بحـث
المواضيع الأخيرة
منتدى
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل. "
قال أحمد الخرّاز: " صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال: لأني كنت معهم على نفسي"
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
مذاقات من بحر وحي المناجاة
+10
ابوذر عمر
محمد احمد علي
بلقيس
الشاذلي الحموي
ساري الروح
محبة أهل الله
إلياس بلكا
محمد حنان
عبدالله حرزالله
Dalia Slah
14 مشترك
صفحة 1 من اصل 3
صفحة 1 من اصل 3 • 1, 2, 3
مذاقات من بحر وحي المناجاة
بسم الله الأحد الذي لا إله غيره ولا معبود سواه
الموجود في كل مكان وزمان بلا بداية ولا نهاية كان قبل خلق المكان وقبل حدوث الزمان وهو الآن كما كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء كما ورد في الحديث النبوي الشريف فقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان حار في وصفه الواصفون وتاه في معرفته الراسخون إن لو لا رسوخهم لزلّت بهم الأقدام وصار من قلوبهم الزيغ والطغيان
والصلاة والسلام على سيّد الموحدين وعمدة أهل الشهود القانتين وعدّة الواصلين والسائرين السراج المنير القطب الأشم والطود الأعظم مولانا وسيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وكل من تبعه إلى يوم الدين
أما بعد :
اعلم أيها المؤمن المغرم المحب أو الصوفي السالك العاشق أن من جملة رجالات أهل الله من الراسخين في العلم والمعارف الإلهية ممن فتح الله عليه بمنه وفضله بالفتح الكبير شيخنا العارف الواصل الصوفي الكامل سيدنا ومولانا الشيخ إسماعيل بن عثمان بن علي الهادفي رضي الله عنه وقدس الحق سره العزيز
الذي ترك تراثا بعد وفاته رضي الله عنه من جملته مناجاته الجليلة " مرآة الذاكرين " التي تدلّ على كمال معرفته ورسوخ قدمه في حضرة القدم وتدل على تمام علمه بالشريعة والطريقة والحقيقة وأدبه العالي الفخيم وكماله السلوكي فيما يخص السير وأصوله والوصول وشؤونه والعرفان وأطواره والولاية ومقاماتها والعبودية ومستوجباتها كونها الأساس وهي الجدار الذي أقامه الخضر حينما أراد أن ينقضّ لأن العبودية شريعة وكنز الجدار الذي تحته حقيقة فكانت الشريعة ساترة للحقيقة فهي عنوانها وكل باب من غير بابها مسدود وكل عمل من غير سبيلها مردود { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
لذلك أرجو بعد أن توكلت على الله أن يوفقني لكتابة قبسات جديدة ونفحات أخرى عديدة بخصوص بعض ما ورد في تلك المناجاة من معان التي تعدّ أعجوبة من أعاجيب ما أجراه الله تعالى على لسان شيخنا رضي الله عنه وهو مازال مريدا في حياة شيخه رضي الله عنه خصوصا بعد شهادة القطب العارف شيخ شيخنا سيدي محمد المداني رضي الله عنه كون مناجاته " واردا رحمانيا " وكونها " كلام قريب العهد من الله " وتكفي هذه الشهادة من قطب عارف في قامة ومكانة سيدي محمد المداني رضي الله عنه عن كل شهادة آخرى
فانتظرونا إن شاء الله تعالى ...
يتبع ...
الموجود في كل مكان وزمان بلا بداية ولا نهاية كان قبل خلق المكان وقبل حدوث الزمان وهو الآن كما كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء كما ورد في الحديث النبوي الشريف فقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان حار في وصفه الواصفون وتاه في معرفته الراسخون إن لو لا رسوخهم لزلّت بهم الأقدام وصار من قلوبهم الزيغ والطغيان
والصلاة والسلام على سيّد الموحدين وعمدة أهل الشهود القانتين وعدّة الواصلين والسائرين السراج المنير القطب الأشم والطود الأعظم مولانا وسيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وكل من تبعه إلى يوم الدين
أما بعد :
اعلم أيها المؤمن المغرم المحب أو الصوفي السالك العاشق أن من جملة رجالات أهل الله من الراسخين في العلم والمعارف الإلهية ممن فتح الله عليه بمنه وفضله بالفتح الكبير شيخنا العارف الواصل الصوفي الكامل سيدنا ومولانا الشيخ إسماعيل بن عثمان بن علي الهادفي رضي الله عنه وقدس الحق سره العزيز
الذي ترك تراثا بعد وفاته رضي الله عنه من جملته مناجاته الجليلة " مرآة الذاكرين " التي تدلّ على كمال معرفته ورسوخ قدمه في حضرة القدم وتدل على تمام علمه بالشريعة والطريقة والحقيقة وأدبه العالي الفخيم وكماله السلوكي فيما يخص السير وأصوله والوصول وشؤونه والعرفان وأطواره والولاية ومقاماتها والعبودية ومستوجباتها كونها الأساس وهي الجدار الذي أقامه الخضر حينما أراد أن ينقضّ لأن العبودية شريعة وكنز الجدار الذي تحته حقيقة فكانت الشريعة ساترة للحقيقة فهي عنوانها وكل باب من غير بابها مسدود وكل عمل من غير سبيلها مردود { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
لذلك أرجو بعد أن توكلت على الله أن يوفقني لكتابة قبسات جديدة ونفحات أخرى عديدة بخصوص بعض ما ورد في تلك المناجاة من معان التي تعدّ أعجوبة من أعاجيب ما أجراه الله تعالى على لسان شيخنا رضي الله عنه وهو مازال مريدا في حياة شيخه رضي الله عنه خصوصا بعد شهادة القطب العارف شيخ شيخنا سيدي محمد المداني رضي الله عنه كون مناجاته " واردا رحمانيا " وكونها " كلام قريب العهد من الله " وتكفي هذه الشهادة من قطب عارف في قامة ومكانة سيدي محمد المداني رضي الله عنه عن كل شهادة آخرى
فانتظرونا إن شاء الله تعالى ...
يتبع ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بالانتظار
تم الإرسال من خلال التطبيق Topic'it
تم الإرسال من خلال التطبيق Topic'it
Dalia Slah- عدد الرسائل : 59
العمر : 51
تاريخ التسجيل : 10/09/2018
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
إن شاء الله
تم الإرسال من خلال التطبيق Topic'it
تم الإرسال من خلال التطبيق Topic'it
عبدالله حرزالله- عدد الرسائل : 51
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 15/04/2015
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
إلاهـــي قََدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْرِ كَرَمِكَ الزَّاخِرِ الذِي لا يَتَنَاهَى، فَأحْرِصْنِي فِيهَا حَتَّى لا أَطْغَى بِهَا وَثَبِّتهَا لدَيَّ بِتَوْفِيقِي لِشُكْرِكََ عَلَيْهَا فَأرَاهَا منْكَ وَإليْكَ وَأكُونُ فِيهَا دَاعيًا بِكَ إليْكَ إذْ رَحْمَتُكَ جَاءَتْ بِي إلَيْكَ وَفَضْلُكَ دَلَّني عَليْكَ وَالكَريم إذَا أعْطَى أجْزَلَ العَطَاء َوَرَفَعَ عَنْ عَظِيمِ آيَاتِ جُودِهِ الغِطَاء وَكَيْفَ لا وَأنْتَ أَكْرَمُ الأكْرَمِين.
التحدث بالنعم والشكر على الكرم الإلهي من سيما العارفين وآداب الواصلين ومخاطبات المتحققين إذ لا بد من داع يدعو العبد للتحدث بالنعمة وذكر الشكر على المنّة وهذا الداعي هو الإذن الرباني بالوارد الرحماني والإلهام الصمداني الذي لا يعتريه لبس ولا ريب لشدة صفائه وتوارد عطائه من جنس قوله تعالى في إذنه الصريح لسيد الخلق وإمام أهل الخُلق صلى الله عليه وسلم { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }
أي حدث بها فيها عنها فتكون النعمة ترجمان نفسها لسان حالها يقول { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } حيث سرى فيهم النعيم كما سرى الماء في عوده فلا قيام للماء بلا عوده ولا عوده بلا ماء كما قال عيسى عليه السلام من وجه آخر مخبرا عن بعض فروع هذا الأصل { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ }
لذلك كانت وجوه التحدث بالنعم عديدة منها ما هو متوجه للخلق من إنس وجان يصدر عن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أو ممن اتبعهم باحسان وسار على أقدامهم من أولياء الله تعالى من أهل الفتح والوصول كما أخبر بذلك سيدنا عيسى عليه السلام عن نفسه ومن جنس هذا ما أخبر الله تعالى به خلقه عما أكرم به بعض عباده وفضل به بعضهم على بعض كما أكرم آدم على سائر خلقه وفضله عليهم { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }
لذا كان أول اعتراض صدر من ابليس لعنه الله تعالى هو الإعتراض على الكرم الإلهي والجود الرباني حيث قال كما ذكر الله تعالى في محكم التنزيل { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ .. } الآية
حيث تناول بالذكر الكرم الإلهي على آدم دون سائر الصفات الإلهية الأخرى مشيرا تصريحا أنه يعترض على القسمة الإلهية والعطاء الإلهي في أعلى مراميه لذا كان أول ما حسدت عليه قريش بني هاشم هو نبوة النبي الهاشمي صلى الله عليه وآله وسلم كما حسدت اليهود والنصارى المسلمين على ما فضلهم الله تعالى به عليهم كما قال تعالى { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم }
هذا كي تعلم أن أس الداء الذي سارت عليه الجن والإنس على حد سواء هو داء الحسد الذي عنوانه تمني زوال النعمة عن الذي أنعم الله تعالى عليه بها فانظر علاقة مرض الحسد بوجود النعم لذلك كان التحدث بالنعم الربانية لا يكون إلا عند موافقة مقصد شرعي أو بإذن رباني يجده العبد في قلبه فيتحدث بنعم الله تعالى عليه فيكون محفوظا من تسلط هوى نفسه عليه ومن هذا الجنس ألف الإمام سيدي عبد الوهاب الشعراني رحمه الله كتابه ( المنن الكبرى )
وكذلك فعل أكثر من واحد من أهل الله تعالى حيث تحدثوا بنعم الله تعالى عليهم بإذن رباني ووارد رحماني لتوفية حقوق الشكر وآداب الحمد ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام ( أنَا سَيِّد وَلَد آدَم يَوْم الْقِيَامَة وَأَوَّل مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْر وَأَوَّل شَافِع وَأَوَّل مُشَفَّع ) فكل هذا اخبار من العبد لغيره عما أكرمهم الله تعالى به لتعرف منازلهم فتحفظ مقاماتهم
ومنها ما هو من جنس التحدث بنعم الله على العبد نحو توجه العبد نحو ربه يناجيه ذاكرا أنعمه عليه شاكرا توارد مننه إليه فهذا معنى أعلى من الحال الأوّل والكل من عند الله في الحقيقة لذا كانت مناجاة مرآة الذاكرين كنز عرفاني وجوهر ايماني قل نظيره في زمانه
هذه مقدمة وجيزة يقتضيها المدخل لشرح بعض معاني مناجاة شيخنا رضي الله عنه التي فيها من الأنوار والحقائق واللطائف والآداب ما يخرج عن دائرة الإحصاء والإستقصاء متى علمت أن تلك المناجاة صدرت عن وارد رحماني والهام رباني لا يخفى إلا عن مطموس بصيرة والعياذ بالله تعالى حيث شملت المناجاة وجوه من الفقه منها :
- فقه آداب المخاطبات الإلهية من العبد لربه
- فقه آداب التحدث بالنعمة
- فقه آداب الشكر أصولا وفروعا
- فقه آداب السؤال والطلب
- فقه آداب الأخذ والقبول
- فقه المعارف الربانية
- فقه آداب أهل الكمال والوصول
...
الخ
إذ لو لم يترك شيخنا رحمه الله تعالى من الإرث الإيماني إلا هذه المناجاة لكانت تغني عن مئات من المجلدات والكتب في مجال الطريقة والحقيقة حيث توجه في مخاطباته لربه على نعت الشكر وصفة التدبر والفكر لسان حاله يقول { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }
..
يتبع ان شاء الله تعالى
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
الله الله
تم الإرسال من خلال التطبيق Topic'it
تم الإرسال من خلال التطبيق Topic'it
محمد حنان- عدد الرسائل : 18
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 07/09/2018
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
التحدث بالنعم الإلهية على العبد على وجه الإعتراف بمنة المنعم بها عليه مطلب رباني ومقصد شرعي على شرط وجود الغرض الصحيح والنية الصادقة في نفس العبد وخارجها لئلا يدخل عند الحديث في مهالك الإغترار ومزلات الأهواء كالذين قالوا { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
حيث نسبوا وأسدوا لأنفسهم مقامات لا دليل لهم عليها من أنفسهم مما يشهدونه فيهم مما لا يوافق المنهج الرباني ولا من خارجها مما يشهده الناس من استعلاء وغرور صادرا منهم وهذا يعد من دائرة الكبر والكذب لذلك قيل لهم تكذيبا لدعواهم { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } لأن صاحب المحبوبية يغفر الله تعالى له جميع ذنوبه برحمته ولا يعذبه عليها لا في الدنيا ولا في الآخرة كونه صاحب توبة في كل أوقاته مهما أذنب وزل ..
لكن يجب العلم أن حقيقة التحدث بالنعم وإن كان مطلبا شرعيا في كل زمان ومكان للتعريف بمنة المنعم وجوده وكرمه وعطائه والإقرار بوجود جزيل فضله في كل الأوقات والأحوال كما ورد من حديثه عليه الصلاة والسلام ( أبوء لك بنعمتك عليّ } إلا أنه لا يكون على وجهه التام إلا بعد تمام النعمة وكمال المنّة وعظمة الفضل وجزالة الكرامة التي هي كرامة الوصول والعرفان وكمال الفتح والشهود فهذه غاية النعمة ولب الجود والكرم وعين العناية والمنّة الإلهية على العبد
فهي حضرة الكرم والفضل وروح الرحمة والإجتباء ومناط القرب والإصطفاء فلا يفرح عارف بنعمة تعادل فرحه بنعمة محبة الله له وقربه منه لأن النعم في نظرهم صنفان نعمة مقصودة لذاتها كالفتح والوصول ونعم أخرى كثيرة مقصودة لغيرها لذلك نبهوا أن السالك لا يجوز له التحدث بشيء من أسرار خصوصيته حتى يكمل في باب سيره وسلوكه ويبلغ درجات أهل الكمال خشية أن يقع في مزلات الدعوى وبهتان الهوى لأن كل ما يظهره السالك أو العارف مما اختصه الله تعالى به من غير إذن إلهي فهو على خطر جسيم لأن اظهار ما لم لا إذن لك في إظهاره يعد دعوى يخشى على صاحبها الوقوع في المكر والإستدراج ..
لذلك نبّه صاحب الحكم العطائية على هذا حيث قال ( استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك ) لأن الفقير الصادق لا تستشرف نفسه علم الخلق بخصوصيته فضلا أن يحرص تمام الحرص على اظهار ذلك في كل محفل لأن افشاء الأسرار الربانية لا يجوز وهو حرام عند أهل الطريق يأثم مرتكبه إلا ما كان بإذن إلهي صريح وهو ما يعبرون عنه بالوارد الصافي والإلهام الصحيح ...
ثمّ إن التحدث بالنعم الخاصة -وليست العامة التي يتشارك فيها جميع المخلوقين ولا يستغنون عنها لقوله تعالى { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }- إنما تكون لغاية معينة لأنها من نفس جنس الواردات الربانية التي إما تكون لقصد هداية مريد أو بسبب فيضان وجد وإن كان الكامل من الرجال عندما يتحدث بأنعم الله تعالى عليه بعد تمامها إنما يتحدث ليعرف بمقامه حتى يهتدي الخلق به ..
لأن من المطالب الشرعية أن يبيّن العالم منزلته في العلم متى جهلها الناس حتى يقتدي الخلق به ويسمعون منه فينتفعون به بخلاف أهل الأهواء من الذين يعملون على الظهور بأنفسهم للخلق بلا مقصد شرعي صحيح ولا إذن رباني صريح لذلك قالوا الظهور يقصم الظهور إذ لولا سيدنا موسى عليه السلام ما عرف أحد منا سيدنا الخضر عليه السلام الذي ورد ذكره في القرآن على مر الأزمان ..
لأن عالم الولاية يعطي معنى الخفاء أكثر مما يعطي معنى الظهور ونعني هنا خاصة التعريف بمقامات الربانيين ومنازلهم كأهل الكهف الذين ما كان يعرفهم إلا قليل كما قال تعالى { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } فالقلة لا يعلمها إلا القلة { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } { وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } فإذا كان في آخر الزمان عددهم قليل فكذلك سيكون عدد من يعرفهم قليل ...
لذا نبّه صاحب الحكم إلى أن معرفة أولياء الله الحقيقيين شأن رباني وفضل إلهي وذلك في قوله ( سُبْحانَ مَنْ لَمْ يَجْعلِ الدَّليلَ على أولياؤئه إلا مِنْ حَيثُ الدَّليلِ عَلَيهِ وَلمْ يوصِلْ إليهمْ إلا مَنْ أراد أَنْ يوصِلَهُ إليهِ ) لأن علاقتك بالله تعالى هي مفتاح وصولك لأوليائه وأحبابه فمتى علم الصدق منك في التوجه إليه ألقاك إلى من يوصلك إليه فيربيك ويزكيك ويدخلك إلى حضرته فتلك وظائف مشايخ التربية ومهام المرشدين فطريق السلوك لا ينادى عليه بلسان الإشتهار بل ينادى عليه بلسان الأحوال { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }
قلت :
أطلق شيخنا رحمه الله تعالى من الأسماء إسم " مرآة الذاكرين " على مناجاته الربانية كونها مرآة يرى فيها الذاكر نفسه فكانت كميزان يزن عليه السالك جميع أحواله ونوازله حتى يعلم محله من الإعراب في السير أما العارف الواصل فيشاهد في تلك المرآة ما من الله تعالى به عليه فيكون لسان حاله يقول لقد عبّر المؤلف عما بدواخلنا ونطق بما في قلوبنا فشهد شاهد من أهلها وكنا لشهادته من السامعين الشاهدين ولما آتاه الله مما يتعلق به في مقاماته من المبتهجين فطوبى له ولنا بالخير العميم والفضل الجزيل فجزاه الله عنا خيرا كثيرا حيث تركها وردا لمن رغب في نافلة الإستفادة إذ هم القوم لا يشقى جليسهم فكيف يشقى المتتبع لآثارهم المتعطش لأمدادهم
فمتى كان العبد من الذاكرين فتلك مرآته لشكر المنّة ومن كان من الغافلين فتلك مرآته لرفع الهمة فكانت ماء حياة للقلوب والأرواح كغيث ينفع حيث نزل ..
ثم هي مناجاة اجتمعت فيها خصائص للخاصة وهدايات للعامة فكانت تصلح وردا لأهل الظاهر والباطن حيث جمعت بين بحري الشريعة والحقيقة وتلك النعمة المثلى والمنقبة العظمى
يتبع ان شاء الله تعالى ..
حيث نسبوا وأسدوا لأنفسهم مقامات لا دليل لهم عليها من أنفسهم مما يشهدونه فيهم مما لا يوافق المنهج الرباني ولا من خارجها مما يشهده الناس من استعلاء وغرور صادرا منهم وهذا يعد من دائرة الكبر والكذب لذلك قيل لهم تكذيبا لدعواهم { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } لأن صاحب المحبوبية يغفر الله تعالى له جميع ذنوبه برحمته ولا يعذبه عليها لا في الدنيا ولا في الآخرة كونه صاحب توبة في كل أوقاته مهما أذنب وزل ..
لكن يجب العلم أن حقيقة التحدث بالنعم وإن كان مطلبا شرعيا في كل زمان ومكان للتعريف بمنة المنعم وجوده وكرمه وعطائه والإقرار بوجود جزيل فضله في كل الأوقات والأحوال كما ورد من حديثه عليه الصلاة والسلام ( أبوء لك بنعمتك عليّ } إلا أنه لا يكون على وجهه التام إلا بعد تمام النعمة وكمال المنّة وعظمة الفضل وجزالة الكرامة التي هي كرامة الوصول والعرفان وكمال الفتح والشهود فهذه غاية النعمة ولب الجود والكرم وعين العناية والمنّة الإلهية على العبد
فهي حضرة الكرم والفضل وروح الرحمة والإجتباء ومناط القرب والإصطفاء فلا يفرح عارف بنعمة تعادل فرحه بنعمة محبة الله له وقربه منه لأن النعم في نظرهم صنفان نعمة مقصودة لذاتها كالفتح والوصول ونعم أخرى كثيرة مقصودة لغيرها لذلك نبهوا أن السالك لا يجوز له التحدث بشيء من أسرار خصوصيته حتى يكمل في باب سيره وسلوكه ويبلغ درجات أهل الكمال خشية أن يقع في مزلات الدعوى وبهتان الهوى لأن كل ما يظهره السالك أو العارف مما اختصه الله تعالى به من غير إذن إلهي فهو على خطر جسيم لأن اظهار ما لم لا إذن لك في إظهاره يعد دعوى يخشى على صاحبها الوقوع في المكر والإستدراج ..
لذلك نبّه صاحب الحكم العطائية على هذا حيث قال ( استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك ) لأن الفقير الصادق لا تستشرف نفسه علم الخلق بخصوصيته فضلا أن يحرص تمام الحرص على اظهار ذلك في كل محفل لأن افشاء الأسرار الربانية لا يجوز وهو حرام عند أهل الطريق يأثم مرتكبه إلا ما كان بإذن إلهي صريح وهو ما يعبرون عنه بالوارد الصافي والإلهام الصحيح ...
ثمّ إن التحدث بالنعم الخاصة -وليست العامة التي يتشارك فيها جميع المخلوقين ولا يستغنون عنها لقوله تعالى { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }- إنما تكون لغاية معينة لأنها من نفس جنس الواردات الربانية التي إما تكون لقصد هداية مريد أو بسبب فيضان وجد وإن كان الكامل من الرجال عندما يتحدث بأنعم الله تعالى عليه بعد تمامها إنما يتحدث ليعرف بمقامه حتى يهتدي الخلق به ..
لأن من المطالب الشرعية أن يبيّن العالم منزلته في العلم متى جهلها الناس حتى يقتدي الخلق به ويسمعون منه فينتفعون به بخلاف أهل الأهواء من الذين يعملون على الظهور بأنفسهم للخلق بلا مقصد شرعي صحيح ولا إذن رباني صريح لذلك قالوا الظهور يقصم الظهور إذ لولا سيدنا موسى عليه السلام ما عرف أحد منا سيدنا الخضر عليه السلام الذي ورد ذكره في القرآن على مر الأزمان ..
لأن عالم الولاية يعطي معنى الخفاء أكثر مما يعطي معنى الظهور ونعني هنا خاصة التعريف بمقامات الربانيين ومنازلهم كأهل الكهف الذين ما كان يعرفهم إلا قليل كما قال تعالى { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } فالقلة لا يعلمها إلا القلة { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } { وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } فإذا كان في آخر الزمان عددهم قليل فكذلك سيكون عدد من يعرفهم قليل ...
لذا نبّه صاحب الحكم إلى أن معرفة أولياء الله الحقيقيين شأن رباني وفضل إلهي وذلك في قوله ( سُبْحانَ مَنْ لَمْ يَجْعلِ الدَّليلَ على أولياؤئه إلا مِنْ حَيثُ الدَّليلِ عَلَيهِ وَلمْ يوصِلْ إليهمْ إلا مَنْ أراد أَنْ يوصِلَهُ إليهِ ) لأن علاقتك بالله تعالى هي مفتاح وصولك لأوليائه وأحبابه فمتى علم الصدق منك في التوجه إليه ألقاك إلى من يوصلك إليه فيربيك ويزكيك ويدخلك إلى حضرته فتلك وظائف مشايخ التربية ومهام المرشدين فطريق السلوك لا ينادى عليه بلسان الإشتهار بل ينادى عليه بلسان الأحوال { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }
قلت :
أطلق شيخنا رحمه الله تعالى من الأسماء إسم " مرآة الذاكرين " على مناجاته الربانية كونها مرآة يرى فيها الذاكر نفسه فكانت كميزان يزن عليه السالك جميع أحواله ونوازله حتى يعلم محله من الإعراب في السير أما العارف الواصل فيشاهد في تلك المرآة ما من الله تعالى به عليه فيكون لسان حاله يقول لقد عبّر المؤلف عما بدواخلنا ونطق بما في قلوبنا فشهد شاهد من أهلها وكنا لشهادته من السامعين الشاهدين ولما آتاه الله مما يتعلق به في مقاماته من المبتهجين فطوبى له ولنا بالخير العميم والفضل الجزيل فجزاه الله عنا خيرا كثيرا حيث تركها وردا لمن رغب في نافلة الإستفادة إذ هم القوم لا يشقى جليسهم فكيف يشقى المتتبع لآثارهم المتعطش لأمدادهم
فمتى كان العبد من الذاكرين فتلك مرآته لشكر المنّة ومن كان من الغافلين فتلك مرآته لرفع الهمة فكانت ماء حياة للقلوب والأرواح كغيث ينفع حيث نزل ..
ثم هي مناجاة اجتمعت فيها خصائص للخاصة وهدايات للعامة فكانت تصلح وردا لأهل الظاهر والباطن حيث جمعت بين بحري الشريعة والحقيقة وتلك النعمة المثلى والمنقبة العظمى
يتبع ان شاء الله تعالى ..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
إلاهـــي قََدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْرِ كَرَمِكَ الزَّاخِرِ الذِي لا يَتَنَاهَى
من تمام نعم الله على عبده وصوله إلى مقامه الذي أراده الله تعالى واختاره له وتمكينه فيه { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } إذ منه يصح للعبد عندئذ الحديث عما أكرمه ربه به إذ من تمام نعمة الله على عبده وصوله إلى مقامه الموعود وحلوله في مقعده المشهود
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }
حيث ذكر هنا في الآية ترتيب المكرومات والتنبيه على المقاصد العاليات فذكر الفتح في باب الشهود ثم ما يستوجب ذلك من غفران سائر الذنوب وستر كافة العيوب ..
ثم الحلول في المقام الموعود بالنسبة لكل حبيب أو محبوب بينما كان من تمام نعمه على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم حلوله في مقامه المحمود الذي لا يصلح لغيره فهو صاحبه ثمّ بعد نوال جميع تلك المكرومات لا يراعي العبد إلا التماس سبل الهداية من خالق الأرضين والسماوات المعبر عنه بالصراط المستقيم إذ لا مناص من اتباعه لئلا يركن العبد لحظة إلى زواخر الكرامة أو يلتفت لمحة إلى أكوان الإقامة فيغتر بما نال ورأى فيستغنى وربما طغى وتجبر فيضل { إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } لذلك افتقر موسى وهو في عين الغنى بربه حيث قال { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } إذ لا بدّ لكل مقام من أدب ولكل وهب من شكر ولكل حال من صفاء
لذلك استفتح المؤلف رضي الله عنه مناجاته بقوله ( إلاهـــي قََدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْرِ كَرَمِكَ الزَّاخِرِ الذِي لا يَتَنَاهَى ) ذاكرا أنعم الله عليه عاجزا عن تعدادها مصداقا لقوله تعالى في كل منزلة من المنازل وفي كافة المراتب ظاهرا وباطنا { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } والإحصاء أبلغ من العد وأوسع إذ هو من صفات الخالق خاصة لقوله تعالى { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
بدأ بذكر كرم الله عليه الذي غمره كأنه استفتح بحمد الله وشكره لا فرق إذ هذا يستلزم ذلك ضرورة حتى عبر عنه بوصف الأمواج إذ الكرم كبحر ما استوقفك فيه إلا الموج الذي غمرك منه رغم أنك تسبح فيه ولا تشعر لذلك وصفه بالزاخر أي الذي يسعه ويسع غيره فلا ينفذ والذي لا يتناهى فتتجدد نعمه بلا مثال سابق بلا عدد ولا احصاء لمدد إلى أبد الآباد وهذا معنى الخلود الأبدي في بحر النعيم والكرامة إذ من علامات الكارع من بحر الكرم أن يصفه وصف المشاهد لا وصف الناقل إذ شتان بين المؤمن بالموعود وبين الموقن بالوعد
بدأ المؤلف بذكر أنعم الله عليه لأنه اعتراف بالفضل الإلهي عليه الذي يستوجب الشكر بداية ونهاية ثم يستوجب السؤال والطلب في عين العطاء والجود إذ ليس قيمة الثواب في ذات الثواب وإنما قيمة الكرامة في سريان أنفاس التوحيد فيها من هنا انطلق المؤلف في سؤال وطلب دوام التمكين والأدب وتمام التثبيت في حالة السلوك والجذب ...
...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
إلاهـــي قََدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْرِ كَرَمِكَ الزَّاخِرِ الذِي لا يَتَنَاهَى
هناك وجود النعم الإلهية السارية في كافة الأماكن والأزمان لأنه سبحانه المنعم على عباده وهناك اتمام النعمة الشاملة التي هي نعمة تمام العمل بأحكام الإسلام والتحلي بنور الإيمان ومكاشفات الإيقان ومشاهدات الإحسان كما قال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } لأن المراد والغاية هو قوله تعالى { وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لما للتطهير والتزكية من علاقة باتمام النعمة وما لاتمام النعمة من علاقة بمقام الشكر فكأن حاصل اتمام النعمة بدايته الوصول إلى الله تعالى ونهايته التمكين في المقامات وذلك بالتثبيت على الهدايات لقوله تعالى { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فحقيقة النعمة هو الثبات على صراط الله المستقيم وحقيقة النقمة هو الزيغ والطغيان عن ذلك الصراط كما أن حقيقة الكرامة هو الإستقامة كما قال الشيخ العارف سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه
لأن كل نعمة على العبد ظاهرة كانت أو باطنة علمها العبد أو جهلها تذكرها أو نسيها هي من بحر كرم الله تعالى وجوده وعطائه على الكافة من عباده خاصة وعامة
إذ أن مقام شكر الخواص على النعم يبدأ بعد تمام المعرفة والوصول والتمكين حيث تصبح جميع أعمال العارف وأفعاله الظاهرة والباطنة شكرا على سائر أنعم الله عليه كما قال تعالى في حق آل سيدنا داود النبي عليه السلام { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }
لذلك عندما تسمع أو تشاهد أحدا من أهل العرفان والولاية يذكر مقامه ومنزلته أو كل ما آتاه الله تعالى إياه من الخصوصيات والكرامات حذار أن يتسرب إلى ذهنك وقلبك غير فهم كونه قصد التحدث بأنعم الله تعالى عليه لئلا يكون لها جاحدا لقوله تعالى { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } لكن لا يكون ذلك إلا بإذن رباني ووارد رحماني كما بيناه في السابق لأن كل متحدث من أهل الولاية من غير الهام ووارد أو متقدم للمشيخة من غير إذن رباني فهو أقرب للدعوى من الحقيقة مهما أعجبنا كلامه وطربنا لنطقه كما بينه صاحب الحكم العطائية ( ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار )
لأن الأصل في الطريقة كونها طريقة كتم لا افشاء وكونها طريقة خفاء لا اظهار فلا يكون الحديث فيها إلا بإذن رباني لئلا تخرج الحقائق مكسوفة الأنوار فتمسي حجابا عن أنوار الواحد الغفار لذا وصف سيدي محمد المداني رضي الله عنه مناجاة شيخنا رحمه الله تعالى كونها واردا رحمانيا والهاما قدسيا فيضا من حضرة الله تعالى فكانت مددا ربانيا وكل ما كان من جنس المدد تزخر متونه ببحار من المعاني واللطائف والإشارات فيكون سيراج هداية وسبيل بيان وهلم جرا فحقيقة العلم ما كان مددا وفيضا متى علمت أن القرآن كله مدد من عند الله لكنه مدد في أعلى مراقيه شاملا في أرقى معاليه { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فكل ما كان من الفيوض والمدد فهو من جنس القرآن المعجز العلمي
لذا لا يخفى الفيض الرباني والمدد الرحماني إلا عن مطموس بصيرة فبكامل السهولة يمكن التمييز بين كلام أهل المدد وبين كلام المدعين المتشبهين بهم الذين يعلمون في قرارة نفوسهم لو صدقوا أنهم كاذبون لأن يسر تمييز هذا عن ذاك كيسر تمييز النور عن الظلمة بل حتى الضرير يمكنه تمييز ذلك فضلا عن البصير
..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
قال سيدي بن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى في مناجاته ( إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك ) فالكرم الإلهي على العبد يطلق لسانه بالثناء والشكر وينطقه متحدثا بالنعم لذلك بدأ المؤلف رضي الله عنه مناجاته بذكر مشاهداته لذلك الفيض من النعم التي يراها صادرة من المنعم عليه بها كأنها كانت الداعي والسبب في خروج تلك المناجاة المفاضة على قلب شيخنا رحمه الله تعالى لأن المكتوب يعرف من عنوانه فكان عنوان تلك المناجاة التي هي مرآة للذاكرين التنبيه على الفضل الإلهي على المؤلف وعلى كل ذاكر سلك طريقه لذلك رغّب مريديه في قراءة تلك المناجاة كلما سنحت الظروف والأحوال كونه يتمنى لهم وللمسلمين من الفضل ما ناله ومن الخير ما حصّله فحقيقة المريد الصادق من يسير بسير شيخه لتسري فيه أحواله الربانية ويتحقق بالمقامات العرفانية
غمرته لأنها كالأمواج لا حدّ لها ولا عدّ كيفا وكما لذلك لم يذكر نوعها ولا أفرادها أو ماهيتها حيث ذكرها بلسان الجمع كأنه يشير إلى أن غرضه كان الشكر عليها بداية ثم توفية الآداب فيها نهاية مع تمكينه فيها لئلا يزهد فيما آتاه الله فيكون من الخاسرين لقوله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام { قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } وهو الشكر على المقامات والمنازل والرتب إذ لا يتحقق الشكر مع انعدام شهود النعم فضلا عن فقدانها حسا ومعنى لذا بدأ المؤلف رضي الله عنه طلبه وسؤاله بتثبيته في تلك النعم وحرصه فيها حيث قال :
معنى الحرص هنا أي يا رب كن لي حصنا على أن لا أطغى بأمواج بحر كرمك الزاخر التي غمرتني من جنس قوله تعالى في حق سيد الرسل عليه الصلاة والسلام { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي حريص على منفعتكم فكذلك يا رب اجعلني حريصا بك على منفعتي من تلك النعم لئلا أطغى بها كما طغى السامري من قبل مصداقا لقوله تعالى في حق إمام العارفين عليه الصلاة والسلام { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } مما شاهد ورأى حيث { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ } أي آيات الكرم الإلهي عليه صلى الله عليه وسلم متى علمت أن ليلة عرج به أطلعه الله تعالى على كل ما أودعه في حقيقته المحمدية مما كان عليه الصلاة والسلام غافلا عنه { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } عن خصوصيتك وخصوصيات العالم لشدة فنائه في حضرة ربه فلا يرى سواها ولا يلحظ غيرها صلى الله عليه وسلم
متى علمت أن الحرص نوعان حرص مذموم وهو طمع النفس وتشوفها إلى الحظوظ فتحرص على تحقيق أهوائها وشهواتها الخفية والجلية وحرص محمود وهو حرص العبد على كل ما يقربه إلى الله تعالى كما حرص عليه الصلاة والسلام على نجاح وفلاح أصحابه وأمته من بعده
قرأت لبعض ساداتنا كون الكلمة الصحيحة هي " أحرسني فيها " وليست " أحرصني فيها " والجواب أن الصحيح هو " أحرصني فيها " معنى ومبنى وهذا ما ورد في المتن الأصل الذي عرض على المؤلف رحمه الله تعالى وأقره
...
إلاهـــي قََدْ غَمَرَتْنِي أَمْوَاجُ بَحْرِ كَرَمِكَ الزَّاخِرِ الذِي لا يَتَنَاهَى
غمرته لأنها كالأمواج لا حدّ لها ولا عدّ كيفا وكما لذلك لم يذكر نوعها ولا أفرادها أو ماهيتها حيث ذكرها بلسان الجمع كأنه يشير إلى أن غرضه كان الشكر عليها بداية ثم توفية الآداب فيها نهاية مع تمكينه فيها لئلا يزهد فيما آتاه الله فيكون من الخاسرين لقوله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام { قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } وهو الشكر على المقامات والمنازل والرتب إذ لا يتحقق الشكر مع انعدام شهود النعم فضلا عن فقدانها حسا ومعنى لذا بدأ المؤلف رضي الله عنه طلبه وسؤاله بتثبيته في تلك النعم وحرصه فيها حيث قال :
فَأحْرِصْنِي فِيهَا حَتَّى لا أَطْغَى بِهَا وَثَبِّتهَا لدَيَّ بِتَوْفِيقِي لِشُكْرِكََ عَلَيْهَا
معنى الحرص هنا أي يا رب كن لي حصنا على أن لا أطغى بأمواج بحر كرمك الزاخر التي غمرتني من جنس قوله تعالى في حق سيد الرسل عليه الصلاة والسلام { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي حريص على منفعتكم فكذلك يا رب اجعلني حريصا بك على منفعتي من تلك النعم لئلا أطغى بها كما طغى السامري من قبل مصداقا لقوله تعالى في حق إمام العارفين عليه الصلاة والسلام { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } مما شاهد ورأى حيث { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ } أي آيات الكرم الإلهي عليه صلى الله عليه وسلم متى علمت أن ليلة عرج به أطلعه الله تعالى على كل ما أودعه في حقيقته المحمدية مما كان عليه الصلاة والسلام غافلا عنه { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } عن خصوصيتك وخصوصيات العالم لشدة فنائه في حضرة ربه فلا يرى سواها ولا يلحظ غيرها صلى الله عليه وسلم
متى علمت أن الحرص نوعان حرص مذموم وهو طمع النفس وتشوفها إلى الحظوظ فتحرص على تحقيق أهوائها وشهواتها الخفية والجلية وحرص محمود وهو حرص العبد على كل ما يقربه إلى الله تعالى كما حرص عليه الصلاة والسلام على نجاح وفلاح أصحابه وأمته من بعده
قرأت لبعض ساداتنا كون الكلمة الصحيحة هي " أحرسني فيها " وليست " أحرصني فيها " والجواب أن الصحيح هو " أحرصني فيها " معنى ومبنى وهذا ما ورد في المتن الأصل الذي عرض على المؤلف رحمه الله تعالى وأقره
...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
هذه المناجاة بحر زاخر.. وهذا الشرح -رغم أنه يتعلق فقط بالجملتين الأوليتين- فيض باهر. والحمد لله رب الظواهر والسرائر.
أسأله تعالى أن يوفقكم لتكملة هذا الشرح الثاني، وأن يوفقني لطباعة المناجاة وإخراجها بجميع ما أمكن من شروحها.. آمين.
أسأله تعالى أن يوفقكم لتكملة هذا الشرح الثاني، وأن يوفقني لطباعة المناجاة وإخراجها بجميع ما أمكن من شروحها.. آمين.
إلياس بلكا- عدد الرسائل : 48
العمر : 55
تاريخ التسجيل : 15/05/2015
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
الحمد لله
بصراحة سيدي علي أثلجت قلبي وهيجت مهجتي بهذا الشرح الوافي والزاخر والذي ضاهى المشروح واستضاء منه عمق المعاني وسلاسة الفهم وهذا ما كنت منتظره منكم سنوات ولعلي طلبت منكم ذلك.
فجزاك الله عنا كل خير وواصل بإتحافنا ودندن لنا باسم الوهاب فالخير زاخر والممد صاحب من وعطاء...
بصراحة سيدي علي أثلجت قلبي وهيجت مهجتي بهذا الشرح الوافي والزاخر والذي ضاهى المشروح واستضاء منه عمق المعاني وسلاسة الفهم وهذا ما كنت منتظره منكم سنوات ولعلي طلبت منكم ذلك.
فجزاك الله عنا كل خير وواصل بإتحافنا ودندن لنا باسم الوهاب فالخير زاخر والممد صاحب من وعطاء...
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا سيدي إلياس
هي كذلك بشهادة سيدي محمد المداني رضي الله عنه حيث وصفها بأنها " وارد رحماني "هذه المناجاة بحر زاخر...
لا أعتقد ذلك ولا أظنه إنما هي قراءات في متن المؤلف رحمه الله تعالى قد تصيب وقد تخطئ لا أدعي كونها فيضا ولا فتحا ففاقد الشيء لا يعطيه فهذه الحقيقة غاية الكلام أنها مراسيل محبة لشيخنا رحمه الله تعالىوهذا الشرح -رغم أنه يتعلق فقط بالجملتين الأوليتين- فيض باهر..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
جزاكم الله خيرا على حسن ظنكم بالعبد الفقير سيدي محسن فهذا من محاسن شيمكمأبو أويس كتب:الحمد لله
وهذا ما كنت منتظره منكم سنوات ولعلي طلبت منكم ذلك...
فجزاك الله عنا كل خير وواصل بإتحافنا ودندن لنا باسم الوهاب فالخير زاخر والممد صاحب من وعطاء...
كنت عزمت على كتابة بعض معان وردت في المناجاة الزاخرة منذ سنوات كما ذكرتم تماما إلا أن كثرة ذنوبي وبعدي عن القوم ومشربهم حال دون ذلك نسأل الله تعالى الغفران والتوفيق والسداد اللهم آمين
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
ذكر هنا في معرض الدعاء والسؤال مسألتين هامتين :فَأحْرِصْنِي فِيهَا حَتَّى لا أَطْغَى بِهَا وَثَبِّتهَا لدَيَّ بِتَوْفِيقِي لِشُكْرِكَ عَلَيْهَا
الأولى : الخوف من الطغيان بالنعم
الثانية : الخشية من سلبها بعد عطائها
وكل هذا مرده إلى خشية الفتنة بها متى وقف العبد معها أو مال إليها طرفة عين كما مال من قبل آدم إلى الحرص على الخلود في الجنّة فأكل من الشجرة رغم ورود النهي بخصوصها متى علمت أيضا أنها من جملة نعيم الجنة التي كان فيها وإلا ما أكل منها إذ لا يوجد في الجنان غير النعماء والكرامة إنما كان النهي عن الأكل منها لحكمة ...
فكانت خشية المؤلف رضي الله عنه من الإبتلاء والإختبار في معرض التحدث بأنعم الثواب والكرامة لأنّه لا يأمن المكر الإلهي لقوله تعالى { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } ثمّ لما تمليه فروض الآداب في الأخذ والترك لكون غايته رضي الله عنه الأخذ بالله والترك به لا الأخذ بالنفس والترك بها لأنّ هذا الحال الأخير يدخله في عدم الضمانة والحفظ الرباني لأنّ العارف لا يأخذ إلا بالله لا بنفسه وكذلك في الترك
فسأل الحرص في عدم الطغيان بها ثمّ تثبيتها لديه على شرط توفيقه للشكر عليها لأنّ العبد الرباني لا يشهد من أوصاف الأنعم عليه إلا ما وفّى فروض شكرها على قدر استطاعته ووسعه وإلا فقد يشهد النعمة نقمة متى حجب بها عن ربه الذي أكرمه ونعمه كما فعل سيدنا سليمان عليه السلام { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ }
فكان سبب سؤاله الحرص فيها هو لقصد عدم الطغيان بها فكانت خشيته من الطغيان ضاهى فرحه بورود النعم وتدفق المكرومات عليه حيث غمرته كالأمواج من كل مكان وجانب ثمّ حتى لا يجحد ما أوتي من كرامة أو يتكبّر على ما نال من المنّة الإلهية سأل تثبيتها لديه لكن ترافق مع طلب التوفيق للشكر عليها لأن الفرح بالنعم والكرامات والعطاء دون الإنتباه إلى مطلب التوفيق للشكر عليها وهو الفرح بالمنعم الذي أنعم بها يهوي بالعبد إلى مزالق الإغترار الذي يدخله في نسبة الأنعم إليه عن طريق الإيحاء أو الإشارة فضلا عن التصريح بالعبارة
لذا لا تجد عارفا يغتر بما آتاه الله تعالى من النعم والكرامات مهما بلغت الآفاق بل قد يكون وجلا واقفا على بساط الأدب لأنّه قد لا يعلم مراد الله تعالى فيما آتاه لوجود السلب بعد العطاء والطرد بعد القبول والعقاب بعد الثواب والعتاب بعد العجلة { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ...
لذا يكون حرص العارف على توفية حقوق الشكر والوقوف على بساط الأدب عند توارد العطايا والمنن أولى عنده من شهود النعم والفرح بالمقامات لمراقبته لمولاه الذي تولاه في الأنفاس حيث يزن الخاطر بالقسطاس ..
فكان حرص المؤلف رضي الله عنه على توفية حقوق الشكر وآداب القبول أولى عنده من الفرح بالنعمة دون المنعم بها عليه الذي يراقبه في الأنفاس حيث قال ( فَأرَاهَا منْكَ وَإليْكَ ) أي تلك النعم وتلك الأمواج من الكرم التي غمرته إنما يراها من الله وإليه فهي وإياه ملك ذاتي لربه لا يشاركه فيها من شيء لا في قليل ولا كثير لأنّ الأصل في العبد الفقر فهو وصف ذاتي له في كل وقت وآن بينما وصف الغنى لا يكون إلا لله أزلا وأبدا لا يشاركه في غناه الذاتي أحد من خلقه كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } حيث أطلق الفقر الذاتي على الكافة من الناس فلم يخصص وعليه قس بعد ذلك غيرهم من الأمم والأجناس الأخرى فإذا كان الخليفة له هذا الفقر الذاتي الدائم فبصفة أولى يكون لغيره ممن ليس هو بخليفة مثله ...
إذا علمت ذلك فاعلم أن مشهده رضي الله عنه كونه ( فَأرَاهَا منْكَ وَإليْكَ ) مشهد حقيقي لا تكلف فيه لا شريعة ولا حقيقة لأنّ الشريعة والحقيقة يدلان على ذلك أي شرعا وعرفانا أو قل إيمانا وإيقانا لذا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول كما قال تعالى { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله ( فَأرَاهَا منْكَ وَإليْكَ ) يجوز أن يكون كلاما مستقلا لأن ذلك مشهد كل عارف واصل يرى النعم والكرامة جميعها من الله وإليه كما يجوز أن يكون كلامه معطوفا على ما قبله وهو قوله ( فَأحْرِصْنِي فِيهَا حَتَّى لا أَطْغَى بِهَا وَثَبِّتهَا لدَيَّ بِتَوْفِيقِي لِشُكْرِكَ عَلَيْهَا ) أي عندما تجيب سؤالي بتثبيتي لشكرك عليها بعد توفيقي للحرص على عدم الطغيان بها سوف لا أراها في تلك الحالة إلا منك صادرة وإليك عائدة فيرتقي حالي إلى ( وَأكُونُ فِيهَا دَاعيًا بِكَ إليْكَ ) أكون داعيا بك لا بها وإليك لا إليها حيث استهلك جميع تلك النعم في الدلالة عليك وإيقاف نفسي والناس بين يديك كما أكون داعيا فيها بك لأنّك أقرب إليّ منها حيث يتم شهود المنعم قبل مشاهدة النعمة لئلا تمسي على قلبي حجابا فتكلني إلى نفسي فيها فأطغى بها
إذ لا غرض لي فيها ما دمت لا أراها منك وإليك ولا أكون فيها داعيا بك إليك لأنك المنى وإليك المنتهىفَأرَاهَا منْكَ وَإليْكَ وَأكُونُ فِيهَا دَاعيًا بِكَ إليْكَ
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
من الطغيان بالنعم الإلهية صرفها فيما لا يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام سواء أكانت تلك النعم والمكرومات أم الخصائص والمقامات حسية مادية أم معنوية روحية لذلك يخشى أهل الله تعالى من الإستدراج والمكر الإلهي الخفي عند الإخلال بأدب من آداب العبودية وهم في بحر العطاء الإلهي والكرامة الربانية خشية الإغترار كما اغتر إبليس لعنه الله من قبل { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }
قال تعالى في أهل الكفر { وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
وقال لقمان لإبنه وهو يعظه كما قال تعالى { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }
ينبهه على آداب الربانيين ليهتدي بها
لأن العلاقة الأصلية التي تربط العبد بربه علاقة عبودية بالأساس فجميع الأعمال والأحوال والمقامات تدور حول أصل شجرة العبودية كما تدور الرحى حول قطبها فالعبودية أصل بينما كل ما يتفرع عنها من الثمرات والخصائص يعود إليها فكل فرع لا يعود لأصله يمسي مقطوعا لقيطا معطوبا لذلك أصبحت الحظوظ في حق أهل الله حقوقا تعين توفيتها فلا تتشوف لها نفوسهم إلا من حيث كونها حقوقا بينما نظر إبليس لعنه الله تعالى إلى الخلافة من باب حظوظ نفسها منها لا من باب حقوق ربه فيها كما نظرت إليها الملائكة التي سجدت لآدم فلما رآها من جملة الحظوظ تشوفت نفسه إليها فعصى أمر ربه بسببها لذا لا تجد في قلب عارف حظ من حظوظ النفس لا ظاهرا ولا باطنا كونه انتقل من مرتبة حظوظ النفس إلى مقام توفية حقوق الرب ..
لذلك سأل المؤلف رضي الله عنه الوقاية من الطغيان بتلك النعم وأمواج الكرم ذلك البحر الزاخر الذي لا يتناهى كونه في تجدد مستمر وهذا لا يتأتى إلا عندما يتخذ ربه حصنا حصينا فلا يكله إلى نفسه طرفة عين ولا أقل من ذلك فلا يتصرف في شيء إلا بربّه فبه يأخذ وبه يعطي وبه يترك وهكذا ..
لذا قال ( فأراها منك وإليك ) فما قال أراها آتية منك نازلة إليّ لأنه كان فانيا عن نفسه باقيا بربه فلا يشهد مع ربه سواه وهذا المشهد مشهد المحققين من العارفين الذين يتكلمون بلسان الجمع أي الجمع بين الشريعة والحقيقة والعلم والعرفان وهذا معنى جوامع الكلم الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل ( أوتيت جوامع الكلم وأختصر لي الكلام اختصارا ) لهذا نبه عليه الصلاة والسلام أن لكلامه من المراتب ثلاث مرتبة شريعة ومرتبة طريقة ومرتبة حقيقة تستشعر ذلك وتلحظه في دعائه لكل امرئ سمع مقالته فوعاها ثم اداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه لمن هو أفقه منه ..
لأن حامل الفقه هو العالم الحافظ المتقن بينما ربما يكون المتلقي عنه أوعى فهما منه وهو ليس من العلماء أي ليس له مثل حفظه واتقانه لكنه من الأولياء من أهل الفقه القلبي ونور البصيرة .. فافهم معنى : رب مبلغ بفتح حرف اللام اسم مفعول أوعى من سامع وهو الحامل المبلغ بكسر حرف اللام اسم فاعل ..
بيد أن كلام المؤلف رضي الله عنه كان ممزوجا بين أحكام الشريعة ومعارف الحقيقة فكان لسانه جمعيا أي له وجه للشريعة ووجه آخر للحقيقة حيث مجمع البحرين بينهما برزخ لا يبغيان
هذا كي تدرك خشية العارف من الطغيان وهو في أعلى المقامات وأرقى المنازل العاليات كيف لا وقد قيل لإمام العارفين صلى الله عليه وسلم وهو في أعلى عليين { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ }
الشاهد قوله وهو في أعلى مراتب الكرامة { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } كي تدرك مرام سؤال المؤلف رضي الله عنه الحفظ والحصن من الطغيان بما كوشف به من مكارم النعم وأوتي من جلائل أمواج الكرم
قوله ( وأكون فيها داعيا بك إليك ) نهاية الشكر عليها حيث استعملها في الدلالة على المنعم بها عليه وهذا من توفية حقوق الشكر على النعم لكون شكر النعم يتمثل في صرفها جميعا فيما يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لأن مشهده كان الفقر التام حيث لا يرى لنفسه استحقاقا ولا لما صدر منه من الأعمال وتحلى به من الأحوال مقابلا لما أكرمه ربه به لذلك قال بعد ذلك رضي الله عنه ذاكرا المنّة شاكرا النعمة
قال تعالى في أهل الكفر { وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
وقال لقمان لإبنه وهو يعظه كما قال تعالى { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }
ينبهه على آداب الربانيين ليهتدي بها
لأن العلاقة الأصلية التي تربط العبد بربه علاقة عبودية بالأساس فجميع الأعمال والأحوال والمقامات تدور حول أصل شجرة العبودية كما تدور الرحى حول قطبها فالعبودية أصل بينما كل ما يتفرع عنها من الثمرات والخصائص يعود إليها فكل فرع لا يعود لأصله يمسي مقطوعا لقيطا معطوبا لذلك أصبحت الحظوظ في حق أهل الله حقوقا تعين توفيتها فلا تتشوف لها نفوسهم إلا من حيث كونها حقوقا بينما نظر إبليس لعنه الله تعالى إلى الخلافة من باب حظوظ نفسها منها لا من باب حقوق ربه فيها كما نظرت إليها الملائكة التي سجدت لآدم فلما رآها من جملة الحظوظ تشوفت نفسه إليها فعصى أمر ربه بسببها لذا لا تجد في قلب عارف حظ من حظوظ النفس لا ظاهرا ولا باطنا كونه انتقل من مرتبة حظوظ النفس إلى مقام توفية حقوق الرب ..
لذلك سأل المؤلف رضي الله عنه الوقاية من الطغيان بتلك النعم وأمواج الكرم ذلك البحر الزاخر الذي لا يتناهى كونه في تجدد مستمر وهذا لا يتأتى إلا عندما يتخذ ربه حصنا حصينا فلا يكله إلى نفسه طرفة عين ولا أقل من ذلك فلا يتصرف في شيء إلا بربّه فبه يأخذ وبه يعطي وبه يترك وهكذا ..
لذا قال ( فأراها منك وإليك ) فما قال أراها آتية منك نازلة إليّ لأنه كان فانيا عن نفسه باقيا بربه فلا يشهد مع ربه سواه وهذا المشهد مشهد المحققين من العارفين الذين يتكلمون بلسان الجمع أي الجمع بين الشريعة والحقيقة والعلم والعرفان وهذا معنى جوامع الكلم الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل ( أوتيت جوامع الكلم وأختصر لي الكلام اختصارا ) لهذا نبه عليه الصلاة والسلام أن لكلامه من المراتب ثلاث مرتبة شريعة ومرتبة طريقة ومرتبة حقيقة تستشعر ذلك وتلحظه في دعائه لكل امرئ سمع مقالته فوعاها ثم اداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه لمن هو أفقه منه ..
لأن حامل الفقه هو العالم الحافظ المتقن بينما ربما يكون المتلقي عنه أوعى فهما منه وهو ليس من العلماء أي ليس له مثل حفظه واتقانه لكنه من الأولياء من أهل الفقه القلبي ونور البصيرة .. فافهم معنى : رب مبلغ بفتح حرف اللام اسم مفعول أوعى من سامع وهو الحامل المبلغ بكسر حرف اللام اسم فاعل ..
بيد أن كلام المؤلف رضي الله عنه كان ممزوجا بين أحكام الشريعة ومعارف الحقيقة فكان لسانه جمعيا أي له وجه للشريعة ووجه آخر للحقيقة حيث مجمع البحرين بينهما برزخ لا يبغيان
هذا كي تدرك خشية العارف من الطغيان وهو في أعلى المقامات وأرقى المنازل العاليات كيف لا وقد قيل لإمام العارفين صلى الله عليه وسلم وهو في أعلى عليين { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ }
الشاهد قوله وهو في أعلى مراتب الكرامة { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } كي تدرك مرام سؤال المؤلف رضي الله عنه الحفظ والحصن من الطغيان بما كوشف به من مكارم النعم وأوتي من جلائل أمواج الكرم
قوله ( وأكون فيها داعيا بك إليك ) نهاية الشكر عليها حيث استعملها في الدلالة على المنعم بها عليه وهذا من توفية حقوق الشكر على النعم لكون شكر النعم يتمثل في صرفها جميعا فيما يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لأن مشهده كان الفقر التام حيث لا يرى لنفسه استحقاقا ولا لما صدر منه من الأعمال وتحلى به من الأحوال مقابلا لما أكرمه ربه به لذلك قال بعد ذلك رضي الله عنه ذاكرا المنّة شاكرا النعمة
وسنأتي عليه إن شاء الله تعالى ..إذ رحمتك جاءت بي إليك وفضلك دلني عليك
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
شهود المنّة مقدم على مستوجبات القيام بحقوق الشكر إذ لا يعقل أن يكون العبد من الشاكرين حقا وصدقا ما دام لم يستشعر ذوقا أسر المنّة والمنة منّتان :إذْ رَحْمَتُكَ جَاءَتْ بِي إلَيْكَ وَفَضْلُكَ دَلَّني عَليْكَ
- منّة عامة وهي منّة الله تعالى على جميع خلقه
- منّة خاصة وهي منّة الإيمان كما قال تعالى { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
وهي أيضا نوعان منّة الهداية إلى الإيمان ومنّة الإصطفاء إلى مقام الإحسان وهذا الذي أشار إليه المؤلف في قوله رضي الله عنه ( إذْ رَحْمَتُكَ جَاءَتْ بِي إلَيْكَ ) وهي منة الهداية إلى طريق الخواص الذي هو طريق السير والسلوك الذي عبر عنه بالمجيء أي جاءت بي رحمتك إليك في الوقت الذي أردته وسبق في علمك أنه يكون حيث سبقت لي العناية منك نهاية الرحمة بي والفضل عليّ ..
كما قال تعالى في حق سيدنا موسى عليه السلام { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى }
قال الإمام السعدي في تفسيره في شرح ذلك أي : جئت مجيئا قد مضى به القدر وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام
مع العلم أن رحمة الله الواسعة ما ظهرت في أحد من الخليقة مثلما ظهرت في سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم المقول فيه { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } فكان صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة التي اهتدى بها الإنس والجن إذ لا يمكن أن يجيء أحد من العباد إلا من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كما قال تعالى { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } المقول فيه { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ ... } لكن الفاني في الله تعالى لا يرى معه سواه فهو في بحار التوحيد لا يثبت سببا عند التحقيق في هذا المقام لأنه لا يشهد إلا المسبب الحميد المجيد ..
أما قوله ( وَفَضْلُكَ دَلَّني عَليْكَ ) لأنه مادامت الرحمة جاءت به إليه فبصفة أولى أن لا يدله فضله الذي هو خارج التقييد والدوائر والتصنيف إلا عليه لأن حقيقة الرحمة هو كل ما جاء بك إليه بينما حقيقة الفضل هو كل ما دلك عليه لذلك قال تعالى في حق سيد الخلق عليه الصلاة والسلام { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } الذي لم يدلك يا محمد إلا عليه فكلما عظم الفضل كلما زادت المعارف والعلوم بتوحيد العلي الكبير لذلك قال له قبل أن يشير إلى الفضل في نفس الآية { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } كأن الفضل الحقيقي ما تعلق بهذا الأمر من الدلالة والعرفان بالله تعالى خاصة..
مع العلم أن هناك الفضل العام وهناك الفضل الخاص وحديثنا عن الفضل الخاص الذي ذكره المؤلف رضي الله عنه حيث تعين شرح مناجاته في مجالها المذكور المشار إليه في العنوان ...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بعد أن وصف بحر كرم ربه عليه الزاخر بالعطايا والمنن والمواهب والنعم وصف المعاين الذي غمرته أمواجه من كل جهة ظاهرا وباطنا حتى سأل الحفظ من الطغيان به والتثبيت للشكر عليه رجع إلى الثناء والتمجيد على الغني الحميد ناسبا ما هو فيه إلى حضرة كرم ربه عليه من حيث إسمه الكريم واسمه الجواد فقال ( وَالكَريم إذَا أعْطَى أجْزَلَ العَطَاء ) لأن من أوصاف الكريم أن يجزل العطاء عندما يعطي حتى يرضى العبد فيكتفي من حيث وسع أخذه ثم يرضى الرب من حيث وسع كرمه ..وَالكَريم إذَا أعْطَى أجْزَلَ العَطَاء َوَرَفَعَ عَنْ عَظِيمِ آيَاتِ جُودِهِ الغِطَاء وَكَيْفَ لا وَأنْتَ أَكْرَمُ الأكْرَمِين
ذكر شواهد من كرم الله تعالى وجوده وردت في أحاديثه عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة : رجل يخرج من النار حبوًا فيقول الله -تبارك وتعالى- له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع
فيقول: يا رب وجدتها ملأى فيقول الله -تبارك وتعالى- له: اذهب فادخل الحنة قال: فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك عشرة أمثال الدنيا قال فيقول: أتسخر بي؟ أو أتضحك بي وأنت الملك؟
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه قال: فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة ... )
ومن ذلك ما ورد في شفاعته عليه الصلاة والسلام حتى يقال له هل رضيت يا محمد ؟ فيقول بلى رضيت لقوله تعالى { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }
وما ورد من حديث قدسي في القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم غاية العطاء ونهاية الجود الإلهي حيث بهم تتنزل الرحمات ويفوز محبهم ومجالسهم فكيف بهم وهم المقول فيهم وفي أمثالهم وأتباعهم { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
لأن غالبية أهل الإيمان غير مكاشفين بما أعد لهم الرحمان يوم القيامة في دار الجنان من عطاء وكرامة إذ لو كوشفوا لآثروا الإنتقال إلى دار القرار واستعجلوا الموت من جنس حال الشهداء مع مراعاة الفارق بعد القياس { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
أما أهل العرفان فهم أهل مكاشفة وعيان ربما يرى أحدهم مقامه في الجنة وجميع ملكه فيها وهو ما يزال في دار الدنيا لكن هممهم لا تتعلق بذلك ولا تتشوف إليه رغم فرحهم وسعادتهم بما آتاهم الله من فضله ظاهرا وباطنا { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }
لذا قال المؤلف رضي الله عنه ( وَالكَريم إذَا أعْطَى أجْزَلَ العَطَاء ) لأنه لا يستشعر في هذا المقام من أعماله أو أحواله شيئا فيطلب عوضا عليها أو يشهد ذرة من المنة على ربه بل لا يشهد غير كرم ربه وجوده عليه ومنّته التي ساقها إليه بلا تقدم استحقاق بل بمحض الفضل والإمتنان وهذا مشهد العارفين بربهم
بخلاف مشهد العبّاد والزهاد من المحجوبين رغم أن استشعارهم لأعمالهم حاضرا في كثير من الأحيان إلا أن كرم ربهم عليهم ظاهرا للعيان في كل مكان وزمان ترغيبا في خروجهم من شهود صدور العمل من تدبير وجهد النفس والبقاء مع سكرة الحس إلى شهود رحمة الله وفضله عليهم ذوقا ويقينا جازما لا تخمين فيه { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
لأن العدل أن تكون الحسنة بمثلها كالسيئة التي لا يجازى إلا بمثلها سواء بسواء وإنما الذي أخرج عددها من المثل إلى عشر أضعافها هو الفضل الإلهي والكرم الرباني
لذا قال المؤلف رحمه الله ( وَرَفَعَ عَنْ عَظِيمِ آيَاتِ جُودِهِ الغِطَاء ) من باب قوله تعالى { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } لأن أصل المعضلة تتمثل في حجاب العبد عن آيات ربه الظاهرة في كل آن وحين التي منها آيات الجود والكرم { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ } فليس بينه وبينها إلا رفع الغطاء عنها كعين ملأى بماء منفجر منهمر ما يحجز ذلك الماء عن الفيضان إلا غطاء العين من الأحجار { فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ ...}
أي في الظاهر والباطن لكون الماء أصل الحياة في الظاهر والباطن وما الظاهر إلا صورة الباطن أو قل ظله ..
قال المؤلف رحمه الله تعالى ( وَكَيْفَ لا وَأنْتَ أَكْرَمُ الأكْرَمِين ) كيف لا يكون ويحصل كل ذلك الكرم والجود منك وأنت أكرم الأكرمين حتى اكتسب من فيض صفات كرمك كل كريم ما اتصف به من صفات الكرم المنسوب في الحقيقة إليك إذ ما ثم كريم سواك
فأنت أكرمهم لأن الكرم صفة لك وكذلك الجود لا يشاركك فيهما سواك ثمّ لأنك تفضلت عليهم بسريان صفات كرمك فيهم حتى صاروا كرماء وعادوا أهل جود وفضل والكل في الحقيقة منك وإليك وهذا ما نبه عليه المؤلف في قوله السابق رضي الله عنه ( فَأرَاهَا منْكَ وَإليْكَ وَأكُونُ فِيهَا دَاعيًا بِكَ إليْكَ ) فرد الفروع إلى أصلها والشريعة إلى الحقيقة
مما ورد في كرم النبي صلى الله عليه وسلم :
عن موسى بن أنسٍ عن أبيه قال (ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة )
وقد وصفوا كرمه بأنه كالريح المرسلة
لذلك سأل المؤلف ضمنا بعد الثناء والشكر بزيادة العطاء والنعماء الذي لا يتناهى والكرم الرباني الذي لا حد له في قوله رضي الله عنه
وهذا ما رده بعد ذلك إلى التساؤل والحيرة في الجزء الثاني من مناجاته معترفا بعجزه عن السؤال والطلب لنفسه لفنائه في مرادات ربه به وذلك في قوله رضي الله عنه ( إلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي )وَالكَريم إذَا أعْطَى أجْزَلَ العَطَاء َوَرَفَعَ عَنْ عَظِيمِ آيَاتِ جُودِهِ الغِطَاء وَكَيْفَ لا وَأنْتَ أَكْرَمُ الأكْرَمِين
..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بارك الله فيكم سيدي علي.
أتابع شرحكم للمناجاة العظيمة، ولا أحب أن أقطع عليكم الشرح بتعقيب أو سؤال أو نحو ذلك.. حيث هذا التدخل أحيانا يشغلكم ويربك سلاسة الشرح واستمراره.
لكن وأنا أقرأ هذه الكلمات الطيبة عن الجود والكرم الإلهي خطر ببالي أن شيخ شيخنا -سيدي إسماعيل رضي الله عنهما- لم يأت في مناجاته كلها على كلمة "الفقر"... وهي صفة العبد المقابلة لغنى الله وكرمه. لا توجد إشارة إلى هذه اللفظة بالذات. وهذا أمر أحسب أن له تفسيرا ولابد.
والله تعالى أعلم.
أتابع شرحكم للمناجاة العظيمة، ولا أحب أن أقطع عليكم الشرح بتعقيب أو سؤال أو نحو ذلك.. حيث هذا التدخل أحيانا يشغلكم ويربك سلاسة الشرح واستمراره.
لكن وأنا أقرأ هذه الكلمات الطيبة عن الجود والكرم الإلهي خطر ببالي أن شيخ شيخنا -سيدي إسماعيل رضي الله عنهما- لم يأت في مناجاته كلها على كلمة "الفقر"... وهي صفة العبد المقابلة لغنى الله وكرمه. لا توجد إشارة إلى هذه اللفظة بالذات. وهذا أمر أحسب أن له تفسيرا ولابد.
والله تعالى أعلم.
إلياس بلكا- عدد الرسائل : 48
العمر : 55
تاريخ التسجيل : 15/05/2015
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بارك الله فيكم أستاذ إلياس بلكا وجزاكم خيراإلياس بلكا كتب:... خطر ببالي أن شيخ شيخنا -سيدي إسماعيل رضي الله عنهما- لم يأت في مناجاته كلها على كلمة "الفقر"... وهي صفة العبد المقابلة لغنى الله وكرمه. لا توجد إشارة إلى هذه اللفظة بالذات. وهذا أمر أحسب أن له تفسيرا ولابد.
والله تعالى أعلم.
الفقر عند أهل الله ليس مجرد كلمة أو إسم أو لفظة تتداول كتابتها أو نطقها والتلفظ بها بل هو وصف ذاتي لكل ذات إنسية في كل مكان وزمان بمعنى أن ذات الإنسان في حد ذاتها فقيرة إلى مولاها فقرا ذاتيا فضلا عن صفات تلك الذات البشرية وهذا الفقر الذاتي يكون ظاهرا كما يكون باطنا
فالفقر وصف حال دائم فهو عنوان حضرة العبودية لله تعالى وليس هو فرد من أفراد تلك الحضرة بل هو مجموعها بمعنى أن كل فرد من أفراد أسرة العبودية لله تعالى يعود إلى أصل شجرته الذي هو الفقر الذاتي لله تعالى وليس بالضرورة أن يعبر عنه العبد تلفظا إلا في مقام الشريعة أي في مقام الأدب مع الله تعالى لأن التقيد بحكم الشرائع الإلهية هو الأدب مع الله تعالى فيقول العبد واصفا نفسه بـــ ( العبد الفقير ) بينما هناك كثير من العباد يتلفظون بهذا الوصف في حق أنفسهم ظانين أنهم بذلك تواضعوا وهم في الحقيقة ما صدر منهم ذلك إلا دعوى للفقر وهم منه خواء
مع العلم أن اطلاق وصف الفقر حقيقة لا يكون إلا في مقام البقاء بالله تعالى لأن التحقق بوصف الفقر الذي ذكره سيدنا موسى عليه السلام لا يكون إلا في مقام البقاء بالله تعالى { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) مع الإشارة هنا أنه لم يأت بلفظة " آتيتني " كما قال سليمان عليه السلام { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أو كما قال يوسف عليه السلام { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } أو كذي القرنين المقول فيه { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } ... إلى غير ذلك
لأن الملك الظاهر خاصة يعطي مظنة الغنى لأنه من عالم الملك الذي عالمه عالم حكم ورئاسة لذلك خدمت الجن والشياطين والطير والريح وغيرها الملك سيدنا سليمان عليه السلام لذلك قال { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } فما جاء بلفظة الجحود التي تقابل لفظة الشكر إنما جاء بلفظة " الكفر " التي تقابل الإيمان كما قال تعالى { وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } أي كفران النعم وهو جحدها وعدم نسبتها لصاحبها والإعتراف بمنته عليه ... لأن مقام الشكر مقام عال يقابله في الجهة المضادة الكفر من كل وجه فكان إبليس لعنه الله تعالى كافرا لا لكونه لا يؤمن بالله تعالى بل لكونه لم يشكر فدخل في الكفر وهكذا تكون عقوبة كل عارف بربه أساء الأدب في حضرته وتكبر فيها
فجاء سيدنا موسى بلفظة { أَنْزَلْتَ } وهي تشير خاصة إلى رزق السماء وهو رزق الباطن أكثر منه الظاهر لذلك جاء بوصف الفقر لأن المقام يرده إلى البقاء بالله تعالى فهو في هذا الحال يذكر حقيقة ملازمة له وهي فقره الذاتي العام الذي لا ينفصل عنه بحال لا في الدنيا ولا في الآخرة ظاهرا وباطنا وإنما غاية ما يؤمر به العبد هو الشكر على العطاء والثناء على النعماء حتى لا يكون من الذين يكفرون النعمة ويجحدون المنة وإن من أكبر نعم الله تعالى على العبد أن دله على طريق خاصته من عباده الذين هم في رداء الصون لا يعرفهم إلا من أراد الله تعالى سعادته ..
بينما المتداول عن أهل الله أيضا وصفهم عند تسمية أنفسهم بــــ ( العبد الفاني ) أو ( العبد الفقير الفاني ) لأن الفناء هو الأصل الأوّل بينما الفقر هو الأصل الثاني ويمكن أن تقول أن العارف يخرج من الفناء إلى مقام الفقر بينما السالك يرجع من مقام الفقر الشرعي إلى مقام الفناء ثم يخرج بعد ذلك إلى مقام الفقر الحقيقي لأن العبد بين حالتين إما أن يكون فانيا فيفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وإما أن يكون باقيا ببقاء الله فيكون حاله ووصفه الفقر الذاتي العام الدائم مهما أغناه الله تعالى بفضله لأن الذي أوتيه وإن كان الله تعالى ملكه له فهو في الحقيقة ليس ملكا أصليا له بل قد يسلبه الله تعالى ما آتاه في كل لحظة ولمحة لهذا لا تجد أهل الله يتفاخرون بمقاماتهم أو يتكبرون بعلومهم وأحوالهم لأنهم يدركون أن ذلك سوء أدب ينزل بهم إلى الجهل بالله تعالى { إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
وعليه فكلام العارفين بالله تعالى كله يشير إلى فقرهم الدائم سواء عبروا عن ذلك لفظا صريحا أو لم يعبروا فيكفي من التعبير ما تستشعره الأفئدة وتفقهه القلوب وتشهده الأرواح
أما مناجاة شيخنا رضي الله عنه فجميع ما ورد فيها لا يدل إلا على فقره إلى الله تعالى من كل وجه وناحية وتعبيره عن ذلك بلغ الغاية في مناجاته بل وصل به الأمر أن قال :
أما قولكم :إلاهــي أنْتَ غيَاثي فَعَلَيكَ تَوكُّلِي وَبِكَ عِيَاذِي فَأنْتَ وِقَايَتِي وَأنْتَ المَلْجَأ وَالمرْتَجَى لِكُّلِّ مضْطَرٍّ فَمِنْكَ أسْتَمِد حِمَايَتي فَأدِمْ الاهِي عَلَى عَبْدِكَ الضعيف المِسْكِينِ كَرَامَةَ بِرِّكَ وَنَدَاكَ ولَبِّ ندَاءَهُ إذَا مَا نَاداَكَ وَأجبْ دعَاءَهُ إذَا مَا دَعَاكَ بإنْجَازِ وَعْدِ قَوْلِكَ الحَق وَكَلامكَ الصِّدْق، وقَالَ رَبكمْ أدْعُونِـي أستَجبْ لَكمْ : أغْثـنى ياغِيَاثَ المسْتَغِيثينْ (ثلاثا) وَأنْجِدْنِي يَا رَاحِمَ المسْتَضْعَفِينْ(ثلاثا) وَأعِذْنِي مِنْ مَكْرِ المَاكرِينْ وَسطْوةِ الظَّالمين وَكيْدِ الشَّياطين وَأسْكِنِّي فِي سُرَادِقَاتِ حِصْنِ لطْفِكَ الخَفِيّ كَمَا يقْتَضِيه جُودكَ وَيَتَطَلَّبه كَرَمُكَ حَتَّى لا أشْعُرَ عِنْدَ الاقْتِضَاء ِبِمُرِّ القَضَاءِ وَأرْضِنِي اللَّهمَّ بمَا قَسَمتَه لِي أزَلا وَأوْفِر حَظّي من الصَّبرِ فيمَا جَرَتْ بِهِ المَقَادير فَلَكَ الأمْر وَبيَدكَ الخيْر انَّكَ عَلى مَا تشَاء قدير
لا ضرر من السؤال والإستفهام متى كان ناتجا عن وارد صاف فهذا يثري المعارف الربانية ويخرج من القلوب الصافية العلوم اللدنية قال سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ( الناس خمرتهم في الحضرة ونحن خمرتنا في الهدرة ) أي في الكلام الرباني الصافي الذي يكون بين أهل النسبة الإلهية من مذاكرات وتفنن في العلوم والفهوم... لا أحب أن أقطع عليكم الشرح بتعقيب أو سؤال أو نحو ذلك.. حيث هذا التدخل أحيانا يشغلكم ويربك سلاسة الشرح واستمراره
أما الأسئلة التي يكون منشؤها الخواطر النفسية وربما الشيطانية كالتي يتداولها في مصر اسلام البحيري وغيره فاعلم أن الذي يلقنهم كل ذلك وأكثر منه شيطان جني خبيث ورد فيهم قوله تعالى { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } يتلقون عن الشياطين ايحاءاتهم في كل وقت وحين وهذه أمور ظاهرة لكل صاحب بصيرة لا تخفى إلا عن أعمى قلب والعياذ بالله تعالى وإن جميع من يحاربون الإسلام اليوم إنما يحاربونه عن طريق الإيحاء الشيطاني وهو كما قدمنا مكشوف لذوي البصائر من الذين يميزون بين أنواع الخواطر ويفرقونها عن بعضها البعض أكثر من تمييز الحافظ أو المحدث للحديث الصحيح عن المكذوب الموضوع وما بينهما وهكذا ..
أنظر مثلا إلى حجم الخواطر التي يقع فيها من يسمونهم اليوم أهل فكر في الشرق والغرب على حد سواء رغم عدم نكراني للفكر عامة بل نبغ فيه رجال أصلحوا ونفعوا البشرية في كثير من الجوانب ..
..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
لا تتعلق همة العبد الرباني إلا بربه ومولاه الذي يتولاه في كل لمحة وآن فلا يتولى سواه ولا يقصد إلا باب محبته ورضاه فلا يسأل إلا به ولا يطلب إلا منه حتى أصبحت حظوظ الرباني كلها حقوقا فلا يكون الولي العارف عبدا ربانيا حتى تكون جميع حظوظه حقوقا لربه وجب عليه القيام بها ولو في نفسه من باب قوله عليه الصلاة والسلام لسيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه عندما زهد في الدنيا حتى أهمل حقوق ربه في نفسه وأهله فرده عليه الصلاة والسلام إلى القيام بالحقوق الربانية ولو للنفس التي أمرنا الله تعالى بتزكيتها ومجاهدتها بقوله ( ولنفسك عليك حق )إلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي وَفِي أيّ شَيْء أرْغَبُ وَبِيَدِكَ نَاصِيَّةُ جَنَانِي فَأطْلِقِ اللَّهُمَّ لِسَانِي بِالقَوْلِ السَّدِيدِ وَاهْدِ جَنَانِي لِمَا يَتَكَفََّل لَهُ فِي نِعْمَةِ شُهودِكَ وَالأُنْس بِكَ بِالمَزيد، ربِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أمْرِي وَاحْللْ عقْدَةً مِنْ لِسَانِي يفْقَهُوا قَوْلِي واجْعَل لِي مِنك وَزِيرًا يُسَاعِدُنِي عَليْكَ وَيؤَدّبُنِي بَيْنَ يَدَيْكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِين.
لذلك تجد العبد الرباني لا يستشعر من حظوظه شيئا بل يراها حقوقا لربه سواء في نفسه أو في غيره ..
هنا نفتح قوسا لذكر ماهيات مطالب الخصوصية ومقاصدها وهي أصناف ثلاثة :
- مطلب رباني
- مطلب نوراني
- مطلب روحاني
المطلب الرباني أي أن لا يطلب العبد من ربه سواه ولو عرض عليه ملك الدنيا والآخرة فلا يتشوف إليه ولا يترك نفسه تميل إلى ذلك أو تقف معه ولو لمحة وهذا ما عبر عنه سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حق كل سالك سائر إلى الله بقوله :
( ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة : الذي تطلب أمامك ولا تبرجت له ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } )
لأن العبد الرباني لا يلتفت كون مقصده مقول فيه { الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }
إنما بعد كماله يكون أخذه بالله وتركه بالله فيترك ربه يختار له ما يناسبه من مطاعم موائد الإنعام وهذا الحال عليه مدار طريق أهل الله تعالى كونهم أهل توجه رباني تفنى الأكوان في نظرهم ثم يبقون ببقاء الواحد الديان فمتى نطقوا فبه وما سألوا فبه ومتى فروا فإليه لا يعرفون سواه لأنهم من أصحاب مقام { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } لأنهم أهل تحقيق لا أصحاب تلفيق أو تشديق من أهل الدعاوى والغرور
وهذا الأمر من أشرف المطالب على الإطلاق فلا يتعلق السائر بغير ربه ولا يعول إلا عليه لسان حاله يقول من حيث الأفعال ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ومن حيث الصفات { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ومن حيث الذات { أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّه }
هذا الصنف من الربانيين تشتاق لهم جميع النعم وتتمنى رؤيتهم كافة العوالم كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه بن حبان ( إن الجنة تشتاق إلى أربعة : علي وسلمان وعمار والمقداد ) فذكر اشتياق الجنة إليهم وما ذكر اشتياقهم إليها لأنهم لا يشتاقون لشيء عدا لقاء ربهم ومولاهم الذي تولاهم
فكانت جميع مطالب هؤلاء وأدعيتهم وسؤالهم لا يريدون به غير وجه ربهم مهما تجدهم يسألون في ظاهر دعائهم المال الحلال والولد الصالح والذرية الطيبة لأن مقاصدهم في جميع ذلك مقاصد ربانية كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } وكما دعا سيدنا زكريا عليه السلام { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }
ومن ذلك دعاء الربانيين { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }
فهذه وغيرها كلها مطالب ربانية لأن طلب الوسائل عندهم لمقصد خدمة دين ربهم وطريقه سواء في أنفسهم أو في غيرهم من أفراد العالم فلا تعلق لهذا المطلب بغير الحضرة العلية
بقي ذكر المطالب النورانية ثم نطيل إن شاء الله تعالى في تفصيل المطالب الروحانية وهي مطالب الملك كالتي سألها سيدنا سليمان عليه السلام بقوله { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } وإن كان هذا المطلب السليماني مطلب رباني في حقيقته وإنما سنذكره في المطالب الروحانية كمدخل لتفصيل مقاصد المطالب الروحانية وتمييز السليم من السقيم فيها لدخول الشياطين والمسيخ الدجال في هذه المطالب التي منها المطلب الإبليسي الروحاني { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } كون مطلبه هذا ليس بمطلب رباني ولا نوراني بل روحاني
لذلك بدأ المؤلف رضي الله عنه في الجزء الثاني من مناجاته بذكر سؤاله بالله وتركه بالله بقوله ( إلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي وَفِي أيّ شَيْء أرْغَبُ وَبِيَدِكَ نَاصِيَّةُ جَنَانِي )
...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بارك الله فيكم وشكرا على تتمة الشرح وعلى جوابكم عن سؤالي.
إلياس بلكا- عدد الرسائل : 48
العمر : 55
تاريخ التسجيل : 15/05/2015
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
- المطالب النورية :
وهي كل ما يتعلق بالوسائل والمسائل التي تثمر التنوير القلبي كالتوفيق للأعمال الصالحة من باب قوله تعالى { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
وقوله تعالى { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ...}
وكقوله تعالى في دعاء آدم وحواء وهو دعاء التائبين { قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فكل هذه المطالب هي مطالب نورانية تتعلق بتوفية حقوق الشريعة والطريقة في العبادة والمعاملة في الدنيا والآخرة على حد سواء تثمر النور في القلوب والإستزادة منه وقد وردت مناجاة المؤلف رضي الله عنه بين مطالب ربانية تتعلق بصفاء التوحيد وتجريده وبين مطالب نورية تتعلق بالحفظ والصلاح في كل عالم من العوالم بما فيها عالم الدنيا بصفة أولى فكانت تحقيقية شرعية سلوكية وذلك عين الكمال من جوامع الكلم
بخلاف المطالب الروحانية التي تكون للنفوس فيها حظ وتشوف وميل وهي مطالب رئاسة وملك كالذين يتخذون من ذكر الله تعالى ومن الأدعية وغيرها وسيلة للوصول إلى العلوم الروحانية سواء منها المحرمة كعلوم السحر التي قد تهلك صاحبها وتدخله إلى ظلمة الكفر كونها علوم يراد منها استعباد الخلق والتحكم فيهم بحسب أغراض النفوس وأهوائها وهي علوم ظلمانية
كقوله تعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
أو النافعة منها كالتي أوتيها سيدنا سليمان الملك عليه السلام التي تصرف بها في عوالم الروحانية قاطبة في زمانه لأن علوم الحكمة الروحانية منها النافعة التي يصرفها صاحبها فيما ينفع الخلق وما يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ومنها العلوم الضارة كعلم السحر والتنجيم وكل ما كان من جنسهما لذلك ورد في الخبر ( من سحر فقط كفر )
مع التنبيه أن علوم التصريف صنفان :
- صنف رباني وآيته { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }
- صنف روحاني : وهو قسمان :
تصريف نافع كأن يساعد العبد أخاه المسلم من باب قول العفريت من الجن طاعة لأمر سيدنا سليمان عليه السلام { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ }
وتصريف ضار وهو التصريف بالسحر { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو حرام بالإجماع وقد ورد في الأحاديث أنه كفر بالله وشرك به وأن الساحر كافر وقد قال تعالى { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وقال تعالى في قصة سحرة فرعون { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }
لأن علوم السحر كله مضار لا نفع فيها وإفساد وإرهاب للناس وتسلط عليهم في نفس الوقت بشاهد نصوص الوحي كما قال تعالى { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
وقد أفتى علماء الإسلام على حرمة تعلم علم السحر إلا بعض أئمة الأحناف أجازوا تعلمه للطالب التقي المؤمن الصادق الحاذق لدفع الضرر وصد الشرور عن المسلمين وهذا عمل صالح لا يجوز التغافل عنه لكن بشروطه ..
وهذا مقصد شريف لا ينكره عاقل سمعت عارفا بالله من ساداتنا المشايخ يقول متأثرا بما حصل له وفقرائه من التعرض للسحر ممن يكن له العداء ولزاويته ما معناه ( لو يتعلم مريد في كل زاوية من علوم الحكمة الروحانية القدر الذي يمكنه به دفع شرورالسحرة الحاسدين عن اخوانه ومشايخه خصوصا في هذا الزمان حيث كثر السحر فأهلك الناس بعضهم بعضا لقلة تقوى الله وضعف الإيمان يكون أفضل )
لكن ربما يكون تركه بحسب الظروف أولى فما يصلح في مكان قد لا يفيد في مكان آخر بل ربما يضر
ولا أعني ترك تعلم جميع علوم الروحانية كالتي أوتيها سيدنا سليمان عليه السلام بل يوجد من أهل الله تعالى من له باع في مثل تلك العلوم ميراثا سليمانيا متى علمت أنه على قدم كل نبي يوجد ولي لكن تعلم علوم الحكمة الروحانية ليس أصلا في الطريقة بل هو دخيلا عليها كونه مجال فتنة { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ }
وقد ألف بعض أهل الله أجزاء في هذه العلوم التي أمست لمن بعدهم فتنة أما الذي ألف فيها ليهلك الحرث والنسل ويضر ولا ينفع بعد أن استخدمته الشياطين ودار في فلكها فما تدبر قوله تعالى في حق سيدنا سليمان عليه السلام { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .. } فهو من الخاسرين وله عذاب عظيم
من بين هؤلاء الشياطين الذين يدعون الإسلام والسير والطريقة عبد الفتاح الطوخي المصري الذي يدعي زورا وبهتانا أنه نقشبندي الطريقة ومشايخ الطريقة منه براء فألف كتبا كثيرة في علوم السحر منها السحر العظيم والسحر الأسود وهكذا ..
علوم الحكمة الروحانية مجال واسع بحسب وسع خصائص عالم الجن والشياطين من ناحية ووسع عالم الأسباب والمسببات في الكون الظلماني كروحانيات الأفلاك وما جرى مجرى هذا من ناحية أخرى .. وكل هذا ليس هو طريق السلوك ولا السير إلى الله تعالى بل هو من العوالم الظلمانية غالبا يكون هكذا وقد يدخل حيز النور ويعتبر من العمل الصالح متى حصلت التقوى وكثرت الخشية من الله تعالى ...
قلت :
مثل هذه العلوم ستكون من اختصاص المسيخ الدجال في آخر الزمان وسيأتي فيها بالعجب العجاب مما يفضي إلى استعباد الناس فيقول لهم أنا ربكم كل ذلك عن طريق علوم التصريفات الروحانية وهي شيء خطير لا يستهان به التي منها علوم السحر العظيم فيكاشف ظلمانيا مثلا بأسرار النبات وخواصها فيأمر الأرض فتنبت بعد أن يكاشف بأسرار روحانيات الكواكب فيأمر السماء فتمطر ..الخ ما سيقوم به عن طريق علوم السحر وتصريفات علوم الحكمة الروحانية وبذلك سيستعبد الناس فيهرعون إليه من كل حدب وصوب حتى أن اليهود اليوم ينتظرونه كما ينتظره النصارى كونه المنقذ في خيالهم وتصورهم وزعمهم ..
ومن ذلك ستتبعه كنوز الدنيا التي تحت الأرض كما ورد في الحديث ( يمر بالخربة يقول: أخرجي كنوزك فتخرج الكنوز من الخرائب تتبعه كيعاسيب النحل )
وهذا ما وقع فيه الناس اليوم حيث تجدهم يدفعون ملايينا من الدينارات في سبيل البحث عن مثل تلك الكنوز طمعا في الثراء وقد دخل في ذلك خلق لا يحصون منهم من كان محسوبا على الصوفية فجاؤوا بالعزامين وعلماء الحكمة الروحانية لإخراج ما ينتظرونه من تلك الكنوز من تحت الأرض وفي الخرب وقد حدثت حكايات وصارت وقائع كثيرة في هذا الباب وعلى هذا النمط سار كل أفاك كل ذلك بسبب بعد الناس عن تقوى الله تعالى لأن ما يتعاطونه ليس من المنهج المحمدي في شيء المقول فيه صلى الله عليه وسلم في نظم البردة رضي الله عن صاحبها سيدي محمد البوصيري رحمه الله تعالى
وراودته الجبال الشّمّ من ذهب *** عن نفسه فأراها أيّما شمم
فأين تقع قيمة تلك الكنوز مقارنة بالجبال الشم من ذهب ورغم هذا قال : أجوع يوما فأذكرك وأشبع يوما فأشكرك
لكن لا يدخل كل هذا في ترك الدنيا والزهد في المال بل الزهد زهد القلب لا مجرد زهد اليد والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وقد كان من الصحابة الكرام أصحاب ثراء وتجارة أنفقوا أموالهم في سبيل الله
في سير أهل الله تعالى قصص وحكايات ترغب في تعلم الصنائع واتخاذ الحرف والمهن لأن أفضل المكتسبين من يأكل من عرق جبينه وكد يمينه ذكرت هذا حتى لا يظن ظان أن ترك الأسباب والإكتساب مطلب شرعي بل العكس هو الصحيح فقد كان أغلب الأولياء من الصحابة وغيرهم أصحاب مهن وحرف يكتسبون المال الحلال الطيب ومنهم من وصل إلى غاية الثراء حتى عدوه من الأغنياء الشاكرين كسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ذي النورين الذي جهز بمفرده جيش العسرة فطوبى له فلا تنكر على أهل الله أموالهم بل أنظر من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها ..
قلت :
إنما كان الدجال يأمر الخربة بأن تخرج كنوزها لما يعلمه كون الحكم والرئاسة واستعباد الناس لا يكون إلا بالمال الذي تميل إليه القلوب فكأنه هنا يشري الذمم من نفس جنس قارون المقول فيه { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ نَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } لأن المال مصدر قوة في الأرض يحتاج إليه كل بشر سواء أكان مؤمنا أم كافرا فتلك سنة الحياة وبذلك يجري ناموسها فالمال قوام الأعمال ..
لذلك سيخرج الدجال في وصف الغنى والثراء الذي لا حد له كون اليهود سينصبونه ملكا كما كان سيدنا سليمان عليه السلام ملكا لكن الفرق فيما بينه وبين سيدنا سليمان أن سيدنا سليمان كان عبدا ربانيا رغم ملكه الذي آتاه الله تعالى الذي لا ينبغي لأحد من بعده لا للدجال ولا غيره ولو كان هذا الغير نبيا مرسلا لأنه دعا بذلك واستجاب الله تعالى له { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } لذلك كتبت من قبل في غير هذا المكان أن الحضرات التي ستكون موجودة في آخر الزمان خاصة لمحاربة وقتال الدجال وتخليص الناس من فتنته الحضرة السليمانية والموسوبة والعيسوية والمحمدية
حيث سيكون للدجال عداء للحضرة السليمانية فيظهر ببعض مظاهرها وعداء للحضرة الموسوية لتعلق السامري بعبادة العجل صنعه من أثر جبريل الروح الملك وعداء للحضرة المحمدية كونها الحضرة التي ستحاربه وتصده عن غوايته وتحدث الفتوحات في زمانه وعداء للحضرة العيسوية حيث سيكون الشخص المعكوس لسيدنا عيسى أي صورة المسيح مقلوبة فينزل عيسى عليه السلام ليقتله كونه صاحبه ..
أعلمتك بهذا حتى تدرك الحضرات التي سيحاول الدجال الظهور فيها ومنافستها ومحاربتها في نفس الوقت وباعتبار أن عيسى من سيقتل الدجال وأن هذا زمن الدجاجلة فاعلم أن هذا زمن ظهور الأولياء من أصحاب الحال العيسوي على وجه الخصوص وكذلك الموسوي والسليماني بينما الحال المحمدي موجود في الأمة لا يبرح لذا كان عداء الدجال للمحمديين لا يوصف شدة وكثرة بلا ملل ولا كلل ولا رحمة ولا شفقة ومتى نظرت إلى حجم تشويه دين الإسلام اليوم في الإعلام على مستوى العالم بأسره تفهم كل شيء ..
عرجت على ذكر كل هذه التفاصيل حتى يعلم المؤمن توجهات الدعاء بالمطالب لتدرك ربانية مناجاة المؤلف رضي الله عنه وكونها مثلا حاضرا وشاهدا واقعا للتدليل على أوصاف الربانين وتمييزهم عن غيرهم فلا تختلط عليك السبل ولا المفاهيم فالأمر يسير وفهمه سهل سلس ..
..
وهي كل ما يتعلق بالوسائل والمسائل التي تثمر التنوير القلبي كالتوفيق للأعمال الصالحة من باب قوله تعالى { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
وقوله تعالى { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ...}
وكقوله تعالى في دعاء آدم وحواء وهو دعاء التائبين { قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فكل هذه المطالب هي مطالب نورانية تتعلق بتوفية حقوق الشريعة والطريقة في العبادة والمعاملة في الدنيا والآخرة على حد سواء تثمر النور في القلوب والإستزادة منه وقد وردت مناجاة المؤلف رضي الله عنه بين مطالب ربانية تتعلق بصفاء التوحيد وتجريده وبين مطالب نورية تتعلق بالحفظ والصلاح في كل عالم من العوالم بما فيها عالم الدنيا بصفة أولى فكانت تحقيقية شرعية سلوكية وذلك عين الكمال من جوامع الكلم
بخلاف المطالب الروحانية التي تكون للنفوس فيها حظ وتشوف وميل وهي مطالب رئاسة وملك كالذين يتخذون من ذكر الله تعالى ومن الأدعية وغيرها وسيلة للوصول إلى العلوم الروحانية سواء منها المحرمة كعلوم السحر التي قد تهلك صاحبها وتدخله إلى ظلمة الكفر كونها علوم يراد منها استعباد الخلق والتحكم فيهم بحسب أغراض النفوس وأهوائها وهي علوم ظلمانية
كقوله تعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
أو النافعة منها كالتي أوتيها سيدنا سليمان الملك عليه السلام التي تصرف بها في عوالم الروحانية قاطبة في زمانه لأن علوم الحكمة الروحانية منها النافعة التي يصرفها صاحبها فيما ينفع الخلق وما يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ومنها العلوم الضارة كعلم السحر والتنجيم وكل ما كان من جنسهما لذلك ورد في الخبر ( من سحر فقط كفر )
مع التنبيه أن علوم التصريف صنفان :
- صنف رباني وآيته { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }
- صنف روحاني : وهو قسمان :
تصريف نافع كأن يساعد العبد أخاه المسلم من باب قول العفريت من الجن طاعة لأمر سيدنا سليمان عليه السلام { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ }
وتصريف ضار وهو التصريف بالسحر { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو حرام بالإجماع وقد ورد في الأحاديث أنه كفر بالله وشرك به وأن الساحر كافر وقد قال تعالى { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وقال تعالى في قصة سحرة فرعون { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }
لأن علوم السحر كله مضار لا نفع فيها وإفساد وإرهاب للناس وتسلط عليهم في نفس الوقت بشاهد نصوص الوحي كما قال تعالى { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
وقد أفتى علماء الإسلام على حرمة تعلم علم السحر إلا بعض أئمة الأحناف أجازوا تعلمه للطالب التقي المؤمن الصادق الحاذق لدفع الضرر وصد الشرور عن المسلمين وهذا عمل صالح لا يجوز التغافل عنه لكن بشروطه ..
وهذا مقصد شريف لا ينكره عاقل سمعت عارفا بالله من ساداتنا المشايخ يقول متأثرا بما حصل له وفقرائه من التعرض للسحر ممن يكن له العداء ولزاويته ما معناه ( لو يتعلم مريد في كل زاوية من علوم الحكمة الروحانية القدر الذي يمكنه به دفع شرورالسحرة الحاسدين عن اخوانه ومشايخه خصوصا في هذا الزمان حيث كثر السحر فأهلك الناس بعضهم بعضا لقلة تقوى الله وضعف الإيمان يكون أفضل )
لكن ربما يكون تركه بحسب الظروف أولى فما يصلح في مكان قد لا يفيد في مكان آخر بل ربما يضر
ولا أعني ترك تعلم جميع علوم الروحانية كالتي أوتيها سيدنا سليمان عليه السلام بل يوجد من أهل الله تعالى من له باع في مثل تلك العلوم ميراثا سليمانيا متى علمت أنه على قدم كل نبي يوجد ولي لكن تعلم علوم الحكمة الروحانية ليس أصلا في الطريقة بل هو دخيلا عليها كونه مجال فتنة { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ }
وقد ألف بعض أهل الله أجزاء في هذه العلوم التي أمست لمن بعدهم فتنة أما الذي ألف فيها ليهلك الحرث والنسل ويضر ولا ينفع بعد أن استخدمته الشياطين ودار في فلكها فما تدبر قوله تعالى في حق سيدنا سليمان عليه السلام { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .. } فهو من الخاسرين وله عذاب عظيم
من بين هؤلاء الشياطين الذين يدعون الإسلام والسير والطريقة عبد الفتاح الطوخي المصري الذي يدعي زورا وبهتانا أنه نقشبندي الطريقة ومشايخ الطريقة منه براء فألف كتبا كثيرة في علوم السحر منها السحر العظيم والسحر الأسود وهكذا ..
علوم الحكمة الروحانية مجال واسع بحسب وسع خصائص عالم الجن والشياطين من ناحية ووسع عالم الأسباب والمسببات في الكون الظلماني كروحانيات الأفلاك وما جرى مجرى هذا من ناحية أخرى .. وكل هذا ليس هو طريق السلوك ولا السير إلى الله تعالى بل هو من العوالم الظلمانية غالبا يكون هكذا وقد يدخل حيز النور ويعتبر من العمل الصالح متى حصلت التقوى وكثرت الخشية من الله تعالى ...
قلت :
مثل هذه العلوم ستكون من اختصاص المسيخ الدجال في آخر الزمان وسيأتي فيها بالعجب العجاب مما يفضي إلى استعباد الناس فيقول لهم أنا ربكم كل ذلك عن طريق علوم التصريفات الروحانية وهي شيء خطير لا يستهان به التي منها علوم السحر العظيم فيكاشف ظلمانيا مثلا بأسرار النبات وخواصها فيأمر الأرض فتنبت بعد أن يكاشف بأسرار روحانيات الكواكب فيأمر السماء فتمطر ..الخ ما سيقوم به عن طريق علوم السحر وتصريفات علوم الحكمة الروحانية وبذلك سيستعبد الناس فيهرعون إليه من كل حدب وصوب حتى أن اليهود اليوم ينتظرونه كما ينتظره النصارى كونه المنقذ في خيالهم وتصورهم وزعمهم ..
ومن ذلك ستتبعه كنوز الدنيا التي تحت الأرض كما ورد في الحديث ( يمر بالخربة يقول: أخرجي كنوزك فتخرج الكنوز من الخرائب تتبعه كيعاسيب النحل )
وهذا ما وقع فيه الناس اليوم حيث تجدهم يدفعون ملايينا من الدينارات في سبيل البحث عن مثل تلك الكنوز طمعا في الثراء وقد دخل في ذلك خلق لا يحصون منهم من كان محسوبا على الصوفية فجاؤوا بالعزامين وعلماء الحكمة الروحانية لإخراج ما ينتظرونه من تلك الكنوز من تحت الأرض وفي الخرب وقد حدثت حكايات وصارت وقائع كثيرة في هذا الباب وعلى هذا النمط سار كل أفاك كل ذلك بسبب بعد الناس عن تقوى الله تعالى لأن ما يتعاطونه ليس من المنهج المحمدي في شيء المقول فيه صلى الله عليه وسلم في نظم البردة رضي الله عن صاحبها سيدي محمد البوصيري رحمه الله تعالى
وراودته الجبال الشّمّ من ذهب *** عن نفسه فأراها أيّما شمم
فأين تقع قيمة تلك الكنوز مقارنة بالجبال الشم من ذهب ورغم هذا قال : أجوع يوما فأذكرك وأشبع يوما فأشكرك
لكن لا يدخل كل هذا في ترك الدنيا والزهد في المال بل الزهد زهد القلب لا مجرد زهد اليد والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وقد كان من الصحابة الكرام أصحاب ثراء وتجارة أنفقوا أموالهم في سبيل الله
في سير أهل الله تعالى قصص وحكايات ترغب في تعلم الصنائع واتخاذ الحرف والمهن لأن أفضل المكتسبين من يأكل من عرق جبينه وكد يمينه ذكرت هذا حتى لا يظن ظان أن ترك الأسباب والإكتساب مطلب شرعي بل العكس هو الصحيح فقد كان أغلب الأولياء من الصحابة وغيرهم أصحاب مهن وحرف يكتسبون المال الحلال الطيب ومنهم من وصل إلى غاية الثراء حتى عدوه من الأغنياء الشاكرين كسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ذي النورين الذي جهز بمفرده جيش العسرة فطوبى له فلا تنكر على أهل الله أموالهم بل أنظر من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها ..
قلت :
إنما كان الدجال يأمر الخربة بأن تخرج كنوزها لما يعلمه كون الحكم والرئاسة واستعباد الناس لا يكون إلا بالمال الذي تميل إليه القلوب فكأنه هنا يشري الذمم من نفس جنس قارون المقول فيه { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ نَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } لأن المال مصدر قوة في الأرض يحتاج إليه كل بشر سواء أكان مؤمنا أم كافرا فتلك سنة الحياة وبذلك يجري ناموسها فالمال قوام الأعمال ..
لذلك سيخرج الدجال في وصف الغنى والثراء الذي لا حد له كون اليهود سينصبونه ملكا كما كان سيدنا سليمان عليه السلام ملكا لكن الفرق فيما بينه وبين سيدنا سليمان أن سيدنا سليمان كان عبدا ربانيا رغم ملكه الذي آتاه الله تعالى الذي لا ينبغي لأحد من بعده لا للدجال ولا غيره ولو كان هذا الغير نبيا مرسلا لأنه دعا بذلك واستجاب الله تعالى له { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } لذلك كتبت من قبل في غير هذا المكان أن الحضرات التي ستكون موجودة في آخر الزمان خاصة لمحاربة وقتال الدجال وتخليص الناس من فتنته الحضرة السليمانية والموسوبة والعيسوية والمحمدية
حيث سيكون للدجال عداء للحضرة السليمانية فيظهر ببعض مظاهرها وعداء للحضرة الموسوية لتعلق السامري بعبادة العجل صنعه من أثر جبريل الروح الملك وعداء للحضرة المحمدية كونها الحضرة التي ستحاربه وتصده عن غوايته وتحدث الفتوحات في زمانه وعداء للحضرة العيسوية حيث سيكون الشخص المعكوس لسيدنا عيسى أي صورة المسيح مقلوبة فينزل عيسى عليه السلام ليقتله كونه صاحبه ..
أعلمتك بهذا حتى تدرك الحضرات التي سيحاول الدجال الظهور فيها ومنافستها ومحاربتها في نفس الوقت وباعتبار أن عيسى من سيقتل الدجال وأن هذا زمن الدجاجلة فاعلم أن هذا زمن ظهور الأولياء من أصحاب الحال العيسوي على وجه الخصوص وكذلك الموسوي والسليماني بينما الحال المحمدي موجود في الأمة لا يبرح لذا كان عداء الدجال للمحمديين لا يوصف شدة وكثرة بلا ملل ولا كلل ولا رحمة ولا شفقة ومتى نظرت إلى حجم تشويه دين الإسلام اليوم في الإعلام على مستوى العالم بأسره تفهم كل شيء ..
عرجت على ذكر كل هذه التفاصيل حتى يعلم المؤمن توجهات الدعاء بالمطالب لتدرك ربانية مناجاة المؤلف رضي الله عنه وكونها مثلا حاضرا وشاهدا واقعا للتدليل على أوصاف الربانين وتمييزهم عن غيرهم فلا تختلط عليك السبل ولا المفاهيم فالأمر يسير وفهمه سهل سلس ..
..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
الحمد لله رب العالمين. وبارك الله فيكم أجمعين.
إلياس بلكا- عدد الرسائل : 48
العمر : 55
تاريخ التسجيل : 15/05/2015
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
عندما عاين المؤلف رضي الله عنه بحر كرم ربه وجوده عليه يغمره من كل مكان كالأمواج المتلاطمة لم يفتتن بها حيث لم يحجب بالعطاء عن المعطي ولا بالجود عن الجواد لأن العارف لا تحجبه الأسماء عن الصفات ولا الصفات عن الذات بل يكون التحقق بالأسماء طريقا إلى التحقق بأنوار الصفات بينما أنوار الصفات تكون طريقا إلى الوصول إلى بحر الذات فتلك مقاصد العارفين ووجهة الواصلين لا ينحجبون بالنعمة عن المنعم ولا بالكرامة عن الكريم ولا بالعطاء عن المعطيإلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي
لذلك لا يختارون لأنفسهم شيئا بل يتركون ربهم يختار لهم لأنه العليم بما يصلح لهم وما ينفعهم وما يضرهم فهم بالله لله في الله
لذا لما فُتح باب السؤال والطلب للمؤلف رضي الله عنه كونه كان معاينا لجلائل ما وفد عليه من النعم وما أقبل إليه من الكرامة رجع إلى ربه لاجئا كونه لا يريد منه على التحقيق سواه لأنّ ذلك في نظره أعظم عطاء وأجل جود وكرم إذ من وجد ربه وجد كل شيء ومن فقده فقد كل شيء فكيف يسأل في حضرة الكريم سواه أو يلتفت إلى غير نور محبته ورضاه
لذلك قال ( مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي ) بعد أن كنت سمعي وبصري ويدي ورجلي أستعين بك في سائر شأني لقوله تعالى في الحديث القدسي ( .. كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها )
فمهما سألت فسيكون سؤالي بك لا بنفسي وعندما يكون بك سوف تختار ما هو الأنسب لي ولا أختار لنفسي
قال الشيخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( لا تختر من أمرك شيئا واختر أن لا تختار وفر من ذلك المختار ومن فرارك.ومن كل شئ الى الله تعالى { وربك يخلق ما يشاء ويختار } )
ماذا عساني أسأل وأنت السؤل والمنى
الذي أناخ مطاياه بين يديك عاكفا لا يتوجه إلا إليك فأنت أمله ورجاه فهو أسير لواعج محبتك لسان حاله يقول :وَفِي أيّ شَيْء أرْغَبُ وَبِيَدِكَ نَاصِيَّةُ جَنَانِي
ولوْ خطرتْ لي في سواكِ إرادة ٌ *** على خاطري سهواً قضيتُ بردَّتي
الذي لو حُجب بدار الكرامة عن الكريم والمقام عن المقيم لناح وباح :
إن كان منزلتي في الحبّ عندكم *** ما قد رأيت فقد ضيّعت أيّامي
هذا عبدك ينطق بك يحب بك ويرغب بك يقوم بك وينهض بك ويستعين بك في كل شأن وشأو فها إن قلبي بين يديك تقلبه كيف تشاء فيا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء )
لأن المتصرف في القلوب هو الله تبارك وتعالى يقلبها كيف يشاء لذلك كانت الهداية جميعها التي محلها القلب بيد الله تعالى وكذلك التوفيق { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
ورد من دعائه عليه الصلاة والسلام ( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك )
....إلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي وَفِي أيّ شَيْء أرْغَبُ وَبِيَدِكَ نَاصِيَّةُ جَنَانِي
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
لا إلاه إلا هو
ولا قاصد في الحقيقة إلا به إليه
ولا قاصد في الحقيقة إلا به إليه
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
إلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي وَفِي أيّ شَيْء أرْغَبُ وَبِيَدِكَ نَاصِيَّةُ جَنَانِي
قال تعالى { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } قال أهل التفسير البلاء بالشر هو الشدة التي يبتلى بها العبد بينما البلاء بالخير هو الفتنة التي تحصل له لوجود الرخاء
فكما يطالب المؤمن بالصبر على شدة البلاء يطالب أيضا بعدم الإغترار بفتنة الرخاء والخير لذلك قال سيدنا موسى في معرض الإعتراف بفقره وهو في حالة من الخير والرخاء عند نجاته من القوم { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فلم يشهد إلا فقره في كافة الأحوال رغم شكره على جميع نعم الله تعالى عليه لكنه لا يقف معها أو يتشوف إليها تشوفا نفسيا
لأن الأمر عند العارفين كما قاله سيدي بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( النعيم وإن تنوعت مظاهره إنما هو بشهوده واقترابه والعذاب وإن تنوعت مظاهره إنما هو لوجود حجابه فسبب العذاب وجود الحجاب واتمام النعيم بالنظر إلى وجه الله الكريم )
لأن كل نعيم عندهم يفتقدون فيه شهود ربهم واقترابه سواء في الدنيا أو الآخرة لا يعدونه نعيما لذلك قد يجدون في شدة البلاء من النعيم ما لا يجده غيرهم في حالة الرخاء
في جواب على احدى رسائل سيدي محمد المداني لشيخه سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنهما كان يسأله فيها عن حالته الصحية بسبب مرض ألمّ به كتب له ( لقد أنعم الله عليّ بمرض حتى أني لم أتمن فيه الشفاء ) كونه عدّ رضي الله عنه المرض نعمة لما وجده فيه من القرب من مولاه الذي تولاه
من باب ما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ( إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده )
لذا كان ميزان أحوال المريدين وأحوال سائر المكلفين مقاس عند العارفين بحالة القرب أو البعد عن ربهم لأن السراء والضراء حالتان تتعاقبان على العبد كما يتعاقب الليل والنهار فليس على المؤمن أن يفرح بالسراء ويضجر للضراء بل عليه أن يكون مع ربه فيهما جميعا كما قال عليه الصلاة والسلام ( عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ )
الشاهد : ( إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ) عوض أن يغتر فيكفر فلما شكر كان ذلك هو الخير له
( وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ) لئلا يضجر فيكفر لذلك كان صبره هو الخير له
قيل أن سيدنا إبراهيم عليه السلام ما قضى أياما أطيب من الأيام التي قضاها في النار لقوله تعالى { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ }
فالنعيم عند العارفين ( إنما هو بشهوده واقترابه ) لذلك تجدهم لا يسألون غير قرب ربهم ووصلتهم به خشية دخولهم في ظلمات العتاب بالحجاب من باب { فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }
لذا قال المؤلف رضي الله عنه ( إلاهـــي مَاذَا عَسَانِي أسْألُ وَبِكَ نُطْقُ لِسَانِي ) كيف أسأل منك سواك وعبدك في حضرة اقترابك التي يفنى في شهودي كل شيء غيرها فكيف أسأل شيئا لا يحضرني أو أحضره فيطلبني ( وَفِي أيّ شَيْء أرْغَبُ وَبِيَدِكَ نَاصِيَّةُ جَنَانِي ) فهل يكون لي من الرغبة في غيرك ما ليس لك من باب ما قيل في الحكمة ( أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ) بل لقد قلت وقولك الحق { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } لأنه { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه }
ثم دعا فسأل رضي الله عنه ربه بقوله
لي ولغيري الذي لا يدل إلا عليك ولا يوقف الخلق إلا بين يديك بالوارد الصافي والإلهام الرشيد لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }فَأطْلِقِ اللَّهُمَّ لِسَانِي بِالقَوْلِ السَّدِيدِ
متى علمت أن الهداية مراتب ثلاث : الهداية من الكفر إلى الإيمان والهداية من الإيمان إلى الإيقان والهداية من الإيقان إلى الإحسان وهي هداية القلوب إلى حضرة دوام شهود المحبوب وهي أعلى درجات الهداية وهي الهداية إلى الصراط المستقيم المقول فيه { وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ }وَاهْدِ جَنَانِي لِمَا يَتَكَفَّل لَهُ فِي نِعْمَةِ شُهودِكَ وَالأُنْس بِكَ بِالمَزيد
فسأل هنا هداية قلبه الهداية الإحسانية الربانية الدائمة التي يتكفل الله لقلبه بها في كل وقت وحين حتى يكون في دوام نعمة شهود ربه راسخ القدم في حضرة القدم ثم بمزيد الأنس به لقوله تعالى { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } وقوله تعالى { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }
لأن سير السالك إلى الله ينتهي بالوصول إليه بينما السير في حضرة العلم به ومعرفته لا ينتهي فكلما شرب ازداد ضمأ ولو شرب البحار كلها لسان حاله يقول { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } لأنه القائل عليه السلام { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } غاية الفناء تحت سلطان وارد حال المحبة
لذلك دعاه وارد القرب إلى نفس ما دعا به سيدنا موسى عليه السلام عند استعداده للذهاب إلى فرعون يدعوه إلى توحيد الله وحده لا رب غيره ولا إله سواه { ربِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أمْرِي وَاحْللْ عقْدَةً مِنْ لِسَانِي يفْقَهُوا قَوْلِي ) وهذا شأن كل دال على الله تعالى خاصة
كما قال تعالى { اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي }
في كل هذا إشارة من المؤلف رضي الله عنه كونه لا يسأل من ربه بعد الوصول إليه إلا الدعوة إليه وإيقاف العباد بين يديه ليذوقوا ما ذاق من خمرة الشهود ومعارف تجليات الإله في كتاب الوجود فكانت طريقته سلوكية لا تبركية لتعلقها بالسير والذكر المجرد عن الأعواض والأغراض
وهذا معنى الربانية في قوله تعالى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }
بعد أن سأل ربه من حيث أنه ناطقته لقوله ( وبك نطق لساني ) ثم سؤاله بطلق لسانه بالقول السديد الذي لا يكون إلا بعد شرح الصدر بالمحبة والشهود ثم تيسير الأمر بالعرفان ثم حل عقدة الدلالة على الأكوان من اللسان بالهداية إلى المكون وذلك عين الفقه القولي قال رضي الله عنه على نفس نسق الوارد الرباني :
يمكن أن يكون الوزير المراد في السؤال هو الوارد الرباني خاصة الذي يجيء للعارف في كل وقت وحين إما وارد تفهيم وتقويم أو وارد أمر وطلب أو وارد عتاب أو وارد علم وعرفان أو وارد كشف وشهود وهكذا من أجناس الواردات ..واجْعَل لِي مِنك وَزِيرًا يُسَاعِدُنِي عَليْكَ وَيؤَدّبُنِي بَيْنَ يَدَيْكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِين
لذلك قال ( وزيرا منك ) وليس كما قال سيدنا موسى عليه السلام وهو النبي الكليم المرسول إلى فرعون { وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي } لأن طلب موسى هنا متعلق بغيره وذلك في معرض الإستعداد للذهاب إلى الطاغية فرعون بينما سأل المؤلف رضي الله عنه ما يتعلق به خاصة خوفا من الميل أو الزيغ ( واجْعَل لِي مِنك وَزِيرًا يُسَاعِدُنِي عَليْكَ وَيؤَدّبُنِي بَيْنَ يَدَيْكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِين )
كما يمكن أن يراد بالوزير هنا في مجال السير والسلوك النبي المرسول من قبل الله تعالى كسيد الوجود صلى الله عليه وسلم الذي كان مربيا مرقيا لكثير من السائرين في مجال الخصوص بعد العموم ...
والمراد بالمساعدة هنا بحسب مراتبها :
- مساعدة على تحمل أعباء أمانة الولاية الربانية وتأدية حقوقها وشؤونها العرفانية
- مساعدة على القيام بأحكام الشريعة
- مساعدة على القيام بواجبات الطريقة
- مساعدة على القيام بآداب مشاهدات الحقيقة وهذا معنى قوله ( وَيؤَدّبُنِي بَيْنَ يَدَيْكَ )
كما يمكن أن يكون هذا الوزير من الله تعالى شيخا مربيا عارفا مأذونا يسلك بك سبل محاسن التوفيق ويقيك من مخاطر ومزالق الدعوى والزندقة في الطريق
كما قد يكون عبدا ربانيا بأي مشرب أو صفة كما كان هارون مع موسى أو فتى موسى مع موسى أو أصحاب الأولياء وخدامهم
كما قد يكون هذا الوزير أي مساعد ينطقه الله تعالى متى علمت أن هواتف الرحمان في عوالم الأكوان لا حد لها وهكذا ..
والوزير في طريق القوم من أهل الله تعالى من شأن دولة الربانيين سواء أكانوا أنبياء مرسلين من أهل العصمة عليهم الصلاة والسلام أم ممن هو دونهم من أهل الولاية والعرفان من أصحاب الحفظ رضي الله عنهم أجمعين
..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
استفتح المؤلف رضي الله عنه في الجزء الأول من مناجاته بالتعبير عن كرم ربه الزاخر عليه ووصف جوده الحاضر بين يديه مع وجوب رد الشكر والثناء وجميع المحامد إليه لما في ذلك من تزهيد في التشوف لما سواه أو الميل لحظة أو لمحة لغير الأنس بنور سناهإلاهـــي أنْتَ الوَاحِدُ الأحَدْ الذِّي تَنَزَّهَ عنِ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ
ثم لما عبّر في القسم الثاني عما يرجوه من السؤال والطلب الذي وإن كان لا بد منه فهو لا يتجاوز من كل وجه غير طلب دوام مزيد الأنس بالشهود في حضرة الرب المعبود حتى لا يرى أو يشاهد في الكون سواه أو يدل أحدا من العباد على غير نور سناه
كان لا بد في الجزء الثالث من إتمام وصف مشاهداته لما تجلى له من نور هذا الإله العظيم الكريم الحليم الذي استغرقت عظمته منه مشاعر وأحاسيس الذرات حتى فني من لم يكن مع بقاء من لم يزل لأن من علامات صدق وصفاء التوحيد الدلالة على نور الحميد المجيد فذلك ديدن العارفين ومشرب الصادقين
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( من دلك على الدنيا فقد غشك ومن دلك على العمل فقد أتعبك ومن دلك على الله فقد نصحك )
قال سيدي بن عطاء الله الكندري رضي الله عنه ( لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله )
لأن العبرة كل العبرة عندما يتوافق القال مع الحال فذلك عين الكمال وهذا من معاني الصدق في الطريق والإخلاص في التحقيق أما متى كان القال في واد والحال في واد آخر فهذا من الكذب البيّن وقد يعد من جملة النفاق فيما يتعلق بطريقة السالكين وأحوال القاصدين خاصة من باب قوله تعالى { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }
أو من باب قوله تعالى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }
لأن هؤلاء لهم القال وليس عندهم الحال الذي يصدق أقوالهم إذ شتان بين من يذاكرك في الطريق ذوقا وبين من يحدثك فيه علما مجردا عن الحال والذوق
العبد الرباني الحق هو الذي ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله فمتى استمعت إلى مذاكراته أو قرأت شيئا من ورده أو مناجاته أو نظمه أو تأليفاته ترتقي مشاعرك إلى طلب المولى العظيم والرب الكريم أما الذي يدلك على المراتب والمقامات والكرامات والخصوصيات فقد غشك لأنه دلك على علل الأعمال وما دلك على صفاء الأحوال
لأن النفوس تميل في أصل طبعها إلى محبة الرئاسة والظهور والتشوف إلى الأغراض والأعواض وكل هذا في طريق الله من الباطلات دخيل على طريق السالكين ولا يضر بعد هذا عندما نرى أو نقرأ عن أحد من أهل الله يذكر مقاماته أو يصف خصوصياته فإنه ما قام بذلك وتحركت همته لفعله إلا بإذن رباني ووارد قدسي لا يستطيع التخلف عنه فلو تخلف عنه كان من العصاة وربما يكون مخيرا في ذلك فقد يفضي به لخاصته دون غيرهم وقد لا يفضي به كل ذلك من باب التحدث بالنعم لقوله تعالى { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }
قال أهل الله من أرباب التربية والإرشاد :
أما المريد السائر الذي لم يصل إلى مقام الشهود وتخلص من رعونات النفوس لا يجوز له التحدث بشيء من أحواله إلا لشيخه لأنه كما ورد في الحكمة العطائية :
{ من رأيته مجيباً عن كل ما سئل ومعبراً عن كل ما شهد وذاكراً كل ما علم فاستدل بذلك على وجود جهله }
لذا قالوا ( قلوب الأحرار قبور الأسرار )
إلا ما كان من جنس الفيوضات أو وجوب القيام بدعوة الهداية كما ورد في الحكم قوله ( عبارتُهُمْ إمّا لفيضان وجّد أو لقصد هداية مُريد فالأول حال السالكين والثاني حال أرباب المكنة والمحققين )
فأغلب ما تراه وتجده من تأليفات أهل الله لا يخرج عن هذين الحالتين فهناك كتب صدرت من أصحابها عن غلبة وجد ككثير من أشعار أهل الله بين وصف شهود مقيم وذكر خمر قديم ومنها ما هو قصد هداية المريدين ككثير من كتب القوم منها كتاب الحكم العطائية وأكثرية كتب سيدي عبد الوهاب الشعراني وغيرهما رضي الله عن جميعهم ..
هذا كي تعلم نفاسة مناجاة الأستاذ رضي الله عنه التي جمعت بين فصاحة القال وكمال الحال كونها واردا رحمانيا حيث اجتمع فيها الذوق والعرفان بالعلم والفقه فكانت صالحة لأهل الطريقة كما يمكن أن يستفيد منها أهل مقام الشريعة فحازت الحسنيين وصلّت إلى القبلتين ..
لأن أشرف العبيد من دلك على ربه المجيد الحميد ولو بمناجاة فيما بينه وبين ربه أو نظم من الشعر أو مذاكرة وهكذا ..
فذلك مقياس الشرف وميزان الدرجات ومفاخر المنازل والمقامات بين العباد لأن من دلك على الله فقد نصحك كما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه إذ من علامات صلاح الصالحين أن يكونوا من الناصحين كما قال نبي الله سيدنا صالح عليه السلام لقومه { وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } فلا ينصحون بغير عبادة ربهم وطاعته والتوجه إليه في السراء والضراء ..
لأن الأنبياء والرسل جميعهم جاؤوا بالتوحيد ودلوا الخلق على الإيمان بربهم فهذا الأصل الأصيل وكل ما سواه من الدين تفاصيل لذا استهل المؤلف رضي الله عنه بعد الثناء والشكر في معرض الدعاء والسؤال بالتعريف بهذا الأصل الأصيل على نعت أهل الشهود والعيان وليس بعد ذلك من الدلالة على التوحيد بيان فقال :
إلاهـــي أنْتَ الوَاحِدُ الأحَدْ الذِّي تَنَزَّهَ عنِ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
الله يوفقكم سيدي علي ويجعل لكم من عنده وزيرا.
لا أخفيكم أنني أتشوف إلى شرح الآتي من المناجاة، وما فيه من أسرار التوحيد والشهود. إذ المدار كله على توحيد الله ومعرفته وصدق العبودية له.
لا أخفيكم أنني أتشوف إلى شرح الآتي من المناجاة، وما فيه من أسرار التوحيد والشهود. إذ المدار كله على توحيد الله ومعرفته وصدق العبودية له.
إلياس بلكا- عدد الرسائل : 48
العمر : 55
تاريخ التسجيل : 15/05/2015
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
جزاكم الله خيرا سيدي على التشجيع ورفع المعنويات بالدعاء ليإلياس بلكا كتب:لا أخفيكم أنني أتشوف إلى شرح الآتي من المناجاة، وما فيه من أسرار التوحيد والشهود. إذ المدار كله على توحيد الله ومعرفته وصدق العبودية له.
لكن اعلم سيدي كون الفقير ليس من السالكين ولا العارفين حتى يتمكن من شرح أسرار شهود العارفين وأنوار منازل توحيد السائرين صدقني وإنما غاية ما في الأمر كوني أكتب هكذا محبة في القوم من أهل الله تعالى لا غير فيجب مراعاة هذا ثمّ استشعار بعد العبد الفقير عن مجال السير الحقيقي والسلوك الرباني فضلا عن العرفان لكن أشكركم على حسن ظنكم بالفقير والمؤمن مرآة أخيه
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
العارف لا ينحجب بالأسباب عن المسبب ولا بالكون عن المكون ولا بالصنعة عن الصانع ولا بالإسم عن المسمى ولا بالصفة عن الموصوف لأن غايته الوصول إلى الحقيقة الكلية المطلقة التي عنوانها كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) التي هي منتهى تحقيق العبودية لله تعالىإلاهـــي أنْتَ الوَاحِدُ الأحَدْ الذِّي تَنَزَّهَ عنِ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ
فاتضح أن الإيمان بالله هو مقدمة ووسيلة إلى تحقيق التوحيد الحق لأن المؤمن قد يكون مؤمنا وفي نفس الوقت يخلط ايمانه بشرك جلي كان أو خفي كما قال تعالى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وقال تعالى منبها على حقيقة الإيمان الكامل { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } أي لم يلبسوا ايمانهم بشرك كما قال لقمان الحكيم يوصي ابنه { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } بخلاف التوحيد فلا شرك ولا شريك يتصور فيه لذا كان التوحيد أعلى مرتبة من مراتب الإيمان كون الإيمان شعبا كثيرة { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ }
لذا كان المسلمون أصنافا ثلاثة : صنف موحّدين في مقام الإيمان وصنف موحّدين في مقام الإيقان وصنف موحّدين في مقام الإحسان وهذا الصنف الأخير هم الموحّدون حقا
وهذا ما أشار إليه المؤلف رضي الله عنه في بداية التعريف بما وصل إليه من تحقيق العرفان بما عليه ألوهية الرحمان في وحدانيتها وأحديتها حيث أن الوحدانية تنفي الشريك عن الله من كل وجه ظاهرا وباطنا بينما الأحدية تنفي الندية عنه كالشبيه والنظير لأن العارف متى طرح من خياله الشريك ونزّه ربه عن الندّ لم ير غير فعل مولاه به وبالكون فلا يرى مدبر ولا فاعل سواه ولا موجود على التحقيق إلا إياه
وإنما غاية أمره أن يتشرع بما يحبه مولاه فلا يتزندق فيتأدّب مع كل حقيقة بحسب آدابها ويدخل إلى كل مرتبة من بابها لذلك قال الشيخ سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه ( انشلني من أوحال التوحيد ) أي من وحل اختلاط الحقائق عليّ فلا أميّز المجالي الربانية عن بعضها البعض فأخلط فيها كالنصارى الذين قالوا بالحلول والإتحاد وهكذا ...
لذا ذكر المؤلف رضي الله عنه المنهج السليم من توحيد العارفين جامعا بين أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة وأحكام الشريعة فما استهلكته أحوال أهل الفناء من المجاذيب ولم تتداخل عليه المراتب كأهل الجفاء من المتفيقهين لذلك قال :
تعَرَّفتَ بنَفْسِكَ لنَفْسِكَ
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
السلام عليكم سيدي علي والإخوة المتابعين
أتابع ما تكتبون في شرح المناجاة وقد أعجبني الشرح حتى أني عزمت أن أستأذنكم بعد التمام منها في طبعها ونشرها بين الفقراء.
وفقكم الله
أتابع ما تكتبون في شرح المناجاة وقد أعجبني الشرح حتى أني عزمت أن أستأذنكم بعد التمام منها في طبعها ونشرها بين الفقراء.
وفقكم الله
أبو أويس- عدد الرسائل : 1576
العمر : 65
الموقع : مواهب المنان
تاريخ التسجيل : 26/11/2007
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
وعليكم السلام سيدي أبو أويسأبو أويس كتب:السلام عليكم سيدي علي والإخوة المتابعين
أتابع ما تكتبون في شرح المناجاة وقد أعجبني الشرح حتى أني عزمت أن أستأذنكم بعد التمام منها في طبعها ونشرها بين الفقراء.
وفقكم الله
جزاكم الله خيرا سيدي محسن وبارك فيكم على حسن ظنكم بالعبد الفقير وإن كنت عند نفسي لست كذلك
هل يصل مستوى هذه الخواطر إلى ما عزمتم عليه ؟ فإذا كان الجواب بنعم تواضعا منكم فهذا فخر وشرف أثيل لي ما ظننت في يوم أني أستحقه
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
لئلا تظن أنه سبحانه يتعرف بنفسه لنفوس المكلفين الأمارة بالسوء الغير طاهرة أو متزكية لأنه لا يتعرف إلى العباد إلا به ولا يتعرف إليهم بهم إذ ليس في مقدور العبد الوصول إلى معرفته سبحانه بحول منه أو قوة إذ كل ما كان بالله فهو له في الحقيقة لذلك قال المؤلف رضي الله عنه ( تعَرَّفتَ بنَفْسِكَ لنَفْسِكَ )تعَرَّفتَ بنَفْسِكَ لنَفْسِكَ
أي تعرفت بنفسك لمن نبته عن نفسه من خلقك بعد أن تزكت وتطهرت ثم غابت وفنيت منه تلك النفس ففي هذه الحالة إنما وقع التعريف في الحقيقة بالله لله ( بنفسك لنفسك ) من نفس جنس باب قوله جل وعلا في الحديث القدسي ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها )
فيصير العبد يسمع بالله ويبصر بالله ويبطش بالله ويمشي بالله وهكذا يكون في جميع أحواله وأحيانه عبدا ربانيا خالصا يضحى متصرفا بربه لا بنفسه وفاهما بربه لا بنفسه يفهم عن ربه بربه من باب قوله تعالى في حق نبي الله سيدنا سليمان عليه السلام { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } فما قال ( ففهمها سليمان ) وإنما ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) أي فهم بالله عن الله لأن بين الفهم النفسي الصادر من حضرة النفس وبين التفهيم الإلهي للعبد بون شاسع ..
من جنس هذا الباب أيضا قوله تعالى { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ } وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }
لأنه لا بدّ من التمييز بين السير والسلوك النفساني الذي يؤدي بصاحبه إلى مهالك العلل وظلمات الجهل والدعوى وبين السير والسلوك الرباني الذي يهدي إلى الصراط المستقيم والطريق القويم
فكم من سائر إلى الله بالنفس حبيس لعللها سجين لحظوظها مستسلما لهواها يظنّ أنه على شيء وليس هو كذلك فلا تجده إلا باحثا عن الخصوصيات سائلا بكل السبل ظهور الكرامات والخارقات طالبا للرئاسة والحكم متشوفا للظهور والشهرة يبحث لنفسه عن مقام في منازل السائرين ومكانة في محاريب العارفين وهذا في الواقع يؤدي إلى حال مسيلمة الكذاب الذي سوّلت له نفسه بأنه نبيّ فأوحت له وحدثته " بقرآن مسيلمة " وأعانها الشيطان عليه
بينما طريق الله تعالى أن يكون سير المريد بالله لله خالصا على قدم الصدق والتصديق والمحبة مخالفا لهوى نفسه مزكيا لها عند أهل التربية والإرشاد الحقيقيين مجاهدا لها في كل وقت وحين قدر الإمكان قصد تنوير ذاته وتطهير صفاته ليصبح ذا قلب بصير يسير في ضوئه { أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ }
لهذا حقق المؤلف رضي الله عنه خلاصة المشهد التوحيدي فقال ( تعَرَّفتَ بنَفْسِكَ لنَفْسِكَ ) وما قال ( تعرفت بنفسك لنفسي ) إذ لو قال ذلك لنسب لله شريكا هو نفسه وادعى له ندّا منها وهذا غير ممكن
حاصل هذا المشهد الرباني التوحيدي ما ورد من دعائه عليه الصلاة والسلام ( اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )
بقي تفاصيل مسألة منازل التعرّف وشرحها فلا نطيل الكلام بذكرها وخلاصتها ما ورد في الحكمة العطائية مع العودة لشروحها :
( إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها أن قلّ عملك فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك والأعمال أنت مهديها إليه وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك )
..
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
جزاكم الله خير الجزاء سيدي حفظكم الله و بارك جهودكم
فقد جددتم و أحييتم بهذه الإستنارة مفهوم الطريق إلى الله ، وفقكم الله تعالى لإمدادنا بالمزيد .
و جعلنا ممن ينفعه الله تعالى بكم بمحض فضله و عفوه و جوده و كرمه
امين .
جزاكم الله خير الجزاء سيدي حفظكم الله و بارك جهودكم
فقد جددتم و أحييتم بهذه الإستنارة مفهوم الطريق إلى الله ، وفقكم الله تعالى لإمدادنا بالمزيد .
و جعلنا ممن ينفعه الله تعالى بكم بمحض فضله و عفوه و جوده و كرمه
امين .
محبة أهل الله- عدد الرسائل : 81
العمر : 51
المزاج : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
تاريخ التسجيل : 18/10/2010
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
اللهم آمينمحبة أهل الله كتب:السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
جزاكم الله خير الجزاء سيدي حفظكم الله و بارك جهودكم
فقد جددتم و أحييتم بهذه الإستنارة مفهوم الطريق إلى الله ، وفقكم الله تعالى لإمدادنا بالمزيد .
و جعلنا ممن ينفعه الله تعالى بكم بمحض فضله و عفوه و جوده و كرمه
امين .
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا فضيلة الأخت محبة أهل الله على مرورك الكريم
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
من مقاصد السلوك القرب من ملك الملوك لقوله تعالى { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } لأن إرادة الوجه هنا مقصود بها الوصول إلى بحر الشهود والأنس بالإله المعبودوَمَتَّعتَ مَنْ قَرَّبتَ بلَذَّةِ أُنْسِكَ وأشْهَدْتَ منْ أحبَبْتَ أحَدِيَّة قدْسِكَ
متى علمت أن الوجه لا يدل على الجهة إنما يدل على الوجهة لأن بين الجهة والوجهة كالفرق بين المكان والمكانة فالوجه يدل على كل وجهة يشهد العبد فيها وجود ربه يتمتع عندها وقبلها وبعدها بشهود نور جماله لقوله تعالى { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
فقوله { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } يفيد الوجهة لذلك كان من أول مقاصد السائرين تحرير الوجهة وذلك بتصحيح نية السير في طريق الإرادة لقوله صلى الله عليه وسلم ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) أما الذي يرنو إلى غير هذا المطلب كالتشوف للمقامات والبحث عن الخصوصيات فيدخل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
وهذا ما حذر منه صاحب الحكم في قوله ( لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير و المكان الذي ارتحل إليه هو المكان الذي ارتحل منه و لكن ارحل من الأكوان إلى المكون { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } )
لأنه سبحانه لا يتعرف إلى عباده في عوالم الأغيار وإنما يقع التعريف بداية في عالم الأنوار { وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ثم في عالم الأسرار { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } فالأوّل من معارف السائرين الذين لم يصلوا بعد فضلا عن أن يكملوا بل هم في طور السير وهم أقسام ثلاثة : مقتصدين ومتوسطين ومستشرفين
والثاني من معارف الواصلين وهم قسمان قسم وصل إلى بحر العرفان لكنه لم يكمل بعد والقسم الثاني هم أهل الكمال وهذا سنأتي عليه عند قول المؤلف رضي الله عنه في الجزء الرابع من المناجاة وهو قوله ( إلاهـــي إنَّ كَمَال العَارِف بِدَايَةُ الكَمَالِ )
قال المؤلف رضي الله عنه : ( وَمَتَّعتَ مَنْ قَرَّبتَ بلَذَّةِ أُنْسِكَ )
لا يستوحش أهل القرب من شيء بعد أنسهم بالله تعالى الذي عرفوه في كل شيء بعد أن حققوا فقرهم فكانوا بالله لله في الله فأغناهم ربهم بغناه وكشف لهم عن نور سناه لذلك قد يجد السائرون من الأنس في البلاء وعند الفاقة والرزايا والشدة ما لا يجدونه عند الرخاء والنعمة كما قال في الحكمة ( ورود الفاقات أعياد المريدين ) ويوم العيد يلبسون فيه كل مظهر جديد
فلا تبتئس أيها المريد من الضيق الذي تشهده ولا تحزن من البلاء الذي تعانيه فاصبر ولا تجزع واجعل من الصبر جلبابا { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فجزاء أهل الصدق من الصابرين النظر إلى وجه الله الكريم
وهذا ما أشار إليه في الحكمة ( متى أوحشك من خلقه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به ) لأنه بعد أن يفتح لك باب الأنس به سوف يأخذ بقلبك وروحك إلى شهود أحدية القدس وهذا هو الترتيب الذي سار عليه المؤلف رضي الله عنه في قوله :
( وأشْهَدْتَ منْ أحبَبْتَ أحَدِيَّة قدْسِكَ )
فالأنس للمقربين عامة بينما الشهود للمحبوبين خاصة فلا يوجد أنس بلا قرب { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } أو شهود من غير محبة ( ... ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته )
الأنس والشهود من مقامات أهل العرفان ومنازل أصفياء الوجدان من عباد الرحمان وهما من ثمار المعرفة بالله تعالى لأن بداية السير تعرّف { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ونهايته وصول { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَى } فليس هناك جزاء أوفى من جزاء الوصول إلى الله بين قرب بأنس وشهود بقدس
وهذا من أسمى مطالب الصادقين وأماني الذاكرين وقرّة عين العارفين لذلك دعا المؤلف رضي الله عنه بقوله :
فَأغْرَِقْنِي يَا بَاطِن فِي بطونِ بحَارِ أحدِيَّة ذَاتِكَ وَاسْقِنِي مِنْ حيَاضِ مَعَالمِ عَوالمِ بَحْرِ نورِكَ الأعْظمِ وَكَنْزِ سِرِّكَ المُطلْسمِ حَتَّى لا يَبْقَى للسِّوى عَلَى قَلبِي سَبِيل
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بعد أن قدّس المؤلف رضي الله عنه ألوهية ربه في معرض الثناء عليه بالتوحيد بما هو أهله من التعظيم والتمجيد عكف على باب حضرته سائلا بحسب ما يستوجبه المقام تحت سلطان الحال فلا ينفكان متوجّها بإسمه سبحانه " الباطن " دون سائر الأسماء الأخرى الذي يقابله إسمه سبحانه " الظاهر " لما يعطيه البطون من فناء في حضرة المولى ورجوع سائر الأسماء والصفات إلى بحر الذات كونها منها خرجت وإليها ترجع وتعودأغْرَقْنِي يَا بَاطِن فِي بطونِ بحَارِ أحدِيَّة ذَاتِكَ وَاسْقِنِي مِنْ حيَاضِ مَعَالمِ عَوالمِ بَحْرِ نورِكَ الأعْظمِ وَكَنْزِ سِرِّكَ المُطلْسمِ حَتَّى لا يَبْقَى للسِّوى عَلَى قَلبِي سَبِيل وَاسْقنِي مِنْ مَخْتومِ رَحِيق خَمْرِ شهودِكَ سَلسَبِيلاَ
إنما توجه المؤلف رضي الله عنه بإسمه " الباطن " لأنه في بحر الشهود فالباطن مرتبة أولى بينما البطون مراتب تتعدد ودرجات كالقرآن له ظاهر واحد وبطن إلى سبعة أبطن وأكثر لذلك وصف بطون الأحدية بتعدد بحارها ومن هنا تمايزت مراتب الواصلين من أهل العرفان في المعرفة فهناك عامة العارفين وخاصة العارفين وخاصة خاصة العارفين وهم أقطاب الأمة الأكابر
فسأل المؤلف رضي الله عنه مرتبة ثانية وهي مرتبة باطن البطون علاوة على المرتبة التي كان فيها وهي مرتبة بحر الأحدية كما قال سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه في صلاته ( وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة ) ربما أراد الشيخ سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه بقوله " في عين بحر الوحدة " أي " في بطون بحر الأحدية " فيكون دعاؤهما متماثلا فالله أعلم بحال كل منهما ومقامه في العرفان وقت دعائه
دعا بذلك لما يستوجبه المقام من خوف مما يخشاه العارفون كسيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه في قوله ( وانشلني من أوحال التوحيد ) فكأن هذه المرتبة مزلة أقدام يخشاها ويرهبها العارفون لما قد يظهر عليهم ويجريه الله على ظواهرهم وبواطنهم من خوارق وبوارق قد يفتتن بها ضعاف القلوب جهلاء العقول كما قال تعالى في حقّ سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }
لذا أرشدنا القرآن الكريم ونبّهنا إلى تدبر قوله تعالى { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
لهذا يُخشى من السالك المعطوب كالسامري الذي صنع العجل فعبده بنو إسرائيل كما قال تعالى { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي }
كما يخشى من وجه آخر من العارف المجذوب كالحلاج رضي الله عنه الذي لم ينتشله أحد من أهل زمانه من أوحال التوحيد فغرق فيها عوض أن يغرق في عين بحر الوحدة فصلبوه وأحرقوه
لذلك نص أئمة الطريق وفي مقدمتهم إمام الطريقة أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه أن الإقتداء لا يكون إلا بالمأذونين ممن جمعوا بين الشريعة والحقيقة من أشياخ الطريقة وهو ما عبّر عنه بقوله ( من لم يحفظ كتاب الله ويكتب حديث رسول الله لا يقتدى به في الطريق ) أي من لم يكن جامعا بين الشريعة والحقيقة وما بينهما وهي الطريقة لا يقتدى به في طريق السلوك والتربية
ولا يعني قوله " لا يقتدى به " اخراج هذا أو ذاك من ديوان أهل الولاية والصلاح وإنما الحديث كان عن أحقية الإقتداء في السير لا غير
...
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
جزاكم الله خيرا أخي الكريم.
عندي سؤال:
الذي أعرفه أن الأحدية مرتبة أو صفة إلهية لا تقبل وجود شيء معها، بأيّ شكل من أشكال الوجود، بخلاف الواحدية. فالأحدية إذا ظهرتْ انعدم معها كل شيء وانتهى. والشيخ رضي الله عنه حين سأل الغرق في بحر الأحدية يكون قد سأل الفناء التام والرجوع إلى العدم.
من جهة أخرى الفناء مرحلة في السير يأتي بعدها البقاء بالله. فيكون سؤال البقاء بالله أوْلى من سؤال الفناء.
لا شك عندي أن الصواب ما نطق به الشيخ، لكن المقصود أن هذا أشكل على "فهمي" المحدود. والله تعالى أعلم.
عندي سؤال:
الذي أعرفه أن الأحدية مرتبة أو صفة إلهية لا تقبل وجود شيء معها، بأيّ شكل من أشكال الوجود، بخلاف الواحدية. فالأحدية إذا ظهرتْ انعدم معها كل شيء وانتهى. والشيخ رضي الله عنه حين سأل الغرق في بحر الأحدية يكون قد سأل الفناء التام والرجوع إلى العدم.
من جهة أخرى الفناء مرحلة في السير يأتي بعدها البقاء بالله. فيكون سؤال البقاء بالله أوْلى من سؤال الفناء.
لا شك عندي أن الصواب ما نطق به الشيخ، لكن المقصود أن هذا أشكل على "فهمي" المحدود. والله تعالى أعلم.
إلياس بلكا- عدد الرسائل : 48
العمر : 55
تاريخ التسجيل : 15/05/2015
رد: مذاقات من بحر وحي المناجاة
بارك الله فيكم أستاذ إلياسإلياس بلكا كتب:... والشيخ رضي الله عنه حين سأل الغرق في بحر الأحدية يكون قد سأل الفناء التام والرجوع إلى العدم.
من جهة أخرى الفناء مرحلة في السير يأتي بعدها البقاء بالله. فيكون سؤال البقاء بالله أوْلى من سؤال الفناء.
لو أكملتم القراءة في نفس الجزء من المناجاة لوجدتموه يقول :
وَأَخْرِجْنِي يَا ظَاهِر بِكَ لعَوالِمِ المَظَاهِِر التِّي حَجَبْتَ عَنْهَا مَنْ قَامَ فيهَا بِنَفْسِهِ وَأوْضَحْتَ مَعَالِمَهَا لِمَنْ كَانَ أكْبَرَ هَمِّهِ مَعْرفَةُ نَفْسِه وَالتَّمَتّعُ بلَذَّةِ أُنْسِهِ وَحَقِّقنِي يَا حَقُّ بحَقِيقَةِ أسْمَائِكَ وَصِفَاتكَ حَتَّى أكُونَ لابِسًا خِلعَة الحُضُورِ مَعَكَ فِي سَائِرِ تَجَليَّاتِكَ. رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَل صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لـِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرَا
علي- عدد الرسائل : 1131
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 30/09/2008
صفحة 1 من اصل 3 • 1, 2, 3
صفحة 1 من اصل 3
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 20:13 من طرف ابن الطريقة
» من رسائل الشيخ محمد المداني إلى الشيخ إسماعيل الهادفي رضي الله عنهما
أمس في 20:06 من طرف ابن الطريقة
» شيخ التربية
أمس في 19:48 من طرف ابن الطريقة
» حدّثني عمّن أحب...(حديث عن الفترة الذهبية)
أمس في 8:36 من طرف أبو أويس
» يا هو الهويه
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 11:36 من طرف صالح الفطناسي
» - مؤلفات السيد عادل على العرفي ومجاميعه الوقفية:
الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 22:37 من طرف الطالب
» لا بد لك من شيخ عارف بالله
الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 12:46 من طرف أبو أويس
» ادعوا لوالدتي بالرحمة والغفران وارضوان
السبت 9 نوفمبر 2024 - 13:42 من طرف الطالب
» السر فيك
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 10:33 من طرف أبو أويس
» رسالة موجهة للعبد الضعيف من سيدي محمد المنور بن شيخنا رضي الله عنهما
الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 22:06 من طرف أبو أويس
» ما أكثر المغرر بهم
السبت 28 سبتمبر 2024 - 8:52 من طرف أبو أويس
» قصيدة يا سائق الجمال
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 0:56 من طرف ابو اسامة
» يا طالب الوصال لسيدي أبومدين الغوث
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 23:16 من طرف أبو أويس
» سيدي سالم بن عائشة
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:06 من طرف أبو أويس
» هل تطرأ الخواطر على العارف ؟
الجمعة 2 أغسطس 2024 - 6:59 من طرف أبو أويس