى فرفضوا المسؤولية والحكم حتّى أن سيدنا عمر رضي الله عنه قبل الخلافة إضطرارا كما هو موثّق عند المسلمين في قولته المشهورة وكذلك غيره أمّا في طريقنا فقد قال سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه ( والله ما تقدّمت حتّى هدّدت بالسلب )فهل تعلم وتدري ما معنى التهديد بالسلب فأقلّ ما فيه أنّ إبليس سلب لتفهم أنّهم يتقدّمون وهم كارهون وهكذا حال المهدي فإنّه ورد أنّهم يجبرونه على المبايعة فيبايعونه وهو لهذا كاره أمّا الذي يريد التقدّم والبروز والظهور فيبقى ينتظر السنوات الطوال حتى يحدث له هذا فيا ويله فهو خسيس العقل فإنّ الإمارة ندامة يوم القيامة لكن يجب أن يقوم بها من قدّمهم الله تعالى فليس لهم تركها البتّة حتى لا يحكمهم الفاسدون فيفسدون حقائق التوحيد والعدل في الأكوان, هنا تعرف مرتبة قطب الوجود في هذه المرتبة وأنّ الله تعالى إختاره من بين الخلق لهذه المهمّة فإنّه لا يصلح لها أحد غيره في زمنه فلا تزاحمه في ذلك فتسيء معه الأدب وكذلك حالة المشائخ المربين .فافهم. فحاذر من الإعتراض على من قدّمه الله عليك بل اخدمه بكلّ ممكن وكن مشرفا على كلّ ما يسعده واعتبر تقديمه عليك إقالة لك من مسؤولية لا تقدر عليها فنجّاك الله تعالى من تبعاتها يوم القيامة فتأتي خفيفا نظيفا فإنّ أهل المسؤولية في خطر كبير حتى جعل ذلك عمر بن العزيز لا ينام الليل وقد قال عمر بن الخطاب ( لو عثرت بغلة في بغداد لسألني الله عنها يوم القيامة وقال لي : لما لم تصلح لها الطريق يا عمر )أمّا حكّامنا اليوم في البلاد العربية فإنّهم يسرقون ويخونون ويقتلون ويشرّدون فيا ويلهم يوم القيامة عندما يقفون حفاة عراة أمام الله تبارك وتعالى هناك سيتمنّون لو أنّهم لم يخلقوا فضلا عن أن يكونوا رؤساء أو حكّاما فكم من رئيس يحكم عليه أهل الكشف من الأولياء بأنّه من أهل النار هذا لأنّهم إشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فكانوا فجّارا فسّاقا فلا يعبأ بهم أصلا وفصلا فإنّهم لا يساوون عند الله جناح بعوضة أمّا محاربتهم لأهل الدين فحدّث عن ذلك ولا حرج فهي من علامات آخر الزمان أمّا الذي يركب مراكبهم ويخالطهم من غير أن يقدّم لهم النصح والإرشاد بالقدر المستطاع مع حفظ الدم والفتنة فهو من علماء السلاطين ليست له بصيرة ولا إيمان .
قال لي أحد ساداتنا إذا كنت فهمت طرحه وسؤاله بأنّه كيف يمكن أن تكون العبودية لله تعالى تامّة كاملة قبل أن يكون الإنسان متحوفا بالرحمة والعلم لمّا رآني ذكرت بأنّ الرحمة والعلم هي من آثار ونتائج العبودية والإجابة عن هذا السؤال سهل متى فهمنا المراتب في العبودية من حيث التوجّه والمواجهة وهو أنّك في بداية عبوديتك إنّما تعبد الله تعالى بعلم التوجّه الذي ورد في الشرع من حيث الشريعة والطريقة فهو علم موجود عندك سواء كنت عبدا مؤمنا أو غير ذلك لأنّ هذا العلم الذي ستعبد به الله تعالى هو حجّة الله عليك متى لم توفّ حقّه وتتّبعه فهو علم سابق على العبودية والتقوى لأنّه علم الرسالة وهو علم الدليل عليه أو تقول علم الطريق إليه لأنّ الشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده فهذه المراتب الثلاث الشريعة كفيلة ببيانها وتصويبك نحوها قال تعالى ( واتّقوا الله ويعلّمكم الله )فلا نقول كيف نتّقيه قبل أن يعلّمني بل هذه التقوى تكون بحسب ما ورد في الشرائع فإنّها كفيلة بأن تتمّ لك متى سرت بحسبها عبوديتك أمّا العلم الذي هو آثار ونتيجة تلك العبودية فهو لا يكون إلا بعد أن تتمّ عبوديتك لله فهي علوم وهب عنوان السابقة لأنّه متى أدركتك العناية وفّقك الله تعالى للعمل بشرعه وسنّة نبيّه , وإنّما كانت تلك العلوم نتيجة لأنّها محال تبذل لغير أهلها حتى لا يطغوا بها لأنّها علوم تحقيق ومراتب من حيث التجليات والشؤون الإلهية فلو مثلا أعطاك علم الخضر متى لم تكتمل عبوديتك فماذا كنت فاعلا بها بل لكان العبد في هذه الحالة دجّال زمانه بإمتياز فضلّ وأضلّ فهناك فرق بين علوم الكسب وعلوم الوهب , فإنّ علوم الوهب لا دخل فيها للحيلة منك ولا للإستجلاب لأنّك متى طلبتها أو رمت إستجلابها فهذا دليل على أنّ عبوديتك لم تتمّ ولم تكتمل ثمّ أنّني متى أذكر العبد الكامل لا نقصد به الإنسان الكامل فالإنسان الكامل هو واحد فقط وهو محمّد رسول الله أمّا العبد الكامل فهم أهل الحضرات ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع )كما ورد في الحديث فهذا معنى الكمال الذي أقصده حتى لا تختلط لديك الأمور وسأحكي لك هذا " كنت مرّة أكتب ما يفتحه الله عليّ من مثل هذه المعاني فتستغرقني وكنت لوحدي ليس لي غير صديق واحد يصاحبني فكنت أقرأ عليه في البعض من الأحيان وليس دائما ما يجود به المولى من النفحات من غير تعمّد لذلك بنيّة غير صالحة أو دلالة على نفسي فإنّ هذه الخواطر لا أحبّها أسأل الله تعالى أن يحفظني منها فهذا ممّا لا يجري لي على بال وما أذكر بأنّه جرى لي على بال بل لو جرى لي على بال لخجلت من نفسي , المهمّ أنّ العبد الفقير كنت جالسا مع هذا الصديق فقدم علينا شخص من محبّي أهل الله تعالى فأخرجت له كرّاسي أقرأ عليه بعض خواطرنا وذلك بطلب منه فما كان من هذا الصديق إلاّ أنّه عمد لكتاب من كتب أهل الله تعالى فنقل منه ما راق له فكتبه في ورقات ثمّ جاءنا به في يوم الغد وقال لي : يا فلان أنظر ولاحظ هذا الفتح من الله تعالى فإنّه وردت عليّ هذه الواردات فسطّرتها فما تقول وما رأيك "
طبعا العبد الضعيف بكى قلبي حزنا وكمدا لأنّ صديقي لم يفهمني وحرت ماذا أفعل معه فسكتّ وأغمضت عيني وجاريته فيما أراد خجلا وحياءا فسترته وكان من الناس من كان حاضرا معنا , المهمّ أنظر كيف تمّ الفهم لهذا الشخص فقد فهم الأمور على غير مراداتها فظنّ ظنونا فكذب على الله ورسوله فمن يومها وقلبي مشفق على هذا الصديق وتمنّيت أن لو كنت لم أقرأ عليه شيئا لأنّه بسببي فعل ذلك وهذا الحال حصل لي أيضا مع غيره فعندما أتكلّم بما يفتح الله به تجد بعض الناس يتحرّجون من هذا , وما كان هذا الشيء إلا بالرضا عن نفوسهم وظنّهم أنّها على خير كبير أمّا من يتّهم نفسه فمحال أن يحدث له هذا الحال
طبعا ما حكيته لا يتّصل بموضوع القصّة وليس هو من أوجه المقارنة أستغفر الله تعالى من ذلك فنحن نحكي علوم ساداتنا ونفتخر بهم لأنّنا نظنّ بهم خيرا في أنّنا من أحبابهم وفي مذهبنا ليس على المحبّ ملام هذا وأقول لك بأنّه اليوم قلّ الإخوان الصادقون فكثرت العلل وأمراض النفوس والتطاول وسوء الأدب فقلّ أن تجد من يصلح لهذا الطريق بداية بالعبد الضعيف وما أبرئ نفسي إنّ النفس أمّارة بالسوء
