بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
دلالة الحروف المقطّعة أوّل السّور القرآنيّة
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
ما الحكمة من الإعجاز العددي في القرآن؟
دلالة الحروف المقطّعة أوّل السّور القرآنيّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الإهداء : إلى روح شيخي القطب الرّبّانيّ الكامل : إسماعيل الهادفيّ ، رضي الله عنه وأرضاه.
*******
مقدّمات لدراسة دلالة الحروف المقطّعة أوّل السّور القرآنيّة
أ- تطبيقات على سورة البقرة:
I) منطلقات القراءة :
ما تزال الحروف الهجائيّة الواردة في أوّل بعض سور القرآن الكريم تمثّل لغزا عصيّا وسرّا مستغلقا وذلك رغم كثرة من أجال فيها الفكر وقلّب فيها النّظر. وحيث أنّه قد توفّرت لدينا اليوم مناهج جديدة لدراسة النّصوص فإنّه قد بات في متناول أهل الإختصاص من دارسيّ الأدب والمناهج الحديثة في النّقد الأدبيّ أن ينكبّوا على دراسة النّصّ القرآنيّ دراسة أدبيّة. ولا ضير في ذلك خاصّة وأنّ الله تعالى قد أشار في كتابه العزيز إلى جوانب أدبيّة القرآن من حيث أنّه إبداع إلهيّ بلسان عربيّ غير ذي عوج جرى على أسلوب فنّيّ فريد. ثمّ إنّ الله تعالى أمر عباده بأن يتدبّروا القرآن ويقفوا على مظاهر الإعجاز فيه. ولا شكّ أنّ فكّ رموز النّصّ القرآني وفهم إشاراته لا يكون إلاّ بالتّعرّف إلى خصائصه الفنّيّة ومميّزاته النّصّيّة من النّاحية الأدبيّة الصّرف.
ولعلّ أبا الأعلى المودودي هو الأبرز بين دارسيّ القرآن القلائل الّذين تناولوا النّصّ القرآنيّ من النّاحية الأدبيّة البحتة إلى جانب المقاربة التّاريخيّة من حيث ظروف نزول القرآن زمانا ومكانا وأسباب النّزول وعلاقتها بمضامين السّور ، وذلك في كتابه المتميّز "تفهيم القرآن" الّذي يقول عنه ضمن مقدّمته : "أودّ أن أجيب مسبقا على بعض من الأسئلة الّتي تثور عادة في ذهن الدّارس أثناء تناوله للقرآن وقد اقتصرت على الأسئلة الّتي طرأت على ذهني شخصيّا عندما شرعت في دراستي النّقديّة للقرآن"(1)
وقد سلكت الدّكتورة عائشة بنت عبد الرّحمان – بنت الشّاطئ – هي الأخرى ، منهج الدّراسة الأدبيّة في شرح بعض قصار السّور(2).
وقد عرف العرب القدماء المنهج الوصفيّ في دراسة النّصوص. يقول الدّكتور رمضان عبد التّوّاب: "والاهتمام بالشّكل في المقام الأوّل ، مع عدم الإنصراف عن أخذ المعنى في الحسبان ، هو أحد المبادئ المقرّرة عند البنيويّين. فقد كان بلومفيلد Bloomfild وهو من أتباع هذه المدرسة مثلا يقرّر أنّ اعتبار المعاني يعدّ أضعف نقطة في دراسة اللّغة ( أنظر كتابه Language ص140). والمتصفّح للمؤلّفات النّحويّة العربيّة يرى هذا المبدأ هو المسيطر على الفكر النّحويّ عند النّحاة العرب منذ سيبويه (...). وإذا تركنا المدرسة البنيويّة إلى المدرسة التّحويليّة نجد أنّها تنادي في الوقت الحاضر بشيء من المبادئ الّتي فطن إليها نحاة العربيّة وإن لم يسمّوها بالأسماء المعروفة الآن عند أتباع هذه المدرسة. فمن مبادئ النّحو التّحويليّ مثلا المبدأ الّذي سمّي في بعض التّراجم العربيّة باسم :(البنية العميقة)Deep structure و(البنية السّطحيّة) Surface structure ونؤثر نحن أن نسمّيه (التّركيب المقصود) و(التّركيب الظّاهر) (أنظر كتابنا : المدخل إلى علم اللّغة 190) وهذا ما عبّر عنه نحاة العربيّة أحيانا بالأصل والفرع ، أو ظاهر اللّفظ والمراد منه (...). أمّا فكرة "التّوليد" وإنتاج عدد غير متناه من الجمل ، بناءً على القواعد الرّاسخة في عقل الجماعة المتكلّمة بلغة مّا ، فإنّها فكرة لم تكن غائبة عن ذهن نحاة العربيّة القدماء. وهذا هو عبد القاهر الجرجاني ، صاحب "نظريّة النّظم" المعروفة في التّراث النّقديّ العربيّ ، يقول :"وإذا عرفت أنّ مدار أمر النّظم على معاني النّحو ، وعلى الوجوه والفروق الّتي من شأنها ان تكون فيه ، فاعلم أنّ الفروق والوجوه كثيرة ، ليس لها غاية تقف عندها ، ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها. ثمّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض الّتي يوضع لها الكلام ثمّ بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض"(دلائل الإعجاز87) كما يقول في موضع آخر :"واعلم أنّ ممّا هو أصل في أن يدقّ النّظر ويغمض المسلك في توخّي المعاني الّتي عرفت : أن تتّحد أجزاء الكلام ، ويدخل بعضها في بعض ويشتدّ ارتباط ثان منها بأوّل ، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النّفس وضعا واحدا ، وأن يكون حالك فيها حال الباني ، يضع بيمينه هنا في الحال ، ما يضع بيساره هناك.. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدّ يحصره ، وقانون يحيط به ، فإنّه يجيء على وجوه شتّى وأنحاء متفرّقة"(دلائل الإعجاز93)"(3). فلقد رأيت أنّ الجرجاني يصف عمليّة الكتابة وإبداع النّصّ بأنّها عملية بناء قائلا "وأن يكون حالك فيها حال الباني". وبهذا لا يبقى من سبيل إلى نكران سبق الجرجاني إلى مصطلح (بناء النّصّ) وبالتّالي إلى نظريّة ومصطلح (البنيويّة) بذكر لفظ "الباني" وتشبيه مؤلّف النّصّ بـ"الباني". غير أنّ دارسيّ النّصوص من العرب القدماء لم يلتزموا هذا المنهج الوصفيّ بالقدر الّذي تظهر معه آلياته ومزاياه وتتحقّق النّتائج المرجوّة منه. فقد ظلّ عملهم به من باب الطّرافة لا أكثر ، بل لعلّهم رأوا في ذلك بذخا فكريّا لا تدعو الحاجة إليه ، ولم نر من أثر هذا المنهج الوصفيّ الإحصائيّ في الدّراسات النّصّيّة القديمة إلاّ القليل النّادر مستفيدا استفادة جدّ محدودة من ظاهرة الإعجاز العدديّ في النّصّ القرآنيّ مثلا. فقد كان ابن عبّاس رضي الله عنهما يستنبط ترتيب ليلة القدر أيّ ليلة هي في شهر رمضان استنباطا من عدد وترتيب كلمات سورة "القدر" إلى قوله "هي" ومن عدد حروف "ليلة القدر" وقد ذكرت ثلاث مرّات في السّورة وفي كلّ مرّة منها تسعة أحرف ، فهي سبعة وعشرون حرفا من ضرب ثلاثة في تسعة. كما استنتج أبو بكّر الورّاق أيّ ليلة هي ليلة القدر باعتماد إحصاء عدد الحروف وعدد الكلمات والنّظر في طريقة نظمها في سورة "القدر". وقد نقل القرطبيّ في تفسيره عن أبي بكّر الورّاق:"إنّ اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشّهر على كلمات هذه السّورة فلمّا بلغ السّابعة والعشرين أشار إليها فقال " هي". وقال أيضا مصوّرا استنتاجها في نفس اللّيلة: "إنّ (ليلة القدر) كرّر ذكرها ثلاث مرّات وهي تسعة أحرف فتجيء سبعا وعشرين"(4).
ولعلّ أهمّ من استفاد من هذا المنهج هم كبار المتصوّفة الّذين اعتمدوا بعض آليات هذا المنهج في تأويلاتهم وتخريجاتهم لمعاني نصوص من القرآن والأحاديث والحكم والأشعار بالرّغم من أنّهم لم يبلوروا هذا المنهج ولم يحدّدوا آلياته واكتفوا بأن طرحوا نتائجه على أنّها عرفانيّة ذوقيّة تقع لهم عادة في شكل ما اصطلحوا عليه بالواردات الرّحمانيّة وهم يعنون بذلك إلهامات تقذف في قلوبهم.
ونظرا لما شهدته الآداب العالميّة المعاصرة من تطوّرات مهمّة بظهور مناهج جديدة تخصّ القراءة والتأويل ، فقد تأكّدت ضرورة إعادة قراءة النّصوص ، مقدّسة أم بشريّة ، ومنها النّصّ القرآني ، لتتبّع ملامح خصوصيّته الأسلوبيّة واستشراف آفاق تأويلاته الواسعة من خلال علاقة الدّلالات بالخصائص الفنّيّة في بنية النّصّ القرآني باعتبار السّور نصوصا ذات أدبيّة متميّزة ، بل ذات خصائص إعجازيّة بيانيّة وفنّيّة أكّدها القرآن نفسه من عدّة جوانب. ولهذا رأيتني مدفوعا إلى قراءة القرآن قراءة وصفيّة سميائيّة متشوّفا بصورة خاصّة إلى معرفة حقيقة الحروف المقطّعة الّتي افتتح الله بها بعض السّور ، في محاولة منّي لكشف العلاقة بين تلك الحروف وبين بقيّة مكوّنات النّصّ القرآنيّ ضمن تكامل البناء الفنّي لكلّ سورة من تلك السّور وعلاقة الشّكل بالمضمون غير مستبعد أيّة آليّة نقديّة يمكن أن تعضد هذه القراءة ، ومحاولا في ذلك أن أزاوج بين الذّوق الصّوفيّ وطريقتهم في بسط رؤاهم العرفانيّة من ناحية وبين طريقة اشتغال المنهج النّقدي الأدبيّ الوصفيّ البنيويّ من ناحية أخرى واعتماد نظريّة الإعجاز العددي في القرآن من ناحية ثالثة لعلّه يتسنّى لنا تحقيق نتائج المنهج العرفانيّ الصّوفي ، فيما توصّل إليه ، بآليات مناهج النّقد الأدبيّ المعاصرة والذّهاب في هذه الوجهة إلى أبعد الآفاق الممكنة وذلك برغم الخلاف حول (الشّفرة الرّقميّة للقرآن) ومعارضة مؤسّسات إسلاميّة كمجمع البحوث الإسلاميّة التّابع للأزهر(5).
II – من عتبات النّصّ القرآني :
بداية ، نقول إنّه لمّا كانت أسماء السّور هي العتبة الأولى للقراءة ولمعرفة المضمون فقد وجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ تسمية السّور توقيفيّة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقد استندت التّسمية إلى ما تميّزت به كلّ سورة من ناحية مضمونها فسمّيت سورة "البقرة" لورود قصّة بقرة بني إسرائيل فيها(6) كما سمّيت سورة "الإسراء" لتضمّنها ذكر معجزة الإسراء. فعن ابن كثير في تفسيره :(قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : "لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النّساء وكذا القرآن كلّه ولكن قولوا السّورة الّتي يذكر فيها البقرة والّتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كلّه")(7). وهذا الحديث ، وإن اعتبره ابن كثير حديثا غريبا وعلّل ذلك بكون أحد رواته وهو عيسى بن ميمون ضعيف الرّواية ولا يحتجّ به ، فإنّنا نكتفي منه بكون السّلف قد ميّزوا إجرائيّا بين عنوان النّصّ القرآنيّ ومحتواه المتعدّد وأنّهم سمّوا السّورة استنادا إلى ما ذكر فيها بوجه خاصّ أو ما استغرق ذكره الحيّز الأكبر من مضمونها. وأمّا الّذي بقي لافتا للانتباه حقّا ومستدعيا للفضول هو أنّ تلك الحروف المقطّعة في مفتتح بعض السّور بقيت لغزا مستغلقا يتهيّبه القارئ العاديّ وَالمتبرّك والمفسّر التّقليديّ على حدّ سواء. كما ظلّ يستبعده المفسّر الحداثيّ رغم تجهّزه بأحدث أدوات القراءة ومناهج النّقد النّصّيّ.
ولعلّ تلك الحروف ، زيادة على ما ذهب إليه كثير من المفسّرين في تدليلهم على أنّها ملمح من ملامح الإعجاز البيانيّ في القرآن ، وزيادة على كثرة تأويلاتهم لها وهي تأويلات لم تتجاوز مجرّد الافتراض والتّخمين ولم تستند إلى ما يدعمها من ناحيّة أدبيّة النّصّ القرآنيّ ذاته(8) ، لا تعدو أن تكون إلاّ لأحد الأهداف التّالية :
1) إمّا أنّها وضعت علامات لتمييز السّور بعضها عن بعض وذلك قبل تسمية السّور. وهو احتمال ليس بالهيّن رغم أنّ تلك الحروف الهجائيّة لم توضع أوّل جميع سور القرآن الكريم. لأنّ هذا الإجراء تأسيسيّ ولا ينبغي له بالضّرورة أن يشمل جميع السّور. بل يعمل به على قدر ما يحقّق المقصود. هذا مع الإشارة إلى كون الرّسول نفسه صلّى الله عليه وسلّم كان أيضا يعلم انتهاء السّورة وابتداء الأخرى بنزول <<بسم الله الرّحمان الرّحيم>>(9). ثمّ إنّ تميّز بعض السّور فقط بتلك الحروف المقطّعة له وجه من التّأويل لا يستهان به. وسنبسط فيه القول لاحقا عند الإشارة إلى أنّ عدد السّور المفتتحة بتلك الحروف 29 سورة على عدد حروف هجاء اللّغة العربيّة بالنّظر إلى الخلاف هل أنّ الألف حرفا والهمزة حرفا أم أنّهما حرف واحد؟!
2) وإمّا أن تكون تلك الحروف المقطّعة بمثابة عناوين أو علامات تختزل مضامين تلك السّور الّتي اختصّها الله بذلك لتشير إشارة ملغزة إلى أخصّ ما ذكر فيها كأن تلغز إلى شخصيّة محوريّة أو إلى موضوع أساس في هذه السّورة أو تلك؟!
3) وإمّا أن تكون وضعت في نطاق الإعجاز العدديّ للقرآن احتراما للقاعدة الّتي جرى عليها القرآن من حيث عدد حروفه وآياته وسوره. فقد توصّل بعض النّاظرين في الظّواهر الشّكليّة للنّصّ القرآنيّ إلى إثبات أنّ جميع مكوّنات النّصّ القرآنيّ الشّكليّة من حيث عدد الكلمات وعدد الحروف وعدد الآيات وعدد السّور وما إلى ذلك إنّما هي ضارب العدد 19. فسورة ( ص ) مثلا ورد فيها حرف الصّاد في 56 كلمة. ولذلك زيد حرف ( ص ) في أوّل السّورة في نطاق العمل بقاعدة الإعجاز العددي. وبذلك صار عدد حرف الصّاد في سورة ( ص ) 57 مرّة وهو ضارب عدد 3X19. وكذلك الشّأن في سورة ( ق ) حيث ورد حرف ( ق ) على نفس هذه القاعدة الحسابيّة.
4) وإمّا أن تكون تلك الحروف المقطّعة أوذل السّور لمجرّد تكثيف الإشارة إلى لفظة مخصوصة تدور حولها جملة معاني السّورة وذلك خاصّة إذا تقدّم السّورة حرف واحد.
في دلالة التّناظر بين صفات الذّات الإلهيّة ومكوّنات الكون وجوارح الإنسان
II- تأسيسيّة الخطاب الدّينيّ كتابا وسنّة :
قبل أن نشرع في محاولة تفكيك علامات النّصّ القرآنيّ والاجتهاد في التّعرّف إلى ما فيه من رموز من حيث البنية النّصّيّة الأدبيّة وتضافر علاماتها اللّغويّة في تأسيس الدّلالة وبلورة المعاني نذكّر بأنّ الخطاب ، أيّ خطاب كان ، لا يمكنه أن يصدر عن فراغ ولا أن يتأسّس في فراغ. بل لا بدّ له أن يتكوّن داخل رؤيا معيّنة متكاملة وبتوظيف علامات مخصوصة ووحدات من العلامات تترجم تلك الرّؤيا وتكوّن بدورها مرجعيّة فنّيّة متكاملة ضمن رؤية فكريّة كونيّة توحّد بين الدّال العَلاَمَاتيّ والمدلول الرّؤيويّ وتشفّر المعاني والدّلالات لتعطي النّصّ أبعاده التّداوليّة المتعدّدة بتعدّد مستويات الخطاب وتعدّد القراءات ضمن الممارسة الثّقافيّة وما ينتج عنها من منجزات حضاريّة عبر مسيرة تاريخيّة مقترنة بصيرورة متنامية مستبطنة لتلك الرّؤيا ومغذّية لمرجعيّتها العلاماتيّة من خلال التّفاعل النّقديّ الذّاتيّ الدّاخليّ بين الأنا (ذاتا) والأنا (موضوعا) والتّفاعل الاتّصاليّ الثّنائيّ الخارجيّ بين الأنا والآخر على حدّ سواء عبر العلاقات التداوليّة بين النّصّ ومحيطه. ذلك أنّ شرط كلّ مرجعيّة أن تكون في جملتها رؤيا حقيقة فكريّة ورؤية كون فنّيّة يتحدّد من خلالهما الموقف الفكريّ وما يجب له من فعل وردّ فعل. ومن هنا تقوم ضرورة انطواء تلك المرجعيّة على نظريّة فكريّة كلّيّة متجانسة متكوّنة بدورها من جملة وحدات نظريّة متضافرة تترجمها منظومة معرفيّة خاصّة ضمن ممارسة ثقافيّة وحضاريّة متميّزة على مستوى اللّغة والكتابة والتّشكيل الفنّيّ والعلاقة التّواصليّة بصورة خاصّة وفي كلّ مجالات الحياة والنّشاط الإنسانيّ بصورة عامّة.
فالمفكّر المثاليّ المعوّل على دور العقل وحده ينطلق في تحليله للواقع الإنسانيّ والكونيّ من التّصوّرات العقليّة الصّرف. أمّا الوجوديّ فله نظريّة مختلفة تحصر تعاملها مع الإنسان وللإنسان من حيث هو مشروع نفسه. في حين أنّ الماركسيّ يكوّن خطابه المعرفيّ وممارسته الثّقافيّة وفق مرجعيّته الفكريّة المؤسّسة على النّظريّة القائلة بأنّ البنى التّحتيّة ، الاقتصاديّة منها على وجه الخصوص ، هي الّتي تحدّد البنى الفوقيّة (الدّين والقيم والثّقافة والأخلاق العامّة) وأنّ الأمر خاضع إلى ميكانيزمات الجدليّة والحتميّة المادّيّة لا غير.
والنّظريّة السّيكولوجيّة الفروديّة (نسبة إلى فرويد S.Freud ) ترى أنّ المنجزات الثّقافيّة والحضاريّة الإنسانيّة إنّما هي نتيجة تحويل للقوى الغريزيّة المكبوتة وأنّ الإنسان كائن مقموع من المهد إلى اللّحد بحيث ينفي التّحليل السّيكولوجي للإنسان أيّ عمق روحيّ وأيّ بعد غيبيّ.
وعلى هذه الخلفيّة ، إذا نظرنا إلى الأساطير وجدناها تكوّن عالما خاصّا تكيّفه رؤية الإنسان للكون رؤية محدّدة ورؤياه للوجود رؤيا خاصّة تستندان إلى مبدأ صراع الآلهة. وأمّا الدّين ، وبصورة خاصّة دين الإسلام بما هو دين إلهيّ كتابيّ يتميّز بصدقيّة وواقعيّة خطابه بعيدا عن كلّ تحريف ، فإنّه يترجم الرّؤيا والرّؤية الإلهيّتين للوجود والكون. ولا شكّ أنّ علينا تبعا لذلك ، إذا أردنا أن نتبيّن طبيعة وخصوصيّات تلكما الرّؤيا والرّؤية المكوّنتين للمنظومة المعرفيّة الإسلاميّة ، أن نحلّل ونتفهّم النّصّ الإسلاميّ ، القرآنيّ منه والنّبويّ ، من حيث أنّهما النّصّان المؤسّسان للمرجعيّة الإسلاميّة بكلّ علاماتها ومدلولاتها تصوّرا كونيّا ، عقيدة وسلوكا ، أو قل نظريّة ًفكريّة وممارسة ثقافيّة ً عمليّة ومنجزا حضاريّا مادّيّا.
* وحدة الوجود وتعدّد الشّهود :
وبما أنّ الإسلام دين كتابيّ يوحّد الله ويعتبر جميع المخلوقات وكلّ أفعالها وأحوالها من خلق الله وحده لا شريك له في ذلك ولا ندّ ولا معين ، فقد تأسّست عقيدة أهل السّنّة من أشاعرة ومتصوّفة على مبدأ توحيد الله تعالى مقدّرا وخالقا ومدبّرا لجميع المخلوقات الظّاهرة والخفيّة دنيا وآخرة. وضمن عقيدة التّوحيد هذه ، انتظمت جميع التّصوّرات والمفاهيم المتعلّقة بالذّات الإلهيّة وبالمخلوقات ملائكة وجنّا وإنسانا وحيوانا ونباتا وجمادا "يخلق ما يشاء وهو على كلّ شيء قدير"(المائدة17) و"سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون"(يس36). وأسندت عقيدة التّوحيد هذه كلّ شيء من الظّواهر والأفعال والأحوال ، إيجابيّة كانت أم سلبيّة ، إلى مشيئة وقدرة الله وحده. ومن هنا اندرجت الزّوجيّة والكثرة المتكاثرة وحتّى الضّدّيّة في أحديّة الذّات الإلهيّة ومشيئة الله الواحد الأحد "وأنّه خلق الزّوجين الذّكر والأنثى"( النّجم 45). وهو "الله خالق كلّ شيء وهو على كلّ شيء وكيل"(الزّمر 62). وقد تقرّر شرعا وفطرة أنّ للّه مرادا في كلّ ما خلق حيث قال :"وما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما لاعبين"(الأنبياء 16 والدّخان38) وأنذر فأعذر حيث قال :"وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعبا ولهوا..."(الأنعام70). وقال تعالى إثباتا لحقيقته الذّاتيّة : "ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل" (الحجّ62) وأنّه خلق الكون كلّه إثباتا لحقيقته فلا شيء في الوجود إلاّ وهو مستمدّ من حقيقة الله وقائم بها ومترجم عنها ، فقال :"ما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ"(الاحقاف3). وبهذا فإنّ الله تعالى قد أسّس المنظومة الكونيّة وقرينتها المنظومة المعرفيّة على حقيقة ومبدأ التّوحيد والحقّ. وجعل سبيلنا إلى معرفته ومعرفة الوجود وكلّ ما فيه معرفة توحيديّة يقينيّة بأن ننظر نظر تدبّر وتفكّر في مخلوقاته ونفكّك آياته الّتي إن هي إلاّ علامات على أسراره وهو القائل في ذلك: <<سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ>>(فصّلت53) وقوله: <<وفي الأرض آيات للموقنين* وفي أنفسكم أفلا تبصرون>>(الذّاريات21). ووفقا لهذه الحقيقة التّوحيديّة الصّرف انتظمت شواهد أحديّة الله وإثنينيّة الزّوجين من كلّ شيء والكثرة المتكاثرة من الكائنات المختلفة في منظومة واحدة متكاملة بحيث يؤيّد بعضها بعضا ويترجم جزؤها عن كلّيتها. وهو أمر مثبت في الطبيعة حيث ترى كلّية الجسد مختزلة في الخليّة ، بل في النّطفة كما أنّ المادّة كلّها مختزلة في الذّرّة حتّى أنّ الصّورة الكونيّة أرضا وشمسا وقمرا وكواكب كلّها تجد صورتها في الذّرّة على صغرها. فقد قال الله إثباتا لتوحيده وهو قيّوم السّماوات والأرض الّذي به تقوم عوالم الغيب وعوالم المحسوسات: <<وهو الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله>>(الزّخرف84) وقال مثبتا أحديّته في السّماء والأرض: <<لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا>>(الأنبياء22) وفي الحديث الشّريف: <<أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل>> وقال أبو العتاهية :<<وفي كلّ شيء له آية // تدلّ على أنّه الواحد>> وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: <<دواؤك فيك وما تبصر//وداؤك منك وما تشعر//وتزعم أنّك جرم صغير// وفيك انطوى العالم الأكبر>>.
* مراتب الوجود والوعي بها من خلال أقسام الدّين الثّلاثة :
وضمن هذه الرّؤية التّوحيديّة تقوم مراتب الوجود الثّلاث(10) المسمّاة :
1) الجبروت : وهو الوجود القديم حيث كان الله ولم يكن شيء غيره. وهو ما عنته آيات قرآنيّة كثيرة مثل قوله تعالى :<<هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا>>(الإنسان1). وبيّنته أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصّلاة والسّلام :<<كان الله ولم يكن شيء غيره>>(11).
2) الملكوت : وهي مرتبة الوجود الغيبيّ الرّوحانيّ والمعنويّ المتفرّع عن الجبروت والمتمثّل في عوالم الملائكة والجنّ خلقا وفي سائر المعنويّات. وقد وردت في بيان ذلك آيات قرآنيّة كثيرة منها :<<قل من بيده ملكوت كلّ شيء وهو يجير ولا يجار عليه>>(المؤمنون88) وأحاديث نبويّة كثيرة.
3) الملك : وهي مرتبة التّشيّء الماديّ المحسوس المتجسّد في كونيّة الأشياء. فمكوّنات عالم الملك هي الأجسام وسائر المحسوسات المادّيّة باعتبار مختلف هيئات المادّة من غاز وسائل وجماد. وهي محلّ ومظاهر الهيمنة الإلهيّة المطلقة على الوجود بأسره. وعالم بهذا المعنى هو عالم الحسّ والمشاهدة. ومن الآيات الّتي ورد فيها ذكر الملك بهذا المعنى قوله تعالى: <<للّه ملك السّماوات والأرض وما فيهنّ>> (المائدة 120) وقوله: <<لله ملك السّماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء>> (الشّورى 49).
ويقابل مراتب الوجود الثّلاث أقسام الدّين الثّلاثة الّتي حدّدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أجاب به جبريل عليه السّلام عندما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والسّاعة وعلاماتها في حديث يترجم منظومة المفاهيم الإسلاميّة وما تنطوي عليه من رؤيا وجوديّة ورؤية كونيّة شموليّة ومفاهيم معرفيّة تفصّل تلكما الرّؤيا والرّؤية وتؤصّل الأحكام الفقهيّة الّتي تحدّد جنس العمل بحسب تلك الأقسام الثّلاثة(12). وتبعا لذلك فأغلب ما يرد في القرآن أو السّنّة على وجه التّثليث فهو مستند إلى ثالوث عالم الجبروت وعالم الملكوت وعالم الملك. مثال ذلك ، الحديث الشّريف :<<ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النّار>>الشّيخان. فالأوّل: <<أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما>> متّصل بعالم الجبروت حيث لا موجود إلاّ الله. وقد جُمِعَ إليه الرّسولُ من باب التّحقّق بالتّوحيد الصّرف لكون الرّسول هو المبلّغ عن الله. وهذا مناط العقل من حيث حقيقة التّوحيد. والثّاني <<وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله>> يقابل عالم الملكوت ، عالم الأرْوَاحِ والمعاني العقليّة والأحاسيس النّفسيّة. وهذا مناط القلب بما هو القوّة البشريّة الباطنة بطون مكوّنات عالم الملكوت من مخلوقات غيبيّة كالملائكة والجنّ والجنّة والنّار. والثّالث <<وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النّار>> يقابل عالم الملك. فذكر النّار هنا إنّما يعني تسعّر عالم المادّة الحسّيّ. وهو متعلّق الجسد محلّ اللّذّة ومحلّ العذاب.
* تقابل الصّفات الإلهيّة والبنية الكونيّة والهيأة البشريّة :
على غرار التّثليث ، فإنّ جميع الأعداد ومعدوداتها تخضع إلى هذه الرّؤيا الفكريّة وتمظهراتها الكونيّة. وإن كان من العسير أن نفصّل القول في جميع الأعداد وجميع معدوداتها ضمن الرّؤيا التّوحيديّة الإسلاميّة ، فإنّنا نكتفي بذكر الأظهر منها والأكثر قربا من الأذهان وما نحتاجه منها فيما نحن بصدده من تحليل منظومة الخطاب الإسلاميّ من الوجهة الأدبيّة.
وسنشير إلى مدلول كلّ عدد يعرض لنا وتحصل به الفائدة في التّدرّج بهذه الدّراسة إلى غاياتها. من ذلك أنّ العدد سبعة 7 عدد مقدّس وله دلالته الخاصّة في هذا الباب. فالمسبّعات المذكورة في القرآن والسّنّة كثيرة جدّا. ولا بدّ لنا من كشف متعلّقات العدد 7 وكلّ تناظرات المسبّعات باعتبار تلك العوالم الثّلاثة (الجبروت والملكوت والملك) وباعتبار الذّات الإلهيّة (جبروتا) وباطن الوجود (ملكوتا) والصّورة الكونيّة الحسّيّة ومنها الذّات البشريّة بصورة خاصّة (ملكا)(13). ومن وراء ذلك ، تمظهرات هذا التّسبيع في النّصّ الدّينيّ من حيث هو نصّ مؤسّس على مبدأ تناظر مكوّناته اللّغويّة مع نصّ الكون ونصّ الذّات البشريّة(14).
ولكي تتّضح لنا مدلولات العدد 7 في هذا السّياق ، نذكر أوّلا أنّ مفهوم التّوحيد متعلّق بالوجود الإلهيّ الصّرف أزلا وأبدا. وأنّ من أسماء الله الحسنى اسمه "الواحد" و"الأوّل" وقد ورد في الحديث الشّريف :"إنّ الله وتر يحبّ الوتر". وبذلك وقعت الإشارة إلى أنّ الله واحد في ذاته واحد في وجوده أحديّة صرفا بحيث لا يتوهّم معه وجود غيره. ثمّ إنّه بناء على حقيقة ومفهوم أحديّة الله ، الأحديّة الكاملة ، ظهر مفهوم ومظهر الزّوجيّة. وقد تضمّن الخطاب الإسلاميّ إشارات كثيرة متعدّدة تفيد كلّها أنّ وجود المخلوقات ليس وجودا مفارقا لوجود الله تعالى ولكنّه مرتبة من مراتب الوجود تتمثّل في ظهور الزّوجيّة بمثابة وجود العدد 2 مضاعفا من العدد 1. فإذا كان الوجود الإلهيّ الصّرف مستعصيا عن الوصف والمعرفة بما هو عالم التّنزيه ، فإنّ عالم المخلوقات يمثّل المستوى الثّاني من الوجود الفائض عن الوجود الإلهيّ الأزليّ باعتبار عالم المخلوقات عالم ظهور صفات الله في مخلوقاته أي أنّ الله تعالى متجلّ في مخلوقاته وفي كلّ عوالم المادّة باسمه الظّاهر وما جرى مجراه من الأسماء والصّفات الإلهيّة. وحيث اعتبر الأزل مستوى الوجود الإلهيّ الصّرف المنزّه عن كلّ مظاهر الشّرك ، سواء بالغيريّة أو بالمثليّة ، لقوله تعالى :<<ليس كمثله شيء>>(الشّورى11) فإنّ ظهور المخلوقات بعد أن <<كان الله ولم يكن شيء غيره>> الحديث (البخاري،باب بدء الخلق) يمثّل مستوى ثانيا من الوجود غير مفارق للوجود الإلهيّ القديم الأوّل. فظهور المخلوقات إنّما هو مستوى ظهور صفات الله تعالى وهو مستوى الوجود المسمّى بعالم التّشبيه مقابل عالم التّنزيه وذلك مستفاد من صفتي الله تعالى <<السّميع البصير>>(الشّورى11) الواردتين في آيات قرآنيّة كثيرة من مثل كقوله : "ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة إنّ الله سميع بصير"(لقمان28) وقوله :<<والّذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إنّ الله هو السّميع البصير>>(غافر20). وقد ميّز المتصوّفة هذا المستوى الثّاني من الوجود المتمثّل في وجود المخلوقات وأطلقوا عليه اسم "الحظرة المحمّديّة" معتمدين في ذلك على كون أهمّ متعلّقات الذّات المحمّديّة ، إن لم تكن كلّها ، متّصلة بيوم الإثنين وما يختزله من دلالات الزّوجيّة والتّثنية. فقد ولد الرّسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين ونبّئ يوم الإثنين وهاجر من مكّة فدخل المدينة يوم الإثنين وتوفي يوم الإثنين. وبما أنّ حقيقة الرّسالة النّبويّة تتمثّل في تبليغ الموحى إليه (الرّسول) عن الموحي (الله) أي أنّ حقيقة الرّسالة هي إظهار معاني الوحي بواسطة الخطاب المسموع فإنّ الرّسول إنّما هو لسان الله يتكلّم بسم الله. كما يرفع أحدنا صوته متكلّما بما يختلج في باطنه فيسمع من نفسه بأذنيه ما يفيض به قلبه من كلام يجريه على لسانه. ولذلك سمّى المتصوّفة عوالم المخلوقات حظرة التّجلّي الإلهيّ وحضرة الصّفات الإلهيّة وهي المستوى الثّاني من الوجود.
وفي نفس هذا الصّدد نظر أهل العلم في متعلّقات آدم عليه السّلام فوجدوا أنّ متعلّقاته متّصلة بيوم الجمعة فيه خلق وفيه أدخل الجنّة وفيه خرج منها وفيه تزوّج حوّاء وفيه مات. ويوم الجمعة دليل على الكثرة المتكاثرة ولكنّها تلك الكثرة القائمة على حقيقة التّوحيد النّافيّة للشّرك. وفي الباب آيات كثيرة تذكر الأصل الواحد للكثرة الآدميّة من مثل قوله تعالى :"يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتّقوا الله الّذي تسّاءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبا"(النساء1). وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :<<كلّكم لآدم وآدم من تراب>>. كما تضمّنت آيات قرآنيّة كثيرة الإشارات الواضحة إلى كون الكثرة إنّما هي قائمة بسرّ وحقيقة التّوحيد ولولا حقيقة التّوحيد لما أمكن للكثرة المتكاثرة أن تقوم وأن تظهر. وذلك مستفاد من قوله تعالى: <<لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا>>(الأنبياء22) ومن قوله تعالى: <<وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون>>(الرّعد4)
وبناء على ما استقرّ من مفهوم التّوحيد الصّرف والإثنينيّة (الزّوجيّة) والكثرة المتكاثرة ، وأنّ الزّوجيّة والكثرة من لوازم التّوحيد الحقيقيّ ، بهما تظهر قدرة الله اللاّمتناهية ومشيئته النّافذة وإرادته الفاعلة وجميع صفاته الذّاتيّة ، أجمع أهل التّوحيد وأصحاب علم الكلام على أنّ للذّات الإلهيّة سبع صفات أساسيّة هي أصل جميع الصّفات المشار إليها بالأسماء الحسنى وكذلك الصّفات الأخرى المتفرّعة عنها. وتلك الصّفات الإلهيّة الأساسيّة السّبع هي : 1) القدرة 2) الإرادة 3) العلم 4) الحياة 1) السّمع 2) البصر 3) الكلام.(15) وجميع الصّفات الأخرى التي تدلّ عليها الأسماء الحسنى التّسعة والتّسعين وغيرها من أسماء الله الواردة أو المستفادة من القرآن والسّنّة إنّما هي متفرّعة عن السّبع صفات المذكورة. ويقابلها من جهة الكون ، السّبع السّماوات والسّبع الأراضين كما هو معلوم من القرآن والسّنّة. ويقابلها أيضا في تركيبة الزّمن أيّام الأسبوع السّبعة وهي أيّام تنطوي من حيث أسماؤها وترتيبها على معان ورموز قائمة على تكامل وانسجام المنظومة الكونيّة ومنظومة الخطاب الإسلاميّ. كما يقابل تلك الصّفات الإلهيّة السّبع والسّماوات الكونيّة السّبع والأراضين الكونيّة السّبع وأيّام الأسبوع السّبعة وجوارح الذّات البشريّة السّبع ومقامات النّفس البشريّة السّبعة ، جوارح الجسد البشريّ السّبع ، وهي : 1) اليد 2) الرّجل 3) العين 4) الأذن 5) اللّسان 6) البطن 7) الفرج من حيث ظاهر الذّات البشريّة. كما يقابلها مقامات النّفس السّبع ، أي تحوّلاتها الصّفاتيّة الأخلاقيّة ، من حيث باطن الذّات البشريّة ، وهي التّالية :1) النّفس الأمّارة بالسّوء 2) النّفس اللّوّامة 3) النّفس الملهمة 4) النّفس المطمئنّة 5) النّفس الرّاضية 6) النّفس المرضيّة 7) النّفس الكاملة.(16) هذا ، باعتبار الجوارح مكوّنات للجانب المادّي من الذّات البشريّة المتمثّل في الجسد الّذي هو بدوره يقوم قابلا للأرض من الكون عالم المُلْك الحسّيّ من ناحيةز وباعتبار مقامات النّفس البشريّة مكوّنات باطن الذّات البشريّة وهي من مشمولات عالم الملكوت مقابل السّبع سماوات في الصّورة الكونيّة بما هي عوالم الغيب من ناحية ثانية وباعتبار صفات الذّات الإلهيّة السّبع تفصيلا للأحديّة الإلهيّة المختصّة بمستوى الوجود المسمّى بالجبروت من ناحية ثالثة.
وإنّ لهذه المسبّعات ما يناظرها في منظومة الخطاب الإسلاميّ كتابا وسنّة. فمن الكتاب نذكر سورة الفاتحة وهي أمّ القرآن وهي السّبع المثاني من حيث أنّها نصّ فيه ما في القرآن كلّه إلى جانب أنّ القرآن نفسه فيه كلّ ما في الكتب السّماويّة السّالفة : التّورات والإنجيل والزّبور. وتتكوّن سورة الفاتحة من سبع آيات لا أكثر ولا أقلّ. وهي مقسومة ، كما ورد بذلك الحديث النّبويّ الصّحيح ، بين الله وعبده(17). أي بين مستوى الوجود الإلهيّ الغيبيّ الصّرف ، بما هو مستوى وجود التّنزيه حيث لا موجود إلاّ اللهّ ، وبين مستوى الوجود البشريّ الحسّيّ بما هو مستوى وجود التّشبيه حيث تقوم مخلوقات الله جميعا بقيّوميّة الله قيّوم السّماوات والأرض.
ومن السّنة نذكر ، ممّا يتعلّق بقراءة النّصّ القرآنيّ ، قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم : "أقرأني جبريل القرآن على سبعة أحرف ولو استزدّته لزادني"(18) فأشهر القراءات القرآنيّة سبع وهي محلّ الإجماع. والعمل بالنّصّ القرآني يخصّ الذّات البشريّة كلّها بجوارحها السّبع وكذلك مقاماتها النّفسيّة السّبعة. والدّليل على ذلك قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم :"أمرت بالسّجود على سبع"(19). والمقصود بهذه السّبع هي الجوارح السّبع رغم أنّ المتبادر إلى الأذهان ما يباشر الأرض من الجسد البشريّ في حالة السّجود بأن يضع السّاجد على الأرض جبينه وكفّيه وركبتيه وقدميه (الأصابع).
بهذا كلّه ، نرى مدى إحكام علاقة التّناظر بين الصّورة الحقيقيّة للذّات الإلهيّة من ناحية والصّورة المادّيّة الكونيّة من ناحية أخرى وصورة الذّات البشريّة من ناحية ثالثة.
* تقابل وحدات الصّفات الإلهيّة والكونيّة والبشريّة ومنظومة اللّغة العربيّة :
كما نرى بكلّ وضوح مدى تناظر وحدات الصّفات الثّلاث (الإلهيّة والكونيّة والبشريّة) مع مكوّنات الخطاب القرآنيّ من حيث هي علامات ورموز تحيل على البشريّ والكونيّ والإلهيّ ضمن المنظومة الفكريّة واللّسانيّة الإسلاميّة الّتي تجذّرت حتّى في حروف اللّغة العربيّة نفسها. فاللّغة العربيّة تتكوّن ، على المشهور ، من 28 حرفا وهي خاضعة بدورها ، إلى نفس علاقة ذلك التّناظر الّذي بيّنّاه آنفا. فإذا علمت أنّ عدد تلك الحروف المقطّعة أوّل السّور 14 حرفا ، بعدد نصف حروف الهجاء الـ 28 ، وهي : ( أ ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن ) ، ظهر لك حينئذ توافقها العدديّ مع جملة السّماوات والأراضين 14 بحيث أنّ منها 7 سبعة حروف ليّنة تقابل السّبع سماوات ، و7 السّبعة الحروف الباقية ، حروف صلبة ، تقابل السّبع أراضين. وحيث أنّ الله تعالى قد خلق من كلّ شيء زوجين فقد جعل من مظاهر زوجيّة الوجود والكون تقابلَ الظّاهر والباطن. وضمن الظّاهر ، كما هو أيضا ضمن الباطن ، جعل الله تعالى من كلّ شيء زوجين اثنين الذّكر والأنثى. فكما يوجد من الإنسان والحيوان والنّبات ضمن عالم الظّاهر المادّيّ الملموس زوجيّة الذّكر والأنثى فكذلك في عالم الباطن وفي عالم المعنى نجد هذه التّقابليّة بين المؤنّث والمذكّر وبين الشّيء ونقيضه وبين الإيجابيّ والسّلبيّ بصفة عامّة وفق قانون التّكامل بين الزّوجين من ذكر وأنثى وكذلك أيضا وفق علاقة تضادّ الشّيء ونقيضه بما تقتضيه مسيرة وتحوّلات الكينونة سلبا وإيجابا.
أمّا ورود الحروف المقطّعة الأربعة عشرة في مفتتح 29 سورة فقط فذلك ليقابل العدد 29 عدد أغلب ما يكون عليه الشّهر القمريّ من عدد الأيام. فإذا أخذت بعين الاعتبار أنّ القرآن يتكوّن من ستّين حزبا وأنّ الله قد خلق جملة السّماوات والأرض في ستّة أيّام وأنّ الحسنة بعشر أمثالها تأوّلت السّتين حزبا مقابل أيّام الخلق السّتة ، عشرة أحزاب لكلّ يوم خلق أي ما يقابل 10 حسنات قرآنيّة لكلّ يوم من تلك السّتّ الأيّام الأزليّة. ويؤيّد هذا أنّ قراءة القرآن يثاب صاحبها عن كلّ حرف عشر حسنات(20). وبالتّالي يظهر لك أنّ كلّ سنة تنقسم إلى اثني عشرة شهرا 2 X 6 أي إلى زوجين سداسيّين يقابلان زوجيّة الباطن والظّاهر. منهما سداسيّة (ستّة أشهر) تضمر وتبطن فيها مظاهر الحياة والكونيّة وهي أشهر الخريف والشّتاء ، والسّداسيّة الأخرى (ستّة أشهر) تظهر وتتجلّى فيها تكوّنات الحياة من اخضرار وإزهار الأشجار وتكوّن وينع الثّمار في فصلي الرّبيع والصّيف. ولا ننسى أنّ زوجيّة الأشهر 2X6 تتضمّن زوجيّة اللّيل والنّهار والشّمس للنّهار والقمر للّيل. وكما أنّ للشّمس ظهورها وغيابها وسطوعها وكسوفها فكذلك للقمر منازله وله سطوعه وخسوفه. وإذا كانت الشّمس تظهر بمفردها في السّماء فإنّ القمر يخالفها بأن يظهر ومعه النّجوم ملء السّماء. كلّ ذلك في نطاق التّناظر القائم بين وحدات الكون وهو تناظر ينتظم الوجود بأسره. وحيث أنّ الغالب على الشّهر القمريّ أن يكون تسعة وعشرين يوما ، والشّهر القمريّ هو المعتمد في التّقويم القرآنيّ لقول الله تعالى :"إنّ عدّة الشّهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدّين القيّم"(التّوبة36) ، فإنّ ورود السّور المفتتحة بالحروف المقطّعة 29 سورة(21) إنّما يمكن تأويله على أنّه جاء كذلك ليقابل أيّام الشّهر القمريّ الـ 29. ويقابل حروف اللّغة العربيّة الـ 29 حرفا ، باعتبار الهمزة حرفا والألف حرفا(22) مع الإبقاء على اعتبار حروف اللّغة المتّفق عليها 28 حرفا مقابل مطالع القمر الـ 28 في كلّ شهر ، وأنّ الاختلاف في اعتبار الألف والهمزة حرفين أو حرفا واحدا يقابله يوم انحجاب القمر آخر الشّهر. وإنّ من تلك 28 مطلعا 14 مطلعا لتنامي الهلال حتّى يكون بدرا ثمّ 14 مطلعا يتقلّص فيها القمر حتّى يغيب تماما ويحتجب ليلة آخر الشّهر قبل العود إلى الطّلوع في الشّهر الموالي(23).
وضمن الإشارة إلى ظاهرة التّوافق العددي هذه ، نذكر أيضا أنّ القرآن دستور الوجود جاء ستّين حزبا وأنّ الله خلق الكون سماوات وأراضين في ستّة أيّام وبهذا فإنّ كلّ يوم من أيّام الخلق يقابله ستّون حزبا وأنّ هذا العدد يجد ما يقابله كلّما نزلت في مراتب الزّمن فيقابله في كلّ ساعة ستّون دقيقة وفي كلّ دقيقة ستّون ثانية. وإذا اعتبرت اللّيل والنّهار 24 ساعة 12 ساعة للنّهار و12 ساعة للّيل وأنّ 12 ساعة زوج من 6 ساعات ، ظهرت لك تلك الزّوجية قائمة بين ساعات النّهار باعتبار نصفيه ، الأوّل من الصّبح حتّى الزّوال والثّاني من الزّوال حتّى الغروب. وكذلك شأن ساعات اللّيل تظلّ في تزايد بدءا من الغروب حتّى منتصف اللّيل فيبدأ بعد ذلك عدّها التّنازلي إلى الصّبح. بل إنّ ساعات اليوم كلّه مقسّمة أرباعا إذ يبدأ عدّ ساعات اليوم انطلاقا من منتصف اللّيل حتّى يبلغ إنثتي عشرة ساعة عند منتصف النّهار ثمّ يكون عدّ السّاعات بداية من الزّوال حتّى منتصف اللّيل. وبذلك يكون في الإثنتي عشرة ساعة الأولى نصف من اللّيل ونصف من النّهار. وكذلك يكون ، وبفس القدر ، في الإثنتي عشرة ساعة الأخرى. قال تعالى :"والشّمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم* لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في فلك يسبحون*"(يس38-40). وإنّ في ذلك إشارة ثابتة إلى كون القرآن دستور الوجود بأسره تدور سوره بما فيها من علم الله وأحكامه على مختلف وجوه الوجود وليس في الزّمان ولا في الكونيّة حيّز إلاّ وهو مشمول بدستور القرآن. ولذلك قال تعالى :"ما فرّطنا في الكتاب من شيء"(الأنعام38). وهو ما يستفاد أيضا من التّوافق العددي بين عدد ساعات اليوم 24 وبين عدد الحروف الهجائيّة في قوله تعالى :"إنّ الدّين عند الله الإسلام"(آل عمران19) 24 حرفا بعدد ساعات اليوم ليلا ونهارا. ومن ذلك أيضا ملاحظة تكوّن لفظة الإسلام من سبعة حروف على عدد جوارح الجسد البشريّ باعتبار تكاليف الإسلام موجّهة إلى جملة تلك السّبع الجوارح الّتي تمثّل ظاهر الذّات البشريّة في نطاق التّكليف بالعمل التّعبّديّ. وإذا حذفت (أل) التّعريف من لفظة الإسلام كان الاسم "إسلام" متكوّنا من 5 حروف مقابل أركان الدّين الحنيف الخمسة.
* إفادات أخرى من ظاهرة التّناظر العدديّ :
في نفس هذا السّياق جاء التّوافق بين عدد سنوات العمر الّتي بعث على رأسها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين عدد حروف شهادة التّوحيد ، بفكّ الحروف المضاعفة : <<أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله>> فعددها 40 حرفا على عدد سنوات عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أن بدئ بالرّسالة 40 سنة. وهو سنّ بلوغ قمّة الرّشد عند الإنسان عامّة لقول الله تعالى: <<ووصّينا الإنسان بوالديه حسنا حملته أمّه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتّى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك الّتي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذرّيّتي إنّي تبت إليك وإنّي من المسلمين>>(الأحقاف15). والأربعون سنة قبل بلوغ ذلك الرّشد هي بنفس عدد سنوات تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء :<<قال فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض>>(المائدة26) وهي تقابل الأربعين ليلة الّتي خصّ بها موسى عليه السّلام في تحديد ميقات ربّه حيث قال تعالى:<<وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة"(البقرة51) وقوله :"فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة>>(الأعراف142).
ونفس هذا التّناظر قائم أيضا بين معدودات العدد 4 في نطاق تناظر منظومة الكون ومنظومة الزّمن ومنظومة الذّات البشريّة من مثل قوله تعالى : <<فسيحوا في الأرض أربعة أشهر>>(التّوبة2) .
ذلك ، وقد استفاد بعض علماء العرب القدماء من ظاهرة الإعجاز العدديّ ومن حساب الجمّل في استخراج عدد الأنبياء من اسم خاتم النّبيّين "محمّد" صلّى الله عليه وسلّم وذلك بفكّ تضعيف حرف (م) وتفكيك جميع حروف الاسم صوتيّا كما يلي : ( ميم + حا + ميم + ميم + دال) وجمع ما يقابلها من الأعداد بحساب الجمّل(21) كما يلي : (40+10+40) +(8+1)+(40+10+40)+(40+10+40)+(4+1+30) = 314 رسول) وهو عدد المشتهر بين العلماء.
بعد هذه المقدّمات الّتي تضمّنت مفاتيح ضروريّة لتأويل النّصّ القرآني وتتبّع علاماته من حيث الإعجاز العدديّ وقد جمعت أشتات جهاز مفهوميّ وآليات نقديّة تجسّد الرّؤيا الإسلاميّة القرآنيّة لله وللكون وللإنسان ، يمكننا الآن أن نقرأ السّور المفتتحة بالحروف الهجائيّة المقطّعة ونتشوّف إلى التّأويل الأقرب لتلك الحروف.
III) تطبيقات القراءة :
III) – 1- سورة البقرة :
إذا تناولنا سورة (البقرة) بالقراءة في ضوء ما سلف ذكره ، تبيّن لنا أنّ أهمّ ما ذكر في سورة البقرة هي دعوة الله قوم بني إسرائيل إلى الإيمان به من حيث هو ربّ النّاس جميعا وربّ العالمين عامّة وأنّه ربّ موسى نبيّهم الّذي أرسله إليهم(22) وتبيّن لنا كذلك وبصورة واضحة أنّ سورة (البقرة) قد كثر فيها الحديث عن بني إسرائيل أكثر من أيّ شيء آخر. واستئناسا بالإعجاز العدديّ في القرآن الكريم نقول أنّ الآية الأولى الّتي ألحق الله فيها إسمه (الربّ) بظمير المخاطب (ك) هي الآية (30 من البقرة) وهي آية حواريّة موجّهة إلى الرّسول الأعظم سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم يخاطبه الله فيها مباشرة لكونه النّبيّ الرّسول الّذي أنزل عليه القرآن. فهو المتلقّي الأوّل والمسرود له في هذا النّصّ ومن ورائه بعد ذلك طبعا كلّ قارئ مؤمن من أمّته. وسياق الآية يدلّ على ذلك :
1) "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة" (البقرة 30)
أمّا الآيات الّتي خاطب الله فيها موسى ونسبه فيها إلى (الربّ ) في سورة البقرة فهي ستّ :
1) "فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها" (البقرة 61)
2) "قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي" (البقرة 68)
3) "قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها" (البقرة 69)
4) "قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا" (البقرة 70)
5) "الحقّ من ربّك فلا تكونن من الممترين" (البقرة 147)
6) "وإنّه للحقّ من ربّك وما الله بغافل عمّا تعملون" (البقرة 149).
هذا مع ملاحظة أنّ الإسم (ربّ) يشير إلى علاقة الله بمخلوقاته المختلفة على وجه أكثر خصوصيّة من تلك العلاقة الّتي يشير إليها إسم (الله) وذلك باعتبار الرّبوبيّة صفة اللّه المربّي لمخلوقاته بما تقتضيه التّربية من اتّصال مباشر ورحمة ، بينما يبقى اسم (الله) أكثر شمولا وأكثر تعميما(23).
وإذا ضممنا إلى هذه الآيات القرآنيّة السّبع حديث الإسراء حيث ذكر رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم عروجه إلى ما فوق السّماء السّابعة ومشاهدته ربّه عند سدرة المنتهى ومشافهته له بفرض الصّلوات الخمس وأنّه صلّى الله عليه وسلّم لقي موسى في السّماء السّادسة فكان ينصحه المرّة تلو المرّة بالرّجوع إلى ربّه وطلب التّخفيض من عدد الصّلوات حتّى صارت الخمس المعروفة بعد أن فرضت في البدء خمسين صلاة (انظر حديث الإسراء)(24) ، أمكننا أن نفهم من ذلك وقوع الإشارة إلى أنّ موسى عليه السّلام في السّماء السّادسة باعتبارها إشارة إلى مرتبة موسى عليه السّلام بين الأنبياء ، وخاصّة مرتبته بإزاء مرتبة نبيّ الإسلام محمّد عليه الصّلاة والسّلام ، وما تختزله تلك المرتبة وما يجسّده موسى من معان وما يدلّ عليه من أسرار ضمن منظومة أيات الوجود كلّه ومنظومة المتن الدّيني الإسلامي خاصّة. وبالتّالي فإنّ لموسى عليه السّلام تلك المرتبة السّادسة (السّماء السّادسة أي قبل السّماء الأخيرة/السّابعة) وأنّه بالتّالي ليس موكولا له ولا مطلوبا منه أن ينبئ عن كمال الوجود ، وأنّ أقصى ما تختزله رسالته هو الإشارة إلى مضمون ومفهوم اليوم السّادس وما دونه من الأيّام الّتي خلق الله فيها الكون أرضا وسماء. ويؤيّدنا في هذا المنحى التّأويليّ الّذي توخّيناه تكرّر ذكر خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام ، في القرآن كلّه ، سبع مرّات لا أكثر ولا أقلّ ، وهي :
1) "إنّ ربّكم الله الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام" (الأعراف 54)
2) "إنّ ربّكم الله الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام " (يونس 3)
3) "و
الإهداء : إلى روح شيخي القطب الرّبّانيّ الكامل : إسماعيل الهادفيّ ، رضي الله عنه وأرضاه.
*******
مقدّمات لدراسة دلالة الحروف المقطّعة أوّل السّور القرآنيّة
أ- تطبيقات على سورة البقرة:
I) منطلقات القراءة :
ما تزال الحروف الهجائيّة الواردة في أوّل بعض سور القرآن الكريم تمثّل لغزا عصيّا وسرّا مستغلقا وذلك رغم كثرة من أجال فيها الفكر وقلّب فيها النّظر. وحيث أنّه قد توفّرت لدينا اليوم مناهج جديدة لدراسة النّصوص فإنّه قد بات في متناول أهل الإختصاص من دارسيّ الأدب والمناهج الحديثة في النّقد الأدبيّ أن ينكبّوا على دراسة النّصّ القرآنيّ دراسة أدبيّة. ولا ضير في ذلك خاصّة وأنّ الله تعالى قد أشار في كتابه العزيز إلى جوانب أدبيّة القرآن من حيث أنّه إبداع إلهيّ بلسان عربيّ غير ذي عوج جرى على أسلوب فنّيّ فريد. ثمّ إنّ الله تعالى أمر عباده بأن يتدبّروا القرآن ويقفوا على مظاهر الإعجاز فيه. ولا شكّ أنّ فكّ رموز النّصّ القرآني وفهم إشاراته لا يكون إلاّ بالتّعرّف إلى خصائصه الفنّيّة ومميّزاته النّصّيّة من النّاحية الأدبيّة الصّرف.
ولعلّ أبا الأعلى المودودي هو الأبرز بين دارسيّ القرآن القلائل الّذين تناولوا النّصّ القرآنيّ من النّاحية الأدبيّة البحتة إلى جانب المقاربة التّاريخيّة من حيث ظروف نزول القرآن زمانا ومكانا وأسباب النّزول وعلاقتها بمضامين السّور ، وذلك في كتابه المتميّز "تفهيم القرآن" الّذي يقول عنه ضمن مقدّمته : "أودّ أن أجيب مسبقا على بعض من الأسئلة الّتي تثور عادة في ذهن الدّارس أثناء تناوله للقرآن وقد اقتصرت على الأسئلة الّتي طرأت على ذهني شخصيّا عندما شرعت في دراستي النّقديّة للقرآن"(1)
وقد سلكت الدّكتورة عائشة بنت عبد الرّحمان – بنت الشّاطئ – هي الأخرى ، منهج الدّراسة الأدبيّة في شرح بعض قصار السّور(2).
وقد عرف العرب القدماء المنهج الوصفيّ في دراسة النّصوص. يقول الدّكتور رمضان عبد التّوّاب: "والاهتمام بالشّكل في المقام الأوّل ، مع عدم الإنصراف عن أخذ المعنى في الحسبان ، هو أحد المبادئ المقرّرة عند البنيويّين. فقد كان بلومفيلد Bloomfild وهو من أتباع هذه المدرسة مثلا يقرّر أنّ اعتبار المعاني يعدّ أضعف نقطة في دراسة اللّغة ( أنظر كتابه Language ص140). والمتصفّح للمؤلّفات النّحويّة العربيّة يرى هذا المبدأ هو المسيطر على الفكر النّحويّ عند النّحاة العرب منذ سيبويه (...). وإذا تركنا المدرسة البنيويّة إلى المدرسة التّحويليّة نجد أنّها تنادي في الوقت الحاضر بشيء من المبادئ الّتي فطن إليها نحاة العربيّة وإن لم يسمّوها بالأسماء المعروفة الآن عند أتباع هذه المدرسة. فمن مبادئ النّحو التّحويليّ مثلا المبدأ الّذي سمّي في بعض التّراجم العربيّة باسم :(البنية العميقة)Deep structure و(البنية السّطحيّة) Surface structure ونؤثر نحن أن نسمّيه (التّركيب المقصود) و(التّركيب الظّاهر) (أنظر كتابنا : المدخل إلى علم اللّغة 190) وهذا ما عبّر عنه نحاة العربيّة أحيانا بالأصل والفرع ، أو ظاهر اللّفظ والمراد منه (...). أمّا فكرة "التّوليد" وإنتاج عدد غير متناه من الجمل ، بناءً على القواعد الرّاسخة في عقل الجماعة المتكلّمة بلغة مّا ، فإنّها فكرة لم تكن غائبة عن ذهن نحاة العربيّة القدماء. وهذا هو عبد القاهر الجرجاني ، صاحب "نظريّة النّظم" المعروفة في التّراث النّقديّ العربيّ ، يقول :"وإذا عرفت أنّ مدار أمر النّظم على معاني النّحو ، وعلى الوجوه والفروق الّتي من شأنها ان تكون فيه ، فاعلم أنّ الفروق والوجوه كثيرة ، ليس لها غاية تقف عندها ، ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها. ثمّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض الّتي يوضع لها الكلام ثمّ بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض"(دلائل الإعجاز87) كما يقول في موضع آخر :"واعلم أنّ ممّا هو أصل في أن يدقّ النّظر ويغمض المسلك في توخّي المعاني الّتي عرفت : أن تتّحد أجزاء الكلام ، ويدخل بعضها في بعض ويشتدّ ارتباط ثان منها بأوّل ، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النّفس وضعا واحدا ، وأن يكون حالك فيها حال الباني ، يضع بيمينه هنا في الحال ، ما يضع بيساره هناك.. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدّ يحصره ، وقانون يحيط به ، فإنّه يجيء على وجوه شتّى وأنحاء متفرّقة"(دلائل الإعجاز93)"(3). فلقد رأيت أنّ الجرجاني يصف عمليّة الكتابة وإبداع النّصّ بأنّها عملية بناء قائلا "وأن يكون حالك فيها حال الباني". وبهذا لا يبقى من سبيل إلى نكران سبق الجرجاني إلى مصطلح (بناء النّصّ) وبالتّالي إلى نظريّة ومصطلح (البنيويّة) بذكر لفظ "الباني" وتشبيه مؤلّف النّصّ بـ"الباني". غير أنّ دارسيّ النّصوص من العرب القدماء لم يلتزموا هذا المنهج الوصفيّ بالقدر الّذي تظهر معه آلياته ومزاياه وتتحقّق النّتائج المرجوّة منه. فقد ظلّ عملهم به من باب الطّرافة لا أكثر ، بل لعلّهم رأوا في ذلك بذخا فكريّا لا تدعو الحاجة إليه ، ولم نر من أثر هذا المنهج الوصفيّ الإحصائيّ في الدّراسات النّصّيّة القديمة إلاّ القليل النّادر مستفيدا استفادة جدّ محدودة من ظاهرة الإعجاز العدديّ في النّصّ القرآنيّ مثلا. فقد كان ابن عبّاس رضي الله عنهما يستنبط ترتيب ليلة القدر أيّ ليلة هي في شهر رمضان استنباطا من عدد وترتيب كلمات سورة "القدر" إلى قوله "هي" ومن عدد حروف "ليلة القدر" وقد ذكرت ثلاث مرّات في السّورة وفي كلّ مرّة منها تسعة أحرف ، فهي سبعة وعشرون حرفا من ضرب ثلاثة في تسعة. كما استنتج أبو بكّر الورّاق أيّ ليلة هي ليلة القدر باعتماد إحصاء عدد الحروف وعدد الكلمات والنّظر في طريقة نظمها في سورة "القدر". وقد نقل القرطبيّ في تفسيره عن أبي بكّر الورّاق:"إنّ اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشّهر على كلمات هذه السّورة فلمّا بلغ السّابعة والعشرين أشار إليها فقال " هي". وقال أيضا مصوّرا استنتاجها في نفس اللّيلة: "إنّ (ليلة القدر) كرّر ذكرها ثلاث مرّات وهي تسعة أحرف فتجيء سبعا وعشرين"(4).
ولعلّ أهمّ من استفاد من هذا المنهج هم كبار المتصوّفة الّذين اعتمدوا بعض آليات هذا المنهج في تأويلاتهم وتخريجاتهم لمعاني نصوص من القرآن والأحاديث والحكم والأشعار بالرّغم من أنّهم لم يبلوروا هذا المنهج ولم يحدّدوا آلياته واكتفوا بأن طرحوا نتائجه على أنّها عرفانيّة ذوقيّة تقع لهم عادة في شكل ما اصطلحوا عليه بالواردات الرّحمانيّة وهم يعنون بذلك إلهامات تقذف في قلوبهم.
ونظرا لما شهدته الآداب العالميّة المعاصرة من تطوّرات مهمّة بظهور مناهج جديدة تخصّ القراءة والتأويل ، فقد تأكّدت ضرورة إعادة قراءة النّصوص ، مقدّسة أم بشريّة ، ومنها النّصّ القرآني ، لتتبّع ملامح خصوصيّته الأسلوبيّة واستشراف آفاق تأويلاته الواسعة من خلال علاقة الدّلالات بالخصائص الفنّيّة في بنية النّصّ القرآني باعتبار السّور نصوصا ذات أدبيّة متميّزة ، بل ذات خصائص إعجازيّة بيانيّة وفنّيّة أكّدها القرآن نفسه من عدّة جوانب. ولهذا رأيتني مدفوعا إلى قراءة القرآن قراءة وصفيّة سميائيّة متشوّفا بصورة خاصّة إلى معرفة حقيقة الحروف المقطّعة الّتي افتتح الله بها بعض السّور ، في محاولة منّي لكشف العلاقة بين تلك الحروف وبين بقيّة مكوّنات النّصّ القرآنيّ ضمن تكامل البناء الفنّي لكلّ سورة من تلك السّور وعلاقة الشّكل بالمضمون غير مستبعد أيّة آليّة نقديّة يمكن أن تعضد هذه القراءة ، ومحاولا في ذلك أن أزاوج بين الذّوق الصّوفيّ وطريقتهم في بسط رؤاهم العرفانيّة من ناحية وبين طريقة اشتغال المنهج النّقدي الأدبيّ الوصفيّ البنيويّ من ناحية أخرى واعتماد نظريّة الإعجاز العددي في القرآن من ناحية ثالثة لعلّه يتسنّى لنا تحقيق نتائج المنهج العرفانيّ الصّوفي ، فيما توصّل إليه ، بآليات مناهج النّقد الأدبيّ المعاصرة والذّهاب في هذه الوجهة إلى أبعد الآفاق الممكنة وذلك برغم الخلاف حول (الشّفرة الرّقميّة للقرآن) ومعارضة مؤسّسات إسلاميّة كمجمع البحوث الإسلاميّة التّابع للأزهر(5).
II – من عتبات النّصّ القرآني :
بداية ، نقول إنّه لمّا كانت أسماء السّور هي العتبة الأولى للقراءة ولمعرفة المضمون فقد وجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ تسمية السّور توقيفيّة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقد استندت التّسمية إلى ما تميّزت به كلّ سورة من ناحية مضمونها فسمّيت سورة "البقرة" لورود قصّة بقرة بني إسرائيل فيها(6) كما سمّيت سورة "الإسراء" لتضمّنها ذكر معجزة الإسراء. فعن ابن كثير في تفسيره :(قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : "لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النّساء وكذا القرآن كلّه ولكن قولوا السّورة الّتي يذكر فيها البقرة والّتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كلّه")(7). وهذا الحديث ، وإن اعتبره ابن كثير حديثا غريبا وعلّل ذلك بكون أحد رواته وهو عيسى بن ميمون ضعيف الرّواية ولا يحتجّ به ، فإنّنا نكتفي منه بكون السّلف قد ميّزوا إجرائيّا بين عنوان النّصّ القرآنيّ ومحتواه المتعدّد وأنّهم سمّوا السّورة استنادا إلى ما ذكر فيها بوجه خاصّ أو ما استغرق ذكره الحيّز الأكبر من مضمونها. وأمّا الّذي بقي لافتا للانتباه حقّا ومستدعيا للفضول هو أنّ تلك الحروف المقطّعة في مفتتح بعض السّور بقيت لغزا مستغلقا يتهيّبه القارئ العاديّ وَالمتبرّك والمفسّر التّقليديّ على حدّ سواء. كما ظلّ يستبعده المفسّر الحداثيّ رغم تجهّزه بأحدث أدوات القراءة ومناهج النّقد النّصّيّ.
ولعلّ تلك الحروف ، زيادة على ما ذهب إليه كثير من المفسّرين في تدليلهم على أنّها ملمح من ملامح الإعجاز البيانيّ في القرآن ، وزيادة على كثرة تأويلاتهم لها وهي تأويلات لم تتجاوز مجرّد الافتراض والتّخمين ولم تستند إلى ما يدعمها من ناحيّة أدبيّة النّصّ القرآنيّ ذاته(8) ، لا تعدو أن تكون إلاّ لأحد الأهداف التّالية :
1) إمّا أنّها وضعت علامات لتمييز السّور بعضها عن بعض وذلك قبل تسمية السّور. وهو احتمال ليس بالهيّن رغم أنّ تلك الحروف الهجائيّة لم توضع أوّل جميع سور القرآن الكريم. لأنّ هذا الإجراء تأسيسيّ ولا ينبغي له بالضّرورة أن يشمل جميع السّور. بل يعمل به على قدر ما يحقّق المقصود. هذا مع الإشارة إلى كون الرّسول نفسه صلّى الله عليه وسلّم كان أيضا يعلم انتهاء السّورة وابتداء الأخرى بنزول <<بسم الله الرّحمان الرّحيم>>(9). ثمّ إنّ تميّز بعض السّور فقط بتلك الحروف المقطّعة له وجه من التّأويل لا يستهان به. وسنبسط فيه القول لاحقا عند الإشارة إلى أنّ عدد السّور المفتتحة بتلك الحروف 29 سورة على عدد حروف هجاء اللّغة العربيّة بالنّظر إلى الخلاف هل أنّ الألف حرفا والهمزة حرفا أم أنّهما حرف واحد؟!
2) وإمّا أن تكون تلك الحروف المقطّعة بمثابة عناوين أو علامات تختزل مضامين تلك السّور الّتي اختصّها الله بذلك لتشير إشارة ملغزة إلى أخصّ ما ذكر فيها كأن تلغز إلى شخصيّة محوريّة أو إلى موضوع أساس في هذه السّورة أو تلك؟!
3) وإمّا أن تكون وضعت في نطاق الإعجاز العدديّ للقرآن احتراما للقاعدة الّتي جرى عليها القرآن من حيث عدد حروفه وآياته وسوره. فقد توصّل بعض النّاظرين في الظّواهر الشّكليّة للنّصّ القرآنيّ إلى إثبات أنّ جميع مكوّنات النّصّ القرآنيّ الشّكليّة من حيث عدد الكلمات وعدد الحروف وعدد الآيات وعدد السّور وما إلى ذلك إنّما هي ضارب العدد 19. فسورة ( ص ) مثلا ورد فيها حرف الصّاد في 56 كلمة. ولذلك زيد حرف ( ص ) في أوّل السّورة في نطاق العمل بقاعدة الإعجاز العددي. وبذلك صار عدد حرف الصّاد في سورة ( ص ) 57 مرّة وهو ضارب عدد 3X19. وكذلك الشّأن في سورة ( ق ) حيث ورد حرف ( ق ) على نفس هذه القاعدة الحسابيّة.
4) وإمّا أن تكون تلك الحروف المقطّعة أوذل السّور لمجرّد تكثيف الإشارة إلى لفظة مخصوصة تدور حولها جملة معاني السّورة وذلك خاصّة إذا تقدّم السّورة حرف واحد.
في دلالة التّناظر بين صفات الذّات الإلهيّة ومكوّنات الكون وجوارح الإنسان
II- تأسيسيّة الخطاب الدّينيّ كتابا وسنّة :
قبل أن نشرع في محاولة تفكيك علامات النّصّ القرآنيّ والاجتهاد في التّعرّف إلى ما فيه من رموز من حيث البنية النّصّيّة الأدبيّة وتضافر علاماتها اللّغويّة في تأسيس الدّلالة وبلورة المعاني نذكّر بأنّ الخطاب ، أيّ خطاب كان ، لا يمكنه أن يصدر عن فراغ ولا أن يتأسّس في فراغ. بل لا بدّ له أن يتكوّن داخل رؤيا معيّنة متكاملة وبتوظيف علامات مخصوصة ووحدات من العلامات تترجم تلك الرّؤيا وتكوّن بدورها مرجعيّة فنّيّة متكاملة ضمن رؤية فكريّة كونيّة توحّد بين الدّال العَلاَمَاتيّ والمدلول الرّؤيويّ وتشفّر المعاني والدّلالات لتعطي النّصّ أبعاده التّداوليّة المتعدّدة بتعدّد مستويات الخطاب وتعدّد القراءات ضمن الممارسة الثّقافيّة وما ينتج عنها من منجزات حضاريّة عبر مسيرة تاريخيّة مقترنة بصيرورة متنامية مستبطنة لتلك الرّؤيا ومغذّية لمرجعيّتها العلاماتيّة من خلال التّفاعل النّقديّ الذّاتيّ الدّاخليّ بين الأنا (ذاتا) والأنا (موضوعا) والتّفاعل الاتّصاليّ الثّنائيّ الخارجيّ بين الأنا والآخر على حدّ سواء عبر العلاقات التداوليّة بين النّصّ ومحيطه. ذلك أنّ شرط كلّ مرجعيّة أن تكون في جملتها رؤيا حقيقة فكريّة ورؤية كون فنّيّة يتحدّد من خلالهما الموقف الفكريّ وما يجب له من فعل وردّ فعل. ومن هنا تقوم ضرورة انطواء تلك المرجعيّة على نظريّة فكريّة كلّيّة متجانسة متكوّنة بدورها من جملة وحدات نظريّة متضافرة تترجمها منظومة معرفيّة خاصّة ضمن ممارسة ثقافيّة وحضاريّة متميّزة على مستوى اللّغة والكتابة والتّشكيل الفنّيّ والعلاقة التّواصليّة بصورة خاصّة وفي كلّ مجالات الحياة والنّشاط الإنسانيّ بصورة عامّة.
فالمفكّر المثاليّ المعوّل على دور العقل وحده ينطلق في تحليله للواقع الإنسانيّ والكونيّ من التّصوّرات العقليّة الصّرف. أمّا الوجوديّ فله نظريّة مختلفة تحصر تعاملها مع الإنسان وللإنسان من حيث هو مشروع نفسه. في حين أنّ الماركسيّ يكوّن خطابه المعرفيّ وممارسته الثّقافيّة وفق مرجعيّته الفكريّة المؤسّسة على النّظريّة القائلة بأنّ البنى التّحتيّة ، الاقتصاديّة منها على وجه الخصوص ، هي الّتي تحدّد البنى الفوقيّة (الدّين والقيم والثّقافة والأخلاق العامّة) وأنّ الأمر خاضع إلى ميكانيزمات الجدليّة والحتميّة المادّيّة لا غير.
والنّظريّة السّيكولوجيّة الفروديّة (نسبة إلى فرويد S.Freud ) ترى أنّ المنجزات الثّقافيّة والحضاريّة الإنسانيّة إنّما هي نتيجة تحويل للقوى الغريزيّة المكبوتة وأنّ الإنسان كائن مقموع من المهد إلى اللّحد بحيث ينفي التّحليل السّيكولوجي للإنسان أيّ عمق روحيّ وأيّ بعد غيبيّ.
وعلى هذه الخلفيّة ، إذا نظرنا إلى الأساطير وجدناها تكوّن عالما خاصّا تكيّفه رؤية الإنسان للكون رؤية محدّدة ورؤياه للوجود رؤيا خاصّة تستندان إلى مبدأ صراع الآلهة. وأمّا الدّين ، وبصورة خاصّة دين الإسلام بما هو دين إلهيّ كتابيّ يتميّز بصدقيّة وواقعيّة خطابه بعيدا عن كلّ تحريف ، فإنّه يترجم الرّؤيا والرّؤية الإلهيّتين للوجود والكون. ولا شكّ أنّ علينا تبعا لذلك ، إذا أردنا أن نتبيّن طبيعة وخصوصيّات تلكما الرّؤيا والرّؤية المكوّنتين للمنظومة المعرفيّة الإسلاميّة ، أن نحلّل ونتفهّم النّصّ الإسلاميّ ، القرآنيّ منه والنّبويّ ، من حيث أنّهما النّصّان المؤسّسان للمرجعيّة الإسلاميّة بكلّ علاماتها ومدلولاتها تصوّرا كونيّا ، عقيدة وسلوكا ، أو قل نظريّة ًفكريّة وممارسة ثقافيّة ً عمليّة ومنجزا حضاريّا مادّيّا.
* وحدة الوجود وتعدّد الشّهود :
وبما أنّ الإسلام دين كتابيّ يوحّد الله ويعتبر جميع المخلوقات وكلّ أفعالها وأحوالها من خلق الله وحده لا شريك له في ذلك ولا ندّ ولا معين ، فقد تأسّست عقيدة أهل السّنّة من أشاعرة ومتصوّفة على مبدأ توحيد الله تعالى مقدّرا وخالقا ومدبّرا لجميع المخلوقات الظّاهرة والخفيّة دنيا وآخرة. وضمن عقيدة التّوحيد هذه ، انتظمت جميع التّصوّرات والمفاهيم المتعلّقة بالذّات الإلهيّة وبالمخلوقات ملائكة وجنّا وإنسانا وحيوانا ونباتا وجمادا "يخلق ما يشاء وهو على كلّ شيء قدير"(المائدة17) و"سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون"(يس36). وأسندت عقيدة التّوحيد هذه كلّ شيء من الظّواهر والأفعال والأحوال ، إيجابيّة كانت أم سلبيّة ، إلى مشيئة وقدرة الله وحده. ومن هنا اندرجت الزّوجيّة والكثرة المتكاثرة وحتّى الضّدّيّة في أحديّة الذّات الإلهيّة ومشيئة الله الواحد الأحد "وأنّه خلق الزّوجين الذّكر والأنثى"( النّجم 45). وهو "الله خالق كلّ شيء وهو على كلّ شيء وكيل"(الزّمر 62). وقد تقرّر شرعا وفطرة أنّ للّه مرادا في كلّ ما خلق حيث قال :"وما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما لاعبين"(الأنبياء 16 والدّخان38) وأنذر فأعذر حيث قال :"وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعبا ولهوا..."(الأنعام70). وقال تعالى إثباتا لحقيقته الذّاتيّة : "ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل" (الحجّ62) وأنّه خلق الكون كلّه إثباتا لحقيقته فلا شيء في الوجود إلاّ وهو مستمدّ من حقيقة الله وقائم بها ومترجم عنها ، فقال :"ما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ"(الاحقاف3). وبهذا فإنّ الله تعالى قد أسّس المنظومة الكونيّة وقرينتها المنظومة المعرفيّة على حقيقة ومبدأ التّوحيد والحقّ. وجعل سبيلنا إلى معرفته ومعرفة الوجود وكلّ ما فيه معرفة توحيديّة يقينيّة بأن ننظر نظر تدبّر وتفكّر في مخلوقاته ونفكّك آياته الّتي إن هي إلاّ علامات على أسراره وهو القائل في ذلك: <<سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ>>(فصّلت53) وقوله: <<وفي الأرض آيات للموقنين* وفي أنفسكم أفلا تبصرون>>(الذّاريات21). ووفقا لهذه الحقيقة التّوحيديّة الصّرف انتظمت شواهد أحديّة الله وإثنينيّة الزّوجين من كلّ شيء والكثرة المتكاثرة من الكائنات المختلفة في منظومة واحدة متكاملة بحيث يؤيّد بعضها بعضا ويترجم جزؤها عن كلّيتها. وهو أمر مثبت في الطبيعة حيث ترى كلّية الجسد مختزلة في الخليّة ، بل في النّطفة كما أنّ المادّة كلّها مختزلة في الذّرّة حتّى أنّ الصّورة الكونيّة أرضا وشمسا وقمرا وكواكب كلّها تجد صورتها في الذّرّة على صغرها. فقد قال الله إثباتا لتوحيده وهو قيّوم السّماوات والأرض الّذي به تقوم عوالم الغيب وعوالم المحسوسات: <<وهو الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله>>(الزّخرف84) وقال مثبتا أحديّته في السّماء والأرض: <<لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا>>(الأنبياء22) وفي الحديث الشّريف: <<أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل>> وقال أبو العتاهية :<<وفي كلّ شيء له آية // تدلّ على أنّه الواحد>> وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: <<دواؤك فيك وما تبصر//وداؤك منك وما تشعر//وتزعم أنّك جرم صغير// وفيك انطوى العالم الأكبر>>.
* مراتب الوجود والوعي بها من خلال أقسام الدّين الثّلاثة :
وضمن هذه الرّؤية التّوحيديّة تقوم مراتب الوجود الثّلاث(10) المسمّاة :
1) الجبروت : وهو الوجود القديم حيث كان الله ولم يكن شيء غيره. وهو ما عنته آيات قرآنيّة كثيرة مثل قوله تعالى :<<هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا>>(الإنسان1). وبيّنته أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصّلاة والسّلام :<<كان الله ولم يكن شيء غيره>>(11).
2) الملكوت : وهي مرتبة الوجود الغيبيّ الرّوحانيّ والمعنويّ المتفرّع عن الجبروت والمتمثّل في عوالم الملائكة والجنّ خلقا وفي سائر المعنويّات. وقد وردت في بيان ذلك آيات قرآنيّة كثيرة منها :<<قل من بيده ملكوت كلّ شيء وهو يجير ولا يجار عليه>>(المؤمنون88) وأحاديث نبويّة كثيرة.
3) الملك : وهي مرتبة التّشيّء الماديّ المحسوس المتجسّد في كونيّة الأشياء. فمكوّنات عالم الملك هي الأجسام وسائر المحسوسات المادّيّة باعتبار مختلف هيئات المادّة من غاز وسائل وجماد. وهي محلّ ومظاهر الهيمنة الإلهيّة المطلقة على الوجود بأسره. وعالم بهذا المعنى هو عالم الحسّ والمشاهدة. ومن الآيات الّتي ورد فيها ذكر الملك بهذا المعنى قوله تعالى: <<للّه ملك السّماوات والأرض وما فيهنّ>> (المائدة 120) وقوله: <<لله ملك السّماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء>> (الشّورى 49).
ويقابل مراتب الوجود الثّلاث أقسام الدّين الثّلاثة الّتي حدّدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أجاب به جبريل عليه السّلام عندما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والسّاعة وعلاماتها في حديث يترجم منظومة المفاهيم الإسلاميّة وما تنطوي عليه من رؤيا وجوديّة ورؤية كونيّة شموليّة ومفاهيم معرفيّة تفصّل تلكما الرّؤيا والرّؤية وتؤصّل الأحكام الفقهيّة الّتي تحدّد جنس العمل بحسب تلك الأقسام الثّلاثة(12). وتبعا لذلك فأغلب ما يرد في القرآن أو السّنّة على وجه التّثليث فهو مستند إلى ثالوث عالم الجبروت وعالم الملكوت وعالم الملك. مثال ذلك ، الحديث الشّريف :<<ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النّار>>الشّيخان. فالأوّل: <<أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما>> متّصل بعالم الجبروت حيث لا موجود إلاّ الله. وقد جُمِعَ إليه الرّسولُ من باب التّحقّق بالتّوحيد الصّرف لكون الرّسول هو المبلّغ عن الله. وهذا مناط العقل من حيث حقيقة التّوحيد. والثّاني <<وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله>> يقابل عالم الملكوت ، عالم الأرْوَاحِ والمعاني العقليّة والأحاسيس النّفسيّة. وهذا مناط القلب بما هو القوّة البشريّة الباطنة بطون مكوّنات عالم الملكوت من مخلوقات غيبيّة كالملائكة والجنّ والجنّة والنّار. والثّالث <<وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النّار>> يقابل عالم الملك. فذكر النّار هنا إنّما يعني تسعّر عالم المادّة الحسّيّ. وهو متعلّق الجسد محلّ اللّذّة ومحلّ العذاب.
* تقابل الصّفات الإلهيّة والبنية الكونيّة والهيأة البشريّة :
على غرار التّثليث ، فإنّ جميع الأعداد ومعدوداتها تخضع إلى هذه الرّؤيا الفكريّة وتمظهراتها الكونيّة. وإن كان من العسير أن نفصّل القول في جميع الأعداد وجميع معدوداتها ضمن الرّؤيا التّوحيديّة الإسلاميّة ، فإنّنا نكتفي بذكر الأظهر منها والأكثر قربا من الأذهان وما نحتاجه منها فيما نحن بصدده من تحليل منظومة الخطاب الإسلاميّ من الوجهة الأدبيّة.
وسنشير إلى مدلول كلّ عدد يعرض لنا وتحصل به الفائدة في التّدرّج بهذه الدّراسة إلى غاياتها. من ذلك أنّ العدد سبعة 7 عدد مقدّس وله دلالته الخاصّة في هذا الباب. فالمسبّعات المذكورة في القرآن والسّنّة كثيرة جدّا. ولا بدّ لنا من كشف متعلّقات العدد 7 وكلّ تناظرات المسبّعات باعتبار تلك العوالم الثّلاثة (الجبروت والملكوت والملك) وباعتبار الذّات الإلهيّة (جبروتا) وباطن الوجود (ملكوتا) والصّورة الكونيّة الحسّيّة ومنها الذّات البشريّة بصورة خاصّة (ملكا)(13). ومن وراء ذلك ، تمظهرات هذا التّسبيع في النّصّ الدّينيّ من حيث هو نصّ مؤسّس على مبدأ تناظر مكوّناته اللّغويّة مع نصّ الكون ونصّ الذّات البشريّة(14).
ولكي تتّضح لنا مدلولات العدد 7 في هذا السّياق ، نذكر أوّلا أنّ مفهوم التّوحيد متعلّق بالوجود الإلهيّ الصّرف أزلا وأبدا. وأنّ من أسماء الله الحسنى اسمه "الواحد" و"الأوّل" وقد ورد في الحديث الشّريف :"إنّ الله وتر يحبّ الوتر". وبذلك وقعت الإشارة إلى أنّ الله واحد في ذاته واحد في وجوده أحديّة صرفا بحيث لا يتوهّم معه وجود غيره. ثمّ إنّه بناء على حقيقة ومفهوم أحديّة الله ، الأحديّة الكاملة ، ظهر مفهوم ومظهر الزّوجيّة. وقد تضمّن الخطاب الإسلاميّ إشارات كثيرة متعدّدة تفيد كلّها أنّ وجود المخلوقات ليس وجودا مفارقا لوجود الله تعالى ولكنّه مرتبة من مراتب الوجود تتمثّل في ظهور الزّوجيّة بمثابة وجود العدد 2 مضاعفا من العدد 1. فإذا كان الوجود الإلهيّ الصّرف مستعصيا عن الوصف والمعرفة بما هو عالم التّنزيه ، فإنّ عالم المخلوقات يمثّل المستوى الثّاني من الوجود الفائض عن الوجود الإلهيّ الأزليّ باعتبار عالم المخلوقات عالم ظهور صفات الله في مخلوقاته أي أنّ الله تعالى متجلّ في مخلوقاته وفي كلّ عوالم المادّة باسمه الظّاهر وما جرى مجراه من الأسماء والصّفات الإلهيّة. وحيث اعتبر الأزل مستوى الوجود الإلهيّ الصّرف المنزّه عن كلّ مظاهر الشّرك ، سواء بالغيريّة أو بالمثليّة ، لقوله تعالى :<<ليس كمثله شيء>>(الشّورى11) فإنّ ظهور المخلوقات بعد أن <<كان الله ولم يكن شيء غيره>> الحديث (البخاري،باب بدء الخلق) يمثّل مستوى ثانيا من الوجود غير مفارق للوجود الإلهيّ القديم الأوّل. فظهور المخلوقات إنّما هو مستوى ظهور صفات الله تعالى وهو مستوى الوجود المسمّى بعالم التّشبيه مقابل عالم التّنزيه وذلك مستفاد من صفتي الله تعالى <<السّميع البصير>>(الشّورى11) الواردتين في آيات قرآنيّة كثيرة من مثل كقوله : "ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة إنّ الله سميع بصير"(لقمان28) وقوله :<<والّذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إنّ الله هو السّميع البصير>>(غافر20). وقد ميّز المتصوّفة هذا المستوى الثّاني من الوجود المتمثّل في وجود المخلوقات وأطلقوا عليه اسم "الحظرة المحمّديّة" معتمدين في ذلك على كون أهمّ متعلّقات الذّات المحمّديّة ، إن لم تكن كلّها ، متّصلة بيوم الإثنين وما يختزله من دلالات الزّوجيّة والتّثنية. فقد ولد الرّسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين ونبّئ يوم الإثنين وهاجر من مكّة فدخل المدينة يوم الإثنين وتوفي يوم الإثنين. وبما أنّ حقيقة الرّسالة النّبويّة تتمثّل في تبليغ الموحى إليه (الرّسول) عن الموحي (الله) أي أنّ حقيقة الرّسالة هي إظهار معاني الوحي بواسطة الخطاب المسموع فإنّ الرّسول إنّما هو لسان الله يتكلّم بسم الله. كما يرفع أحدنا صوته متكلّما بما يختلج في باطنه فيسمع من نفسه بأذنيه ما يفيض به قلبه من كلام يجريه على لسانه. ولذلك سمّى المتصوّفة عوالم المخلوقات حظرة التّجلّي الإلهيّ وحضرة الصّفات الإلهيّة وهي المستوى الثّاني من الوجود.
وفي نفس هذا الصّدد نظر أهل العلم في متعلّقات آدم عليه السّلام فوجدوا أنّ متعلّقاته متّصلة بيوم الجمعة فيه خلق وفيه أدخل الجنّة وفيه خرج منها وفيه تزوّج حوّاء وفيه مات. ويوم الجمعة دليل على الكثرة المتكاثرة ولكنّها تلك الكثرة القائمة على حقيقة التّوحيد النّافيّة للشّرك. وفي الباب آيات كثيرة تذكر الأصل الواحد للكثرة الآدميّة من مثل قوله تعالى :"يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتّقوا الله الّذي تسّاءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبا"(النساء1). وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :<<كلّكم لآدم وآدم من تراب>>. كما تضمّنت آيات قرآنيّة كثيرة الإشارات الواضحة إلى كون الكثرة إنّما هي قائمة بسرّ وحقيقة التّوحيد ولولا حقيقة التّوحيد لما أمكن للكثرة المتكاثرة أن تقوم وأن تظهر. وذلك مستفاد من قوله تعالى: <<لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا>>(الأنبياء22) ومن قوله تعالى: <<وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون>>(الرّعد4)
وبناء على ما استقرّ من مفهوم التّوحيد الصّرف والإثنينيّة (الزّوجيّة) والكثرة المتكاثرة ، وأنّ الزّوجيّة والكثرة من لوازم التّوحيد الحقيقيّ ، بهما تظهر قدرة الله اللاّمتناهية ومشيئته النّافذة وإرادته الفاعلة وجميع صفاته الذّاتيّة ، أجمع أهل التّوحيد وأصحاب علم الكلام على أنّ للذّات الإلهيّة سبع صفات أساسيّة هي أصل جميع الصّفات المشار إليها بالأسماء الحسنى وكذلك الصّفات الأخرى المتفرّعة عنها. وتلك الصّفات الإلهيّة الأساسيّة السّبع هي : 1) القدرة 2) الإرادة 3) العلم 4) الحياة 1) السّمع 2) البصر 3) الكلام.(15) وجميع الصّفات الأخرى التي تدلّ عليها الأسماء الحسنى التّسعة والتّسعين وغيرها من أسماء الله الواردة أو المستفادة من القرآن والسّنّة إنّما هي متفرّعة عن السّبع صفات المذكورة. ويقابلها من جهة الكون ، السّبع السّماوات والسّبع الأراضين كما هو معلوم من القرآن والسّنّة. ويقابلها أيضا في تركيبة الزّمن أيّام الأسبوع السّبعة وهي أيّام تنطوي من حيث أسماؤها وترتيبها على معان ورموز قائمة على تكامل وانسجام المنظومة الكونيّة ومنظومة الخطاب الإسلاميّ. كما يقابل تلك الصّفات الإلهيّة السّبع والسّماوات الكونيّة السّبع والأراضين الكونيّة السّبع وأيّام الأسبوع السّبعة وجوارح الذّات البشريّة السّبع ومقامات النّفس البشريّة السّبعة ، جوارح الجسد البشريّ السّبع ، وهي : 1) اليد 2) الرّجل 3) العين 4) الأذن 5) اللّسان 6) البطن 7) الفرج من حيث ظاهر الذّات البشريّة. كما يقابلها مقامات النّفس السّبع ، أي تحوّلاتها الصّفاتيّة الأخلاقيّة ، من حيث باطن الذّات البشريّة ، وهي التّالية :1) النّفس الأمّارة بالسّوء 2) النّفس اللّوّامة 3) النّفس الملهمة 4) النّفس المطمئنّة 5) النّفس الرّاضية 6) النّفس المرضيّة 7) النّفس الكاملة.(16) هذا ، باعتبار الجوارح مكوّنات للجانب المادّي من الذّات البشريّة المتمثّل في الجسد الّذي هو بدوره يقوم قابلا للأرض من الكون عالم المُلْك الحسّيّ من ناحيةز وباعتبار مقامات النّفس البشريّة مكوّنات باطن الذّات البشريّة وهي من مشمولات عالم الملكوت مقابل السّبع سماوات في الصّورة الكونيّة بما هي عوالم الغيب من ناحية ثانية وباعتبار صفات الذّات الإلهيّة السّبع تفصيلا للأحديّة الإلهيّة المختصّة بمستوى الوجود المسمّى بالجبروت من ناحية ثالثة.
وإنّ لهذه المسبّعات ما يناظرها في منظومة الخطاب الإسلاميّ كتابا وسنّة. فمن الكتاب نذكر سورة الفاتحة وهي أمّ القرآن وهي السّبع المثاني من حيث أنّها نصّ فيه ما في القرآن كلّه إلى جانب أنّ القرآن نفسه فيه كلّ ما في الكتب السّماويّة السّالفة : التّورات والإنجيل والزّبور. وتتكوّن سورة الفاتحة من سبع آيات لا أكثر ولا أقلّ. وهي مقسومة ، كما ورد بذلك الحديث النّبويّ الصّحيح ، بين الله وعبده(17). أي بين مستوى الوجود الإلهيّ الغيبيّ الصّرف ، بما هو مستوى وجود التّنزيه حيث لا موجود إلاّ اللهّ ، وبين مستوى الوجود البشريّ الحسّيّ بما هو مستوى وجود التّشبيه حيث تقوم مخلوقات الله جميعا بقيّوميّة الله قيّوم السّماوات والأرض.
ومن السّنة نذكر ، ممّا يتعلّق بقراءة النّصّ القرآنيّ ، قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم : "أقرأني جبريل القرآن على سبعة أحرف ولو استزدّته لزادني"(18) فأشهر القراءات القرآنيّة سبع وهي محلّ الإجماع. والعمل بالنّصّ القرآني يخصّ الذّات البشريّة كلّها بجوارحها السّبع وكذلك مقاماتها النّفسيّة السّبعة. والدّليل على ذلك قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم :"أمرت بالسّجود على سبع"(19). والمقصود بهذه السّبع هي الجوارح السّبع رغم أنّ المتبادر إلى الأذهان ما يباشر الأرض من الجسد البشريّ في حالة السّجود بأن يضع السّاجد على الأرض جبينه وكفّيه وركبتيه وقدميه (الأصابع).
بهذا كلّه ، نرى مدى إحكام علاقة التّناظر بين الصّورة الحقيقيّة للذّات الإلهيّة من ناحية والصّورة المادّيّة الكونيّة من ناحية أخرى وصورة الذّات البشريّة من ناحية ثالثة.
* تقابل وحدات الصّفات الإلهيّة والكونيّة والبشريّة ومنظومة اللّغة العربيّة :
كما نرى بكلّ وضوح مدى تناظر وحدات الصّفات الثّلاث (الإلهيّة والكونيّة والبشريّة) مع مكوّنات الخطاب القرآنيّ من حيث هي علامات ورموز تحيل على البشريّ والكونيّ والإلهيّ ضمن المنظومة الفكريّة واللّسانيّة الإسلاميّة الّتي تجذّرت حتّى في حروف اللّغة العربيّة نفسها. فاللّغة العربيّة تتكوّن ، على المشهور ، من 28 حرفا وهي خاضعة بدورها ، إلى نفس علاقة ذلك التّناظر الّذي بيّنّاه آنفا. فإذا علمت أنّ عدد تلك الحروف المقطّعة أوّل السّور 14 حرفا ، بعدد نصف حروف الهجاء الـ 28 ، وهي : ( أ ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن ) ، ظهر لك حينئذ توافقها العدديّ مع جملة السّماوات والأراضين 14 بحيث أنّ منها 7 سبعة حروف ليّنة تقابل السّبع سماوات ، و7 السّبعة الحروف الباقية ، حروف صلبة ، تقابل السّبع أراضين. وحيث أنّ الله تعالى قد خلق من كلّ شيء زوجين فقد جعل من مظاهر زوجيّة الوجود والكون تقابلَ الظّاهر والباطن. وضمن الظّاهر ، كما هو أيضا ضمن الباطن ، جعل الله تعالى من كلّ شيء زوجين اثنين الذّكر والأنثى. فكما يوجد من الإنسان والحيوان والنّبات ضمن عالم الظّاهر المادّيّ الملموس زوجيّة الذّكر والأنثى فكذلك في عالم الباطن وفي عالم المعنى نجد هذه التّقابليّة بين المؤنّث والمذكّر وبين الشّيء ونقيضه وبين الإيجابيّ والسّلبيّ بصفة عامّة وفق قانون التّكامل بين الزّوجين من ذكر وأنثى وكذلك أيضا وفق علاقة تضادّ الشّيء ونقيضه بما تقتضيه مسيرة وتحوّلات الكينونة سلبا وإيجابا.
أمّا ورود الحروف المقطّعة الأربعة عشرة في مفتتح 29 سورة فقط فذلك ليقابل العدد 29 عدد أغلب ما يكون عليه الشّهر القمريّ من عدد الأيام. فإذا أخذت بعين الاعتبار أنّ القرآن يتكوّن من ستّين حزبا وأنّ الله قد خلق جملة السّماوات والأرض في ستّة أيّام وأنّ الحسنة بعشر أمثالها تأوّلت السّتين حزبا مقابل أيّام الخلق السّتة ، عشرة أحزاب لكلّ يوم خلق أي ما يقابل 10 حسنات قرآنيّة لكلّ يوم من تلك السّتّ الأيّام الأزليّة. ويؤيّد هذا أنّ قراءة القرآن يثاب صاحبها عن كلّ حرف عشر حسنات(20). وبالتّالي يظهر لك أنّ كلّ سنة تنقسم إلى اثني عشرة شهرا 2 X 6 أي إلى زوجين سداسيّين يقابلان زوجيّة الباطن والظّاهر. منهما سداسيّة (ستّة أشهر) تضمر وتبطن فيها مظاهر الحياة والكونيّة وهي أشهر الخريف والشّتاء ، والسّداسيّة الأخرى (ستّة أشهر) تظهر وتتجلّى فيها تكوّنات الحياة من اخضرار وإزهار الأشجار وتكوّن وينع الثّمار في فصلي الرّبيع والصّيف. ولا ننسى أنّ زوجيّة الأشهر 2X6 تتضمّن زوجيّة اللّيل والنّهار والشّمس للنّهار والقمر للّيل. وكما أنّ للشّمس ظهورها وغيابها وسطوعها وكسوفها فكذلك للقمر منازله وله سطوعه وخسوفه. وإذا كانت الشّمس تظهر بمفردها في السّماء فإنّ القمر يخالفها بأن يظهر ومعه النّجوم ملء السّماء. كلّ ذلك في نطاق التّناظر القائم بين وحدات الكون وهو تناظر ينتظم الوجود بأسره. وحيث أنّ الغالب على الشّهر القمريّ أن يكون تسعة وعشرين يوما ، والشّهر القمريّ هو المعتمد في التّقويم القرآنيّ لقول الله تعالى :"إنّ عدّة الشّهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدّين القيّم"(التّوبة36) ، فإنّ ورود السّور المفتتحة بالحروف المقطّعة 29 سورة(21) إنّما يمكن تأويله على أنّه جاء كذلك ليقابل أيّام الشّهر القمريّ الـ 29. ويقابل حروف اللّغة العربيّة الـ 29 حرفا ، باعتبار الهمزة حرفا والألف حرفا(22) مع الإبقاء على اعتبار حروف اللّغة المتّفق عليها 28 حرفا مقابل مطالع القمر الـ 28 في كلّ شهر ، وأنّ الاختلاف في اعتبار الألف والهمزة حرفين أو حرفا واحدا يقابله يوم انحجاب القمر آخر الشّهر. وإنّ من تلك 28 مطلعا 14 مطلعا لتنامي الهلال حتّى يكون بدرا ثمّ 14 مطلعا يتقلّص فيها القمر حتّى يغيب تماما ويحتجب ليلة آخر الشّهر قبل العود إلى الطّلوع في الشّهر الموالي(23).
وضمن الإشارة إلى ظاهرة التّوافق العددي هذه ، نذكر أيضا أنّ القرآن دستور الوجود جاء ستّين حزبا وأنّ الله خلق الكون سماوات وأراضين في ستّة أيّام وبهذا فإنّ كلّ يوم من أيّام الخلق يقابله ستّون حزبا وأنّ هذا العدد يجد ما يقابله كلّما نزلت في مراتب الزّمن فيقابله في كلّ ساعة ستّون دقيقة وفي كلّ دقيقة ستّون ثانية. وإذا اعتبرت اللّيل والنّهار 24 ساعة 12 ساعة للنّهار و12 ساعة للّيل وأنّ 12 ساعة زوج من 6 ساعات ، ظهرت لك تلك الزّوجية قائمة بين ساعات النّهار باعتبار نصفيه ، الأوّل من الصّبح حتّى الزّوال والثّاني من الزّوال حتّى الغروب. وكذلك شأن ساعات اللّيل تظلّ في تزايد بدءا من الغروب حتّى منتصف اللّيل فيبدأ بعد ذلك عدّها التّنازلي إلى الصّبح. بل إنّ ساعات اليوم كلّه مقسّمة أرباعا إذ يبدأ عدّ ساعات اليوم انطلاقا من منتصف اللّيل حتّى يبلغ إنثتي عشرة ساعة عند منتصف النّهار ثمّ يكون عدّ السّاعات بداية من الزّوال حتّى منتصف اللّيل. وبذلك يكون في الإثنتي عشرة ساعة الأولى نصف من اللّيل ونصف من النّهار. وكذلك يكون ، وبفس القدر ، في الإثنتي عشرة ساعة الأخرى. قال تعالى :"والشّمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم* لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في فلك يسبحون*"(يس38-40). وإنّ في ذلك إشارة ثابتة إلى كون القرآن دستور الوجود بأسره تدور سوره بما فيها من علم الله وأحكامه على مختلف وجوه الوجود وليس في الزّمان ولا في الكونيّة حيّز إلاّ وهو مشمول بدستور القرآن. ولذلك قال تعالى :"ما فرّطنا في الكتاب من شيء"(الأنعام38). وهو ما يستفاد أيضا من التّوافق العددي بين عدد ساعات اليوم 24 وبين عدد الحروف الهجائيّة في قوله تعالى :"إنّ الدّين عند الله الإسلام"(آل عمران19) 24 حرفا بعدد ساعات اليوم ليلا ونهارا. ومن ذلك أيضا ملاحظة تكوّن لفظة الإسلام من سبعة حروف على عدد جوارح الجسد البشريّ باعتبار تكاليف الإسلام موجّهة إلى جملة تلك السّبع الجوارح الّتي تمثّل ظاهر الذّات البشريّة في نطاق التّكليف بالعمل التّعبّديّ. وإذا حذفت (أل) التّعريف من لفظة الإسلام كان الاسم "إسلام" متكوّنا من 5 حروف مقابل أركان الدّين الحنيف الخمسة.
* إفادات أخرى من ظاهرة التّناظر العدديّ :
في نفس هذا السّياق جاء التّوافق بين عدد سنوات العمر الّتي بعث على رأسها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين عدد حروف شهادة التّوحيد ، بفكّ الحروف المضاعفة : <<أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله>> فعددها 40 حرفا على عدد سنوات عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أن بدئ بالرّسالة 40 سنة. وهو سنّ بلوغ قمّة الرّشد عند الإنسان عامّة لقول الله تعالى: <<ووصّينا الإنسان بوالديه حسنا حملته أمّه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتّى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك الّتي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذرّيّتي إنّي تبت إليك وإنّي من المسلمين>>(الأحقاف15). والأربعون سنة قبل بلوغ ذلك الرّشد هي بنفس عدد سنوات تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء :<<قال فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض>>(المائدة26) وهي تقابل الأربعين ليلة الّتي خصّ بها موسى عليه السّلام في تحديد ميقات ربّه حيث قال تعالى:<<وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة"(البقرة51) وقوله :"فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة>>(الأعراف142).
ونفس هذا التّناظر قائم أيضا بين معدودات العدد 4 في نطاق تناظر منظومة الكون ومنظومة الزّمن ومنظومة الذّات البشريّة من مثل قوله تعالى : <<فسيحوا في الأرض أربعة أشهر>>(التّوبة2) .
ذلك ، وقد استفاد بعض علماء العرب القدماء من ظاهرة الإعجاز العدديّ ومن حساب الجمّل في استخراج عدد الأنبياء من اسم خاتم النّبيّين "محمّد" صلّى الله عليه وسلّم وذلك بفكّ تضعيف حرف (م) وتفكيك جميع حروف الاسم صوتيّا كما يلي : ( ميم + حا + ميم + ميم + دال) وجمع ما يقابلها من الأعداد بحساب الجمّل(21) كما يلي : (40+10+40) +(8+1)+(40+10+40)+(40+10+40)+(4+1+30) = 314 رسول) وهو عدد المشتهر بين العلماء.
بعد هذه المقدّمات الّتي تضمّنت مفاتيح ضروريّة لتأويل النّصّ القرآني وتتبّع علاماته من حيث الإعجاز العدديّ وقد جمعت أشتات جهاز مفهوميّ وآليات نقديّة تجسّد الرّؤيا الإسلاميّة القرآنيّة لله وللكون وللإنسان ، يمكننا الآن أن نقرأ السّور المفتتحة بالحروف الهجائيّة المقطّعة ونتشوّف إلى التّأويل الأقرب لتلك الحروف.
III) تطبيقات القراءة :
III) – 1- سورة البقرة :
إذا تناولنا سورة (البقرة) بالقراءة في ضوء ما سلف ذكره ، تبيّن لنا أنّ أهمّ ما ذكر في سورة البقرة هي دعوة الله قوم بني إسرائيل إلى الإيمان به من حيث هو ربّ النّاس جميعا وربّ العالمين عامّة وأنّه ربّ موسى نبيّهم الّذي أرسله إليهم(22) وتبيّن لنا كذلك وبصورة واضحة أنّ سورة (البقرة) قد كثر فيها الحديث عن بني إسرائيل أكثر من أيّ شيء آخر. واستئناسا بالإعجاز العدديّ في القرآن الكريم نقول أنّ الآية الأولى الّتي ألحق الله فيها إسمه (الربّ) بظمير المخاطب (ك) هي الآية (30 من البقرة) وهي آية حواريّة موجّهة إلى الرّسول الأعظم سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم يخاطبه الله فيها مباشرة لكونه النّبيّ الرّسول الّذي أنزل عليه القرآن. فهو المتلقّي الأوّل والمسرود له في هذا النّصّ ومن ورائه بعد ذلك طبعا كلّ قارئ مؤمن من أمّته. وسياق الآية يدلّ على ذلك :
1) "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة" (البقرة 30)
أمّا الآيات الّتي خاطب الله فيها موسى ونسبه فيها إلى (الربّ ) في سورة البقرة فهي ستّ :
1) "فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها" (البقرة 61)
2) "قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي" (البقرة 68)
3) "قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها" (البقرة 69)
4) "قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا" (البقرة 70)
5) "الحقّ من ربّك فلا تكونن من الممترين" (البقرة 147)
6) "وإنّه للحقّ من ربّك وما الله بغافل عمّا تعملون" (البقرة 149).
هذا مع ملاحظة أنّ الإسم (ربّ) يشير إلى علاقة الله بمخلوقاته المختلفة على وجه أكثر خصوصيّة من تلك العلاقة الّتي يشير إليها إسم (الله) وذلك باعتبار الرّبوبيّة صفة اللّه المربّي لمخلوقاته بما تقتضيه التّربية من اتّصال مباشر ورحمة ، بينما يبقى اسم (الله) أكثر شمولا وأكثر تعميما(23).
وإذا ضممنا إلى هذه الآيات القرآنيّة السّبع حديث الإسراء حيث ذكر رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم عروجه إلى ما فوق السّماء السّابعة ومشاهدته ربّه عند سدرة المنتهى ومشافهته له بفرض الصّلوات الخمس وأنّه صلّى الله عليه وسلّم لقي موسى في السّماء السّادسة فكان ينصحه المرّة تلو المرّة بالرّجوع إلى ربّه وطلب التّخفيض من عدد الصّلوات حتّى صارت الخمس المعروفة بعد أن فرضت في البدء خمسين صلاة (انظر حديث الإسراء)(24) ، أمكننا أن نفهم من ذلك وقوع الإشارة إلى أنّ موسى عليه السّلام في السّماء السّادسة باعتبارها إشارة إلى مرتبة موسى عليه السّلام بين الأنبياء ، وخاصّة مرتبته بإزاء مرتبة نبيّ الإسلام محمّد عليه الصّلاة والسّلام ، وما تختزله تلك المرتبة وما يجسّده موسى من معان وما يدلّ عليه من أسرار ضمن منظومة أيات الوجود كلّه ومنظومة المتن الدّيني الإسلامي خاصّة. وبالتّالي فإنّ لموسى عليه السّلام تلك المرتبة السّادسة (السّماء السّادسة أي قبل السّماء الأخيرة/السّابعة) وأنّه بالتّالي ليس موكولا له ولا مطلوبا منه أن ينبئ عن كمال الوجود ، وأنّ أقصى ما تختزله رسالته هو الإشارة إلى مضمون ومفهوم اليوم السّادس وما دونه من الأيّام الّتي خلق الله فيها الكون أرضا وسماء. ويؤيّدنا في هذا المنحى التّأويليّ الّذي توخّيناه تكرّر ذكر خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام ، في القرآن كلّه ، سبع مرّات لا أكثر ولا أقلّ ، وهي :
1) "إنّ ربّكم الله الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام" (الأعراف 54)
2) "إنّ ربّكم الله الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام " (يونس 3)
3) "و
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 71
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
سري... مفخرة توزر
أشاهدُ معنَى حُسْنكُمْ فَيَلَذُّ لي
خُضُوعي لَدَيْكُمْ في الهوى وتَذَلّلي
وأشتاقُ للمَغْنَى الذي أنْتُمُ بِهِ
وَلَوْلاَكُمُ ما شَاقَنِي ذِكْرُ منْزل
بارك الله فيكم سيدي وافاض الله عليكم من رضاه و كساه ما ينفع و يهدي السبيل
خُضُوعي لَدَيْكُمْ في الهوى وتَذَلّلي
وأشتاقُ للمَغْنَى الذي أنْتُمُ بِهِ
وَلَوْلاَكُمُ ما شَاقَنِي ذِكْرُ منْزل
بارك الله فيكم سيدي وافاض الله عليكم من رضاه و كساه ما ينفع و يهدي السبيل
محمد- عدد الرسائل : 656
العمر : 60
المزاج : إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففـــــــي وجـه مـن تـهـوى جـمـيـع الـمـحـاســـــــــن
تاريخ التسجيل : 10/02/2009
رد: دلالة الحروف المقطّعة أوّل السّور القرآنيّة
بسم الله الواهب المنان والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان
سيدي سري خماري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى جميع الإخوان.
وبعد، فجوزيت خيرا على هذا الطرح الجديد وأسأل الله تعالى لك السداد والتوفيق لمواصلة السير في هذا المسلك الوعر والحفظ من مزالق ما يقتضيه هذا المبحث من جرأة أحجم عنها جماهير من العلماء.
أما في خصوص الاستفتاء فإني لم أفهم الجملة التالية
هل القرآن كلام الله وملائكته دون الجنّ والإنس وفق قوله تعالى
:قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله. الإسراء.
سيدي سري خماري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى جميع الإخوان.
وبعد، فجوزيت خيرا على هذا الطرح الجديد وأسأل الله تعالى لك السداد والتوفيق لمواصلة السير في هذا المسلك الوعر والحفظ من مزالق ما يقتضيه هذا المبحث من جرأة أحجم عنها جماهير من العلماء.
أما في خصوص الاستفتاء فإني لم أفهم الجملة التالية
هل القرآن كلام الله وملائكته دون الجنّ والإنس وفق قوله تعالى
:قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله. الإسراء.
سلطان- عدد الرسائل : 118
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 24/04/2008
رد: دلالة الحروف المقطّعة أوّل السّور القرآنيّة
أخي في الله : سيّدي سلطان ..
إنّ فطانتك الّتي نبّهتك إلى صيغة السّؤال تؤكّد لي أنّ على مثلك يطرح هذا السّؤال. ولكنّني لا أستطيع أن أصرّح أكثر من أن أقول إنّ واو العطف في قولي "الله وملائكته"هي واو عطف بيان لا عطف تعدّد وترتيب.
وإنّ نور قلبك الّذي نبّهك إلى ذلك كفيل بأن يبيّن لك المقصد..
على إنّي لم أختر السّؤال للحصول على إجابة بقدر ما أردت أن أحرّك بعث المسلّمات ...
وما التّوفيق إلاّ باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب ...
إنّ فطانتك الّتي نبّهتك إلى صيغة السّؤال تؤكّد لي أنّ على مثلك يطرح هذا السّؤال. ولكنّني لا أستطيع أن أصرّح أكثر من أن أقول إنّ واو العطف في قولي "الله وملائكته"هي واو عطف بيان لا عطف تعدّد وترتيب.
وإنّ نور قلبك الّذي نبّهك إلى ذلك كفيل بأن يبيّن لك المقصد..
على إنّي لم أختر السّؤال للحصول على إجابة بقدر ما أردت أن أحرّك بعث المسلّمات ...
وما التّوفيق إلاّ باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب ...
سرّي خمّاري- عدد الرسائل : 52
العمر : 71
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مواضيع مماثلة
» التصوف في علم الحروف
» مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم على الحروف الهجائية
» اسمه الشريف محمد صلى الله عليه وسلم في علم الحروف
» مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم على الحروف الهجائية
» اسمه الشريف محمد صلى الله عليه وسلم في علم الحروف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 14:18 من طرف ابن الطريقة
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
السبت 23 نوفمبر 2024 - 13:27 من طرف الطالب
» شيخ التربية
السبت 23 نوفمبر 2024 - 8:33 من طرف ابن الطريقة
» رسالة من مولانا وسيدنا إسماعيل الهادفي رضي الله عنه إلى إخوان الرقاب
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:13 من طرف ابن الطريقة
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:06 من طرف ابن الطريقة
» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 8:36 من طرف أبو أويس
» يا هو الهويه
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس