رسالة الأستاذ رضي الله عنه لمن أنكر التصوف

بتـاريخ 29 .01 . 1984
...بعد تحيّة الإسلام أحيطكم علما بما يلي: إنّني اتّصلت برسالتكم وبها ما أنتم عليه من حيرة واضطراب منشأه نقد العلاّمة الشاطبي لمتأخّري المتصوّفة مع اعترافه للجنيد والغزالي والحارث المحاسبي، ونقد البعض لمجالس السماع ورمي من قام بها بالبطالة، بالإضافة إلى أنّ المنتسبين للطريق كثر عليهم التنكير مع أنّ بقية الطوائف الأخرى تعيش عيشة مطمئنّة لا عتاب فيها ولا تنكير، كما أنّكم اتّصلتم بالفقراء فوجدتموهم يحرّفون الكلم عن مواضعه عند الإستشهاد وأنّهم يرجّحون كفّة العبادات على المعاملات بصفة تفرض على الناس نبذهم ونزع الثقة منهم ممّا جعلكم تتحرّجون من الإنتساب إلى هذه الجماعة دون الإنتساب إلى شيخها داعين الله أن يستر عيبه حتى لا تذهب بركة علمه منكم إلى غير ذلك.
فاعلم يا إبني قبل كلّ شيء أنّ من انتقد متأخّري الصوفية أو بالأحرى إعترف بالتصوّف الموجود على عهد الغزالي والحارث المحاسبي والجنيد ولم يعترف بالتصوف الموجود على عهد ابن مشيش والإمام الشاذلي والإمام العلاوي ومن بعدهم إلى اليوم فأقول لك: يا أخي إنّ هذا الناقد هو إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب لأنّه لم يعش مع من اعترف بهم حتى يأخذ منهم التصوف ولم يمارس من عاصرهم ويسير معهم حتى يأخذ عنهم التصوف غاية ما في الأمر أنّه خاطب في مخطوطاتهم فقط والحكم على الشيء فرع تصوّره وهو لم يتصوّر السابقين لأنه لم يعاصرهم ولم يسر معهم ولم يقتدي بهم ولم يتصوّر المعاصرين لأنّ انتقاداته المبنية على أقوال أو أفعال بعض من رآهم من المتأخّرين وقفت سدّا بينهم وبين واقعهم الذي يعيشونه وما هم عليه فكان من المستحيل انتفاعه بهم كما استحال عنه الأخذ منهم.
وإنّي أقول لك يا بنيّ والحقّ أقول إن كنت مجتهدا فأين نظرياتك وآرائك على اجتهادك الخاص وإن كنت مقلّدا فالتّقليد بمن يوثق به في دينه.
أمّا نحن فإنّنا والحمد لله أخذنا التّصوّف عن أقطابه وأتينا البيت من بابه بسند يتّصل منّا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة لا فوتية فيها ولا غموض هذا من ناحية ومن ناحية أخرى التصوّف في كل جيل تتغير المسيرة فيه حسب الزمان والمكان فالصوفي في كلّ جيل يسير بسير زمانه ويسير سيرة المجتهد لا المقلّد بحيث كان فيمن قبلنا من الصوفية يتّخذون الخلوة أمّا اليوم فقد زال هذا الأمر لأسباب وأسباب عملا بقول النبيء صلى الله عليه وسلم ’’جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا‘‘ وقد كانت الأمم على عهدي سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام لا تجوز صلاتهم في غير المعبد فلا يصلّي النّصارى في غير الكنيسة ولا يصلّي اليهود في غير البيعة ولا تقبل صلاتهم إلاّ بالطهارة المائية وقد غيّر الله الحكم بالنسبة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فالصلاة جعلها تجوز في كلّ مكان من الأرض حيث جعلت له الأرض مسجدا وتجوز بالماء وبالتيمّم على الصعيد الطاهر عند خوف الضرر باستعمال الماء أو فقده قال تعالى: ’’وإن كنم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم ‘‘.
كما غيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة فبعد أن كانت القبلة بيت المقدس صارت الكعبة بمكة المكرمة قال تعالى: ’’قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره‘‘ وليس الأمر قاصر على هذا فقط فكثير وكثير من الأحكام تغيّرت في شريعة الإسلام.
ولذلك قلنا أنّ السير يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ومن هنا قالوا: إنّ لغة القوم أعجمية لا يفهمها إلاّ من مارسها، وعلى فرض صحة ما تقولون وتنسبون إلى من سار في طريق القوم في عهدنا فأقول:
أوّلا: لا يكون الحكم على التصوف أو على أعمال فاسدة أو صحيحة لأنّ الصوفي أو نقول المؤمن بصفة أعمّ مأخوذ من قوله وفعله أي أنّه محاسب على أقواله وأفعاله لا على أقوال الناس وأفعالهم حيث ’’لا تزر وازرة وزر أخرى‘‘ ,,وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه،، والطائر هو العمل.
وهل يلزم من فساد المسلمين فساد الإسلام كلاّ وألف كلاّ لأنّ فساد المسلمين ناشئ عن تألّه الهوى عندما فسدت أمزجتهم فضلّوا على علم ’’ومن أضلّ ممّن اتّخذ إلاهه هواه‘‘.
ثانيا: تنكير المنكرين على المنتسبين لا يكون حجّة على بطلان مبدئهم وصحّة مبدأ من لا تنكير عليه من الطّوائف الأخرى كما تزعمون بل الحقّ خلاف ذلك لأنّ الكلاب لا تنبح على الأموات وإنّما تنبح على الأحياء ولو جعلوا في أكفان وليس كلّ خلاف جاء معتبرا إلاّ خلاف له حظّ من النظر، وبالتّالي يقول الله تعالى لنبيه الأكرم ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم:
’’قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني‘‘ ’’ فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعني وقل للّذين أوتوا الكتاب والأمّيّين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد‘‘ صدق الله العظيم.
وزرنا إن أمكنكم ذلك انتفاوض في الأمر أكثر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.