إنّما قلنا أنّ ثمرة العبودية هي ما تراه في قوله (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )فذلك نتيجتها فهذا متى خرج في حكمها أي حكم خصوصيتها وإلاّ فالعبودية في حقيقتها مقام عجزي في كلّ وجه وهي مقام التسليم وعدم الظهور بالعلم أو الحال بل هي خفاء في خفاء لذا قلنا بأنّ الخضر خرج بعبوديته في وصف خصوصيته بخلاف موسى في قصّته حينما لم يردّ العلم لله تعالى فقد خرج بخصوصيته في وصف عبوديته فسبّق الخصوصية على العبودية , فكلّ من سبّق الخصوصية وإستشعرها قبل إستشعار عبوديته فهو في خطر لأنّه ظهر في شبهة صفات الربوبية لذا فإنّ الله تعالى يسبّق دائما في القرآن ذكر العبودية قبل ذكر إسم أيّ نبيّ من الأنبياء متى أراد أن يذكر خصوصياتهم وما حدث في تقلّباتهم لأنّه لا يمكنك أن تعرف تلك الخصوصية إلاّ في قالب تلك العبودية حتى لا يختلط عليك الأمر فتنسب للعبد ما لا يجوز له , فإنّ الخصوصية إذا لم تخرج في وصف العبودية فقد زاحمت الربوبية فلربّما حصل اللبس عند الناس فنسبوا إليك ما لا يجوز لك بل قد يصل الأمر أن ينسبوا له الربوبية والألوهية لما رأوا ما رأوا من شؤون الخصوصية فلذا إذا قال لك أحد مثلا مثل الشيعة في حقّ علي رضي الله عنه بأنّه (مبرق البروق) فنقول لهم : هذا غير صحيح بل مبرق البروق هو الله تعالى فلا تنسب الخصوصية بالنسبة للعبد إلا في وصف عبوديته وإلاّ إختلطت الحقائق وفسد الكون لأنّ تلك الخصوصية التي نالها ذلك الإنسان مهما كان شكلها أو وصفها التي تلوّنت فيه فهي من أوصاف العبودية ونتائجها فهي خصوصية عبيد وليست خصوصية خالق للعبيد لذا ورد في الحديث قوله ( ... حتى أحبّه فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ...الحديث )فإنّه ما قال ( يصبح بصر العبد بصري الذي أبصر به أو يصبح سمعي الذي أسمع به ...)بل قال ( أنا أصبح بصره وسمعه ويده ورجله ..)هذا لتعلم خصائص الخصوصية فلا تقلب الآيات أو تحرّف معانيها فإنّ تحريف المعنى هو تحريف للحقائق نعم قد يكون لك علم باللغة من حيث قواعد إعرابها وعلوم أدبها لكنّه قد تكون لغتك الدينية مضمحلّة ضعيفة من حيث فهم المعاني , ففهم المعاني هو الفصاحة في عرف أهل الله فمتى قصدت المعنى فعبّر عنه بأيّ لغة لذا إتّحدت البشرية في قصود المعاني رغم إختلاف لغاتهم ولهجاتهم لأنّ عوالم المعاني هي عوالم جمعية فهي لغة قلبية أكثر منها ذهنية أو تقول بأنّ لغة المعنى لم يحرم الله منها أحدا ولم يمنع منها أحدا أي هي متاحة لمن كان صافي القلب ونقيّه , فلا تظنّ مثلا أن قوله في الحديث بأنّه يصبح بصرك وسمعك يعني أنّك أنت الذي تصبح سمعه وبصره هو فهناك فرق كبير كالفرق بين التوحيد والشرك لذا وجب إتّباع المشائخ والعارفين في الأخذ عنهم بخصوص علوم المعاني فهم روّادها وقوادها فإنّ الربّ ربّ والعبد عبد فلا تختلط الربوبية مع العبودية مطلقا فلا إتّحاد ولا حلول ظاهرا وباطنا لفظا ومعنى فهذه الحقيقة التي ليست بعدها حقيقة فيا خيبتك متى زاحمت في أقوالك جناب الألوهية فتوشك أن تهلك أو أن تسوّي العبد بالخالق في كلّ وجه زمانا ومكانا , فموسى لمّا ظهر في وصف الخصوصية فسبّقه على العبودية وهو المعصوم نسي أن ينسب العلم لله تعالى فأضحى قوله محلّ شبهة عند السامع ومحلّ شبهة لفظية ولو كانت عند السامع مفهومة على وجهها الصحيح فهذا أيضا لا يشفع له فإنّ أهل الله الكبار يؤاخذهم الله تعالى في أقلّ القليل هذا لتفهم إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ذلك الخطيب لمّا جمعه مع الله تعالى في ضمير واحد جمع المثنّى فقال له ( أتسوّيني بالله تعالى )رغم أنّه ما سوّاه حقيقة مع الله تعالى ورغم ورود هذا الجمع للمثنّى هذا لتعرف أنّ مراقبة الله تعالى أي مراقبة وإستشعار عبوديتهم في الأنفاس حاصلة ظاهرا وباطنا فالرخصة في حقيقتها في الدين هي الرخصة في عجز الظاهر وخطأ الظاهر أمّا عجز الباطن الذي هو الإيمان وخطئه فليس فيه رخصة أصلا لأنّ الرخصة تتناول أحكام الظاهر من حيث عالم الفرق في الأسماء والمسميات من حيث إختلاف الخلائق وألسنتهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم وبلدانهم وأزمنتهم أمّا من حيث الباطن أي عوالم المعاني فليس لأحد من الخلق رخصة أصلا قولا وفعلا وفي هذا تجد أحكام علم الأعذار والتجاوز والمسامحة والتوسيع والتيسير وهذا العلم من شؤون الفقهاء الكبار الذين وقفوا على حقيقته وهو خاص بمشائخ الإسلام الذين هم الصوفية رضي الله عنهم فإنّه في عرفنا لا يوجد عالم حقيقي في الشريعة أو الحقيقة وإلا ووجب أن يكون صوفيّا أي جامعا بين علوم الشريعة والطريقة والحقيقة فهو على بيّنة من أمره ويدعو إلى الله تعالى على بصيرة علمية ويقينية بشكليها( ألم نجعل له عينين )ينظر بها في الشريعة والحقيقة
فخرج الخضر في وصف عبوديته لذا قال ( عبدا من عبادنا )فهذا الأصل الذي ظهر فيه ومكث فإنّه أسلم من أي شيء لذا يطلب المقرّبون دائما من الله تعالى إقالتهم من المسؤوليات فهذا سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم لمّا قيل له إقرأ قال : ما أنا بقارئ , وعلى نهجه هذا من حيث هذا الوجه إقتدى به حالا من جاء من بعده من أهل الله تعالى فرفضوا المسؤولية والحكم حتّى أن سيدنا عمر رضي الله عنه قبل الخلافة إضطرارا كما هو موثّق عند المسلمين في قولته المشهورة وكذلك غيره أمّا في طريقنا فقد قال سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه ( والله ما تقدّمت حتّى هدّدت بالسلب )فهل تعلم وتدري ما معنى التهديد بالسلب فأقلّ ما فيه أنّ إبليس سلب لتفهم أنّهم يتقدّمون وهم كارهون وهكذا حال المهدي فإنّه ورد أنّهم يجبرونه على المبايعة فيبايعونه وهو لهذا كاره أمّا الذي يريد التقدّم والبروز والظهور فيبقى ينتظر السنوات الطوال حتى يحدث له هذا فيا ويله فهو خسيس العقل فإنّ الإمارة ندامة يوم القيامة لكن يجب أن يقوم بها من قدّمهم الله تعالى فليس لهم تركها البتّة حتى لا يحكمهم الفاسدون فيفسدون حقائق التوحيد والعدل في الأكوان, هنا تعرف مرتبة قطب الوجود في هذه المرتبة وأنّ الله تعالى إختاره من بين الخلق لهذه المهمّة فإنّه لا يصلح لها أحد غيره في زمنه فلا تزاحمه في ذلك فتسيء معه الأدب وكذلك حالة المشائخ المربين .فافهم. فحاذر من الإعتراض على من قدّمه الله عليك بل اخدمه بكلّ ممكن وكن مشرفا على كلّ ما يسعده واعتبر تقديمه عليك إقالة لك من مسؤولية لا تقدر عليها فنجّاك الله تعالى من تبعاتها يوم القيامة فتأتي خفيفا نظيفا فإنّ أهل المسؤولية في خطر كبير حتى جعل ذلك عمر بن العزيز لا ينام الليل وقد قال عمر بن الخطاب ( لو عثرت بغلة في بغداد لسألني الله عنها يوم القيامة وقال لي : لما لم تصلح لها الطريق يا عمر )أمّا حكّامنا اليوم في البلاد العربية فإنّهم يسرقون ويخونون ويقتلون ويشرّدون فيا ويلهم يوم القيامة عندما يقفون حفاة عراة أمام الله تبارك وتعالى هناك سيتمنّون لو أنّهم لم يخلقوا فضلا عن أن يكونوا رؤساء أو حكّاما فكم من رئيس يحكم عليه أهل الكشف من الأولياء بأنّه من أهل النار هذا لأنّهم إشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فكانوا فجّارا فسّاقا فلا يعبأ بهم أصلا وفصلا فإنّهم لا يساوون عند الله جناح بعوضة أمّا محاربتهم لأهل الدين فحدّث عن ذلك ولا حرج فهي من علامات آخر الزمان أمّا الذي يركب مراكبهم ويخالطهم من غير أن يقدّم لهم النصح والإرشاد بالقدر المستطاع مع حفظ الدم والفتنة فهو من علماء السلاطين ليست له بصيرة ولا إيمان .
قال لي أحد ساداتنا إذا كنت فهمت طرحه وسؤاله بأنّه كيف يمكن أن تكون العبودية لله تعالى تامّة كاملة قبل أن يكون الإنسان متحوفا بالرحمة والعلم لمّا رآني ذكرت بأنّ الرحمة والعلم هي من آثار ونتائج العبودية والإجابة عن هذا السؤال سهل متى فهمنا المراتب في العبودية من حيث التوجّه والمواجهة وهو أنّك في بداية عبوديتك إنّما تعبد الله تعالى بعلم التوجّه الذي ورد في الشرع من حيث الشريعة والطريقة فهو علم موجود عندك سواء كنت عبدا مؤمنا أو غير ذلك لأنّ هذا العلم الذي ستعبد به الله تعالى هو حجّة الله عليك متى لم توفّ حقّه وتتّبعه فهو علم سابق على العبودية والتقوى لأنّه علم الرسالة وهو علم الدليل عليه أو تقول علم الطريق إليه لأنّ الشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده فهذه المراتب الثلاث الشريعة كفيلة ببيانها وتصويبك نحوها قال تعالى ( واتّقوا الله ويعلّمكم الله )فلا نقول كيف نتّقيه قبل أن يعلّمني بل هذه التقوى تكون بحسب ما ورد في الشرائع فإنّها كفيلة بأن تتمّ لك متى سرت بحسبها عبوديتك أمّا العلم الذي هو آثار ونتيجة تلك العبودية فهو لا يكون إلا بعد أن تتمّ عبوديتك لله فهي علوم وهب عنوان السابقة لأنّه متى أدركتك العناية وفّقك الله تعالى للعمل بشرعه وسنّة نبيّه , وإنّما كانت تلك العلوم نتيجة لأنّها محال تبذل لغير أهلها حتى لا يطغوا بها لأنّها علوم تحقيق ومراتب من حيث التجليات والشؤون الإلهية فلو مثلا أعطاك علم الخضر متى لم تكتمل عبوديتك فماذا كنت فاعلا بها بل لكان العبد في هذه الحالة دجّال زمانه بإمتياز فضلّ وأضلّ فهناك فرق بين علوم الكسب وعلوم الوهب , فإنّ علوم الوهب لا دخل فيها للحيلة منك ولا للإستجلاب لأنّك متى طلبتها أو رمت إستجلابها فهذا دليل على أنّ عبوديتك لم تتمّ ولم تكتمل ثمّ أنّني متى أذكر العبد الكامل لا نقصد به الإنسان الكامل فالإنسان الكامل هو واحد فقط وهو محمّد رسول الله أمّا العبد الكامل فهم أهل الحضرات ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع )كما ورد في الحديث فهذا معنى الكمال الذي أقصده حتى لا تختلط لديك الأمور وسأحكي لك هذا " كنت مرّة أكتب ما يفتحه الله عليّ من مثل هذه المعاني فتستغرقني وكنت لوحدي ليس لي غير صديق واحد يصاحبني فكنت أقرأ عليه في البعض من الأحيان وليس دائما ما يجود به المولى من النفحات من غير تعمّد لذلك بنيّة غير صالحة أو دلالة على نفسي فإنّ هذه الخواطر لا أحبّها أسأل الله تعالى أن يحفظني منها فهذا ممّا لا يجري لي على بال وما أذكر بأنّه جرى لي على بال بل لو جرى لي على بال لخجلت من نفسي , المهمّ أنّ العبد الفقير كنت جالسا مع هذا الصديق فقدم علينا شخص من محبّي أهل الله تعالى فأخرجت له كرّاسي أقرأ عليه بعض خواطرنا وذلك بطلب منه فما كان من هذا الصديق إلاّ أنّه عمد لكتاب من كتب أهل الله تعالى فنقل منه ما راق له فكتبه في ورقات ثمّ جاءنا به في يوم الغد وقال لي : يا فلان أنظر ولاحظ هذا الفتح من الله تعالى فإنّه وردت عليّ هذه الواردات فسطّرتها فما تقول وما رأيك "
طبعا العبد الضعيف بكى قلبي حزنا وكمدا لأنّ صديقي لم يفهمني وحرت ماذا أفعل معه فسكتّ وأغمضت عيني وجاريته فيما أراد خجلا وحياءا فسترته وكان من الناس من كان حاضرا معنا , المهمّ أنظر كيف تمّ الفهم لهذا الشخص فقد فهم الأمور على غير مراداتها فظنّ ظنونا فكذب على الله ورسوله فمن يومها وقلبي مشفق على هذا الصديق وتمنّيت أن لو كنت لم أقرأ عليه شيئا لأنّه بسببي فعل ذلك وهذا الحال حصل لي أيضا مع غيره فعندما أتكلّم بما يفتح الله به تجد بعض الناس يتحرّجون من هذا , وما كان هذا الشيء إلا بالرضا عن نفوسهم وظنّهم أنّها على خير كبير أمّا من يتّهم نفسه فمحال أن يحدث له هذا الحال
طبعا ما حكيته لا يتّصل بموضوع القصّة وليس هو من أوجه المقارنة أستغفر الله تعالى من ذلك فنحن نحكي علوم ساداتنا ونفتخر بهم لأنّنا نظنّ بهم خيرا في أنّنا من أحبابهم وفي مذهبنا ليس على المحبّ ملام هذا وأقول لك بأنّه اليوم قلّ الإخوان الصادقون فكثرت العلل وأمراض النفوس والتطاول وسوء الأدب فقلّ أن تجد من يصلح لهذا الطريق بداية بالعبد الضعيف وما أبرئ نفسي إنّ النفس أمّارة بالسوء
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
قال هذا لتعلم وتعرف قيمة مرتبة العبودية إذ أنّها مرتبة تشدّ إليها الرحال فهي علاّمة زمانها في كلّ عصر وفي كلّ وقت , فمتى أردت أن تنال أيّ منقبة أو مقربة فما عليك إلاّ بالعبودية لله تعالى فهذه المرتبة هي المرتبة الوحيدة المحفوظة من دخول الزغل والدخل والميل لذا صار فيما الكلام بين الله تعالى وبين إبليس لعنه الله تعالى إذ قال له ( إلاّ عبادك منهم المخلصين )فقال الله تعالى له ( عبادي ليس لك عليهم سلطان )فما تناول الكلام إلا مرتبة العبودية لتعلم خطرها وقد قال تعالى لك يشير لك إلى الحقيقة الحقّيقة ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون )وإنّما سبّق ذكر الجنّ على ذكر الإنس لعدّة حكم وعلوم وضروب من المعاني كي تفهم عنه على أيّة حالة كنت فلا تكون لك على الله تعالى حجّة أبدا فهذا معنى الإرسال للرسل فإنّ هذا الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلّم جاءنا بالقرآن وجاءنا بجوامع الكلم كي لا تستدلّ إلاّ على الله تعالى وحده فوقا وتحتا ظاهرا وباطنا في جميع معاني كلمه إذ أنّ جوامع الكلم معناه الجمع على الله تعالى فكيفما كان نصيبك من هذه الدلالة وتحقيقها كان لك النصيب من جوامع الكلم لذا قيل في الحكم العطائية بأنّها كادت أن تكون وحيا لأنّها لا تدلّ على غير الله تعالى وهكذا فكلّما خلص كلامك في الدلالة على الله تعالى كان له شبه من الوحي لتعلم الآن حقيقة معاني الوحي , فالوحي هو الدلالة على الله تعالى لذا يقولون في كلام أهل الدلالة ( إنّ هذا كلام قريب العهد بربّه )فكلّ من دلّ على الله تعالى ظاهرا وباطنا قولا وفعلا وحالا يوشك أن يكون كلامه كلّه وحيا من عند الله تعالى , وإنّما سبّق ذكر الجنّ قبل ذكر الإنس في الآية لأنّ الجنّ عالم روحاني ساري , له خوارق ويكفي أنّ إبليس من هذا العالم عنصره فهو في كلّ دعاويه من القدرة والإطّلاع والتشكّل وو..إلخ فهو لا يعدو أن يكون عبدا لله تعالى لذا قال لإبليس ( ما كان لك أن تتكبّر فيها )وإنّما سبّق ذكرهم لأنّه خلقهم قبل الإنسان وكذلك لأنّهم عصوا الله تعالى قبل الإنسان فكانت معصيتهم كفرية وشركية ومرض قلبي فأمراضهم أصل الفساد وهذا تراه في إبليس لمّا تكبّر وأساء الأدب وكفر في حضرة الشهود ولا أعني كلّ الجنّ بل الشياطين منهم خاصّة فهم أهل كفر وضلال وإلاّ فهناك من أهل الله تعالى ساداتنا من الجنّ المؤمن وإنّما قالت الملائكة في حقّه
( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )إشارة إلى إبليس في معرض كلامهم أي أتجعل فيها من يكون لإبليس عليه تسليط فلماذا لا تجعلنا نحن فإنّه لا سلطة له علينا لما تحقّنا فيه من كمال عبوديتك ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك )فما إحتجّوا بغير عبوديتهم في مقارعة إبليس هذا لتفهم عنهم خطابهم في بعض نواحيه , وكذلك سبّق ذكرهم إشارة إلى التحذير من هذا العالم وأنّه أولى بالعبودية منكم فلا تتخذونهم أولياء من دوني لما بلغنا عن طريق القرآن أنّ بعض الناس يعبدون الجنّ فهم مأمورون بالعبادة فكيف تعبدونهم لذا أشارت الملائكة إلى طبيعة المبارزة بين آدم وإبليس في قولها ( من يفسد فيها ويسفك الدماء )لأنّه لا يكون سفك دماء إلا بوجود الإفساد وهو نقض التوحيد أسماء وصفاتا وذاتا لأنّ الكفر يبدأ بنفي الأسماء ومنه إلى نفي الصفات ومنه إلى نفي الذات فذكر الملائكة هذا النوع من الإفساد لأنّه أصل الإفساد ومنه يدخل الشيطان على بني آدم فإنّ له تلبيسات كثيرة فهو عارف بمسار السلوك والتوحيد ويعرف من أين يأتي ومن أين ينتهي لأنّه كان عابدا وكان في الجنّة فهو عارف بطرق الضلالة , فأوّل طريق من طرق الضلالة هو المجيء من طريق نقض التوحيد في مراتبه أي إفشال العبودية لله تعالى فهذا مقصده وبغيته في هذا الإنسان لذا حذّرنا الله منه أي من هذا العالم فكلّ من رأيته يخوض في هذا العالم فاهجره ولا تتبعه أبدا لأنّ تلبيساته تكون كثيرة وعويصة الحلّ لربّما لا تهتدي إلى حلّها وفهمها فالزم طريق الهداية بما شرّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم
وإنّما أخذ ذكر هذا منّي نفسا طويلا لأنّ طريق العبودية هو الأصل وهو الحفظ والمنفعة في الدنيا والآخرة أمّا غير هذا الطريق فلا , فالذي يبحث عن الخصوصية وما في طيّاتها من الدعاوى فلا يقتدى به في طريق الله تعالى ولو جمع علوم الأوّلين والآخرين
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا الوصف بالعبودية ما أجمله وما أظهره فدلّ على أنّ طريق العبودية طريق خفاء لا طريق ظهور بمعنى أنّ العبودية تستلزم الخفاء وعدم الظهور فكلّ من تراه يريد الظهور فهو دليل على أنّه فقد طريق العبودية وخرج منها بقدر محبّته للظهور قال لي شيخنا رضي الله عنه مرّة وكنت قد نوّهت به وبعلومه : ( يا سيدي العبد الفقير لا يريد الظهور )فإنّ أهل الله لا يظهرون إلاّ بالله تعالى ( وأخرجني مخرج صدق )لأنّ الأنوار متى لم يؤذن لها في الظهور فإنّها متى ظهرت خرجت مكسوفة الأنوار عليها غبار الأغيار وهو غبش النفس وسحب الميل والدعوى , فما كان خروج الخضر بنفسه ولا بمحبّته بل أظهره الله تعالى لموسى فدلّ على أنّ العبودية مرتبتها الخفاء , ثمّ متى أظهرها الله تعالى فإنّه يظهرها بخصوصيتين حتّى يتميز الخبيث من الطيّب والمحقّ من المبطل , فالصفة الأولى [/sizeٍٍٍٍ]الرحمة , والصفة الثانية :العلم, فمتى خرجت العبودية لينتفع بها الناس تكون متحلية بهذين الوصفين لذا قال تعالى
( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )وإنّما خصّص هذين الوصفين والعطاءين دون سواهما لأنّهما حضرتا عبودية أي أنّ العبودية هذا وصفها وهذا تدلّ عليه دلائل في علم الحقائق من حيث صفات الله تعالى وهو من معاني الإحاطة والشمول إذ أنّ الله تعالى يقول ( الرحمان علّم القرآن )أي أنّ هذا العلم الحقيقي لا يسري إلا بوصف الرحمة فلولا الرحمان لما علّم أحد القرآن فأضحى الرحمان هو المعلّم للقرآن فإنّ الرحمان لا يعلّم غير القرآن لذا قال ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فلا بدّ من سبق الرحمة في هذا التعليم الخاص فمتى سبّق الرحمة علمنا نوع هذا التعليم لذا قال في غير هذا ( وعباد الرحمان )فنسبهم لإسمه الرحمان ثمّ قال ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )وقال في أهل الكهف ( ينشر لكم ربّكم من رحمته )أي بدخولهم الكهف كهف الحقائق فعلمنا ماهية هذا العلم من حيث الإحاطة في قوله ( الرحمان على العرش إستوى )أي عرش الحقائق في هذا الوجه لذا فعلوم أهل الحقيقة هي علوم الرحمة الخالصة لذا ساعد الخضر الناس بالرحمة الكاملة وقضى لهم جميع حاجاتهم , وإنّما ذكرت لك هذا لأبيّن لك حضرة علوم الخضر ومراتبها لأنّه لا بدّ لنا من شرح بعض حقائق علومه حتّى يتسنّى لنا معرفة طلب موسى لعلوم الخضر إذ لا يعقل أن يطلب من كان من أولي العزم من الرسل وهو موسى الخضر إلا إذا كان عنده علم من العلوم الخاصّة ما لا يعلمه موسى لذا خصّص هذا العبد بالرحمة والعلم فإنّ الرحمة والعلم حوصلة الدلالة على الله تعالى إذ أنّهما جامعات صفات : الرحمة جامعة , والعلم مفسّر لهذه الرحمة بمددها ومن مددها أي ظاهرا وباطنا لذا أشار لهذا الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه بأنّ من علامات القطب أن يظهر بمدد الرحمة لأنّها مرتبة إحاطة فليس هناك غير الرحمة ( رحمتي سبقت غضبي )
(السابقون السابقون أولائك المقرّبون )
فمتى لم تسبق رحمتك غضبك فسد علمك لا محالة وهذا حال إبليس في العلوم فيصبح علمك شيطاني هذا لتعلم قوله ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
وإنّما قال ( آتيناه )بضمير الجمع ( نحن)دلالة على أنّ حضرة الرحمة هي حضرة جامعة وهذا من علوم الحقيقة المحمدية المقول فيها ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين )
فصحّت العبودية في هذا الوجه وأنّها من عين الرحمة فإنّه لا يستجلب لك شيء من الرحمة مثل العبودية لله تعالى إذ أنّها متعلّقها أزلا وأبدا والراحمون يرحمهم الرحمان فإنّ حقائق العبودية ليست مجرّد عبادات وطقوس ظاهرة وقوانين سارية بل هي أحوال قلبية ومعاني روحية قبل كلّ شيء فهي أنفاس ظاهرة وباطنة ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك )أي في كلّ نفس من أنفاسهم فما عرضوا غير العبودية الدائمة وهكذا حال العارفين ولو كانوا في فراشهم نياما
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )أراد أن يبيّن لنا حاله ويذكر خصاله بصيغة الخبر عنه إذ أنّ العبد لا خبر له عن نفسه حتّى يمدحها أو ينسب لها خصوصية من الخصوصيات وإنّما نحمل من مدح نفسه من ساداتنا على أنّ الحضرة أخرجت على لسانهم ذلك من غير محبّة منهم لظهور ذلك ولأنّهم يتحدّثون بنعم الله وعلى أنّهم يقتدون برسولهم في قوله ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر)أمّا غير هذا فلا نحمل عليه قول العبد وإلاّ كان سوء أدب مع الله تعالى وهذا المبحث أخطأ فيه جملة من الناس فظنّوا بأنّ من يمدح نفسه يريد الظهور والتميّز والبروز وهو خطأ فقد يمدح الإنسان نفسه ولا يدري بل ولا يعتقد أصلا بأنّه مدح نفسه وهذا الكلام يعرفه العارفون أهل اليقين أمّا أصحاب النفوس فهم في ضلال كبير
فال تعالى (( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
يدلّ على التمهيد لمن تريد أن ينفع الله به الناس كأنّ تأتي لأحد الناس وتقول له في فلان بأنّه عالم وعارف حتى تجعل له محبّة وتعريف بذلك الشيخ كي يأخذ عنه فتعرّف بمرتبته في العلم حتى لا تجهل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( أنا النبي لا كذب أنا إبن عبد المطّلب ) وأنت لو تقول هنا لماذا يذكر صلى الله عليه وسلم جدّه في هذا الموقع من القتال في غزوة حنين لتعلم معنى أجداده فحاشا رسول الله أن يذكر المشركين ولو كانوا أحدهم ذا قربى وخاصّة في هذا الموقع فافهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإلا فعليك السلام وليس معك كلام
قال تعالى (( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )إذ أنّها جزاء عبوديته فهي لا تنفكّ عنها بحال فمن ظهر في وصف الرحمة ظهر في وصف العلم اللدني ومن هنا تفرّق بين أهل الله ومشاربهم فإنّهم ليسوا على مرتبة واحدة في هذا العلم بل بحسب الرحمة , والرحمة حضرة جمع كما قدّمت ووضّحت لك فمن منع الرحمة منع السبق وهذا حال القطب الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم
قال تعالى ( آتيناه رحمة من عندنا )أي وصف من رحمتي فظهر بها من حيث الخفاء بها في العلم اللدني أي لو أنّ الرحمة كانت على غير هذه الشاكلة لما كان جنسها علما لدنيّا بل قد يكون علما ذهنيا أو حكمة عقلية بل لمّا قال ( وعلّمناه من لدنّا علما )علمنا خفاء هذه الرحمة وعدم ظهورها إلاّ بوصف التأويل بالعلم اللدني فهذا دلّ عليه قوله ( رحمة من عندنا )فهي مرتبة خاصّة من هذا الوجه فهي مرتبة خفيّة إستلزمتها العبودية المذكورة في صدر الآية لأنّها من جنسها فهي خاصّة كما أنّ العبودية هي مرتبة خاصة فيما بين العبد وربّه فأعطاه هذه الرحمة وهذا العلم بحسب مرتبته في العبودية فهي رحمة وهو علم من حيث مرتبة العبودية وليس من حيث مرتبة الرسالة أو النبوّة أو الشرائع والأحكام ...إلخ .فافهم. لذا كانت أفعال الخضر مخفية في العلم اللدني فسرت تلك الرحمة في علمه فكانت الرحمة والعلم من حضرتيهما أي من حضرة الرحمة الخاصّة ( من عندنا )ومن حضرة العلم الخاص ( من لدنّا )لما قدّمه من ذكر للعبودية لتفهم عنه فهنا أعطاك وجهة الخضر من حيث العلوم وأنّها علوم مقيّدة بالرحمة وفيها سرى مددها وهكذا هي علوم أهل الله تعالى فإن العلوم أجناس كثيرة ومنها هذا العلم وهو العلم اللدني الذي هو سيد العلوم فهو من عين الرحمة ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )
لأنّ مجلسهم مجلس رحمة فها قد أعلمتك بمستوى علم الخضر الذي ظهر فيه من حيث حقيقته
يتبع ان شاء الله
قال هذا لتعلم وتعرف قيمة مرتبة العبودية إذ أنّها مرتبة تشدّ إليها الرحال فهي علاّمة زمانها في كلّ عصر وفي كلّ وقت , فمتى أردت أن تنال أيّ منقبة أو مقربة فما عليك إلاّ بالعبودية لله تعالى فهذه المرتبة هي المرتبة الوحيدة المحفوظة من دخول الزغل والدخل والميل لذا صار فيما الكلام بين الله تعالى وبين إبليس لعنه الله تعالى إذ قال له ( إلاّ عبادك منهم المخلصين )فقال الله تعالى له ( عبادي ليس لك عليهم سلطان )فما تناول الكلام إلا مرتبة العبودية لتعلم خطرها وقد قال تعالى لك يشير لك إلى الحقيقة الحقّيقة ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون )وإنّما سبّق ذكر الجنّ على ذكر الإنس لعدّة حكم وعلوم وضروب من المعاني كي تفهم عنه على أيّة حالة كنت فلا تكون لك على الله تعالى حجّة أبدا فهذا معنى الإرسال للرسل فإنّ هذا الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلّم جاءنا بالقرآن وجاءنا بجوامع الكلم كي لا تستدلّ إلاّ على الله تعالى وحده فوقا وتحتا ظاهرا وباطنا في جميع معاني كلمه إذ أنّ جوامع الكلم معناه الجمع على الله تعالى فكيفما كان نصيبك من هذه الدلالة وتحقيقها كان لك النصيب من جوامع الكلم لذا قيل في الحكم العطائية بأنّها كادت أن تكون وحيا لأنّها لا تدلّ على غير الله تعالى وهكذا فكلّما خلص كلامك في الدلالة على الله تعالى كان له شبه من الوحي لتعلم الآن حقيقة معاني الوحي , فالوحي هو الدلالة على الله تعالى لذا يقولون في كلام أهل الدلالة ( إنّ هذا كلام قريب العهد بربّه )فكلّ من دلّ على الله تعالى ظاهرا وباطنا قولا وفعلا وحالا يوشك أن يكون كلامه كلّه وحيا من عند الله تعالى , وإنّما سبّق ذكر الجنّ قبل ذكر الإنس في الآية لأنّ الجنّ عالم روحاني ساري , له خوارق ويكفي أنّ إبليس من هذا العالم عنصره فهو في كلّ دعاويه من القدرة والإطّلاع والتشكّل وو..إلخ فهو لا يعدو أن يكون عبدا لله تعالى لذا قال لإبليس ( ما كان لك أن تتكبّر فيها )وإنّما سبّق ذكرهم لأنّه خلقهم قبل الإنسان وكذلك لأنّهم عصوا الله تعالى قبل الإنسان فكانت معصيتهم كفرية وشركية ومرض قلبي فأمراضهم أصل الفساد وهذا تراه في إبليس لمّا تكبّر وأساء الأدب وكفر في حضرة الشهود ولا أعني كلّ الجنّ بل الشياطين منهم خاصّة فهم أهل كفر وضلال وإلاّ فهناك من أهل الله تعالى ساداتنا من الجنّ المؤمن وإنّما قالت الملائكة في حقّه
( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )إشارة إلى إبليس في معرض كلامهم أي أتجعل فيها من يكون لإبليس عليه تسليط فلماذا لا تجعلنا نحن فإنّه لا سلطة له علينا لما تحقّنا فيه من كمال عبوديتك ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك )فما إحتجّوا بغير عبوديتهم في مقارعة إبليس هذا لتفهم عنهم خطابهم في بعض نواحيه , وكذلك سبّق ذكرهم إشارة إلى التحذير من هذا العالم وأنّه أولى بالعبودية منكم فلا تتخذونهم أولياء من دوني لما بلغنا عن طريق القرآن أنّ بعض الناس يعبدون الجنّ فهم مأمورون بالعبادة فكيف تعبدونهم لذا أشارت الملائكة إلى طبيعة المبارزة بين آدم وإبليس في قولها ( من يفسد فيها ويسفك الدماء )لأنّه لا يكون سفك دماء إلا بوجود الإفساد وهو نقض التوحيد أسماء وصفاتا وذاتا لأنّ الكفر يبدأ بنفي الأسماء ومنه إلى نفي الصفات ومنه إلى نفي الذات فذكر الملائكة هذا النوع من الإفساد لأنّه أصل الإفساد ومنه يدخل الشيطان على بني آدم فإنّ له تلبيسات كثيرة فهو عارف بمسار السلوك والتوحيد ويعرف من أين يأتي ومن أين ينتهي لأنّه كان عابدا وكان في الجنّة فهو عارف بطرق الضلالة , فأوّل طريق من طرق الضلالة هو المجيء من طريق نقض التوحيد في مراتبه أي إفشال العبودية لله تعالى فهذا مقصده وبغيته في هذا الإنسان لذا حذّرنا الله منه أي من هذا العالم فكلّ من رأيته يخوض في هذا العالم فاهجره ولا تتبعه أبدا لأنّ تلبيساته تكون كثيرة وعويصة الحلّ لربّما لا تهتدي إلى حلّها وفهمها فالزم طريق الهداية بما شرّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم
وإنّما أخذ ذكر هذا منّي نفسا طويلا لأنّ طريق العبودية هو الأصل وهو الحفظ والمنفعة في الدنيا والآخرة أمّا غير هذا الطريق فلا , فالذي يبحث عن الخصوصية وما في طيّاتها من الدعاوى فلا يقتدى به في طريق الله تعالى ولو جمع علوم الأوّلين والآخرين
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا الوصف بالعبودية ما أجمله وما أظهره فدلّ على أنّ طريق العبودية طريق خفاء لا طريق ظهور بمعنى أنّ العبودية تستلزم الخفاء وعدم الظهور فكلّ من تراه يريد الظهور فهو دليل على أنّه فقد طريق العبودية وخرج منها بقدر محبّته للظهور قال لي شيخنا رضي الله عنه مرّة وكنت قد نوّهت به وبعلومه : ( يا سيدي العبد الفقير لا يريد الظهور )فإنّ أهل الله لا يظهرون إلاّ بالله تعالى ( وأخرجني مخرج صدق )لأنّ الأنوار متى لم يؤذن لها في الظهور فإنّها متى ظهرت خرجت مكسوفة الأنوار عليها غبار الأغيار وهو غبش النفس وسحب الميل والدعوى , فما كان خروج الخضر بنفسه ولا بمحبّته بل أظهره الله تعالى لموسى فدلّ على أنّ العبودية مرتبتها الخفاء , ثمّ متى أظهرها الله تعالى فإنّه يظهرها بخصوصيتين حتّى يتميز الخبيث من الطيّب والمحقّ من المبطل , فالصفة الأولى [/sizeٍٍٍٍ]الرحمة , والصفة الثانية :العلم, فمتى خرجت العبودية لينتفع بها الناس تكون متحلية بهذين الوصفين لذا قال تعالى
( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )وإنّما خصّص هذين الوصفين والعطاءين دون سواهما لأنّهما حضرتا عبودية أي أنّ العبودية هذا وصفها وهذا تدلّ عليه دلائل في علم الحقائق من حيث صفات الله تعالى وهو من معاني الإحاطة والشمول إذ أنّ الله تعالى يقول ( الرحمان علّم القرآن )أي أنّ هذا العلم الحقيقي لا يسري إلا بوصف الرحمة فلولا الرحمان لما علّم أحد القرآن فأضحى الرحمان هو المعلّم للقرآن فإنّ الرحمان لا يعلّم غير القرآن لذا قال ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فلا بدّ من سبق الرحمة في هذا التعليم الخاص فمتى سبّق الرحمة علمنا نوع هذا التعليم لذا قال في غير هذا ( وعباد الرحمان )فنسبهم لإسمه الرحمان ثمّ قال ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )وقال في أهل الكهف ( ينشر لكم ربّكم من رحمته )أي بدخولهم الكهف كهف الحقائق فعلمنا ماهية هذا العلم من حيث الإحاطة في قوله ( الرحمان على العرش إستوى )أي عرش الحقائق في هذا الوجه لذا فعلوم أهل الحقيقة هي علوم الرحمة الخالصة لذا ساعد الخضر الناس بالرحمة الكاملة وقضى لهم جميع حاجاتهم , وإنّما ذكرت لك هذا لأبيّن لك حضرة علوم الخضر ومراتبها لأنّه لا بدّ لنا من شرح بعض حقائق علومه حتّى يتسنّى لنا معرفة طلب موسى لعلوم الخضر إذ لا يعقل أن يطلب من كان من أولي العزم من الرسل وهو موسى الخضر إلا إذا كان عنده علم من العلوم الخاصّة ما لا يعلمه موسى لذا خصّص هذا العبد بالرحمة والعلم فإنّ الرحمة والعلم حوصلة الدلالة على الله تعالى إذ أنّهما جامعات صفات : الرحمة جامعة , والعلم مفسّر لهذه الرحمة بمددها ومن مددها أي ظاهرا وباطنا لذا أشار لهذا الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه بأنّ من علامات القطب أن يظهر بمدد الرحمة لأنّها مرتبة إحاطة فليس هناك غير الرحمة ( رحمتي سبقت غضبي )
(السابقون السابقون أولائك المقرّبون )
فمتى لم تسبق رحمتك غضبك فسد علمك لا محالة وهذا حال إبليس في العلوم فيصبح علمك شيطاني هذا لتعلم قوله ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
وإنّما قال ( آتيناه )بضمير الجمع ( نحن)دلالة على أنّ حضرة الرحمة هي حضرة جامعة وهذا من علوم الحقيقة المحمدية المقول فيها ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين )
فصحّت العبودية في هذا الوجه وأنّها من عين الرحمة فإنّه لا يستجلب لك شيء من الرحمة مثل العبودية لله تعالى إذ أنّها متعلّقها أزلا وأبدا والراحمون يرحمهم الرحمان فإنّ حقائق العبودية ليست مجرّد عبادات وطقوس ظاهرة وقوانين سارية بل هي أحوال قلبية ومعاني روحية قبل كلّ شيء فهي أنفاس ظاهرة وباطنة ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك )أي في كلّ نفس من أنفاسهم فما عرضوا غير العبودية الدائمة وهكذا حال العارفين ولو كانوا في فراشهم نياما
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )أراد أن يبيّن لنا حاله ويذكر خصاله بصيغة الخبر عنه إذ أنّ العبد لا خبر له عن نفسه حتّى يمدحها أو ينسب لها خصوصية من الخصوصيات وإنّما نحمل من مدح نفسه من ساداتنا على أنّ الحضرة أخرجت على لسانهم ذلك من غير محبّة منهم لظهور ذلك ولأنّهم يتحدّثون بنعم الله وعلى أنّهم يقتدون برسولهم في قوله ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر)أمّا غير هذا فلا نحمل عليه قول العبد وإلاّ كان سوء أدب مع الله تعالى وهذا المبحث أخطأ فيه جملة من الناس فظنّوا بأنّ من يمدح نفسه يريد الظهور والتميّز والبروز وهو خطأ فقد يمدح الإنسان نفسه ولا يدري بل ولا يعتقد أصلا بأنّه مدح نفسه وهذا الكلام يعرفه العارفون أهل اليقين أمّا أصحاب النفوس فهم في ضلال كبير
فال تعالى (( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
يدلّ على التمهيد لمن تريد أن ينفع الله به الناس كأنّ تأتي لأحد الناس وتقول له في فلان بأنّه عالم وعارف حتى تجعل له محبّة وتعريف بذلك الشيخ كي يأخذ عنه فتعرّف بمرتبته في العلم حتى لا تجهل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( أنا النبي لا كذب أنا إبن عبد المطّلب ) وأنت لو تقول هنا لماذا يذكر صلى الله عليه وسلم جدّه في هذا الموقع من القتال في غزوة حنين لتعلم معنى أجداده فحاشا رسول الله أن يذكر المشركين ولو كانوا أحدهم ذا قربى وخاصّة في هذا الموقع فافهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإلا فعليك السلام وليس معك كلام
قال تعالى (( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )إذ أنّها جزاء عبوديته فهي لا تنفكّ عنها بحال فمن ظهر في وصف الرحمة ظهر في وصف العلم اللدني ومن هنا تفرّق بين أهل الله ومشاربهم فإنّهم ليسوا على مرتبة واحدة في هذا العلم بل بحسب الرحمة , والرحمة حضرة جمع كما قدّمت ووضّحت لك فمن منع الرحمة منع السبق وهذا حال القطب الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم
قال تعالى ( آتيناه رحمة من عندنا )أي وصف من رحمتي فظهر بها من حيث الخفاء بها في العلم اللدني أي لو أنّ الرحمة كانت على غير هذه الشاكلة لما كان جنسها علما لدنيّا بل قد يكون علما ذهنيا أو حكمة عقلية بل لمّا قال ( وعلّمناه من لدنّا علما )علمنا خفاء هذه الرحمة وعدم ظهورها إلاّ بوصف التأويل بالعلم اللدني فهذا دلّ عليه قوله ( رحمة من عندنا )فهي مرتبة خاصّة من هذا الوجه فهي مرتبة خفيّة إستلزمتها العبودية المذكورة في صدر الآية لأنّها من جنسها فهي خاصّة كما أنّ العبودية هي مرتبة خاصة فيما بين العبد وربّه فأعطاه هذه الرحمة وهذا العلم بحسب مرتبته في العبودية فهي رحمة وهو علم من حيث مرتبة العبودية وليس من حيث مرتبة الرسالة أو النبوّة أو الشرائع والأحكام ...إلخ .فافهم. لذا كانت أفعال الخضر مخفية في العلم اللدني فسرت تلك الرحمة في علمه فكانت الرحمة والعلم من حضرتيهما أي من حضرة الرحمة الخاصّة ( من عندنا )ومن حضرة العلم الخاص ( من لدنّا )لما قدّمه من ذكر للعبودية لتفهم عنه فهنا أعطاك وجهة الخضر من حيث العلوم وأنّها علوم مقيّدة بالرحمة وفيها سرى مددها وهكذا هي علوم أهل الله تعالى فإن العلوم أجناس كثيرة ومنها هذا العلم وهو العلم اللدني الذي هو سيد العلوم فهو من عين الرحمة ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )
لأنّ مجلسهم مجلس رحمة فها قد أعلمتك بمستوى علم الخضر الذي ظهر فيه من حيث حقيقته
يتبع ان شاء الله
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
وفي الآية أنّ حضرة العبودية هي حضرة الولاية والمشيخة وأنّها حضرة صفات فمهما كان وصفك فاتّصفت به فتلك درجة عبوديتك لربك لأنّ العبودية كما قلنا حضرتها حضرة عجز وفقر وضعف وتسليم وعدم تدبير ولا إختيار لأنّ ما يقابلها من الصفات الإلهية القوّة والغنى والفعل والتقدير والإرادة ..إلخ فهي حضرة صفات أعني العبودية فمتى تحقّقت بأوصافك أمدّك بأوصافه فقال لك( كنت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ...الحديث ) فما ذكر في هذا الحديث غير شؤون قيامك به من حيث بصرك وسمعك ويدك ورجلك كي تبصره في كلّ شيء وتسمعه عند كلّ شيء وتأخذ منه في كلّ شيء وتذهب إليه في كلّ شيء وهذا لا يكون إلاّ به في وصف المحبّة , فقدم موسى على حضرة الصفات لذا إجتمع بالخضر لأنّها حضرة جمع وفيها يقع تفصيل العلوم والتخصيص بالمراتب ( تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات )فذكر في هذه الآية موسى وإختصاص حضرته الموسوية بالكلام الذي هو صفة من صفات الباري جلّ وعلا فبيّن مرتبته غاية البيان في هذه الآية فإنّ الكلام لا يفيد إلا بالوضع المركّب خلاف الكلمة فهي تدلّ على معنى في نفسها وهذا حال عيسى أمّا القرآن فهو كلام الله كلّه لقوله ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء )أي هذا الكتاب الذي يحتوي على القرآن وهذا القرآن الذي يحتوي على الكتاب لذا قال عن القرآن بأنّه ( في كتاب مكنون )أمّا الكتاب فقد ذكره في معرض القرآن لقوله ( إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون )فهذا الكلام هو قرآن فيذكر الكتاب في كلام القرآن ويذكر القرآن بأنّه في الكتاب لتعلم الفرق بينهما من جهة ومن جهة أخرى أنّه لا فرق فقال لك
( ما فرّطنا في الكتاب من شيء )فما قال ( ما فرّطنا في القرآن من شيء )لدقّة الوصف بحسب الحقائق تدقيقا وتفصيلا ( وكلّ شيء فصّلناه تفصيلا ) فما بقي لك إلاّ أن تقول ( الله أكبر )أي من كلّ شيء لقوله ( وما فرّطنا في الكتاب من شيء )دليل التقييد والحصر لهذا الشيء مهما توسّع في هذا الكتاب فهو مقيّد تحت حيز وسعه ( والله واسع عليم )فقيّد هذا الوسع بالعلم حتى تفهم عنه في هذا الوسع الذي ربّما يوقعك في الشكّ من حيث وسع الكون لتعلم معنى الإحاطة بالرحمة والعلم ( وأحاط بكلّ شيء رحمة وعلما )فقال في الخضر ( آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما )لأنّ هاتين الحضرتين لهما الإحاطة فمن رزق هذا رزق مدد الإحاطة وهذا ما نبّه الخضر لموسى عليه في قوله ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا )فذكر له الإحاطة وما ذكر له وصف العلم بها بل قال له ( خبرا )بدل (علما)تدقيقا تحقيقيا ثمّ لتعلم أدب الخضر مع الله تعالى ثمّ أدبه مع موسى فما نفى عنه العلم وإنّما نفى عنه الخبرة فيما طلبه منه من التعليم وكأنّ موسى كان لا تعلّق له بهذا العلم من قبل وليس هو من وظيفته فلو كان مطلوبا لهذا العلم لتعلّقت همّته به فناله وهو لم يتعلّق به إلاّ من حيث التكفير عمّا قاله من عدم إرجاع العلم لله تعالى وهذا ما فهمه منه الخضر من عدم التعلّق به لذا قال له ( لن تستطيع معي صبرا )أي لعدم تعلّقك حقيقة به في غيب سرّك وإلاّ كيف سيعلّم الخضر موسى فإنّ التعليم بدأ من قوله ( إنّك لن تستطيع معي صبرا )فبدأ بتعليمه بالفراسة فيه كي يصبر على ما سيراه من فراسته في الآخرين من حيث التصريف وقضاء الحاجات من هنا فهم موسى عنه فقال له ( ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا )فسكت الخضر هنا ثمّ بدأ في إملاء الشروط عليه لأنّه ما وقف مع كلامه الأوّل لذا كان يعيد عليه كلامه الأوّل كلّ مرّة وهنا هناك مبارزة عظيمة في الحقائق بينهما إنتهت بالفراق قال الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في حقّ كلام الشيخ الأكبر رضي الله عنه واصفا إيّاه بأنّه لم يقرأ كلاما من كلام الأولياء أكثر إحاطة من كلام الشيخ الأكبر , وهذا صحيح ويفهمه من عاينه فإنّ الشيخ الأكبر أوتي جوامع العبارة ميراثا نبويّا فلو أراد أحد مثلا أن يفسّر كتاب الفتوحات المكية لشرح حال الشيخ الأكبر ومقامه وعلومه فكلّفه ذلك دهورا وأحقابا ولعجز عن ذلك لأنّ علوم الوهب التي هي العلوم اللدنية لا حصر لها البتّة وقد قال الشيخ الأكبر بعد أن أنهى الفتوحات : ( هذا وما إستوفينا ذكر خاطرا واحدا من خواطرنا فيه )لتعلم غور العلوم في التحقيق لذا عوتب موسى لما لم يرجع العلم لله تعالى فصار معه ما صار ممّا حكاه الله تعالى في هذه القصّة عبرة لمن يعتبر لذا قال لحبيبه صلى الله عليه وسلّم ( وقل ربّ زدني علما )رغم أنّه مدينة العلم هذا لتعلم فحوى قوله تعالى ( لا يعلم الغيب إلا الله )فهو الحدّ الفاصل بين العبودية وبين الألوهية ( بينهما برزخ لا يبغيان )فإنّ العلوم لا تقيّدها فيك ولا في غيرك فمجالها الوسع والإحاطة ( والله واسع عليم )ولكن الرجال يبقون يطلبون العلم من المهد إلى اللحد أمّا من كبر عليه علمه فهو دليل ضيق روحه وجمودها فإنّ العبد لا يقيّد العلم أبدا لأنّه واسع لا حدّ له وهذا تفهمه في قوله ( وقل ربّ زدني علما )فإنّ السير في معرفة الذات لا ينتهي أبدا هذا لتعلم حقائق الصفات الملازمة للذات وأنّها قديمة بقدم الذات وهي أزلية أبدية وأنت كما تعلم بأنّ العبد مخلوق فكيف يحيط المخلوق بشؤون الخالق وإنّما قال بعض أهل الله تعالى بأنّ الصفات عين الذات فإنّه في الحقيقة لم يشارك المعتزلة في ذلك ولا تبنّى مذهبهم وإنّما رأى ذلك من حقيقة أخرى لا يدركها المعتزلة ولا غيرهم بل هذا القول من بعض أهل المعرفة والولاية قالوه بحكم مكوثهم في الصفات كما مكث الخضر فرأى الأمور بهذه العين التي لا تتناول عالم الأسماء أي عالم التشريع أو تقول عالم الفرق بل رآها بعين الجمع فليس بينه وبين المعتزلة توافق رغم توافق العبارة في ظاهرها ولكن ليس بنفس الفهم ونفس المنحى فافهم .
أعلمتك بهذا كي تستشعر علوم سيّدنا الخضر وعلوّ همّة سيّدنا موسى من حيث تواضعها لأنّ الهمّة لها علوّ في التواضع فلا تكن الهمّة دنيئة في تواضعها فتتكبّر بل الهمّة العالية تكون في وصفها عابدة راكعة ساجدة ...فافهم
هذا ولا يخفى عليك ما كابده الخضر من حيث أنّه أمر بتعليم كليم الله تعالى فجاءه هذا الإمتحان العسير وسنذكر دقائق ذلك في المستقبل من حيث خروج العبودية بالخصائص الصفاتية فلا بدّ أن يأتيها من هو أعلى مقاما منها من حيث الخصائص الذاتية فأبتلي الخضر إبتلاءا شديدا فتكلّم بالحال الصفاتي وبرفع الهمّة عن غير مقامه الذي أقامه الله فيه وذلك في قوله( لن تستطيع معي صبرا ) يقول هذا لأحد من أولي العزم من الرسل فمن يقدر على القول من العباد فإنّ فيه سطوة حالية لا تقدّر بكيف من حيث العزيمة والتقدّم فقابل حاله حال موسى من حيث الطلب فما عامل موسى إلا بحسب حاله فأراد أن يظهر لموسى أنّ حاله غير قابل لمثل هذا التعليم فخاطبه بحاله ولذا قيل ترى صورتك في شيخك فما رأيت إلاّ صورتك في شيخك
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فقوله ( آتيناه ) عناية سابقة وقوله ( علّمناه )عناية لاحقة فهي تكون بحسب العناية السابقة فرجع الكلّ إلى العناية السابقة المقول فيها ( رحمتى سبقت غضبي )فالرحمة سبقت وهي السابقة ( ومن سبقت له العناية لا تضرّه الجناية ) ( وإذا ما العناية لاحظتك عيونها --- فنهم فالمخاوف كلّهنّ أمان )
فالرحمة عبودية , والعلم خصوصية , فظهرت خصوصية العلم من حيث تعلّقها كما ذكرنا بالرحمة فعلمنا حضرة العلم اللدني وأنّها حضرة رحمة فتعلم الآن المقول فيه ( وما أرسلناك رحمة للعالمين )وتعلم مستوى علمه في هذا العلم من حيث هذه الحقيقة فتستدلّ على نوع علمه في أنّه أميّ لا يقرأ ولا يكتب فإنّ قصص الأنبياء إنّما جاءت في المقام الأوّل للتعريف به صلى الله عليه وسلّم والتعريف بأحواله ومقاماته لذا تجد بعض أهل الله إستدلّوا بقصص الأنبياء على منزلة الحبيب في مقارنتها وأنّه جامع معجزاتهم وعلومهم وهذا المنحى ذهب فيه العلامة القسطلاني في كتابه المواهب اللدنية
فأنت في كلّ شؤون عبوديتك بين إستشعار الرحمة ومشاهدة العلم فهذه هي جنّة المعرفة فالرحمة هو وصفك وحالك ذوقا وشعورا وإحساسا أمّا العلم فهو مقامك فيجب فيه توفية أدبه لذا وقعت قصّة موسى مع الخضر في هذا الباب من حيث الأدب العلمي وليس من حيث حضرة الرحمة فهي تجمعهما
قد أطلنا في هذه الآية فإنّ حقائقها وأذواقها كثيرة لا حدّ لها فلو إستغرقناها كلّها بحسب إستيفاء الخاطر لمكثنا زمنا طويلا لأنّ العلوم متشابكة جدّا مثل الشبكة وإنّما قال ذلك الصحابيّ لقومه ( يا قوم إقدموا على رسول الله فإنّه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر )فكلّ من خشي بإنفاقه العلم من الفقر فيه فهو ليس عندنا بعالم فهو مفلس في علمه وهكذا في كلّ مقام لأنّ علامة الإنفاق أنّك تعطي بالله أمّا علامة البخل والشحّ أنّك تعطي بنفسك وبينهما فرق كبير فإنّه من أعطى بالله أجزل العطاء وهذا حال محمّدي فإنّه لا يخشى الفقر في عطائه فما قولنا لو قلنا ماذا عن عطاء الله وكرمه
وفي الآية أنّ حضرة العبودية هي حضرة الولاية والمشيخة وأنّها حضرة صفات فمهما كان وصفك فاتّصفت به فتلك درجة عبوديتك لربك لأنّ العبودية كما قلنا حضرتها حضرة عجز وفقر وضعف وتسليم وعدم تدبير ولا إختيار لأنّ ما يقابلها من الصفات الإلهية القوّة والغنى والفعل والتقدير والإرادة ..إلخ فهي حضرة صفات أعني العبودية فمتى تحقّقت بأوصافك أمدّك بأوصافه فقال لك( كنت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ...الحديث ) فما ذكر في هذا الحديث غير شؤون قيامك به من حيث بصرك وسمعك ويدك ورجلك كي تبصره في كلّ شيء وتسمعه عند كلّ شيء وتأخذ منه في كلّ شيء وتذهب إليه في كلّ شيء وهذا لا يكون إلاّ به في وصف المحبّة , فقدم موسى على حضرة الصفات لذا إجتمع بالخضر لأنّها حضرة جمع وفيها يقع تفصيل العلوم والتخصيص بالمراتب ( تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات )فذكر في هذه الآية موسى وإختصاص حضرته الموسوية بالكلام الذي هو صفة من صفات الباري جلّ وعلا فبيّن مرتبته غاية البيان في هذه الآية فإنّ الكلام لا يفيد إلا بالوضع المركّب خلاف الكلمة فهي تدلّ على معنى في نفسها وهذا حال عيسى أمّا القرآن فهو كلام الله كلّه لقوله ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء )أي هذا الكتاب الذي يحتوي على القرآن وهذا القرآن الذي يحتوي على الكتاب لذا قال عن القرآن بأنّه ( في كتاب مكنون )أمّا الكتاب فقد ذكره في معرض القرآن لقوله ( إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون )فهذا الكلام هو قرآن فيذكر الكتاب في كلام القرآن ويذكر القرآن بأنّه في الكتاب لتعلم الفرق بينهما من جهة ومن جهة أخرى أنّه لا فرق فقال لك
( ما فرّطنا في الكتاب من شيء )فما قال ( ما فرّطنا في القرآن من شيء )لدقّة الوصف بحسب الحقائق تدقيقا وتفصيلا ( وكلّ شيء فصّلناه تفصيلا ) فما بقي لك إلاّ أن تقول ( الله أكبر )أي من كلّ شيء لقوله ( وما فرّطنا في الكتاب من شيء )دليل التقييد والحصر لهذا الشيء مهما توسّع في هذا الكتاب فهو مقيّد تحت حيز وسعه ( والله واسع عليم )فقيّد هذا الوسع بالعلم حتى تفهم عنه في هذا الوسع الذي ربّما يوقعك في الشكّ من حيث وسع الكون لتعلم معنى الإحاطة بالرحمة والعلم ( وأحاط بكلّ شيء رحمة وعلما )فقال في الخضر ( آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما )لأنّ هاتين الحضرتين لهما الإحاطة فمن رزق هذا رزق مدد الإحاطة وهذا ما نبّه الخضر لموسى عليه في قوله ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا )فذكر له الإحاطة وما ذكر له وصف العلم بها بل قال له ( خبرا )بدل (علما)تدقيقا تحقيقيا ثمّ لتعلم أدب الخضر مع الله تعالى ثمّ أدبه مع موسى فما نفى عنه العلم وإنّما نفى عنه الخبرة فيما طلبه منه من التعليم وكأنّ موسى كان لا تعلّق له بهذا العلم من قبل وليس هو من وظيفته فلو كان مطلوبا لهذا العلم لتعلّقت همّته به فناله وهو لم يتعلّق به إلاّ من حيث التكفير عمّا قاله من عدم إرجاع العلم لله تعالى وهذا ما فهمه منه الخضر من عدم التعلّق به لذا قال له ( لن تستطيع معي صبرا )أي لعدم تعلّقك حقيقة به في غيب سرّك وإلاّ كيف سيعلّم الخضر موسى فإنّ التعليم بدأ من قوله ( إنّك لن تستطيع معي صبرا )فبدأ بتعليمه بالفراسة فيه كي يصبر على ما سيراه من فراسته في الآخرين من حيث التصريف وقضاء الحاجات من هنا فهم موسى عنه فقال له ( ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا )فسكت الخضر هنا ثمّ بدأ في إملاء الشروط عليه لأنّه ما وقف مع كلامه الأوّل لذا كان يعيد عليه كلامه الأوّل كلّ مرّة وهنا هناك مبارزة عظيمة في الحقائق بينهما إنتهت بالفراق قال الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في حقّ كلام الشيخ الأكبر رضي الله عنه واصفا إيّاه بأنّه لم يقرأ كلاما من كلام الأولياء أكثر إحاطة من كلام الشيخ الأكبر , وهذا صحيح ويفهمه من عاينه فإنّ الشيخ الأكبر أوتي جوامع العبارة ميراثا نبويّا فلو أراد أحد مثلا أن يفسّر كتاب الفتوحات المكية لشرح حال الشيخ الأكبر ومقامه وعلومه فكلّفه ذلك دهورا وأحقابا ولعجز عن ذلك لأنّ علوم الوهب التي هي العلوم اللدنية لا حصر لها البتّة وقد قال الشيخ الأكبر بعد أن أنهى الفتوحات : ( هذا وما إستوفينا ذكر خاطرا واحدا من خواطرنا فيه )لتعلم غور العلوم في التحقيق لذا عوتب موسى لما لم يرجع العلم لله تعالى فصار معه ما صار ممّا حكاه الله تعالى في هذه القصّة عبرة لمن يعتبر لذا قال لحبيبه صلى الله عليه وسلّم ( وقل ربّ زدني علما )رغم أنّه مدينة العلم هذا لتعلم فحوى قوله تعالى ( لا يعلم الغيب إلا الله )فهو الحدّ الفاصل بين العبودية وبين الألوهية ( بينهما برزخ لا يبغيان )فإنّ العلوم لا تقيّدها فيك ولا في غيرك فمجالها الوسع والإحاطة ( والله واسع عليم )ولكن الرجال يبقون يطلبون العلم من المهد إلى اللحد أمّا من كبر عليه علمه فهو دليل ضيق روحه وجمودها فإنّ العبد لا يقيّد العلم أبدا لأنّه واسع لا حدّ له وهذا تفهمه في قوله ( وقل ربّ زدني علما )فإنّ السير في معرفة الذات لا ينتهي أبدا هذا لتعلم حقائق الصفات الملازمة للذات وأنّها قديمة بقدم الذات وهي أزلية أبدية وأنت كما تعلم بأنّ العبد مخلوق فكيف يحيط المخلوق بشؤون الخالق وإنّما قال بعض أهل الله تعالى بأنّ الصفات عين الذات فإنّه في الحقيقة لم يشارك المعتزلة في ذلك ولا تبنّى مذهبهم وإنّما رأى ذلك من حقيقة أخرى لا يدركها المعتزلة ولا غيرهم بل هذا القول من بعض أهل المعرفة والولاية قالوه بحكم مكوثهم في الصفات كما مكث الخضر فرأى الأمور بهذه العين التي لا تتناول عالم الأسماء أي عالم التشريع أو تقول عالم الفرق بل رآها بعين الجمع فليس بينه وبين المعتزلة توافق رغم توافق العبارة في ظاهرها ولكن ليس بنفس الفهم ونفس المنحى فافهم .
أعلمتك بهذا كي تستشعر علوم سيّدنا الخضر وعلوّ همّة سيّدنا موسى من حيث تواضعها لأنّ الهمّة لها علوّ في التواضع فلا تكن الهمّة دنيئة في تواضعها فتتكبّر بل الهمّة العالية تكون في وصفها عابدة راكعة ساجدة ...فافهم
هذا ولا يخفى عليك ما كابده الخضر من حيث أنّه أمر بتعليم كليم الله تعالى فجاءه هذا الإمتحان العسير وسنذكر دقائق ذلك في المستقبل من حيث خروج العبودية بالخصائص الصفاتية فلا بدّ أن يأتيها من هو أعلى مقاما منها من حيث الخصائص الذاتية فأبتلي الخضر إبتلاءا شديدا فتكلّم بالحال الصفاتي وبرفع الهمّة عن غير مقامه الذي أقامه الله فيه وذلك في قوله( لن تستطيع معي صبرا ) يقول هذا لأحد من أولي العزم من الرسل فمن يقدر على القول من العباد فإنّ فيه سطوة حالية لا تقدّر بكيف من حيث العزيمة والتقدّم فقابل حاله حال موسى من حيث الطلب فما عامل موسى إلا بحسب حاله فأراد أن يظهر لموسى أنّ حاله غير قابل لمثل هذا التعليم فخاطبه بحاله ولذا قيل ترى صورتك في شيخك فما رأيت إلاّ صورتك في شيخك
قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
فقوله ( آتيناه ) عناية سابقة وقوله ( علّمناه )عناية لاحقة فهي تكون بحسب العناية السابقة فرجع الكلّ إلى العناية السابقة المقول فيها ( رحمتى سبقت غضبي )فالرحمة سبقت وهي السابقة ( ومن سبقت له العناية لا تضرّه الجناية ) ( وإذا ما العناية لاحظتك عيونها --- فنهم فالمخاوف كلّهنّ أمان )
فالرحمة عبودية , والعلم خصوصية , فظهرت خصوصية العلم من حيث تعلّقها كما ذكرنا بالرحمة فعلمنا حضرة العلم اللدني وأنّها حضرة رحمة فتعلم الآن المقول فيه ( وما أرسلناك رحمة للعالمين )وتعلم مستوى علمه في هذا العلم من حيث هذه الحقيقة فتستدلّ على نوع علمه في أنّه أميّ لا يقرأ ولا يكتب فإنّ قصص الأنبياء إنّما جاءت في المقام الأوّل للتعريف به صلى الله عليه وسلّم والتعريف بأحواله ومقاماته لذا تجد بعض أهل الله إستدلّوا بقصص الأنبياء على منزلة الحبيب في مقارنتها وأنّه جامع معجزاتهم وعلومهم وهذا المنحى ذهب فيه العلامة القسطلاني في كتابه المواهب اللدنية
فأنت في كلّ شؤون عبوديتك بين إستشعار الرحمة ومشاهدة العلم فهذه هي جنّة المعرفة فالرحمة هو وصفك وحالك ذوقا وشعورا وإحساسا أمّا العلم فهو مقامك فيجب فيه توفية أدبه لذا وقعت قصّة موسى مع الخضر في هذا الباب من حيث الأدب العلمي وليس من حيث حضرة الرحمة فهي تجمعهما
قد أطلنا في هذه الآية فإنّ حقائقها وأذواقها كثيرة لا حدّ لها فلو إستغرقناها كلّها بحسب إستيفاء الخاطر لمكثنا زمنا طويلا لأنّ العلوم متشابكة جدّا مثل الشبكة وإنّما قال ذلك الصحابيّ لقومه ( يا قوم إقدموا على رسول الله فإنّه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر )فكلّ من خشي بإنفاقه العلم من الفقر فيه فهو ليس عندنا بعالم فهو مفلس في علمه وهكذا في كلّ مقام لأنّ علامة الإنفاق أنّك تعطي بالله أمّا علامة البخل والشحّ أنّك تعطي بنفسك وبينهما فرق كبير فإنّه من أعطى بالله أجزل العطاء وهذا حال محمّدي فإنّه لا يخشى الفقر في عطائه فما قولنا لو قلنا ماذا عن عطاء الله وكرمه
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
كثرة الكلام ضرورة
السلام عليكم
سيدي علي تبارك الله عليك ، ولكن نراك تطول وتكثر لدرجة اني تخلطت عندي الامور ولا افهم ما
تكتبه
أرجوك بسط الامور ، وكثرة الكلام تتسبب في الغلط وتجعله غامض ، ولا فايدة من التفسير الا في
ما يفهمه عليك الناس لا في الذي تقوله
سامحني على هذي الملاحظة وبارك الله فيك
سيدي علي تبارك الله عليك ، ولكن نراك تطول وتكثر لدرجة اني تخلطت عندي الامور ولا افهم ما
تكتبه
أرجوك بسط الامور ، وكثرة الكلام تتسبب في الغلط وتجعله غامض ، ولا فايدة من التفسير الا في
ما يفهمه عليك الناس لا في الذي تقوله
سامحني على هذي الملاحظة وبارك الله فيك
عبد السّميع المدني- عدد الرسائل : 92
العمر : 44
تاريخ التسجيل : 29/03/2010
رد: أذواق وعبر من قصّة موسى مع الخضر
شكرا سيدي عبد السميع المدني على المرور الكريم والملاحظة
هذا واعلم أخي أنّي أكتب هذه الأذواق لأخ لي درست معه في سوريا في معهد الشريعة فإنّي أهديتها إليه وليس في قصدي أن أكتبها هنا ولكن بما أنّ الإنسان لا يمكنه إلاّ أن يكون وفيّا لأهله وإخوانه ووطنه فنقلتها هنا فقط كذكرى تبقى لي ولست أتكلّف منها شيئا سيدي الكريم بل هي مثلما تقول مدارسة بيني وبين ذلك الأخ الذي هو من خرّيجي الأزهر الشريف وهو الآن في إتمام دراسته العليا في الفقه والشريعة , وأغلب ما تراه من كتاباتي فهي إليه أهديها في المقام الأوّل ومن ثمّ إلى بقية إخواني ( العبارة قوت لعائلة المستمعين و ليس لك إلا ما أنت له آكل )
هذا واعلم أخي أنّي أكتب هذه الأذواق لأخ لي درست معه في سوريا في معهد الشريعة فإنّي أهديتها إليه وليس في قصدي أن أكتبها هنا ولكن بما أنّ الإنسان لا يمكنه إلاّ أن يكون وفيّا لأهله وإخوانه ووطنه فنقلتها هنا فقط كذكرى تبقى لي ولست أتكلّف منها شيئا سيدي الكريم بل هي مثلما تقول مدارسة بيني وبين ذلك الأخ الذي هو من خرّيجي الأزهر الشريف وهو الآن في إتمام دراسته العليا في الفقه والشريعة , وأغلب ما تراه من كتاباتي فهي إليه أهديها في المقام الأوّل ومن ثمّ إلى بقية إخواني ( العبارة قوت لعائلة المستمعين و ليس لك إلا ما أنت له آكل )
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» معان ونظر في لقاء موسى مع الخضر
» حكم , مواعظ , رقائق وعبر...
» استرواحات في آيات قصّة أهل الكهف
» قال علي رضي الله عنه
» نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...
» حكم , مواعظ , رقائق وعبر...
» استرواحات في آيات قصّة أهل الكهف
» قال علي رضي الله عنه
» نفحات من قصّة سيدنا يوسف ( متجدّد ) ...
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 - 14:18 من طرف ابن الطريقة
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
السبت 23 نوفمبر 2024 - 13:27 من طرف الطالب
» شيخ التربية
السبت 23 نوفمبر 2024 - 8:33 من طرف ابن الطريقة
» رسالة من مولانا وسيدنا إسماعيل الهادفي رضي الله عنه إلى إخوان الرقاب
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:13 من طرف ابن الطريقة
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:06 من طرف ابن الطريقة
» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 8:36 من طرف أبو أويس
» يا هو الهويه
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس