بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
طريق التعرّف ( نظرات في معاني الإبتلاء )
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
طريق التعرّف ( نظرات في معاني الإبتلاء )
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين وآله وصحبه وتابعيه
إنّ من أهمّ الموضوعات التي تخصّ المسلمين وبالاخصّ منهم الفقراء السائرين موضوع ( التعرّف الإلهي لعباده ) لذا أحببت أن أتحف السادة بما في هذا الموضوع من أحكام ومقتضيات وبراهين
فأقول وعلى الله سبحانه الكريم التيسير والقبول :
منشأ هذا الأمر قوله تعالى : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض )
فجعل المنّ والإجتباء والعطاء مقابل الإستضعاف في الأرض , لتعلم أنّ سرّ الله تعالى في المستضعفين في الأرض مجال التعرّف إليهم , لأنّ الإمامة في الدين التي هي ثمرة التعرّف وهو المرموز إليها بالخلافة وكذلك الوراثة التي هي من الأسباب التي تؤدّي إلى الإمامة , ثمّ بعد حصول هذين الوصفين يتحقّق التمكين في الأرض لذا كان عليه الصلاة والسلام يبشّر دائما بفتح الفتوحات وأنّ الوقت سيأتي بكلّ خير وهو معنى الفتح فمتى نلت الإمامة وحصّلت الوراثة فانتظر فيوشك أن يمكّن الله لك في الأرض وعلى هذا الأمل عاش العارفون ( إنّك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد اليوم ) أي عصابة العارفين لمن فهم عن رسول الله , لكن هذا كلّه علامته الإستضعاف في الأرض الذي هو أكبر شاهد وأعظم حال على شهود العبودية والتحقق بها وهو المهر الذي يتحتّم أن يدفع قبل بلوغ الإمامة وقبل تقديمهم للوراثة والتمكين في الأرض , لهذا تحتّم على من إختاره الله تعالى هذا التعرّف القهري الجلالي الذي هو كالمصفاة حتى يميز الله تعالى الخبيث من الطيّب لقوله تعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) فالتعرّف الإلهي لا يكون في بدايته إلاّ بالجلال والقهر حتّى تموت النفس في اليوم مائة موتة , فتضيق بها السبل إلى أن تصل درجة بيّنها قوله تعالى : ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ) وقد قال عليه الصلاة والسلام ( اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس إلى من تكلني ...إلخ الحديث ) فهذا قانون يسير في مقتضاه أهل الله تعالى أوّلهم وآخرهم لأنّه مجال التعرّف لتدرك معاني قوله لحبيبه ( إقرأ ) أي لتعرفني على وجه لم يسبق منّي أن تعرّفت به لأحد لتجزم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو أكثر الناس على وجه الأرض من السابقين والأوّلين أبتلي إبتلاء شديدا لا طاقة لأحد غيره عليه , لذا قال عليه الصلاة والسلام مبيّنا للحقائق : ( أشدّكم بلاء الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل ) لأنّ الإبتلاء كلّه قهر وجلال فهو عبودية محضة ولا يوصلك إلى المراتب العليا من العبودية غير الإبتلاء وهذا التعرّف القهري لذا نبّهك إلى ذلك في قوله ( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين ) فجعل صبرهم الطريق إلى البشرى
لأنّ الصبر نصف الإيمان والصبر حتما يكون على مقتضى بلاء وتعرّف فأوصانا بالصبر على معرفته سبحانه فلا ينال أحد معرفة الله تعالى إلاّ بالصبر ( واصبر وما صبرك إلاّ بالله ) لأنّ من تمسّك بإسمه تعالى الصبور صبر ولا بدّ فكيف لا تصبر وربّك من أسمائه الحسنى الصبور فلو لا إسمه الصبور لفسد النظام لتعلم أسرار أسمائه سبحانه وتعالى وما يستوجب لها من العبودية ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) لأنّه لا يستجيب إلاّ بها لأنّها أبواب الفتح في المعرفة لذا أختصّ آدم بعلوم الأسماء لتعلم أنّ بني آدم هم محلّ السرّ الإلهي في الأكوان
أمّا إذا كنت لا تريد أن تعرف الله تعالى إلاّ في الجمال والعطاء فهذا أكبر حجاب على الله تعالى يحجبك عنه لذا قال تعالى : (و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) لأنّ البغي حضرته إستكبارية وإدعائية يعطي شبهة مزاحمة الربوبية في أحكامها لذا كان التعرّف لا يكون إلاّ بالصفات الجلالية والقهرية حتى ترجع إلى معرفة عبوديتك وإستشعارها دائما وهذا الإستشعار لا يكون إلاّ عند إحساسك في حركاتك وسكناتك بأنّك مفتقر إفتقار ذاتي لخالقك ومولاك فأقامك الله تعالى بفضله في عالم البلاء لأنّه مقام عبودية محضة وقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام قوله لصحابته في مرضه ( إنني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) وإذا أردت أن تعرف حقيقة التعرّف وميزانه فانظر ما حصل لآل بيت رسول الله عليهم السلام من تشريد وقتل وطلب في كلّ مكان وزمان لأنّ الغيرة الإلهية لا تترك لعباده ميلا ولا طمعا ولا نظرا ولا إلتفاتا لغيره سبحانه , فأضحى كلّ ما ينتابك من بلاء وقهر وضيق ومرض ...إلخ إنّما هو في مصلحتك أنت كي تتحقّق بحقائق العبودية وتتحلّى بالمقامات السنيّة ..
من هنا وبعد هذا التعريف الوجيز ألّف ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم التآليف في بيان ذلك وخاصّة ما جرى به قلم القدرة فيما تمّ رسمه على لسان إبن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في قوله في الحكمة : ( ورود الفاقات أعياد المريدين ) أمّا نحن اليوم فنعتبر ورود الفاقة والحاجة أيّام حزن علينا حتى أمسينا نعزّي بعضنا بعضا.
وقال في الحكمة العظيمة رضي الله عنه : (إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها إن قل عملك، فإنه ما فتحها عليك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، و أين ما تهديه إليه مما هو مورده علي ) فلو كان هناك وحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكانت هذه الحكمة .
أمّا الذي يريد أن يذهب عنه البلاء ليعيش في جمال ودلال فقد أراد بذلك أن يخلع ثوب العبودية ويمتّع بثمرات الخصوصية ولكن لا يكون الفقير فقيرا حتّى يعزم في نفسه أنّه لا خروج له من البلاء أبدا فيصبح البلاء مقاما مقيما فيه وقد ورد عن سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه في رسالة بعث بها إلى القطب سيدي محمد المداني رضي الله عنه يقول له فيها : ( لقد أنعم الله عليّ بمرض حتّى أنّي لم أتمنّ فيه الشفاء ) لأنّ النور والقرب والعطاء وجميع الخيرات لا تجيء إلا من باب التعرّف القهري والبلاء الجلالي , لذا لو تلاحظ في السيرة النبويّة شدّة بلاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم : المشركين في البلد الحرام والمنافقين في المدينة المنوّرة , والكفّار حواليه في الأطراف والديانات الأخرى تلاحقه بأعوانها .... وهكذا فأبتلي حتّى في زوجاته لمّا خيّرهنّ ومات أبنه إبراهيم وبناته إلاّ فاطمة في حياته وخديجة .... وهذا معلوم كي تعلم معنى التعرّف ومعنى العبودية
مرّة كنت صغيرا وكنت أحبّ كثيرا العارفين فكلّما سمعت بعارف بالله تعالى كنت أتبعه وأخدمه وكنت ألازمه في كلّ مكان حتّى يضيق بي ضرعا فقلت في نفسي : عندما يرزقني الله تعالى بفضله بالمعرفة إن شاء الله سأكون عائشا في نعيم وأرتاح من الدنيا وما فيها , هكذا كانت نفسي تسوّل لي لأنّ النفس تحبّ الراحة والكسل فتريد أن تتمتّع بالمعرفة بحسب مشربها هي , ولكن بعد ذلك وجدت الأمور على غير ما كنت أظنّه جملة وتفصيلا والآن إتّضح لي أنّ العارف لا يقرّ له قرار ولا يكون له عن نفسه والعالم أخبار ولكن كلّ ذلك يكون وهو في بلائه قائما يموت في اليوم والليلة مائة موتة ويتحمّل من البلاء ما لا يحمله أغلب الخلق , رغم أنّي وإلى الآن لست من العارفين ولا أرى نفسي من المريدين بل عندي سؤال لنفسي : أيا نفس هل قبلك الطريق , فحاشا طريق السادة أن يقبل واحدا مثلي , وظنّي اليوم أنّ الطريق ما قبلتني ولكن وجودي فيه هو أنّها التي تجذبني إليها فأنا محكوم لست بحاكم , ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم بل نحن في بحار العلم سابحون ( اللهم لطفك يا رب فقد إرتجفت القلوب وإرتعدت الإجساد رحماك رحماك )
فإذا ظننت أيّها المريد أنّ نفسك ستحبّ البلاء فأنت واهم بل لا يحصل لها مقام حتى تتجرّع البلاء ثمّ تصبر عليه فلا تتضايق به ثمّ تصبح تحبّه ثمّ لا تريد أن تفارقه ثمّ يتلوّن لها تلوّنا بفنونه ثمّ يضحى جمالا فمتى مالت وإطمئنّت إليه رجع عليها جلالا ,
لذا تأخّرت الإمامة والوراثة والتمكين في الأرض إلى ما بعد الإستضعاف والبلاء والقهر لأنّه مهر كلّ هذا
أمّا من يظنّ أنّ المعرفة بالله كلّها سعادة وجمال فقد أخطأ بل هذا رسول الله صلى الهو عليه وسلّم وهو سيّد العارفين يبقى الشهر والشهرين ولا يوقد في بيته نارا للطبخ ويشدّ الحجر على بطنه من الجوع مع أنّ مفاتيح الجنّة بيده الشريفة
فإذا أردت أن تعرف سلوك رسول الله وجذبه وتربيته فاقرأ القرآن فإنّه عليه الصلاة والسلام قرآنا يمشي على رجليه فما سلك إلاّ بالقرآن فهو خلقه لتعلم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهكذا كمّل الوارثين فشيخهم هو القرآن والسنّة المحمّدية
أنت تحبّ أهل الكهف : فهل أحببت يوما بلاءهم أو جال في خلدك أن يبتليك الله بما إبتلاهم به ؟
أنت تحبّ أهل الصفّة : فهل جال بخلدك أن تبتلى بما به إبتلوا ؟ حتى أنّهم لا يجدون ما يستر العورة وما يسدّ رمق الجوع ولا يعلمون في كلّ يوم من أين سيرزقون
أنت تحبّ الأنبياء والمرسلين على عمومهم فهل قرأت بلاءهم وفهمته ؟ وسنأتي على تفسير بلاء يوسف عليه السلام في موضوعه
ثمّ أنت تريد أن تكون تبعا ووارثا لهم فهيهات أن يتحقّق لك ذلك إلا بعدما أن تتجرّع مرارة البلاء إلى أن تضحى عندك أحلى من العسل فتزيدك إيمانا
وإنّ التعرّف الجلالي أرضه عبودية محضة ثابت أصله أمّا فرع خصوصيته فهو في السماء
وإنّ البلاء فنون كثيرة ألوان وأنواع له حضرات كثيرة بحسب علوم الأسماء والصفات ,
قال تعالى : ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب )
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين وآله وصحبه وتابعيه
إنّ من أهمّ الموضوعات التي تخصّ المسلمين وبالاخصّ منهم الفقراء السائرين موضوع ( التعرّف الإلهي لعباده ) لذا أحببت أن أتحف السادة بما في هذا الموضوع من أحكام ومقتضيات وبراهين
فأقول وعلى الله سبحانه الكريم التيسير والقبول :
منشأ هذا الأمر قوله تعالى : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض )
فجعل المنّ والإجتباء والعطاء مقابل الإستضعاف في الأرض , لتعلم أنّ سرّ الله تعالى في المستضعفين في الأرض مجال التعرّف إليهم , لأنّ الإمامة في الدين التي هي ثمرة التعرّف وهو المرموز إليها بالخلافة وكذلك الوراثة التي هي من الأسباب التي تؤدّي إلى الإمامة , ثمّ بعد حصول هذين الوصفين يتحقّق التمكين في الأرض لذا كان عليه الصلاة والسلام يبشّر دائما بفتح الفتوحات وأنّ الوقت سيأتي بكلّ خير وهو معنى الفتح فمتى نلت الإمامة وحصّلت الوراثة فانتظر فيوشك أن يمكّن الله لك في الأرض وعلى هذا الأمل عاش العارفون ( إنّك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد اليوم ) أي عصابة العارفين لمن فهم عن رسول الله , لكن هذا كلّه علامته الإستضعاف في الأرض الذي هو أكبر شاهد وأعظم حال على شهود العبودية والتحقق بها وهو المهر الذي يتحتّم أن يدفع قبل بلوغ الإمامة وقبل تقديمهم للوراثة والتمكين في الأرض , لهذا تحتّم على من إختاره الله تعالى هذا التعرّف القهري الجلالي الذي هو كالمصفاة حتى يميز الله تعالى الخبيث من الطيّب لقوله تعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) فالتعرّف الإلهي لا يكون في بدايته إلاّ بالجلال والقهر حتّى تموت النفس في اليوم مائة موتة , فتضيق بها السبل إلى أن تصل درجة بيّنها قوله تعالى : ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ) وقد قال عليه الصلاة والسلام ( اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس إلى من تكلني ...إلخ الحديث ) فهذا قانون يسير في مقتضاه أهل الله تعالى أوّلهم وآخرهم لأنّه مجال التعرّف لتدرك معاني قوله لحبيبه ( إقرأ ) أي لتعرفني على وجه لم يسبق منّي أن تعرّفت به لأحد لتجزم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو أكثر الناس على وجه الأرض من السابقين والأوّلين أبتلي إبتلاء شديدا لا طاقة لأحد غيره عليه , لذا قال عليه الصلاة والسلام مبيّنا للحقائق : ( أشدّكم بلاء الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل ) لأنّ الإبتلاء كلّه قهر وجلال فهو عبودية محضة ولا يوصلك إلى المراتب العليا من العبودية غير الإبتلاء وهذا التعرّف القهري لذا نبّهك إلى ذلك في قوله ( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين ) فجعل صبرهم الطريق إلى البشرى
لأنّ الصبر نصف الإيمان والصبر حتما يكون على مقتضى بلاء وتعرّف فأوصانا بالصبر على معرفته سبحانه فلا ينال أحد معرفة الله تعالى إلاّ بالصبر ( واصبر وما صبرك إلاّ بالله ) لأنّ من تمسّك بإسمه تعالى الصبور صبر ولا بدّ فكيف لا تصبر وربّك من أسمائه الحسنى الصبور فلو لا إسمه الصبور لفسد النظام لتعلم أسرار أسمائه سبحانه وتعالى وما يستوجب لها من العبودية ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) لأنّه لا يستجيب إلاّ بها لأنّها أبواب الفتح في المعرفة لذا أختصّ آدم بعلوم الأسماء لتعلم أنّ بني آدم هم محلّ السرّ الإلهي في الأكوان
أمّا إذا كنت لا تريد أن تعرف الله تعالى إلاّ في الجمال والعطاء فهذا أكبر حجاب على الله تعالى يحجبك عنه لذا قال تعالى : (و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) لأنّ البغي حضرته إستكبارية وإدعائية يعطي شبهة مزاحمة الربوبية في أحكامها لذا كان التعرّف لا يكون إلاّ بالصفات الجلالية والقهرية حتى ترجع إلى معرفة عبوديتك وإستشعارها دائما وهذا الإستشعار لا يكون إلاّ عند إحساسك في حركاتك وسكناتك بأنّك مفتقر إفتقار ذاتي لخالقك ومولاك فأقامك الله تعالى بفضله في عالم البلاء لأنّه مقام عبودية محضة وقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام قوله لصحابته في مرضه ( إنني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) وإذا أردت أن تعرف حقيقة التعرّف وميزانه فانظر ما حصل لآل بيت رسول الله عليهم السلام من تشريد وقتل وطلب في كلّ مكان وزمان لأنّ الغيرة الإلهية لا تترك لعباده ميلا ولا طمعا ولا نظرا ولا إلتفاتا لغيره سبحانه , فأضحى كلّ ما ينتابك من بلاء وقهر وضيق ومرض ...إلخ إنّما هو في مصلحتك أنت كي تتحقّق بحقائق العبودية وتتحلّى بالمقامات السنيّة ..
من هنا وبعد هذا التعريف الوجيز ألّف ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم التآليف في بيان ذلك وخاصّة ما جرى به قلم القدرة فيما تمّ رسمه على لسان إبن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في قوله في الحكمة : ( ورود الفاقات أعياد المريدين ) أمّا نحن اليوم فنعتبر ورود الفاقة والحاجة أيّام حزن علينا حتى أمسينا نعزّي بعضنا بعضا.
وقال في الحكمة العظيمة رضي الله عنه : (إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها إن قل عملك، فإنه ما فتحها عليك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، و أين ما تهديه إليه مما هو مورده علي ) فلو كان هناك وحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكانت هذه الحكمة .
أمّا الذي يريد أن يذهب عنه البلاء ليعيش في جمال ودلال فقد أراد بذلك أن يخلع ثوب العبودية ويمتّع بثمرات الخصوصية ولكن لا يكون الفقير فقيرا حتّى يعزم في نفسه أنّه لا خروج له من البلاء أبدا فيصبح البلاء مقاما مقيما فيه وقد ورد عن سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه في رسالة بعث بها إلى القطب سيدي محمد المداني رضي الله عنه يقول له فيها : ( لقد أنعم الله عليّ بمرض حتّى أنّي لم أتمنّ فيه الشفاء ) لأنّ النور والقرب والعطاء وجميع الخيرات لا تجيء إلا من باب التعرّف القهري والبلاء الجلالي , لذا لو تلاحظ في السيرة النبويّة شدّة بلاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم : المشركين في البلد الحرام والمنافقين في المدينة المنوّرة , والكفّار حواليه في الأطراف والديانات الأخرى تلاحقه بأعوانها .... وهكذا فأبتلي حتّى في زوجاته لمّا خيّرهنّ ومات أبنه إبراهيم وبناته إلاّ فاطمة في حياته وخديجة .... وهذا معلوم كي تعلم معنى التعرّف ومعنى العبودية
مرّة كنت صغيرا وكنت أحبّ كثيرا العارفين فكلّما سمعت بعارف بالله تعالى كنت أتبعه وأخدمه وكنت ألازمه في كلّ مكان حتّى يضيق بي ضرعا فقلت في نفسي : عندما يرزقني الله تعالى بفضله بالمعرفة إن شاء الله سأكون عائشا في نعيم وأرتاح من الدنيا وما فيها , هكذا كانت نفسي تسوّل لي لأنّ النفس تحبّ الراحة والكسل فتريد أن تتمتّع بالمعرفة بحسب مشربها هي , ولكن بعد ذلك وجدت الأمور على غير ما كنت أظنّه جملة وتفصيلا والآن إتّضح لي أنّ العارف لا يقرّ له قرار ولا يكون له عن نفسه والعالم أخبار ولكن كلّ ذلك يكون وهو في بلائه قائما يموت في اليوم والليلة مائة موتة ويتحمّل من البلاء ما لا يحمله أغلب الخلق , رغم أنّي وإلى الآن لست من العارفين ولا أرى نفسي من المريدين بل عندي سؤال لنفسي : أيا نفس هل قبلك الطريق , فحاشا طريق السادة أن يقبل واحدا مثلي , وظنّي اليوم أنّ الطريق ما قبلتني ولكن وجودي فيه هو أنّها التي تجذبني إليها فأنا محكوم لست بحاكم , ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم بل نحن في بحار العلم سابحون ( اللهم لطفك يا رب فقد إرتجفت القلوب وإرتعدت الإجساد رحماك رحماك )
فإذا ظننت أيّها المريد أنّ نفسك ستحبّ البلاء فأنت واهم بل لا يحصل لها مقام حتى تتجرّع البلاء ثمّ تصبر عليه فلا تتضايق به ثمّ تصبح تحبّه ثمّ لا تريد أن تفارقه ثمّ يتلوّن لها تلوّنا بفنونه ثمّ يضحى جمالا فمتى مالت وإطمئنّت إليه رجع عليها جلالا ,
لذا تأخّرت الإمامة والوراثة والتمكين في الأرض إلى ما بعد الإستضعاف والبلاء والقهر لأنّه مهر كلّ هذا
أمّا من يظنّ أنّ المعرفة بالله كلّها سعادة وجمال فقد أخطأ بل هذا رسول الله صلى الهو عليه وسلّم وهو سيّد العارفين يبقى الشهر والشهرين ولا يوقد في بيته نارا للطبخ ويشدّ الحجر على بطنه من الجوع مع أنّ مفاتيح الجنّة بيده الشريفة
فإذا أردت أن تعرف سلوك رسول الله وجذبه وتربيته فاقرأ القرآن فإنّه عليه الصلاة والسلام قرآنا يمشي على رجليه فما سلك إلاّ بالقرآن فهو خلقه لتعلم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهكذا كمّل الوارثين فشيخهم هو القرآن والسنّة المحمّدية
أنت تحبّ أهل الكهف : فهل أحببت يوما بلاءهم أو جال في خلدك أن يبتليك الله بما إبتلاهم به ؟
أنت تحبّ أهل الصفّة : فهل جال بخلدك أن تبتلى بما به إبتلوا ؟ حتى أنّهم لا يجدون ما يستر العورة وما يسدّ رمق الجوع ولا يعلمون في كلّ يوم من أين سيرزقون
أنت تحبّ الأنبياء والمرسلين على عمومهم فهل قرأت بلاءهم وفهمته ؟ وسنأتي على تفسير بلاء يوسف عليه السلام في موضوعه
ثمّ أنت تريد أن تكون تبعا ووارثا لهم فهيهات أن يتحقّق لك ذلك إلا بعدما أن تتجرّع مرارة البلاء إلى أن تضحى عندك أحلى من العسل فتزيدك إيمانا
وإنّ التعرّف الجلالي أرضه عبودية محضة ثابت أصله أمّا فرع خصوصيته فهو في السماء
وإنّ البلاء فنون كثيرة ألوان وأنواع له حضرات كثيرة بحسب علوم الأسماء والصفات ,
قال تعالى : ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب )
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: طريق التعرّف ( نظرات في معاني الإبتلاء )
بارك الله فيك سيدي علي وسدّد خطاك وألهمك الحكمة وفصل الخطاب.
فعلا لقد أتحفتنا بما كتبتَ.
الإبتلاء عند الكمّل عطيّة ومنحة
وعند غيرهم إمتحان ومحنة.
نسأل الله سلامة القلوب والطويّة.
فعلا لقد أتحفتنا بما كتبتَ.
الإبتلاء عند الكمّل عطيّة ومنحة
وعند غيرهم إمتحان ومحنة.
نسأل الله سلامة القلوب والطويّة.
أبو أويس- عدد الرسائل : 1577
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
مواضيع مماثلة
» نظرات في الآيات الأولى من سورة الكهف
» أيا من بالوَفا قد عوَّدوني
» من معاني الخلافة الربانية
» الإبحار إلى معاني القرآن
» من معاني الفروق بين الدعوة والهداية
» أيا من بالوَفا قد عوَّدوني
» من معاني الخلافة الربانية
» الإبحار إلى معاني القرآن
» من معاني الفروق بين الدعوة والهداية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت 23 نوفمبر 2024 - 22:05 من طرف أبو أويس
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
السبت 23 نوفمبر 2024 - 13:27 من طرف الطالب
» شيخ التربية
السبت 23 نوفمبر 2024 - 8:33 من طرف ابن الطريقة
» رسالة من مولانا وسيدنا إسماعيل الهادفي رضي الله عنه إلى إخوان الرقاب
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:13 من طرف ابن الطريقة
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:06 من طرف ابن الطريقة
» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 8:36 من طرف أبو أويس
» يا هو الهويه
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس